أهنئكم جميعًا بعيد الميلاد المجيد، وأصلي أن يملأ الله حياتكم بنعمته وسلامه، وأنتهز الفرصة لكى ما أهنئ كل الكنائس المسيحية التى تحتفل فى هذا اليوم ،كما أهنئ جميع الايبارشيات والكنائس والأديرة القبطية المنتشرة فى جميع قارات العالم ، هذا اليوم الذي أضاء فيه نور السماء على الأرض، وتجلت محبة الله للبشر من خلال ميلاد السيد المسيح، ميلاده الذي صار نقطة تحول في تاريخ الإنسانية، وفتح باب السماء أمام البشرية جمعاء، انه يوم يذكّرنا بحقيقة الخلاص ويزرع في قلوبنا الفرح والرجاء.
إن قصة الميلاد ليست مجرد حدث تاريخي أنما يجب أن نقف أمام أحداث الميلاد لنستلهم منها دروسًا لحياتنا. فهى رسالة حية لكل واحد منا ، فوسط البساطة التي أحاطت بميلاده ، نتأمل حول طبيعة القلوب البشرية التى أحاطت الحدث ، نجدهم أشخاص حملوا أنواع قلوب متنوعه بعضهم يحمل قلوباً بارده لا تقبل كلمه الله ولا تحفظها ، والأخر قلوباً دافئة تفتح حياتها للإيمان وتثمر بوفرة ، ولا أجد وصف لنوعيات القلوب أفضل من مثل الزارع الذى قصه السيد المسيح على الشعب وفصل فيه القلوب كنوعيات من الارض التى تسقط عليها البذور:
أرض الطريق: كما قال السيد المسيح “كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ كَلِمَةَ الْمَلَكُوتِ وَلاَ يَفْهَمُ، فَيَأْتِي الشِّرِّيرُ وَيَخْطَفُ مَا قَدْ زُرِعَ فِي قَلْبِهِ. هذَا هُوَ الْمَزْرُوعُ عَلَى الطَّرِيقِ” (متى 13: 19).هذه القلوب مغلقة، منشغلة بالعالم، لا تعطي فرصة للكلمة الإلهية أن تدخل أو تنمو. مثل هؤلاء كانوا موجودين في أحداث الميلاد، كقلب هيرودس الذي امتلأ بالخوف والغيرة، فلم يرَ في ميلاد المسيح إلا تهديدًا لسلطانه الأرضي.
أرض الحجر: “وَالْمَزْرُوعُ عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ وَيَقْبَلُهَا حَالًا بِفَرَحٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ، بَلْ هُوَ إِلَى حِينٍ” (متى 13: 20-21).هذه القلوب تفرح بالكلمة مؤقتًا، لكنها تتراجع سريعًا عند مواجهة التجارب. مثل هؤلاء نراهم في العالم اليوم حين يكون إيمانهم سطحيًا، لا يقوى على مواجهة الضغوط والتحديات .
أرض الشوك: “وَالْمَزْرُوعُ بَيْنَ الشَّوْكِ هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ، وَهَمُّ هَذَا الْعَالَمِ وَغُرُورُ الْغِنَى يَخْنُقَانِ الْكَلِمَةَ فَيَصِيرُ بِلاَ ثَمَرٍ” (متى 13: 22). هذه القلوب تختنق بالهموم والشهوات، فلا تدع الكلمة تنمو وتثمر. وهؤلاء يشبهون الكتبة والفريسيين في قصة الميلاد، الذين عرفوا النبوات ولم يتحركوا للإيمان.
أما القلوب الدافئة، فهي التي تشعر بالأنسانية وتتجاوب معها ، وتقبل الكلمة بفرح، وقد أشار السيد المسيح إلى ثلاث درجات من هذه الثمار:
الأرض التي أثمرت ثلاثين: تمثل النفوس التي تؤمن لكنها تحمل بعض الخوف أو الشك. ورغم ذلك، فهي تُثمر. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: “القلب الخائف يُثمر، لكنه يحتاج إلى النعمة ليزيل عنه الخوف ويمنحه جرأة الإيمان.”يمكننا أن نرى هذا النوع في حياة الرعاة. فقد كانوا في البداية خائفين من رؤية الملاك، لكنهم تحركوا بإيمانهم البسيط، وجاءوا ليسجدوا للطفل الإلهي.
