نحـــن نعيـــش في عصـــر الميديـــا –الإعلام– وصـــارت حياتنـــا فـــي كل نواحيها تتأثـــر بالميديا
علـــى المســـتوى الفـــردي والمســـتوى الجمعـــي، ويقـــول بعض علمـــاء الاجتماع «إنه منذ اختراع
الموبايـــل (منـــذ حوالـــي ربـــع قـــرن) انتهى عصر الإنســـانية»، وقـــد صـــدرت العديد من الدراســـات
والكتـــب والأبحـــاث حـــول المتغيـــرات الخطيـــرة التي صنعتها الميديا في البشـــر في كل صغيرة
وكبيـــرة. وصـــار التطـــور الرهيـــب الـــذي شـــهدته هواتفنا الذكية جزءاً من أجســـادنا حتى أن المرء يشـــعر أنـــه بـــدون الموبايـــل كأنـــه معـــاق ومقيـــد. وفـــي نفـــس الوقـــت وجـــد أشـــهر العلمـــاء أن منح الطفـــل الصغيـــر »موبايـــل« يضاهـــي إعطـــاءه جراماً مـــن الكوكايين!!
وبالطبـــع -كأي اختـــراع أوجدتـــه البشـــرية- هنـــاك الإيجابيـــات والســـلبيات التـــي تتـــراوح
شـــدتها وخطورتهـــا مـــن شـــخص لآخـــر ومـــن مجتمـــع لآخـــر..
ونحتـــاج فـــي حياتنـــا الروحيـــة أن نتـــدارس هـــذه الأمـــور بـــكل عمـــق، خاصـــة وأنـــه في ظل
ظـــروف وبـــاء كورونـــا والاحتيـــاج إلـــى التباعـــد الاجتماعـــي والبقـــاء في البيت والإغلاق الجزئي
أو الكلـــي لمجـــالات العمـــل والعبـــادة والترفيـــه والإنتـــاج وغيرهـــا، صـــار الاعتماد علـــى الميديا بـــكل أشـــكالها ضـــرورة لا غنـــى عنهـــا، ووجـــب علـــى كل واحـــد أن يحـــدد لنفســـه ولأســـرته كيفية
التعامـــل مـــع الميديـــا، والمبادئ التـــي تحكم ذلك فـــي كل مرحلـــة. وأود أن أضـــع بعـــض النقـــاط للتفكيـــر والتأمـــل فيها:
1 -الله: يعلـــن نفســـه لنـــا مـــن خـــلال تاريـــخ طويـــل مســـجل فـــي الكتـــب المقدســـة التـــي تقـــدم لنـــا «إعلاما» بلغـــة العصـــر عـــن قصـــة الخالق والخليقـــة. والملاحـــظ أن كلمـــة الإنجيـــل تعنـــي
الخبـــر الســـار أو مـــا يمكـــن أن نســـميه الإعـــلام السار المفرح، بمعنى أن الجانب الإيجابي لهذا
التواصـــل االجتماعـــي وأدواتـــه يجـــب أن يتبنـــى أســـلوباً مفرحاً للإنســـان ليمتع بحياته ومســـتقبله.
2 -الوقـــت: أعظـــم عطيـــة مـــن الله لنا وهي عطيـــة متســـاوية زمنياً لكل البشـــر، إذ يمنح كل إنســـان 24 ســـاعة يومياً دون النظـــر إلـــى عمره أو جنســـه أو مســـتواه أو ثقافتـــه أو إمكانياتـــه أو
قدراتـــه أو دراســـته أو حياتـــه.. الـــخ وفـــي نفـــس المجـــال نقـــول إن الوقـــت مـــورد محـــدود يمضـــي ســـريعاً (الـــذي هـــو عمـــر اإلنســـان) ولـــذا يجـــب وضـــع خطـــوات رئيســـية لفـــن إدارة الوقـــت مـــن
حيـــث تحديـــد الأهـــداف وترتيـــب الأولويـــات والجدولة المتزنة لأن الوقت كنز ثمين لا يمكن ادخـــاره وبالتالـــي لا يصـــح إهـــداره. 3 -الســـرعة: التـــي تحاصـــر اإلنســـان خاصـــة فـــي المجـــالات الإخباريـــة، وصـــارت
كلمـــة «عاجـــل» أحـــد المفـــردات الحديثـــة التـــي لـــم تكـــن موجـــودة منـــذ ســـنوات قليلـــة، ومـــن هذه الســـرعة تولـــدت خاصيـــة الآنيـــة (مـــن كلمـــة: الآن) Nowness ،وطبعاً فـــي تعاليـــم الآبـــاء الروحييـــن يقولـــون «إن الســـرعة ضـــارة فـــي كل شيء إلا في التوبة». وأهم مظاهر هذه السرعة
ظهـــور الســـطحية فـــي العلاقـــات والمعامـــلات وفـــي الخدمـــة وفـــي المكالمـــات وفـــي بعـــض مناحـــي الحيـــاة الأخـــرى. أيـــن التركيـــز والبحـــث ولذة التعب في الدراســـة والســـعي وراء المعرفة؟ وكيـــف ســـتؤدي هـــذه الســـرعة إلى نتائـــج كارثية فـــي عـــدم الاســـتمتاع بالحيـــاة الهادئـــة والمتأملـــة والدافئـــة بيـــن البشـــر.
