في كل ليلة عندما أخلد إلى فراشي بعد مرور النهار بكل ما فيه من أحداث ومقابلات وكلام ومجاملات وابتسامات وانفعالات ومشاعر داخلية متنوعة.. وبعد أن أهدأ وأبعد عن أي صخب وفي ضوء هادئ.. أصلي.. ثم أجلس أفكر لبضعة دقائق وأحيانًا تمتد إلى ما يقرب من الساعة أقضيها في مراجعة وجوه الناس الذين تقابلت معهم فرادى أو جماعات.. أحباء أو أصدقاء.. الكل يتكلم معي، شاكيًا، مجاملاً، ضاحكًا، ثرثارًا، متأملاً، مندهشًا، أو متسائلاً، وأتأمل وجوه الكل مدققًا فيما يقولوه… سواء أمور خاصة أو أمور عامة … ودائمًا ما يكون للشكوى نصيبًا وافرًا فيما أسمعه، كل أنواع الشكوى وأحيانًا التذمر وأخرى الغضب وتارة عدم قبول الواقع وتارة أخرى التمرد على الواقع.
وعلى فراشي وقبل ساعات النوم أتأمل هذه الوجوه متعجبًا مما يذكروه أمامي وأحاول أن أربطه مع مشاهد أخرى مررت بها في حياتي باحثًا عن مفتاح فهم الحياة… لقد قرأت من قبل عبارة “من يعرف الحب يفهم الحياة” وهذه حقيقة ولكن ما هو “مفتاح الحياة”؟ ما هو الأمر الذي يجعل الحياة مقبولة وناجحة وهانئة؟
أتذكر في بداية خدمتي، وفي الأيام الأولى منها، وكنت وقتها في عمر 19 سنة، طلب مني أمين الخدمة في الكنيسة أن أفتقد أسرة فقيرة وأعطاني العنوان.. وذهبت بمفردي.. كانت الأسرة مكوَّنة من أم أرملة وخمسة أبناء.. بنت بعمر 13 سنة.. وأربعة أولاد أكبرهم عشر سنوات.. كانت دهشتي شديدة حين وصلت، فشقة هذه الأسرة قليلة الأثاث محدودة المساحة، كما أنه لا يوجد سوى كرسي واحد أجلسوني عليه، وجلسوا جميعًا على الأرض حولي وكانت الأم مريضة بالزكام والأنفلونزا… والغريب أنهم كانوا فرحين ومتهللين بزيارتي، استقبلوني مع كلمات الترحيب من القلب، كنت أجلس مندهشًا من حالهم الرقيق، وسألت الأم :هل تأخذين دواءً للبرد؟… فأجابت بکل رضی: ليس معنا لشراء دواء ولكني ذهبت لأبونا في الكنيسة فأعطاني “خمسة قروش” اشتريت بقرش صاغ شريط أسبرين ريفو واشتريت كيلو برتقال بأربعة قروش وأنا كويسة والحمد لله!
وصلينا ووزعت صورة صغيرة للأطفال الصغار، وغادرت هذه الأسرة الفقيرة ماديًا والغنية روحيًا، ومع أن هذه القصة وقعت معي في نهاية ستينات القرن الماضي.. إلا أنها مازالت عالقة في ذهني، بما فيها من روح رضا عالية أتذكرها مرسومة على وجوههم جميعًا… ومرت الأيام والسنين.. ونـما الصـغار وتعلموا وتخرجــوا وتزوجوا زيجات ناجحة ومباركة بسبب روح الرضا التي زرعتها تلك الأم العظيمة فيهم.
لقد قابلت بعض الناس وروح الرضا تملأهم حقيقة رغم قسوة أحداث الحياة وضيقها وتجاربها. فها هي والدتي من هذه النوعية، فهي الابنة الوحيدة مع ستة أولاد أكبر منها، ونشأت في وسطهم، ونالت قسطًا من التعليم الأولي في مدرسة دير القديسة دميانه في براري بلقاس محافظة الدقهلية.
وفي سن السادسة عشرة تزوجت وتغربت مع والدي الذي انتقل من المنصورة إلى سوهاج إلى دمنهور حيث ترمّلت وهي فى عمر 34 سنة ومعها ثلاثة أبناء (أنا وبنتين والصغيرة كانت بعمر 4 سنوات).
