التسامح فى المسيحية ودور الدين فى نشر السلام المجتمعى
مقر جامعة الدول العربية
معالى السيد أحمد أبو الغيط الامين العام لجامعة الدول العربية ، أصحاب الفضيلة والغبطة والسيادة والمنصة الكريمة وكل الحضور الكريم …
أود ان أشكركم جميعا على المحبة التي شعرت بها ولمستها من لحظة وطئت أقدامى أرض هذة الجامعة والبشاشة التي أراها فى كل وجه انظر اليه هنا، فى هذا الصرح العظيم بما يحمله من تاريخ للوطن العربى وللعالم اجمع.
أنظر اليكم ايها الاحباء وأرى مستقبل أوطاننا بين اياديكم ، مستقبل يحمل
محبة الوطن الغالي
طموح لمكانة مرموقة بين الشعوب
تسامح بقبول الاخر والفكر المختلف
امل فى مستقبل أفضل
وأخيرا سلام تحملة الشعوب العربية عنواناً لها
أقف عند هذة الصفة ســـــــلام
العالم دائما ما ينادى بالسلام حتى انهم خصصوا جائزة له وأسموها جائزة نوبل للسلام ، ولكن هل نرى هذا السلام العالمى الذى ينادى به ؟؟؟؟
اننا بنظرة بسيطة من حولنا للعالم نرى حروب ونزاعات وانشقاقات وتحزبات كثيرة وعداوات ،ثم ينظر الانسان الى نفسه ليشعر انه لا يستطيع أن يغير من حوله ، أو ما حوله
لقد أعلنت الجمعية العامة للامم المتحدة يوم 16 مايو اليوم الدولى للعيش معا فى سلام وهى وسيلة لتعزيز السلام والتسامح ،أيضا فى عام 2013 اجتمع الحاصلين على جائزة نوبل للسلام فى وارسو واصدروا منشورا اقتبس منه بعض العبارات اذ قالوا فيه:
” هناك قيم عالمية موجودة في كل تقليد ودين ، وعندما تحترم هذه القيم، فإن الاستقرار والعدالة هما النتيجة؛ وعندما يتم تجاهلها ، يمكن أن يحدث عدم الاستقرار والصراع والاستبداد. “، لقد اجتمعوا من مجتمعات مختلفة ليثبتوا أننا متشابهون اكثر مما نحن مختلفون ، وهذا ما نراه على اصعدة كثيرة على مستوى العالم ….
ففى الرياضة مثلا: نرى الجميع من جنسيات متعددة وخلفيات مختلفة فهى أحد الامثلة الرائعة على بناء العلاقات ففى المباريات العالمية يقف الحضور من جنسيات وخلفيات مختلفة لمشاهدة وتداول ومناقشة ما يحدث فى المباريات وكانهم من مكان واحد لان الرياضة تجمع الكل .
ايضا الخدمة :فى الخدمات المتعددة تبنى علاقات السلام والتسامح ففى الازمات يجتمع العالم ، نتذكر الام تريزا تلك الراهبة الفاضله وما قدمته فى اصعب اوقات الاوبئة والامراض من خدمة للانسانية .
فى الطبيعة ايضا : نتذكر أعمال أنسانية كثيرة ومؤتمرات تهتم بهذا الامر منها مؤتمراً في الأردن لمناقشة السبل الكفيلة لحماية المحميات الطبيعية الموجودة، ،ولا ننس القمة الدولية فى السعودية ” مبادرة الشرق الأوسط الأخضر”، وها نحن فى مصر نجتمع مع الالاف من كل أنحاء العالم فى بداية شهر نوفمبر القادم لمناقشة قضية المناخ فى ( كاب 27) ويهتم بهذة القضية كل رؤوساء العالم.
العلم : يساعدنا فى بناء السلام نعرف جميعا بروفسور دكتور مجدى يعقوب ودكتور احمد زويل ، وكيف وجهوا أنجازاتهم للعالم كلة وبمشاركة وتعاون فريق من العلماء قادمين من بقاع كثيرة ومختلفة من العالم مجتمعين معا لخدمة العلم والانسانية، غير ناظرين الا الى هدفهم الواضح وبذلك يصنعوا سلام .