الأرض التي أثمرت ستون: تمثل النفوس التي تعمل بدافع الأجر، لكنها ما زالت تحمل محبة لله. هي قلوب تجتهد وتثمر، لكنها تنتظر مكافأة سماوية. يقول القديس كيرلس الكبير: “النفوس التي تعمل برجاء الثواب هي في طريقها للكمال، لأنها بدأت السير في طريق المحبة.”
يمكننا أن نجد هذا النوع في المجوس، الذين قدموا هداياهم بسخاء وسجدوا للمسيح، مدفوعين برغبتهم في لقاء الملك المخلص.
الأرض التي أثمرت مائة: هذه القلوب تمثل النفوس التي تمتلئ بمحبة الله الكاملة، ولا تخاف ولا تنتظر أجرًا. هي النفوس التي تعطي كل ما لديها بدافع الحب الخالص. يقول القديس أغسطينوس: “القلب الذي يحب الله بلا حدود هو الأرض المثمرة التي تفرح السماء بثمرها.”هذا النوع من القلوب نجده في العذراء مريم، التي قدمت ذاتها بالكامل لله، قائلة: “هوذا أنا أمة الرب ليكن لي كقولك” (لوقا 1: 38).
إن ميلاد المسيح يدعونا أن نفحص قلوبنا إذا كنا نحمل قلوبًا باردة، فلنطلب من الرب أن يمنحنا نعمة التوبة، لأن الكلمة الإلهية تستطيع أن تحول أرضًا قاحلة إلى بستان مثمر.وإذا كنا نحمل قلوبًا دافئة، فلنجتهد لننتقل من ثمرة الثلاثين إلى المائة، لأن الله يدعونا دائمًا إلى الكمال.لنتأمل في كلمات القديس يوحنا الرسول: “اَلْمَحَبَّةُ تَطْرَحُ ٱلْخَوْفَ إِلَى خَارِجٍ” (1 يوحنا 4: 18). فإذا امتلأت قلوبنا بالمحبة، سنثمر كما أثمرت الأرض الجيدة.
أن ميلاد المسيح هو دعوة لكل واحد منا أن يجعل قلبه مذودًا يولد فيه . فإذا كانت قلوبنا تحمل الخوف، فليشرق عليها نور السماء كما أشرق على الرعاة. وإذا كنا نتعب ونعمل منتظرين أجرًا، فلنطلب من الله أن يملأ قلوبنا بالمحبة. وإذا كنا نحمل حبًا لله، فلنجعل هذا الحب بلا حدود، فنثمر مائة ونكون نورًا للعالم
ولكن ما هى صفات أصحاب القلوب الدافئة ؟
اولاً الحياة البسيطة:
أصحاب القلوب البسيطة يتميزون بالقدرة على المرور بالمشاكل دون أن يتأثروا بها، إذ يلقون همومهم على الله الذي يحملها عنهم. نقبل الأحداث بصدر رحب، دون أن نسمح للقلق أو التعقيد أن يسيطر علينا، معتمدين على الله في كل خطوة. ويعلمنا السيد المسيح “سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا،” (مت 6: 22).
الرعاة كانوا يعيشون حياتهم اليومية في الحقول، بعيدًا عن صخب المدن، يعملون في رعاية أغنامهم بقلوب نقية وقانعة. هؤلاء البسطاء لم يكن لديهم الكثير، لكنهم كانوا أصحاب قلوب مفتوحة ومهيأة لسماع صوت الله. سهروا وكانوا يعملون بكل جدية وضمير صالح وأجتهاد، وحينما ظهر لهم الملاك ببشارة الميلاد، لم يترددوا، بل أسرعوا ليجدوا الطفل الإلهي في المذود.لذلك أستحقوا ان يختبروا ويروا حضور الله. لقد كانت قلوبهم دافئة بالمشاعر رغم برودة الطقس وقتها .
ثانياً الباحثون عن الحقيقة:
القلوب الدافئة تبحث دائمًا عن الحقيقة ولا تنجرف وراء الترندات أو النميمة او الاخبار الكاذبة او الشائعات. هؤلاء لا يجدون راحتهم إلا في اكتشاف الحقائق، . يدركون أهمية التوقف عن الانشغال بالاحداث بل البحث عن ما هو للبناء، ما هو للفائدة، ما هو للملكوت، والسعي لإيجاد الحقيقة والتمسك بها بشجاعة.