وفي كل ذلك كانت راضية ولم أرها يومًا متذمرة أو شاكية، بل كانت تفرح بأقل القليل وكان نجاحنا الدراسي والارتباط بالكنيسة هما سبب فرحها الوحيد في الحياة، وعبر سنوات معدودات رحل والدها، ثم أخيها الأكبر ثم زوجها (والدي) ثم والدتها ثم حماها (جدي لوالدي)، وعندما زوّجت أختي الكبيرة رحل زوج أختي بعد أسابيع قليلة من الزواج، حتى أنها بعد عدة سنوات وبعد أن تزوجت أختي الصغيرة عام 2008م رحلت بعد مرض شديد استمر معها وقتًا طويلاً تاركة زوج وابن وابنة صغيرين، وظلت والدتي راضية بما صنعته أمواج الحياة وعواصفها حتى السنوات الأخيرة من عمرها التي قضتها في أمراض كثيرة ظلّت راضية بل ومبتسمة وعندما زرتها على فراش المرض قبل الرحيل بأيام كانت نظرتها وابتسامتها الراضية تخفي كل ألم أو تعب بل وتعبر عن الشكر والرضا، وهكذا عاشت وسط صدمات الحياة وهي راضية محتملة في يقين أن كل الأشياء تعمل للخير للذين يحبون الله.. فقد كانت تحب الله جدًا.
إن فن الاستمتاع بالموجود أحد الفنون الحياتية التي لا يجيدها الكثيرون، وحسب نظرة الإنسان لحياته تكون مشاعره أمام الله ضابط الكل… البعض يقول إن فلان حظه قليل أو بخته بسيط، وحتى وإن كانت هذه المقولات لها قدر من الصواب فإن وجود الرضا الحقيقي في حياة الإنسان دون استكانة أو تكاسل، هو المفتاح الذي به يدخل الإنسان إلى عالم السعادة والفرح.
ذات يوم طرق باب الكنيسة رجل يحمل على ظهره الماكينة التي يسن بها السكاكين.. وهي آلة يدوية يديرها برجله، ووجدت الرجل هادئًا تبدو النعمة على وجهه.. وهو يحمل هذه الآلة ويتنقل من بيت إلى بيت ليعرض خدماته لمن يحتاج، ويؤدي عمله بدقة وهدوء وإتقان ولا يفرض ثمنًا معينًا لعمله بل يقبل ما يجود به طالب الخدمة في بساطة ويسر وابتسامة ورضا. وعمل الرجل شغله وتركني، ولكن روح الرضا الظاهرة عليه لم تفارق ذاكرتي، ومرت أعوام كثيرة ونسيت هذا الرجل وسط أحداث الحياة، وبعد مرور أكثر من عشرة أعوام قابلت طبيبة شابة وزوجها وابنهم الصغير وتعرفت عليهم، اكتشفت من الحديث أنها ابنة ذلك الرجل صاحب آلة سن السكاكين وتجددت ذاكرتي بالقصة الأولى ومقابلتي له، وجلست مع الطبيبة لأتعرف أکثر عليهم، لقد كانوا سبع بنات لذلك الرجل الراضي، وكلهن تعلمن وتخرجن من كلية الطب وأربعة منهن تزوجن، وهن يفتخرن جدًا بوالدهم ومهنته المتواضعة، وشخصيته الراضية جدًا.
إنني أومن وبشدة أن “الرضا” هو “الصديق الوفي” في هذه الحياة التي نعيشها..
وكلما ملأنا سنوات عمرنا بالرضا والشكر والامتنان كلما شعرنا بغنى حياتنا ووجودنا وتتميم قصد الله فينا، وعندما أتأمل في صراعات الحياة سواء الصغيرة، أو المحدودة، أو بين الأفراد القلائل، أو الصراعات الكبيرة بين الدول والجماعات والشعوب شرقًا أو غربًا أجد أن غياب مفتاح الرضا هو الذي يشعل هذه الصراعات أو النزاعات.
البعض يقاتل من أجل المال واكتنازه.. والبعض يتصارع من أجل السلطة أو المنصب والذات… والبعض يعاند ويكابر من أجل ذاته ونفسه وأنانيته… وها هو المقياس كلما زاد رضا الإنسان بحياته كلما قلت الصراعات والمتاعب وهدأت النفوس ونجحت المقاصد.. وكما يقول المثل “اجري يا ابن آدم جري الوحوش غير رزقك لم تحوش”.
فالإنسان الراضي، لسان حاله يصلي شاكرًا الله ضابط الكل: على كل حال ومن أجل كل حال وفي كل حال… لقد عشت الرضا وأومن به جدًا وأعلم أن كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله.
إنه صديقي الوفي الذي لم يفارقني أبدًا…
البابا تواضروس الثاني
This page is also available in:
English