خلق الله الإنسان على صورته ومثاله وزوده بثلاث طاقات من الحرية وهي: العقل والعمل (الإبداع) والعبادة. وتميّز بها الإنسان فصار وجوده عاقلاً وعاملاً وعابدًا. ورأى الله كل عمله فإذا هو حسن جدًا، وكان هذا في اليوم السادس من أيام أو حقبات الخليقة، وكان اليوم القمة في الخليقة على الأرض
(تكوين 1: 27-31).
وامتدت حياة الإنسان من جيل إلى جيل، ومن زمن إلى زمن، ومن قرن إلى قرن، تارة يقترب إلى الله خالقه وتارة يبعد ويتوه، وأحيانًا يتحدى قدرات الله مثلما صنع بعد حدث الطوفان، فأراد بناء برج بابل لينجو من المستقبل، فنزل الله وبلبل ألسنتهم، وبعدما كانوا لسانًا واحدًا ولغة واحدة في كل الأرض صاروا لا يسمع بعضهم لسان البعض وتبددوا على وجه كل الأرض (تكوين 11: 1-9).
وامتزجت هذه الطاقات الثلاثة فصنعت الحضارات في كل مكان، بمعنى آخر أن الحضارة نتجت من تفاعل هذه القدرات الثلاثة معًا، العقل والعمل والعبادة، في جو الحرية الذي منحه الله للإنسان. وصارت الحضارات، والعصور الزراعية بعد الحجرية، ثم جاءت العصور الصناعية بكل أشكالها المبتدئة والمتطورة، ثم عصور التكنولوجيا والمعرفة، وصولاً إلى عصور الاتصالات والمعلومات بكل صورها.
وكل هذا كان بسبب العقل البشري والذكاء الذي منحه الله للإنسان. وامتدت العلوم والأبحاث والاكتشافات مع الاختراعات، فضلاً عن الفلسفات والنظريات والآداب والفنون وغيرها من المجالات التي تشغل الوجود الإنساني حتى هذه اللحظة.. وبلغت الذروة في كل هذا بالخروج من كوكب الأرض وصولاً إلى القمر ثم الكواكب في المجموعة الشمسية واكتشاف المجرات الأخرى.. وكان طموح الإنسان ومازال أن يصل إلى الشمس ذات يوم. ومؤخرًا أطلقت الهند صاروخًا باتجاه الشمس للدراسة والبحث وإشباع غرور الإنسان الغارق أيضًا بسبب عقله في حروب ومجاعات وأوبئة لا تنتهي.. وعجبي
وبسبب العقل الطبيعي وما حباه الله من ذكاء يتفاوت من إنسان لآخر، صارت كل هذه الاختراعات على اختلاف أنواعها وأشكالها تثري حياة الإنسان وطموحاته، وتشبع رغباته التي هي بئر لا يمكن أن يشبع.. فكان اختراع الكمبيوتر محاكاة للعقل البشري، وتطور هذا الاختراع إلى أشكال أخرى في التواصل الإنساني، فصارت شبكة النت أو الشبكة العنكبوتية، واختراع الموبايل الذي غيَّر وجه حياة الإنسان حتى أنهم يقولون: “منذ اختراع الموبايل انتهى عصر الإنسانية”.
وصحيح أن التكنولوجيا سهلت الحياة ولكنها صعبت التربية الأسرية والمدرسية والمجتمعية، فنشأت أجيال مختلفة تمامًا مثل جيل Z أي الذين ولدوا بعد عام 2000، والآن يتخرجون من الجامعة وسط جو تكنولوجي لم يكن موجودًا من قبل بأي صورة.. حيث ظهر مصطلح الذكاء الاصطناعي (AI) بديلاً عن الذكاء الطبيعي وبقدرات خارقة وساحرة أمام الإنسان مثل تقنيات ChatGPT، OpenAI، وغيرها…
والمعتدلون يقولون إن الفضاء الإلكتروني ليس بديلاً للواقع وإن الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً للعقل البشري ولن يكون ولكنه إضافة.
وما يهمنا في نطاق خدمتنا هو ما يفيد وكيفية الاستفادة من كل هذه الإضافات العلمية التي يمكن أن تساعد ويمكن أن تضر. لقد قرأت أنهم في إحدى الكنائس الغربية اخترعوا ريبوت الذي يستقبل رواد الكنيسة، ويتفاعل معهم عبر خمس لغات، وصوت يتغير بين الذكورة والأنوثة. وفي مكان آخر اخترعوا الريبوت الذي يبارك المصلين.
وتتنافس جهات كثيرة لتطوير الريبوتات الدينية في اليابان والديانات البوذية والمعابد اليهودية وبعض الكنائس الغربية. وهذا دعا ممثلين من الأديان الإبراهيمية الثلاثة إلى إصدار “نداء روما لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي” عام 2020م، واضعًا ستة ضوابط أساسية للعاملين في مجال الذكاء الاصطناعي الديني وهي: الشفافية والقابلية للتفسير- الشمولية – المسئولية – الحيادية – الموثوقية – الأمن والخصوصية.
لذا أنا أدعو كل المختصين من أبنائنا في الكنيسة القبطية، وعلى واقع التطور التكنولوجي الإنساني المعاصر، إلى الدراسة والبحث والابتكار لما يمكن الاستفادة منه عمليًا من واقع تقنيات الذكاء الاصطناعي والتطبيقات العملية الكنسية التي يمكن استخدامها من أجل تطوير الخدمة بصورة مقبولة ومفيدة عملية، عالمًا أنه مهما اخترع الإنسان من اختراعات وتقنيات ستقف جميعها ناقصة أمام العقل الإنساني، حتى وإن كانت مبهرة أو شديدة الإبهار إلا أنها لا تستطيع أن تقدم “حبًا” للإنسان، فهي في الأول وفي الآخر مجرد آلة صماء بلا مشاعر أو إحساس، ومهما تعاظمت في عين الإنسان فهي ضئيلة أمام الله الخالق مانح العقل والإبداع والحرية.