«سَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا» (1تس 5: 13):
خلق الله الإنسان ليعيش في سلام، فآدم وحواء كانا يتمتَّعان بمعيَّة الله في سلام، ولم يكن هناك ما يُفسِد سلامهما، وكانا يتمتَّعان بحياتهما الفردوسيَّة. فمنذ البدء جعل الله الطبيعة تخدمهما، والحيوانات تُطيعهما وتخضع لهما؛ ولكن عندما دخلت الخطية إلى العالم بحسد إبليس، وعندما كَسَرَ آدم وحواء الوصية، وكسرا أيضًا قلب الله مُعطي الوصية، لُعِنَت الأرض بسببهما، وصارت الحيوانات تتصارع، وحُرِم آدم من أمان الوحوش، واختفى السلام من الطبيعة، فصارت الزلازل والبراكين والطوفان.
وبمجيء الخطية إلى العالم وفسد العالم، كان من أهم وأصعب نتائج هذه الخطية هو غياب السلام، وبدأنا نسمع أنَّ آدم وحواء يختبئان من وجه الله: «فَنَادَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَقَالَ لَهُ: ”أَيْنَ أَنْتَ؟“» (تك 3: 9). فأجاب آدم: «سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ» (تك 3: 10)، فكانت الخطية هي وصمة العار التي وصمت الإنسان، وخصوصًا أنَّ مَنْ ارتكبها هو رأس البشر!!
وكانت النتيجة: إنَّ الخطية قد امتدَّت إلى العالم كلِّه، وفَقَدَت الأرض السلام!!
وأصبح الإنسان لا يحتمل أخاه الإنسان، والدليل على ذلك أنَّه في بدء الخليقة، وبينما كانت الأرض خربة، ولا يوجد بها معالم للحياة، لا شوارع ولا طُرُق … إلَّا أننا نجد قايين لا يحتمل أخاه هابيل ويقتله، بالرغم من أنه لم يكن معهما أحدٌ على سطح الكُرة الأرضيَّة. «وَحَدَثَ إِذْ كَانَا فِي الْحَقْلِ أَنَّ قَايِينَ قَامَ عَلَى هَابِيلَ أَخِيهِ وَقَتَلَهُ» (تك 4: 8)، ”القتل“ يا لها من كلمةٍ مُرعِبة!! كيف يستطيع أخٌ أن يقتل أخاه؟! أين كان عقله؟! لقد أفقدته الخطية عقله، وسلامه، ورابطة الدم والأُخوَّة، التي بينه وبين أخيه!!
قِسْ على هذا، ما حدث في العالم ابتداءً من قايين وهابيل، وامتدادًا إلى الحروب والصراعات في هذا العالم حتى يومنا هذا، فهل كان الله يقصد أن تكون خليقته بهذه الصورة؟ بالطبع لا، فكلُّ هذا من صُنع الإنسان، حتى صار الإنسان لا يحتمل أخاه الإنسان!
وبذلك فَقَد الإنسان السلام، وصارت حياته مُتعبة، ونتيجة لذلك أُصيب بالكآبة والقلق والهمِّ … إلخ، من أمراض العصر!! إنَّ الإنسان بخطيته، دخل على هذا العالم الخالي من السلام.
أولًا: مجالات صُنع السلام مع الآخرين:
1. في البيت:
يُذكِّرنا سِفْر الأمثال، بهذه الآية اللطيفة والمُعبِّرة جدًّا عن حياتنا وهي: «لُقْمَةٌ يَابِسَةٌ وَمَعَهَا سَلَامَةٌ، خَيْرٌ مِنْ بَيْتٍ مَلأْنٍ ذَبَائِحَ مَعَ خِصَامٍ» (أم 17: 1)، وهي آية تحمل تعبيرًا بسيطًا يُمكننا جميعًا فهمه، فهي تعني ببساطة أنه يمكننا أن نأكل عيشًا وملحًا، ويكون بيتنا مليئًا بالسلام، أفضل من أن نأكل أكلًا دسمًا وبيتنا مليء بالخصام.
