تمتد العلاقة بين الأقباط المصريين والقدس إلى القرن الرابع الميلادي، عند حضورهم تدشين كنيسة القيامة على يد الملكة هيلانة، وعاش الاقباط في حارة النصاري بالقدس، يمتلكون مكانًا في كنيسة القيامة كغيرهم من الطوائف المسيحية القديمة الموجودة في مدينة القدس (عن موسوعة القدس / الجزء الثالث / ص239).ومدينة القدس لها مكانة دينية كبيرة في قلب كل مسيحي.. فهي المدينة المقدسة التي عاش فيها السيد المسيح، وشهدت أهم الأحداث في حياته.. وبها أماكن دينية مقدسة تشمل الأماكن التي ارتبطت بخدمة السيد المسيح ومعجزاته وآلامه وقيامته وصعوده، وكل شبر من أرضها وطئته قدما السيد المسيح صارت له قدسية خاصة..وبعد خراب أورشليم سنة ۷۰م بدأ المسيحيون يعمّرون هذه المدينة من جديد، وبُنيت الكنائس فيها، وصارت لها ذكريات مقدسة في قلوب كل المسيحيين، وأصبح لكل كنائس العالم تقريبًا أماكن مقدسة فيها..والمسلمون أيضًا منذ بداية التاريخ الإسلامي يخصّون القدس بقدسية خاصة، ففيها توجد قبة الصخرة، والمسجد الأقصى، وغيرهما من المقدسات الإسلامية..ومن المؤسف حقًا أن تكون هذه المدينة المقدسة -التي تحمل اسم مدينة السلام- مسرحًا لصراعات دامية عبر الأزمنة، وبحسب بعض الإحصاءات فإنها تعرّضت للحصار نحو عشرين مرة، ودُمِّرت تدميرًا شاملًا مرتين، وأُعيد تشييدها نحو ثماني عشرة مرة، كما انتقلت من وضع إلى وضع عدة مرات عبر التاريخ…إن تحقيق السلام -لمدينة السلام- اختيار لا بديل عنه.. والسلام لا يتحقق إلا باحترام الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وكل شعوب المنطقة، والسلام الحقيقي لن يصبح واقعًا ما لم يتوقف العداء والاعتداء، وأن يتوقف العنف والصراع والتهديد بكل صوره وأشكاله.وعلى مستوى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فإن قضية القدس وقضية فلسطين كانتا -وما تزالان- حاضرتين في ضميرها منذ البداية، ومنها الجهود التي بذلها ويبذها الآباء بطاركة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ومطارنتها وأساقفتها، وكذلك أقباط مصر وأقباط القدس، كلٌّ في تخصصه في المحافل الدولية، ومع الهيئات العالمية والمعنية بالأمر.وموقف الكنيسة القبطية الثابت والراسخ في هذه القضية هو الدعوة لإرساء سلام شامل وعادل ودائم، بما يضمن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ولكل شعوب المنطقة، بما يحقق التعايش السلمي المشترك.وعن تاريخ الوجود القبطي بالقدس، فهناك دراسات تبيّن أن الأقباط كانوا منذ القرنين الثالث والرابع يقومون بزيارة الأماكن المقدسة بالقدس أفرادًا وجماعات، واستمر ترددهم عليها خلال القرنين الخامس والسادس، وقد أقام بعضهم هناك منذ هذه القرون المبكرة.وفي القرن الثالث عشر أصبح للأقباط مطران قبطي للكرسي الأورشليمي منذ عهد البابا كيرلس الثالث الـ75 (1243–1235م)، وقد صدرت دراسات سابقة متعددة عن تاريخ الأقباط بمدينة القدس، وعن دير السلطان، ومن أهمها ما أصدرته بطريركية الأقباط الأرثوذكس بالقدس، ورابطة القدس للأقباط الأرثوذكس بالقاهرة.