بسم الآب والابن والروح القدس، تحل علينا نعمته ورحمته من الآن وإلى الأبد، آمين.
عيد الميلاد المجيد هو افتتاح أعيادنا:
ونحن نحتفل، أيها الأحبَّاء، بعيد الميلاد المجيد، إنما نحتفل احتفالًا خاصًا، لأن هذا العيد نفتتح به أعيادنا في السنة الميلاديَّة. وهذا العيد – عيد الميلاد – والذي يحتفل به العالَم كله، إنما هو احتفالٌ بدخول الفرح إلى العالم.
كان العالم قبل ميلاد السيِّد المسيح لا يشعر بفرحٍ حقيقي. كان العالم يعيش بعيدًا عن الفردوس، فحتى الأبرار الذين عاشوا، كان الفردوس أمامهم مُغلقًا. وكان الطريق الوحيد أمام البشر هو إلى الجحيم. وكانت حياة الإنسان تدور حول الذبائح المُتكرِّرة، لعلَّ الله يرضَى ويقبَل. وكان تكرار هذه الذبائح يعني أنها ذات نفعٍ مؤقَّت. وصار العالم في حالة تخبُّط وتعدٍّ على الوصية. وانتشرت الوصية وانتشر الضعف في حياة البشر، واحتاج الإنسان أن يكون فَرِحًا ليشعر بإنسانيته.
وكان الفرح في ميلاد السيِّد المسيح، فالإنسان بدون المسيح فاقد الفرح والسعادة الداخلية. وإن كانت الدول تعمل من أجل رعاية الشعوب؛ أمَّا السيِّد المسيح فجاء من أجل رفاهية الأفراد.
لقد خلقنا الله لرسالةٍ، والإنسان الذي لا يشعر بحياته يفقد الكثير من وجوده، ولا يشعر بلذَّة الحياة الجميلة، وهذه هي النعمة التي أعطاها الله للإنسان. كان الفرح ينقص الإنسان، وجاء السيِّد المسيح مولودًا في مذود بيت لحم لكي ما يمنح الإنسان فرحًا كبيرًا.
والسؤال الآن: من أين وكيف يأتي الفرح؟
نحن نتعلَّم في الكنيسة ونُصلِّي في ألحاننا ونُردِّد كلمة ”الليلويا“، وهي كلمة تهليل وفرح، وهي كلمة مشهورة في سِفْر المزامير، وفي سِفْر الرؤيا تتكرَّر أربع مرَّات وتُشير إلى جهات الأرض الأربع.
أريد أن أتأمَّل معكم في خمسة مشاهد عن الفرح من أين يأتي؟
المشهَد الأول: في حياة أُمِّنا العذراء مريم:
عندما نالت البشارة من الملاك جبرائيل، ذهبت بسرعة إلى القدِّيسة أليصابات، وذهبت إليها لتخدمها، وعندما رأتها أليصابات، ابتهج الجنين في بطنها؛ أمَّا أُمُّنا العذراء فحوَّلت هذه المناسبة إلى صلاة: «تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي» (لو 1: 46، 47). فهذا هو المصدر الأول لفرح الخلاص.
أُمُّنا العذراء من البشر وعرفت أنها تحتاج للخلاص، وهكذا جميع أجيال العهد القديم كانت تبحث باشتياق عمَّن يأتي ويُخلِّص، وحتى أجيال الأُمم كما قال سقراط: ”لا سبيل إلى معرفة الحقيقة إلَّا إذا جاء ربُّ الحقيقة وأعلنها بذاته“. مريم العذراء أُمنا وفخر جنسنا وقفت وصلَّت وقالت: «تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي»، وكأنها تضع أيدينا على أول طريق الفرح، الفرح لا يأتي إلَّا من خلال خلاص السيِّد المسيح على الصليب. ولذلك نحن نُصلِّي: ”نشكرك لأنك ملأتَ الكلَّ فرحًا أيها المُخلِّص لمَّا أتيتَ لتُعين العالم“. فليس هناك فرحٌ إلَّا فرح الصليب، هذا هو المصدر الرئيسي، وأُمنا العذراء تُشير إليه وتُعلِّمنا وتُعلِن احتياجها للخلاص، فالإنسان لن يعرف فرحًا إلَّا إذا بدأ بالخلاص الذي قدَّمه المسيح على الصليب.
المشهَد الثاني: نراه في القدِّيس يوسف النجَّار:
ذلك الشيخ الوقور الذي اختصَّه الله ليكون حارسًا لسرِّ التجسُّد، وكان رفيقًا لأُمِّنا العذراء في الطريق لبيت لحم، وهو الذي صاحَب الأُم والطفل الرضيع إلى مصر عَبْر طُرُقٍ شاقَّة جدًّا. الفرح هذا هو فرح المسؤولية.
فالله عندما يمنحنا مسؤولية تكون مصدرًا للفرح إذا استخدمها الإنسان بكلِّ أمانة وإخلاص. في مَثَل الوزنات قال السيِّد: «كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ» (مت 25: 21)، لأن العبد كان أمينًا ومُخلِصًا. قد تتعدَّد المسؤوليات، ولكن في كلِّ مسؤولية إذا تاجر فيها الإنسان بكلِّ أمانة، يجد فرحًا.
المشهد الثالث: مشهد الملائكة الذين ظهروا في السماء:
وهؤلاء جعلوا السماء مُنيرة، وسبَّحوا ورتَّلوا: «الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلَامُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ» (لو 2: 14). هذا الفرح هو فرح التسبيح. فالتسبيح هو اللغة الراقية للصلاة.
