كان القرن الرابع الميلادي
من أشد القرون اضطرابًا،
ابتدأ باضطهاد كبير
وانتهى بالمصالحة بين الشرق والغرب،
كما شهد ظهور المناظرات اللاهوتية الكبرى ممثلة في انعقاد المجامع المسكونية
في نيقية (325م)
والقسطنطينية (381م)
مع ظهور أبطال الإيمان
والمدافعين اللامعين بالفلسفة واللاهوت وقبلهما الكتاب المقدس بعهديه.
بدأ دقلديانوس الإمبراطور (284-305م) بإصلاح إدارته وجيشه، وقسم الدولة إلى قسمين: الشرق والغرب، ووضع لكل قسم إمبراطورًا وقيصرًا يساعده في الإدارة ويحل محله عند الوفاة أو الاعتزال. واحتفظ لذاته بالشرق. وكان شديد التمسك بالوثنية وأصدر مرسومًا بأن المسيحيين هم سبب التمرد والفتن الحاصلة في الشرق، مع تدابير جذرية ضد المسيحية من تدمير الكنائس وحرق الكتب المقدسة وتحريم التجمعات الدينية.. وكان هذا أطول اضطهاد في التاريخ الروماني ودام عشر سنين، وكان معتدلاً في الغرب ولكن لا يرحم في الشرق خاصة مصر وفلسطين، وصارت قائمة الشهداء بالمئات والآلاف مما حدا بالأقباط أن يتخذوا العام 284م -بداية حكمه- هو بداية لتقويم قبطي دعي: “تقويم الشهداء” والذي نحتفل به هذا العام 1741ق.
وفي سنة 305م استقال دقلديانوس بسبب المرض.. وعام 306م صار قسطنطين قيصرًا، وبعد سلسلة من الحروب صار هو الإمبراطور الأعظم شرقًا وغربًا، وأصدر قوانين لصالح المسيحية، والسماح لجميع المواطنين بالحرية الدينية، وأمر بإعادة الكنائس وهو ما يعرف بمنشور ميلان للتسامح الديني، والذي صدر عام 313م حيث أضحت الديانة المسيحية ديانة شرعية في الإمبراطورية، وهو المرسوم المعروف بحرية الضمير وحرية العبادة.
لقد أصبح الإمبراطور الأوحد الموالي للمسيحية عام 324م حيث نعمت الكنيسة في زمانه بالسلام والطمأنينة وشعرت بانتصار الإيمان على الوثنية، وأعطى حق المواطنة لأفرادها واعتبر نفسه المدافع الأعلى عنها وعن الدولة.
كان قسطنطين من أصل وثني متسامح ولد عام 280م في صربيا، عرف المسيحية ولكنه لم يتعمد، وقد أرجأ معموديته إلى ما قبل وفاته بقليل بحجة أنه يريدها في نهر الأردن، وقد عمده يوسابيوس أسقف نيقوميديا قبيل وفاته بأيام قليلة. عاش حياته ميالاً للمسيحية ولم يضطهد أتباعها ربما بسبب والدته المؤمنة هيلانه وأخته كونستانسا اللتين كانتا مسيحيتين. تعلم رحابة الصدر من والديه وقد وصل للحكم 306م بعد وفاة والده كونستانس كلور، وكان ذا طموح وشجاعة واقتدار، وأنجب ثلاثة أبناء رباهم في المسيحية واستلموا الحكم بعد وفاته.
لقد كان ذا أخلاق عالية وكريمًا جدًا مع المسيحية المتألمة حيث أعاد للمسيحيين أملاكهم المحجوزة ووزع أموالاً على الكنائس والإكليروس وأعاد الأوقاف إلى الكنيسة وسمح ببناء الكنائس والكاتدرائيات وخصص بابًا في موازنة الدولة من أجل معونة الكنائس ماديًا كما أنه وظف المسيحيين لأول مرة في وظائف كبيرة وهامة حيث اشتهروا بالأمانة والالتزام. كما اتخذ بيزنطة مقرًا وعاصمة للإمبراطورية ودعا اسمها القسطنطينية (على اسمه) واعتبرت روما الثانية ودشنها رسميًا يوم 11 مايو 330م (وهي إسطنبول في تركيا حاليًا) والتي تعتبر أحد عواصم الأرثوذكسية في العالم ومقر البطريرك المسكوني.
