الأُسقُفيّة هُويّة ومَهامْ وهُمُومْ
أرحب بالأحبار الأجلاء الآباء المطارنة والأساقفة أعضاء المجمع المقدس في السيمينار الثامن لكنيستنا القبطية الأرثوذكسية. هذا السيمينار له طابع دراسي خاص وله أهمية كبيرة جداً، وربما يكون أهم سيمينار دراسي في تاريخ كنيستنا المعاصر.
سأركز في كلمتي الروحية علي جزء من الصلاة الوداعية التي وردت في (يوحنا 17: 1 – 26)، والتي رفعها السيد المسيح قبل الصليب كتقرير مُركَّز يقدمه الي الله الآب؛ وسوف أركز علي الآيات من عدد 6 الي عدد 23. وأرجو أن نقرأه كأنه تقرير صادر من كل واحد فينا عن حياته وخدمته وإيبارشيته.
ومن وحي هذه الصلاة سأتحدث معكم عن ثلاثة جوانب مهمة في خدمة الأب الأسقف.
الأسقفية هوية:
1. الأسقف أب (1كو 4: 15) ” لأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَكُمْ رَبَوَاتٌ مِنَ الْمُرْشِدِينَ فِي الْمَسِيحِ لَكِنْ لَيْسَ آبَاءٌ كَثِيرُونَ. لأَنِّي أَنَا وَلَدْتُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ بِالإِنْجِيلِ”. فالأسقف أب، وقد وُلد من أجل مسؤلية الأبوة، ومن أجل الرعية التي صار مسئولاً عنها.
2. الأسقف ليس رئيساً (بالمفهموم العالمي) ” فَدَعَاهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ: أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ وَالْعُظَمَاءَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ. فَلاَ يَكُونُ هَكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيماً فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِماً، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ أَوَّلاً فَلْيَكُنْ لَكُمْ عَبْداً ” (متي 20: 25 – 27). . صحيح أن الأب الأسقف هو “الكبير” في رعيته أو خدمته أو إيبارشيته، لكنه أولاً يقوم بدور الأب.
3. الأسقف خادم باذل، “كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ) (متي 20: 28)، وهذا تكليف الأسقفية كما أن القديس بولس الرسول حين قال أن “إِنِ ابْتَغَى أَحَدٌ الأُسْقُفِيَّةَ، فَيَشْتَهِي عَمَلًا صَالِحًا.” (( 1تي 3: 1) والمقصود بها هنا ليس كرتبة أو كنظام في الكنيسة ولكن لأن الأسقف هو أول شخص في مواجهة أوقات الإضطهاد والإستشهاد.
4. المصدر الوحيد لقوة الأسقف هو الله فقط “لِيَكُونَ فَضْلُ الْقُوَّةِ للهِ لاَ مِنَّا (2 كو 4: 7)؛ فقوة الأسقف ليست بسلطانه ، ولا بأقدميته، ولا بشطارته أوإنجازاته، ولو حتي توفرت لديه أموال؛ لكن بدون قوة الله لا نقدر أن نفعل شيئ.
الأسقفية مهام:
للأسقف ثلاث مهام رئيسية (تعليمية – تقديسية – تكريسية)
المهمة التعليمية:
الوجه الأول للمهمة التعليمية للأسقف هي “الكرازة والتعليم وحفظ الإيمان“. هذه هي الوظيفة الأولي أينما حل، ينبغي أن يكون الكلام مملح بملح. “فَإِنَّنَا لَسْنَا نَكْرِزُ بِأَنْفُسِنَا، بَلْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبّاً، وَلَكِنْ بِأَنْفُسِنَا عَبِيداً لَكُمْ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ” (2 كو 2: 5). وفي تعهد الأسقف يقول ” أتعهد بأن أنشر الكرازة بالإنجيل علي قدر طاقتي؛ أتعهد أن أحافظ علي تقاليد كنيستنا القبطية الأرثوذكسية؛ وأبذل قصاري جهدي في تعليم الشعب الإيمان المستقيم”.
الجانب المُكمِل للمهمة التعليمية – وربما الأهم – هو القدوة ، أي الصورة التي يظهر بها الأسقف ويراها ويشتّمَها الشعب. يقول السيد المسيح – وهو مثالنا – في وقت غسل الأرجل ” فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً” (يو 13: 14-15).