4 -الـــذات: تعنـــي « الأنـــا» ego وهـــذا المكـــون «الـــذات» عليـــه دراســـات وأبحـــاث لا تُحصـــى، ولكـــن مـــن الناحيـــة الروحيـــة يُســـمى« الأنا» أو حب الإنســـان لنفســـه دون النظر إلى
مصالـــح الآخريـــن، وصـــارت الأنانيـــة أو الذاتية أو الانفراديـــة ســـمة واضحـــة فـــي المجتمعـــات
الإنســـانية، وبفضـــل وجـــود التليفـــون الشـــخصي (الموبايـــل) صـــار لـــكل إنســـان كيـــان وعالـــم ومجتمـــع منفصـــل تماماً عـــن الآخرين، حتى لو كانوا أســـرة واحدة من خمســـة أفراد يســـكنون بيتاً واحـــداً ، شـــكلياً هـــم معاً ، وحقيقياً هـــم منفصلون عـــن بعضهـــم بنســـب متفاوتـــة.
والـــذات والأنانيـــة لا تبنـــي الشـــعوب ولا المجتمعـــات بـــل تدمرهـــا وتخربهـــا، كمـــا أن الأنانيـــة تمنـــع الإنســـانية مـــن حيـــاة الفضيلـــة والأخـــلاق والمبـــادئ العامـــة لحيـــاة البشـــر. وفي رســـالة أفســـس نجـــد آيتيـــن: الأولـــى موجهـــة بصـــورة فرديـــة مـــن أجـــل التوبـــة ثـــم يعقبهـــا آيـــة جماعيـــة مـــن أجـــل الحكمـــة (أف 5:14-16): “استيقظ ايها النائم وقم من الأموات فيضئ لك المسيح فانظروا كيف تسلكون بالتدقيق، لا كجهلاء بل كحكماء. مفتدين الوقت لأن الأيام شريرة”
5 -الكذب: وهي إحدى الصفات الإنســـانية الرديئـــة فـــي كل مناســـبة، وقد صـــار هناك حالة مـــن عالـــم الكذب في كل شـــيء، وامتلأت مواقع التواصـــل بالأخبـــار والشـــائعات والموضوعـــات
الكاذبـــة التـــي يحددهـــا بعـــض علمـــاء الاعـــلام أنهـــا تصـــل إلـــى 95 %ممـــا يُنشر أو يُقال تحـــت طائلـــة الكذب بـــكل صوره.
ومـــن الكـــذب ظهـــرت معالـــم التشـــكيك والتشـــتيت والتلفيـــق وتلطيـــف القبيـــح وتهييـــج المشـــاعر والإيحـــاء الضمنـــي والتمجيـــد المبالـــغ والتســـويق الـــذي لا يعتمـــد علـــى الجوهـــر بـــل يكتفـــي بالشـــكل والألـــوان والدعايـــة فقط لا غير. وليكـــن معلوماً أن هنـــاك ثمانيـــة فئـــات ممنوعة من دخول الســـماء بحيث نص الإنجيل المقدس في سفر الرؤيا (21:8 ) :« وأما الخائفون وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناه والسحره وعبدة الأوثان وجميع الكذبه”
6 -العزلـــة: صـــار الافـــراط فـــي اســـتخدام
مواقـــع التواصـــل الاجتماعـــي بيـــن النـــاس وفـــي محطـــات الإذاعـــة (FM ) والتليفزيـــون، ســـبباً
حـــالات العزلـــة والوحـــدة والاكتئـــاب. وفي العزلة تختلـــط الأوراق والـــرؤى، وكأن الإنســـان ينظـــر بعيـــن واحـــدة، وصـــار التذمـــر ســـمة واضحة في حياة أي مجتمع على كل المستويات الاقتصادية
والسياســـية والدينية والثقافية والأسرية والشبابية،
وكمـــا يقـــول إشـــعياء النبي: “ويل للقائلين للشر خيراً وللخير شراً الجاعلين الظلام نوراً والنور ظلاماً الجاعلين المر حلوا والحلو مرا”(إش 5: 20). لقـــد تضاءلـــت حالـــة الرضـــا، وصـــار الإنســـان جائعاً إلى اللا شـــيء، وتاه في دهاليز الحيـــاة، وحفـــر لنفســـه أبـــاراً مشـــققة لا تضبـــط مـــاء ليرويـــه ويشـــبعه.. ويظـــل صـــوت الإنجيـــل “طوبى للجياع والعطاش إلى البر (المسيح)، لأنهم يشبعون” (متـــى 5: 6) ،ويظـــل الصوت لـــكل إنســـان: انتبه!!