من الشرق البعيد، جاء المجوس، قادهم نجم سماوي ليصلوا إلى المسيح الوليد . كانت رحلتهم طويلة وشاقة، لكنها كانت مليئة بالإصرار والشوق لمعرفة الحق. عندما وجدوا الطفل يسوع، سجدوا له وقدّموا له الذهب واللبان والمر، رموز الإكرام والعبادة والفداء.إن المجوس يمثلون كل إنسان يبحث عن الحقيقة في هذا العالم، ومنهم نرى أن البحث الجاد والإخلاص في السعي يؤدي دائمًا إلى لقاء المسيح، الذي هو الطريق والحق والحياة، لقد كانت قلوبهم دافئة بالأصرار رغم مشقة الطريق وصعوبته .
ثالثاً الصمت فى العمل:
أصحاب القلوب الدافئة لا يصنعون ضجيجًا حولهم، بل يعملون في هدوء وصمت، مؤثرين في محيطهم بأفعالهم لا بأقوالهم. مبتعدين عن التفاخر أو البحث عن التقدير، وتركيزهم دائما على العمل الجاد والإخلاص بصمت.
يوسف النجار كان رجلًا صامتًا، لكنه مليء بالإيمان والعمل ، فقبِل أن يكون حارسًا لسر التجسد من خلال رعايته للعذراء مريم وللطفل يسوع، فقد كان دائمًا يضحي براحته لأجل أمان عائلته المقدسة. لم يبحث يوسف عن مكانة أو مجد، بل كان همه الوحيد هو أن يتمم إرادة الله بأمانة وتفانٍ.القديس يوسف النجار يعلمنا أن الخدمة الحقيقية ليست في الكلام الكثير، بل في الأفعال الصادقة وفي الصمت المملوء بالإيمان، لقد كان ذو قلب دافئ يشعر بمسؤليته ويؤديها فى صمت .
رابعاً الطاعة القلبية :
الطاعة الحقيقية تنبع من القلب، لا من الإجبار، هذه الطاعة القلبية تلهمنا أن نقبل المهام والمسؤوليات بروح إيجابية دون تذمر، ونتعلم الثقة بأن لله خطة أعظم من إدراكنا البشري.
العذراء مريم، تلك الفتاة النقية التي اختارها الله ليحلّ في أحشائها كلمة الله المتجسد. حينما أُرسلت إليها البشارة، أجابت بتواضع: “هوذا أنا أمة الرب. ليكن لي كقولك.”إن طاعة العذراء ليست مجرد طاعة ظاهرية، بل كانت طاعة نابعة من قلب نقى. علمتنا العذراء أن الطاعة لله تفتح أبواب النعمة، وأن الاتكال الكامل على الله هو مصدر القوة الحقيقية في حياتنا، لقد كانت تحمل قلب دافئ فأستحقت كل الأكرام والتطويب .
خامساً العطاء البسيط:
أصحاب القلوب الدافئة راضين بما لديهم ، بل ويستخدمونه في خدمة الآخرين بفرح، مدركين أن العطاء لا يُقاس بالكثرة بل بالقلب الذي يُقدَّم به، مهما كانت إمكانياتهم محدودة، فيبارك الله في قليلهم.
فوسط أحداث الميلاد، يظهر صاحب المذود، ذلك الشخص البسيط الذي أتاح مذوده ليولد فيه الطفل، الطفل يسوع . ربما لم يكن لديه الكثير ليقدمه، لكنه أعطى ما عنده بمحبة ، فصار المذود رمزًا أبديًا لعمل الله في البساطة.إن هذا الرجل يعلّمنا أن الله لا ينظر إلى حجم ما نقدمه، بل إلى المحبة التي تملأ قلوبنا عند العطاء. حتى أبسط الإمكانيات يمكن أن تصبح عظيمة عندما نقدمها بصدق وإخلاص. ورغم أننا لا نعرفه الا انه بسبب قلبه الدافئ فأن الله يعرفه جيداَ .
وهكذا فأن صفات اصحاب القلوب الدافئة تظهر فى شخصيات الميلاد لكنهم جميعا يجمعهم ثلاث فضائل، ترتبط ببعضها ارتباطًا وثيقًا
الحب
الحب هو الأساس الذي يجعل القلوب قادرة على أستقبال النعمة الإلهية. الرعاة أحبوا الله ببساطتهم، فقبلوا البشارة بفرح وأسرعوا إلى المذود ، المجوس أحبوا الحق، فبحثوا عنه وقدموا أغلى ما لديهم تعبيرًا عن حبهم ، العذراء مريم، نموذج الحب الكامل، قدمت حياتها لله طاعةً وتسليمًا. وكما يقول الكتاب:
“اَللّٰهَ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتُ فِي ٱلْمَحَبَّةِ يَثْبُتُ فِي ٱللّٰهِ، وَٱللّٰهُ فِيهِ” (1 يوحنا 4: 16).