ففي وسط الخصام لا يستطيع الإنسان أن يتمتَّع بشيء، لا بذبائح ولا بقصر ولا بصُحبة. لذلك ما أجمل البيت الذي يحلُّ فيه السلام، ومن أجل ذلك كانت أولى وصايا ربنا يسوع المسيح لتلاميذه: «وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلًا: سَلَامٌ لِهذَا الْبَيْتِ» (لو 10: 5).
2. في الكنيسة:
وهي المحطة الثانية لمُمارسة السلام، فنجد أنه من أكثر الكلمات تكرارًا داخل الكنيسة، كلمة ” Irhnh paciإيريني باسي“ (بمعنى السلام لجميعكم). ويردُّ الشعب على الكاهن قائلًا: ”ولروحِكَ أيضًا“.
وأكثر صلاة تتكرَّر في طقوسنا عندما نُصلِّي في الأواشي من أجل سلام الكنيسة قائلين: ”اذكر يا رب سلام كنيستك، الواحدة الوحيدة المقدَّسة الجامعة الرسولية، هذه الكائنة من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها … احفظها بسلام“.
كذلك تُصلِّي الكنيسة قائلة: ”السلام الذي من السموات أنزله على قلوبنا جميعًا، بل وسلام هذا العمر أيضًا“. إنَّ الكنيسة تُصلِّي يوميًّا من أجل سلام العالَم، من أجل أن يحلَّ السلام على الأرض، لكن سلام العالَم يبدأ بالسلام الصغير الذي في قلب الإنسان.
ونُلاحظ أن أكثر كلمة تتكرَّر في الأديرة عندما يتقابل الرهبان هي كلمة ”سلام“. فيقول أحدهم: ”سلام“، فيرد الآخر: ”سلام ونعمة“.
من القصص الجميلة التي وردت في تاريخ الكنيسة عن الأنبا بولا أوَّل السوَّاح،، أنه عندما زاره الأنبا أنطونيوس، كان أول سؤال سأله الأنبا بولا للأنبا أنطونيوس هو: ماذا عن سلام الكنيسة؟
فالقدِّيس الأنبا بولا الذي عاش في السياحة والوحدة، وكانت له سنوات كثيرة بعيدًا عن هذا العالَم وأخباره، كان أول شيء يسأل عنه هو سلام الكنيسة، حتى إنه اهتم بسؤال الأنبا أنطونيوس عن هذا السلام.
3. في المجتمع:
المجتمعات التي نعيش فيها اليوم صارت ممتلئة بالمتاعب والصراعات والمشكلات والخصومات بين الناس، وبالتالي صارت تحتاج إلى سلام، لكن هذا السلام لا يُبنَى في المجتمع إلَّا بعد أن يُبنَى في القلوب أوَّلًا، ثم البيت، ثم الكنيسة، ثم بعد ذلك المجتمع. وصار السلام من واجبات المواطنة، بمعنى أنه واجبٌ على المواطن في أيِّ مجتمع أن يصنع سلامًا. فكما إنَّ للمواطن حقوقًا، عليه أيضًا واجبات. وبناءً على ذلك، فإنَّ المواطن الذي يتخلَّى عن مُشاركته في سلام مجتمعه، يُعتَبَر مُقصِّرًا في واجبات المواطنة.
لذا كُنْ حريصًا على حفظ السلام مع مَنْ حولك حتى لو كلَّفك ذلك التنازُل عن بعض حقوقك، أو احتمال بعض الإهانات. فالسلام أغلى من أيِّ شيء مادي، لأنك لو خسرتَ سلامك، ستخسر علاقاتك. يقول القدِّيس بولس الرسول: «فَلْنَعْكُفْ إِذًا عَلَى مَا هُوَ لِلْسَّلَامِ، وَمَا هُوَ لِلْبُنْيَانِ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ» (رو 14: 19).
ثانيًا: كيف نصنع سلامًا مع الآخرين؟
1. اللسان الحلو والكلمة الطيِّبة:
من العجب، يا إخوتي الأحبَّاء، أنَّ الإنسان دائمًا ما يختار ملابسه بألوانها وأشكالها وأنواعها المختلفة، ولكن من الأكثر عجبًا أنه لا يستطيع أن يختار ألفاظه وكلماته.