حتى ذووى الهمم : واحب ان اطلق عليهم لفظ المحبوبين لانهم محبوبين فى كل مكان وفى كل زمان ويجتهد الكثير من المتخصصين فى مساعدتهم والتغلب على معوقاتهم الكثيرة وهكذا تجتمع البشرية جميعا فى محبة لهؤلاء المحبوبين .
التسامح يا أحباء هو نعمة من الله يمنحها لمن يريد والقدرة على الغفران هى صفة الهية لكننا نستطيع أن نأخذ منها ويمنحها الله لنا حينما تكون قوتنا النفسية,والداخلية ترغب وتريد أن تقترب من الله وببقدر مستوى الشبع من الله بقدر مقدرتنا على الغفران .
فحين سأل أحد التلاميذ السيد المسيح ” يَا رَبُّ، كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟قَالَ لَهُ السيد المسيح «لاَ أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ، بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ. ” اى سبع مرات مضروبة فى سبعين ويقصد بها عدد غير محدود . فالقدرة على التسامح هى قدرة الهية يستلمها الانسان من الله حين يريد بصدق وبرغبة وبيقين وبأيمان
اريد أن أضع امام حضراتكم خمس مبادئ ونحن بصدد مناقشة هذا الموضوع الحيوى
1- المبدأ الأول التسامح ضرورة وليس اختيار
والحقيقة أن مفهوم التسامح وصناعة السلام هى من أساسيات الأخلاق المسيحية. وقد علمنا السيد المسيح على الأرض كل معاني التسامح حتى مع المسيئين فقد قال لنا أحبوا أعدائكم فالمحبة هى التى تستطيع أن تغلب العدو ليس السلاح وليس الانتقام فالمحبة هى التى تستطيع أن تغلب العدو لذا نصلى الصلاة اليومية كما علمها لنا السيد المسيح :
“وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا” فكأن طلب المغفرة من الله يتطلب شرطا واحدا وهو أننى أستطيع أن أغفر للأخر وهذة قيمة أيها الأحباء يجب أن نزرعها فى أبنائنا ، يجب أن نزرعها فى البيت فى المدرسة فى المؤسسات الدينية فى الاعلام حتى ينمو وينشأ ويترعرع السلام فى العالم كله
2- المبدأ الثانى التسامح إيمان وعقيدة: الله وحده هو الديان
ولا يقف أمر التسامح فقط عند البُعد الأخلاقي فحسب، بل يتخطاه إلى البعد الأيمانى العميق.. فالمسيحية تؤمن إيمانا راسخا بأن الله وحده هو الديان، ولا يشترك أي إنسان في إدانة الآخر والحكم عليه، فهذا عمل الله فقط ولذلك الوصية فى الكتاب المقدس تقول “لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا” (مت 7: 1)..
3- المبدأ الثالث التسامح فرصة حقيقية للآخر
فالتسامح وسيلة لقطع تسلسل الشر وتصور معى أن يعتدي جارك عليك فتنتقم منه برد الاعتداء وتتوالى بينكما وبين أسرتيكما العداوة، بل وقد يتوارثها الأبناء وتهدد السلام الاجتماعي في المنطقة أو البلدة بأسرها.. ثم تصور أنك حين اعتدى عليك هذا الجار، سلكت أنت طريق الغفران والتسامح وقطعت سلسلة الكراهية قبل أن تبدأ.. ماذا سيحدث ؟ سيراجع جارك نفسه ويهدأ بل ويندم وقد يعتذر أو يرد لك ما ظلمك به.. وحتى إن لم يصنع هكذا، يكفي أن الشر سينقطع وأن السلام سيسود وولذلك علمنا السيد المسيح “طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ” (مت 5: 9)
4 المبدأ الرابع التسامح علامة القوة وضبط النفس
كثيرا ما ينظر السطحيون للمتسامح على أنه الطرف الضعيف الذي لا يقدر على الانتقام أو رد العدوان بأعنف منه.. ولكن المسيحية ترى النقيض.. تؤمن أن القوي هو الذي يقدر على ضبط نفسه ويقوى على كبح رغبة الانتقام والعنف.. كتابنا المقدس يقول : “اَلْبَطِيءُ الْغَضَبِ خَيْرٌ مِنَ الْجَبَّارِ، وَمَالِكُ رُوحِهِ خَيْرٌ مِمَّنْ يَأْخُذُ مَدِينَةً” (أم 16: 32)..