الحكمة
هى التي تقود في قراراتنا وأفعالنا، الحكمة هي التي تجعلنا نميز إرادة الله وننفذها ،كما يقول الكتاب:”بِٱلْحِكْمَةِ يُبْنَى ٱلْبَيْتُ، وَبِٱلْفَهْمِ يُثَبَّتُ” (أمثال 24: 3).المجوس يمثلون الحكمة في بحثهم المستمر عن الحقيقة. قادهم النجم ليس فقط إلى طفل المذود، بل إلى ملك الملوك، يوسف النجار كان مثالًا للحكمة الهادئة، أطاع الملاك، وقاد العائلة المقدسة بحكمة وصبر بعيدًا عن الخطر، العذراء مريم كانت ممتلئة بالحكمة الإلهية، حيث قالت”تعظم نَفْسِي ٱلرَّبَّ” (لوقا 1: 46)، وهو ما ينم عن وعي عميق بخطه الله
الرحمة
الرحمة هي التعبير العملي عن الحب والحكمة، بالرحمة تجاه الآخرين ، تقدم لهم ما تحتاجه حياتهم بروح العطاء والمحبة. “فالقلب الرحيم هو عرش الله.” صاحب المذود أظهر رحمة عندما قدم مكانًا بسيطًا للعائلة المقدسة في ليلة الميلاد، الرعاة أظهروا رحمة بمشاركتهم البشارة وفرحهم مع الآخرين.
الله نفسه، الذي تجسد وحل بيننا، أظهر الرحمة العظمى عندما قدم خلاصه للعالم .وكما يقول الكتاب:”فَكُونُوا رُحَمَاءَ، كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضًا رَحِيمٌ” (لوقا 6: 36).
أنها دعوة للبشرية أن تحمل قلوبا دافئه مملوئه بهذه الفضائل الثلاث.ليكن حبنا لله وللآخرين صادقًا، في كل كلمة وفعل. لتكن حكمتنا قادرة على تمييز صوت الله وسط ضوضاء العالم.ولتكن رحمتنا تجسيدًا عمليًا لمحبتنا لله ولإخوتنا.لنجعل حياتنا انعكاسًا لهذه القلوب ، فالنستقبل السيد المسيح، ليس فقط في يوم ميلاده، بل في كل يوم من أيام حياتنا .
ما أحوج عالم اليوم الى هذة الصفات الثلاثة ، فالصراع الدائر فى مناطق كثيرة يحتاج الحكمة ، والبشرية المشرده جراء الحروب تحتاج الرحمة ، والعالم كله يحتاج الحب الذى يتناقص تدريجيا ليحل محله الانانية والظلم ، فيجد الانسان نفسه فجأه بلا ملجأ بلا أمان ، داخل حرب دائرة ليس له فيها يد أو قرار ، انها فرصة لنا جميعا فى بداية هذا العام ان نرفع قلوبنا الى الله ليتدخل فى القلوب ، ويزرع الحب فيها لتحصد البشرية الحكمة والرحمة ، ويحرك قلوب المسؤلين نحو السلام فى العالم كله ، وكما أشرق نجم الميلاد في سماء بيت لحم، نصلى أن يشرق النور الالهى في حياتنا، ويقودنا لنكون نورًا للعالم من حولنا.
ولا يفوتنى أخيرا أن أنتهز هذة الفرصة لكى ما أشكر السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي على زيارته وتهنئته لجموع المصريين بهذا العيد المجيد ، وأشكره على جهوده وجهود الدوله جميعا فى الوصول إلى حلول سلمية لسلام وأمن المنطقة ونصلى أن تتكلل هذة الجهود بالنجاح .
كما نشكر كل رجال الدولة الذين قدموا لنا التهنئة بالحضور والمقابلات والمكالمات والرسائل ونصلى أن يديم الله المحبة والروابط العميقة التى تربط جميع المصريين ، على أرض هذا الوطن العزيز ، كل عام وأنتم بخير وعيد سعيد للجميع .
البابا تواضروس الثانى
بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية
يناير 2025