ودير السلطان يُعتبر أرضًا مصرية داخل مدينة القدس، وللدولة المصرية جهود كبيرة في هذا الملف.. وتاريخ هذا الدير يوضّح وطنية الأقباط ضد الاحتلال بأنواعه كافة على مرّ العصور، وملكية الدير للأقباط هي حقيقة تؤكدها الوثائق والمستندات والمصادر التاريخية والشواهد الأثرية، ولقد حكم القضاء المختص بأحقية الأقباط في ملكية هذا الدير.يقع دير السلطان في موقع استراتيجي بمدينه القدس وبالتحديد على سطح كنيسه القديسة هيلانة (مغارة الصليب) وكنيسة الملاك والممر الموصل من كنيسة القديسة هيلانة إلى سور كنيسة القيامة، وبالتالي الدير يقرّب ما بين البطريركية القبطية الأرثوذكسية إلى كنيسة القيامة. وتبلغ مساحة الدير حوالي 1800 متر مربع، وتقع في الزاوية الغربية منه كنيستان:الأولى: كنيسه الأربعة حيوانات (كائنات) غير المتجسدة، ومساحتها 42 متر مربعًا، وبابها يفتح على ساحة الدير، وفيها مذبح واحد وحجاب مطعم بالعاج على شكل صلبان حسب الفن القبطي القديم، ويحيط بالكنيسة من ناحيتها الشمالية والغربية سياج حديدي يفصلها عن الممر الذي يسير محاذيا لها إلى السلم المؤدي في نهايتها لأسفل الكنيسة الثانية وهي كنيسه الملاك ميخائيل.الثانية: كنيسة الملاك ميخائيل، وهي تقع في الطابق الأرضي من دير السلطان، ومساحتها 35م2، وباب الكنيسة يفتح من الجهة الغربية على ساحة كنيسة القيامة، وبالكنيسة مذبح واحد وحجاب مطعم بالعاج حسب الفن القبطي القديم.وترجع أهمية هذا الدير عند الأقباط لأنه طريقهم المباشر للوصول من دير مار أنطونيوس حيث البطريركية المصرية، إلى كنيسة القيامة. ومعنى فقدانه أن تصبح جميع أملاكهم لا تساوي شيئًا، ويُضطر الزوار إلى المرور في طرق عموميه شاقة ليصلوا إلى كنيسه القيامة. بالإضافة إلى قيمته التاريخية والأثرية، لأن ايقوناته وهياكله وصلبانه وقناديله النادرة تشهد وتكاد تنطق بان أصحابه هم الأقباط.لقد ظلّ الدير في حوزة الأقباط، يملكونه يعتنون به حتى القرن السابع عشر الميلادي، عندما استضافوا الرهبان الإثيوبيين (وكانت إثيوبيا وقتها واحدة من إيبارشيات الرعاية للكنيسة القبطية المصرية، وترسل لهم مطرانًا قبطيًا للرعاية الكنسية. ومعروف أن كنيسة إثيوبيا استقلت عن كنيسة مصر عام 1959م)، اذ حدث أن طائفة الأحباش تخلّوا عن أملاكهم في القدس بسبب عجزهم عن دفع الضرائب التي تفرضها سلطات الاحتلال العثماني مثل ضريبه الجزية وضريبة الغفر على الطوائف المسيحية، مما أدّى إلى فقرهم بعد تنازلهم عن أملاكهم لصالح طائفتي الأرمن والروم.وظل الإثيوبيين يقطنون دير السلطان في ضيافة الأقباط حتى عام 1820م، ومنذ ذلك التاريخ وحتى الآن والمشكلة تمرّ بمتغيرات سياسية ودولية تجعلها تظهر في الأفق السياسي، أو تمرّ بمرحله خمود ينتظر من يثيرها مرة أخرى. والمعروف أن إثيوبيا منذ ذلك التاريخ (1820م) تمرّ بسلسلة من الاضطرابات السياسية والدينية والثقافية والاجتماعية، وآخرها الصراع العرقي والإبادة التي تجري في إقليم تيجراي معقل الأرثوذكسية في إثيوبيا، والذي راح ضحيته مئات وآلاف ما بين قتيل ومصاب ونازح ولاجئ في الدول المجاورة.إننا نؤمن أنه بالصلاة والحوار وإعمال العقل والحكمة مع طول البال في الجهود الدبلوماسية المستمرة، سوف يتم حل المشكلة ويرجع الحق إلى أصحابة «لأن غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله» (لو18: 27).