لذلك فى كل صباح خلال صلواتنا اليومية نقول “أسألكم أنا الاسير فى الرب أن تسلكوا للدعوة التى دعيتم اليها بكلِّ تَوَاضُعٍ، وَوَدَاعَةٍ، وَبِطُولِ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الْمَحَبَّةِ” (أف 4: 2)..
5– المبدأ الخامس التسامح نظرة رحمة للأنسانية :
فالانسان عندما يتواجه مع الله لا يستطيع أن يقول سوى أرحمنى يا الله ، لا يستطيع أن يقول سوى هذة الكلمة لذلك يجب أن نتدرب عليها من الأن ، فالتسامح نظرة رحمة على الانسانية ، نرى الآخر بعين رحيمة تأخذ في اعتبارها ضعف البشر.. ننظر على الآخر دون كبرياء وتعالي وتكون هذة الصورة تطبيق للوصية التي تقول :“وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضًا فِي الْمَسِيحِ.” (أف 4: 32)..
هذة المبادئ الخمسة يمكن أن نضعها كأعمدة لعملية التسامح التى نحن بصددها فى هذا المؤتمر بها وزرعها فى القلوب والعقول مبكرا جدا
أختم كلمتى بأنه توجد ثلاث أبعاد لحياة التسامح وهذة الأبعاد الثلاثة تشكل منظومة ثلاثية تساعد فى حياتنا اليومية وفى عمل المؤسسات المتنوعة فى تقديم وغرس وزرع هذة الفضيلة التى نحتاج اليها فى عالمنا
البعد الأول : المحبة :
أن المحبة لا تسقط أبدا لان الله محبة فكل العوامل المختلفة التى نراها فى عالمنا فى مجالات مختلفة يمكن ان تتغير بين يوم وأخر ، هكذا فى السياسة فى الاجتماع فى علم العلاقات ، الا المحبة فقط هى التى لا تسقط ابدا لان الله محبة
تسرقنا الميديا والاجهزة والتكنولوجيا من التفكير والهدوء و البحث عن أجابات ، ولا نجد الوقت الكافى للبحث داخل النفس الانسانية عن اجابات لاسئلة كثيرة فى الحياة .
السيد المسيح أعطانا مثلا فى تقديم المحبة فقال :
” لِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى (القشة الصغيرة )الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْني أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ، وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ؟”
هذة صورة تقديم المحبة والعمل عليها لان العالم الذى نعيش فيه من كثرة الاجهزة والهاى تكنولوجى جعلت المشاعر الانسانية تجف لان التعامل الانسانى الانسانى كما ترون مثلا فى هذة الجامعة ما بين الدول ومندوبيها وممثليها يثرى أنسانيتنا ويثرى المحبة التى فى داخلنا أما التعامل مع الأجهزة التى صارت تحكم العالم فقد سببت فى جفاف المشاعر وصارت المشاعر غائبة عن الانسان وما الانسان الا مشاعر يعيش بها على هذة الارض فالمحبة لا تسقط أبدا
نقرأ فى التاريخ الحديث عن نيلسون مانديلا حكم علية عام 1964 بالسجن مدى الحياة وفى عام 1985 عرضوا علية الخروج من السجن بشرط التنحى عن اى عمل مجتمعى او سياسي فرفض ثم اطلق سراحة عام 1990 وكان منتظر منه ان يكون هجوميا كارها لكل من تسببوا فى حبسة 27 سنه من عمره لكنه كان متفائلا ويمكن تتذكروا ارتدائة لقمصان مشجرة علامة على اقباله على الحياة ، خرج مرحبا بالحياة مستعد للتفاوض وهو ما حصل علية وبهذة الطريقه استطاع تحرير بلادة ليكون اول رئيس لها وقد قال :”الشجعان لا يخشون التسامح من أجل السلام، التعاطف الإنساني يربطنا ببعضنا، تعلّموا كيفية تحويل المعاناة إلى أمل للمستقبل. ” فعلا المحبة لا تسقط أبدا
ونحن فى الكنيسة المصرية نفذت هذا المبدأ مع مشيخة الأزهر من خلال بيت العائلة المصرية ، حيث أجتمع الشيوخ مع القسوس وقدموا نموذج للمحبة ، المحبة التى تقبل الاخر بأختلافة بل تتعرف علية وتتفهمه وتتصادق معه وترحب به فى البيت ليكون بيت العائلة هو بيت للمحبة .