وعندما ظهرت الأزمة الأريوسية وهددت سلام العالم المسيحي نراه يتدخل من باب حفظ سلام الكنيسة، وربما يكون هو صاحب اقتراح عقد المجمع المسكوني الأول في نيقية عام 325م والذي تم بنجاح كبير وحكم على أصحاب الهرطقة الأريوسية. ونال الإمبراطور كرامة وإجلالاً بعد هذا المجمع مما دعاه أن يعتبر نفسه قائد المسيحيين وحاميهم والمدافع عن المسيحية الواحدة، كما اعتقد أن الله منحه الانتصارات المتتالية بسبب حمايته للشؤون الكنسية ودعمها وتنظيمها.
ورغم أنه ظهرت تيارات لاهوتية انشقت عن الكنيسة، إلا أن الأريوسية التي انطلقت من الإسكندرية لتعم وتتفشى في الكنيسة الشرقية بأكملها سببت سجسًا واضطرابًا عظيمًا في زمن قسطنطين الإمبراطور الكبير. كان آريوس أحد تلاميذ المدرسة اللاهوتية الأنطاكية، وتلميذ المعلم الشهير لوكيانوس الأنطاكي، الإسكندري المنشأ والأنطاكي النشأة، وأمام هذا الشقاق المدمر بين أبناء الكنيسة الواحدة، وأمام فشل كل المحاولات لإعادة آريوس إلى صوابه، قرر الإمبراطور عمل أجندة بكل المسائل المتعارضة وطرحها في مجمع كبير يضم أساقفة العالم شرقيين وغربيين، وربما جاءت الفكرة من أسقف الإسكندرية البابا ألكسندروس البطريرك 19، وكان الهدف حفظ وحدة الإمبراطورية من أي انقسامات أو انشقاقات. وفعلاً بحضور الإمبراطور قسطنطين نفسه اجتمع 318 من الأساقفة في مدينة نيقية الساحلية عام 325م حيث أعلنوا العقيدة الصحيحة القويمة في دستور للإيمان مؤكدًا على المساواة الجوهرية بين الابن والآب وصار لقانون إيمان نيقية صدى مسكوني ممتد في الزمان والمكان وفي جميع الكنائس نتلوه حتى اليوم في صورة صلاة حيث نردده ونحن وقوف، وهكذا في كل الكنائس المسيحية في المسكونة شرقًا وغربًا.
لقد كان المجمع عملاً من أعمال العناية الإلهية على يد هذا الإمبراطور العظيم وبدأ بعد ذلك تقليد عقد المجامع المسكونية.
ويصف يوسابيوس القيصري أجواء المجمع بأنها كانت تبهر العيون وقد أُعد لها جيدًا، وبعد الانتهاء من أعمال المجمع ثم الاحتفال بمرور عشرين سنة على مُلك الإمبراطور قسطنطين في جميع أقاليم الإمبراطورية وذلك باحتفالات عامة كبيرة، وانتهت بوليمة فخمة أعدها الإمبراطور لخدام الله والتي لم يغب عنها أي أسقف وجلسوا جميعًا على شكل دائرة كبيرة وفي النهاية قدم لهم هدايا تتناسب مع مقامهم.
وبعد عشر سنوات أخرى أي عام 335م احتفل الإمبراطور بمرور ثلاثين سنة على حكمه وذلك بحضور عدد كبير من الأساقفة لتدشين كنيسة القيامة التي أمر بإنشائها ورفع الصليب المقدس في 14 سبتمبر قائلين: “الصليب حافظ المسكونة. الصليب جمال الكنيسة، الصليب عزة الملوك. الصليب ثبات المؤمنين. الصليب محير الملائكة وجرح الشياطين..”.
وقبل وفاته بأيام قليلة خلع الأرجوان وألقاه جانبًا وارتدى البياض ونال سر المعمودية، وفاضت روحه يوم 22 مايو 337م، وحُفظ جسمه ووضع في تابوت من ذهب، ونُقل الى القصر في القسطنطينية، وتم الصلاة عليه في كنيسة الرسل طوال الليل، ودفن فيها، وخسرت الكنيسة بوفاته أكبر مدافع عن أرثوذكسيتها ودستور إيمانها النيقاوي.
This page is also available in:
English