يقول سِفْر النشيد عن العروس (النفس البشرية): «شَفَتَاكِ يَا عَرُوسُ تَقْطُرَانِ شَهْدًا» (نش 4: 11). وقد نَصِف شخصًا ما في تعبيراتنا الشعبيَّة ونقول عنه: ”فلان لسانه بينقَّط سُكَّر“، فيا بخت وطوبى للإنسان الذي لسانه ينقَّط سُكَّر في بيته، وفي مجتمعه، وفي وسط أصدقائه. لذلك فإنَّ أول وسيلة تستطيع أن تصنع بها سلامًا، هو لسانك الحلو أو كلماتك الطيِّبة. ولأن اللسان الحلو يُراعي الذوق واللياقة في الحديث مع الآخرين، فنجد صاحبه دائمًا مُسالمًا للآخرين.
2. النظرة الوديعة وتجنُّب الغضب:
تجنَّب الغضب، وليكن لكَ النظرة الوديعة، فقد يقولون عن شخصٍ ما: ”فلان عينه بطَّلع شرار“!! رغم أنَّ العين رقيقة خلقها الله لكي يرى الإنسان بها أخاه الإنسان، ولكن هذه النار أو هذا الشرار هو نار الغضب! فلن تستطيع أن تَنْعَم بالسلام داخل نفسك وأنت في خصامٍ وغضب مع أيِّ إنسان. فاعلم، أيها الأخ الحبيب، أنَّ غضبك «لَا يَصْنَعُ بِرَّ اللهِ» (يع 1: 20)، ولا يُحقِّق راحة الله في قلبك.
وقد علَّمنا الكتاب المقدَّس: «لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعًا فِي الاِسْتِمَاعِ، مُبْطِئًا فِي التَّكَلُّمِ، مُبْطِئًا فِي الْغَضَبِ» (يع 1: 19). فاستمع جيِّدًا لمَنْ يتحدَّث إليك، وقبل أن تتكلَّم فكِّر جيِّدًا، وقبل أن تغضب فكِّر مرَّةً أُخرى، لئلَّا غضبك يُفسِد أمورًا جيِّدة في حياتك.
يقول معلِّمنا بولس الرسول: «إِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاسِ» (رو 12: 18)، ودائمًا يُقال: إنَّ الغضب كالنار، ولا تُطفأ النار بالنار، النار تُطفأ بالماء. لذلك إن وجدتَ مَنْ أمامك بَدَا وكأنه في حالة غضب، فلا تستمر في المجادلة معه لئلَّا تدخل أنت أيضًا في حالة غضب. فتوقَّف وابدأ في استخدام وداعتك وحلمك ونظرتك الوديعة.
3. المغفرة والمُسامحة:
المغفرة دليلٌ على وجود المسيح داخل القلب، فنحن نغفر لأنه من شروط حصولنا على الغفران أن نغفر نحن أيضًا. وعدم الغفران يجعل في النفس شعورًا بالمرارة الشديدة تجاه مَنْ أساء إلينا. قد تجد إنسانًا يقول: ”إني لا أستطيع النوم بهدوء أو بسلام، فبداخلي مرارة شديدة تجاه فلان. هذا الأمر يجعلني غير مرتاح، ليتني أشعر بالراحة والسلام“. طالما يوجد عدم غفران، لا يوجد سلام ولا راحة.
والقدِّيس مار إسحق يقول: ”إن لم تكن صانعًا للسلام، فعلى الأقل لا تكن مُثيرًا للمتاعب“. فصُنع السلام هو بداية السلوك المسيحي. فتعلَّم صُنْع السلام في بيتك، في كنيستك، في مجتمعك، في علاقاتك بين أصدقائك.
إنَّ كلمة السلام تعني سَعْي الإنسان الدائم لأجل تحقيق هذه الحقيقة في حياة الآخر، وهي أنَّ الله يُحبُّه. إنه محبوب الله، فإن شعر الإنسان بهذه المحبة الإلهيَّة، سيعيش في سلام.
فلْيُعطِنا مسيحُنا أن تكون حياتنا في هذا السلام، ونكون صانعي السلام: «طُوبَى لِصَانِعِي السَّلَامِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ» (مت 5: 9).
البابا تواضروس الثاني