المبدأ الثاني صناعة السلام :
لماذا يصعب على الناس صنع السلام ؟ هناك نوعين فى الصناعة ، صناعات خفيفة وصناعات ثقيلة ولكن النوع الاصعب هو صناعة السلام …لكن نحتاجها جدا ويجب ان يكون لنا الشجاعة ونحن نقدم هذة الصناعة التى قال عنها السيد المسيح ” طوبى( اى يا بخت ) لصانعى السلام لأنهم اولاد الله يدعون ” يجعلك السلام ابنا لله اى تنتسب الى السماء ويكون لك نصيب فيها
أكبر مثال لنا فى مصر هو لجنة صناع السلام التى تشترك فيها الكنيسة القبطية وتفعل دورها و رؤيتها ورسالتها الخاصة بدعمها لجهود الدولة في تنمية الوعي، من خلال نشر الفكر المعتدل الصحيح الذي يدعو إلى التعايش المشترك والسلمى فى المجتمع ومحاولة لتعميق العلاقة بين أبناء الوطن كله كما ذكر فى الكتاب المقدس”السَّمَاوَاتُ سَمَاوَاتٌ لِلرَّبِّ، أَمَّا الأَرْضُ فَأَعْطَاهَا لِبَنِي آدَمَ.” (مز ١١٥ : ١٦)، فالارض لم تخصص لجنس أو دين معين أو أي فصيل دون غيره، بل أعطاها للجميع على السواء، يعطينا جميعا عطايا الهية من شمس وقمر وماء ، فهو وحده الذي ينعم على الجميع بخيراته ورحمته كعطية الهية .
البعد الثالث السعادة:
نحن نبحث عن السعادة ، وكل أعمالنا هدفها السعادة ، هى نتيجة طبيعية لتقديم المحبة والعيش فى سلام ، وجميعنا نعلم أن الانسان المبتهج أنسان يضفى على الحياة ألواناً ، وهذة الالوان تضفى طعم أفضل لحياتنا ، وتأتي السعادة حين يكون الانسان غير نمطى فالعالم ملئ بالاشخاص العادية ولا يحتاج أن يزيد رقما مضافا بل ليكن المجتمع ملئ بالمتميزين …
متميزين بالثقافة والفن ، متميزين فى الفكر والابداع ، وكما تقول الوصية الكتابية ” تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم ” نحتاج إلى الذهن المستنير القابل للاختلاف الذى يعطى مظهر مختلف وشخصية مختلفة ويبنى مجتمعات صحيةوينشرالسعادة والفرح للكل .
ومن هذا المنطلق قامت الكنيسة بتقديم خدمة خاصة للاطفال من للاجئين السودانيين ، فاهتمت الكنيسة بهم فأسست مدرسة للاجئين السودانين كبذرة فرح لحياتهم المليئة بالمصاعب .. لكى ينظروا للحياة بنظرة متفائلة
هذة هى الابعاد الثلاثة المحبة والسلام والفرح
أشكر لكم أنصاتكم ومحبتكم ودعوتكم الكريمة وأدعو معكم العالم كله أن يعيش من خلال هذة المبادئ والابعاد .. وشكرا جزيلا لكم .