كان فرح التسبيح فرحًا حقيقيًّا علَّمته لنا الملائكة من خلال هذه التسبحة القصيرة ولكنها شاملة. لا تستطيع أن تُقدِّم تسبيحًا إلَّا إذا مجَّدتَ الله أولًا، وأن تصنع سلامًا لتكون تسبحتك مقبولة. والخطوة الثالثة: ”بالناس المسرَّة“، أي أن تشعر بهذا الفرح، وتنشر الفرح في حياة الناس. فعطية الحياة التي يُعطيها الله لنا هو صاحبها. فاطمئن، فإنَّ الله يقود خطواتك، فعِش أيامك فَرِحًا وفرِّح مَنْ حولك. المشهد الثالث كان التسبيح، والتسبيح يملأك فرحًا.
المشهد الرابع: نجده عند الرعاة:
وهم أُناس بسطاء، مؤتمنون على القطعان التي يرعونها، وكانوا يُعتَبَرون خارج سُكَّان أيَّة مدينة لأنهم يتنقَّلون، كانوا بكلِّ أمانة يحرسون القطعان في البادية. وكانت هذه البساطة هي سبب الفرح.
يقول أحد القدِّيسين: [وقفتُ على قمَّة العالَم عندما وجدتُ نفسي لا أشتهي شيئًا ولا أخافُ شيئًا]. فهؤلاء كانوا كذلك، وكانت الصفة الغالبة فيهم أنهم عاشوا حياة الرِّضا. الإنسان الذي يتذمَّر لا يشعر بالفرح، وهؤلاء البسطاء الرعاة استحقَّوا أن يكونوا أول مَنْ يعرف بميلاد السيِّد المسيح في العالم كُلِّه. ربما كانت معيشتهم بسيطة، ولكنها صَنَعَت لهم فرحًا، وظهر لهم الملاك وقال لهم: «فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ» (لو 2: 10). ونعرف أنهم قاموا مُسرعين، وذهبوا إلى بيت لحم، ونالوا الجائزة أنهم أول زوَّار شاهدوا الطفل يسوع.
فالبساطة في الحياة وعدم التمسُّك بالأرضيَّات، تجعل الإنسان فَرِحًا، فليست السعادة في التملُّك. فالإنسان لا يجب أن يُستعبَد لشيء، فكلُّ هذا سيتركه، فلذلك يجب أن لا يحمل همًّا. الرعاة علَّمونا مشهد البساطة والرِّضا التي تُعطي فرحًا للإنسان.
المشهد الخامس: مشهد المجوس:
وقد قَدِموا من بلاد المشرق، واستغرقوا شهورًا في رحلتهم، وهم كانوا علماء وأغنياء، وتحمَّلوا مشقَّة الرِّحلة. وتبعوا النجم، ووصلوا إلى أورشليم، ووصلوا للملك، وسألوا عن المولود ملك اليهود. وطلب منهم هيرودس أن يبحثوا عن الصبي بتدقيق؛ أمَّا هم فذهبوا وتبعوا النجم حتى وصلوا إلى البيت ومعهم الهدايا، وهنا يظهَر فرح المُشاركة.
فعندما نُشارك الآخرين، نحصل على فرحٍ عظيم. وكان مع المجوس هدايا، وأتوا ليُشاركوا في فرحة الملك المولود ملك اليهود، رغم أنهم من الأُمم، وقدَّموا هداياهم وشاركوا فرحة أُمِّنا العذراء والقدِّيس يوسف النجَّار وفرحتنا أيضًا، وكان هذا هو مبدأ المُشاركة. فعندما تُشارك الآخرين في أفراحهم، تشعر بفرحٍ داخلي. الإنسان لم يُخلَق لنفسهِ، بل لمجتمعٍ يخدم ويعمل، وحياة الشركة هي الغالبة على أديرتنا القبطية.
إذًا، يا إخوتي، هذه المشاهد الخمسة هي مصادر للفرح:
(1) من أمِّنا العذراء: الخلاص يُعطي فرحًا.
(2) من القدِّيس يوسف النجَّار: المسؤولية تُعطي فرحًا.
(3) من الملائكة: التسبيح يُعطي فرحًا.
(4) من الرعاة: البساطة تُعطي فرحًا.
(5) من المجوس: المُشاركة تُعطي فرحًا.
فيصير هذا العيد هو عيد دخول الفرح إلى العالَم، ونُصلِّي أن يملأ هذا الفرح كل القلوب والعقول وكل البلاد وكل إنسان، وتكون حياتنا في العالم الجديد بعد هذه الجائحة والتي نرجو أن تنتهي قريبًا، ويكون الإنسان متهلِّلًا من الداخل برغم وجود المشاكل، وفَرِحًا من داخله، ويُقبِل على الحياة؛ إذ إنَّ الفرح يُعطي طاقةً للإنسان.
أُكرِّر تهنئتي، وباسم كل الآباء المطارنة والأساقفة، والآباء الرهبان والشمامسة، نهنِّئ الجميع بهذا العيد المجيد، ونُصلِّي لكي يمنح الله نعمةً وسلامًا وصحةً وعافيةً لكلِّ أحدٍ. نُصلِّي من أجل الذين رقدوا، ونُصلِّي من أجل كلِّ إنسان. فليُعطِنا الله سلامًا وهدوءًا … أُهنِّئكم، وأرجو أن تدوم فرحة الميلاد في حياتكم. ولإلهنا كل مجد وكرامة من الآن وإلى الأبد، آمين.
البابا تواضروس الثاني