والقديس بولس الرسول كنموذج للخادم الكبير قال لتلميذه تيموثاوس (وكلنا مثل تيموثاوس) “كُنْ قُدْوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْكَلاَمِ (أي كل كلمة بحساب)، فِي التَّصَرُّفِ (في القرارات اليومية )، فِي الْمَحَبَّةِ (تفوقنا في عمل المحبة)، فِي الرُّوحِ (في الحياة الروحية ) ، فِي الإِيمَانِ (في العقيدة والإيمان ) ، فِي الطَّهَارَةِ ” (1 تي 4: 12) – وهذه المجالات الستة للقدوة تصلح كمقياس لكل أسقف. وفي تعهد الأسقف يقول “أحاول أن أكون أنا نفسي قدوة في كل عمل صالح”.
المهمة التقديسية، وتشمل:
– الرعاية بالمحبة للجميع. يجب الا يكون الأسقف قاسياً، ويجب أن تشّتم رعيته منه المحبة بمعناها العميق. ويقول سفر الأمثال ” مَعْرِفَةً اعْرِفْ حَالَ غَنَمِكَ وَاجْعَلْ قَلْبَكَ إِلَى قُطْعَانِكَ” (أم 27: 23). ويقول تعهد الأسقف “أتعهد أن أحب الرعية وأعاملها بالرفق والحكمة، ولا تكون لي فيها جماعة مختارة، عليَّ أن أهتم بالكل…”. ومن الأمور الخاطئة جداً أن يشكو الأسقف شعبه أو أن يصفهم بشكل سلبي.
– منح التوبة بالصبر والترفق. وظيفة ألأسقف أن يُتّوِبْ الناس، أيا كان ميعاد توبة كل واحد منهم. وسير القديسين واضحة في هذا الأمر. ” وَعَبْدُ الرَّبِّ لاَ يَجِبُ أَنْ يُخَاصِمَ، بَلْ يَكُونُ مُتَرَفِّقاً بِالْجَمِيعِ، صَالِحاً لِلتَّعْلِيمِ، صَبُوراً عَلَى الْمَشَقَّاتِ، مُؤَدِّباً بِالْوَدَاعَةِ الْمُقَاوِمِينَ، عَسَى أَنْ يُعْطِيَهُمُ اللهُ تَوْبَةً لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ، فَيَسْتَفِيقُوا مِنْ فَخِّ إِبْلِيسَ إِذْ قَدِ اقْتَنَصَهُمْ لإِرَادَتِهِ ” (2 تي 2: 24- 26). وفي تعهد الأسقف “…ولا أحكم علي أحد بالسماع أو في غضب..”.
المهمة التكريسية:
فالأسقف مسئول عن التكريس بكل مشتملاته سواء الأمور المادية مثل تكريس الأبنية مثل الكنائس والأديرة والمذابح والمعموديات والأيقونات ولكن ايضا تكريس الأشخاص، وتكريس الشخص يعني أن يسلم حياته بالكامل من أجل المسيح والكنيسة، ولذلك ينبغي توخي الدقة جداً لأن عنصر واحد غير سليم يفسد الحياة الكنسية كلها.
فلذلك المسئولية التكريسية غاية في الأهمية. ويجب علي الأسقف كمسئول تقديم أفضل العناصر لخدمة المسيح. فليس أي شاب أو شابه يتم تكريسه، ولكن يجب أن يكون أفضل العناصر. ولذلك نراعي فيها ما يلي:
– الإيثار (الإختيار الجيد)، فمعيار الإختيار ليس مجرد الإستحسان الشخصي أو لأن الشخص مطيع لي، ولكن إختياره لأنه قادر علي خدمة الآخرين ” لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضاً (في 2: 4) . فيجب تغذية الكنيسة بإفضل العناصر. ولذلك نندهش كثيرأ أن نجد كاهن أو راهب بعد رسامته بفترة قصيرة يبدأ بعمل مشاكل، فهذا يدل علي أن الإختيار كان من الأصل خاطيء. ولذلك يجب أن نراعي إعطاء فترة كافية لفحص الشخص وإختباره قبل تكريسه لمعرفة دوافعه ونفسيته وبيئته التي خرج منها.
– التمكين، وتعني إعطاء مسؤلية للشخص مع فرص للإختبار والإمتحان، ولآباء البرية خبرات كثيرة في هذا الأمر “اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضاً وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا لأَنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي” (يو 14: 12).
الأسقفية هموم:
وإسمحوا لي أن اتكلم بصراحة. المقصود بالهموم أنك تتواجه مع موقف ما وأمامك إختياريين، وتطلب نعمة خاصة من الله للإختيار الصحيح.
وقد إخترت أربعة إختيارات هامة في حياة الأب الاسقف:
– الإنجاز أم الخلاص؟ هل ما يهمك في خدمتك وعملك هو عمل إنجازات (مشروعات – مباني – إستثمارات – إلخ) أم خلاص النفوس ؟ ” وَلَكِنْ لاَ تَفْرَحُوا بِهَذَا أَنَّ الأَرْوَاحَ تَخْضَعُ لَكُمْ (الإنجاز) بَلِ افْرَحُوا بِالْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي السَّمَاوَاتِ (خلاص النفوس)” (لو 10: 17).
– القرار أم الأعذار؟ أي إتخاذ قرارات قاسية عند وجود أخطاء، أم إلتماس الأعذار للأخرين “لأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ (عب 4 : 15). “لأَنَّ الْحُكْمَ هُوَ بِلاَ رَحْمَةٍ لِمَنْ لَمْ يَعْمَلْ رَحْمَةً، وَالرَّحْمَةُ تَفْتَخِرُ عَلَى الْحُكْمِ” (يع 2: 13). والأسقف يطلب دوما الحكمة الإلهية التي تعطيه التمييز بين الإثنين.
– قبول الكرامة أم رفض الكرامة؟ وهناك مظاهر كثيرة لهذا الأمر تحتاج مراجعة ولم نتسلمها من الآباء ، بينما فكر الإنجيل هو “نَحْنُ جُهَّالٌ مِنْ أَجْلِ الْمَسِيحِ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَحُكَمَاءُ فِي الْمَسِيحِ! نَحْنُ ضُعَفَاءُ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَقْوِيَاءُ! أَنْتُمْ مُكَرَّمُونَ وَأَمَّا نَحْنُ فَبِلاَ كَرَامَةٍ! (1 كو 4: 10).
– الستر أم الشفافية؟ الستر أمر نشكر الله عليه، ولكن الشفافية مطلوبة أيضاً مع مشكلات معينة نواجهها. فكيف التمييز بين الإثنين؟. هناك ثلاث أيات تساعدنا في هذا:
“قَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ أَيْنَ هُمْ أُولَئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟» 11 فَقَالَتْ: «لاَ أَحَدَ يَا سَيِّدُ». فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «ولاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضاً (يو 8: 10 -11).
“خَطَايَا بَعْضِ النَّاسِ وَاضِحَةٌ تَتَقَدَّمُ إِلَى الْقَضَاءِ، وَأَمَّا الْبَعْضُ فَتَتْبَعُهُمْ. كَذَلِكَ أَيْضاً الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَاضِحَةٌ، وَالَّتِي هِيَ خِلاَفُ ذَلِكَ لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفى” (1 تي 5: 24 -25).
“اَلَّذِينَ يُخْطِئُونَ وَبِّخْهُمْ أَمَامَ الْجَمِيعِ لِكَيْ يَكُونَ عِنْدَ الْبَاقِينَ خَوْفٌ. (1 تي 5: 20).
فهذه وصية ،ولكن تحتاج الي حكمة، فالتوبيخ يحتاج الي توقيت مناسب وجرعة مناسبة، بحيث تؤدي الي أن تكسب الشخص في النهاية ولا تخسره.
في الختام
كلنا دعينا للعمل والخدمة، وهذا تكليف من المسيح نفسه، ودعوتنا مصدرها ” هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا تَصِيرَانِ صَيَّادَيِ النَّاسِ” (مر 1: 17). فيجب الا ننسي الدعوة التي دعينا كلنا اليها. أما المهمة فهي آخر أية في إنجيل متي ” فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». (متي 28: 20).
ويختم السيد المسيح تقريره الي الآب فيقول ” أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ. الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ…. الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي حَفِظْتُهُمْ وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ابْنُ الْهلاَكِ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ” (يو 17: 4، 12) وهذا التقرير مرجع نقيس عليه أنفسنا.