تأخذني الذاكرة الى مارس 2012، في ذلك العام الصعب الذي مر على مصر ضمن بضعة أعوام صعبة، كنت أعمل مديرا لتحرير جريدة الشروق المصرية حين جاء إلى صالة التحرير خبر رحيل البابا شنودة، هذا البطريرك التاريخي والاستثنائي والمؤثر في تاريخ الكنيسة القبطية المصرية وفي تاريخ مصر المدون والمحكي وغير المروى أيضا.
أربع عقود عاشها الأقباط تحت مظلة البابا شنودة ليست كأي عقود في تاريخ مصر، لأنها العقود التي تراكم فيها التشدد والتصنيف، ونمت وترعرعت فيها الكيانات والجماعات المتشددة التي هددت النسيج المصري وخوفت الآمنين، وخلقت كيانات دينية إسلامية موازية للأزهر الشريف.
كانت شخصية البابا شنودة ملجأ للأقباط ينشدون تحت مظلته الحماية، وكانت رهانا عند أولئك الذين حاولوا إحداث التوازن وتذكير السلطة المتواطئة في بعض الأوقات والتي تغض الطرف في أوقات أكثر على أن هناك صوت آخر جدير بالاستماع وأخذه في الاعتبار.
قوة خطابه داخل الكنيسة وخارجها، وتصادمه حتى مع الدولة حين تدفع به الظروف لذلك، وتداخله في كافة شؤون الأقباط الكنسية وغير الكنسية، خلقت جميعها أسطورته في قلوب الأقباط، ناهيك عن مواقفه الوطنية الجلية التي وضعته في مكان غير مسبوق في قلوب المصريين.
كل ذلك جعل خبر رحيله مفزعا على المستوى القبطي والوطني، وجعل عام 2012 عام حزن ومحنة ومن هذه اللحظة التي شعر فيها كل قبطي بالحزن على غياب “أسد الكرازة” وشعر كل مصري مؤمن بالتنوع بالقلق، ولدت كل المخاوف وظهر حجم الفراغ الكبير الذي خلفه وراءه البابا شنودة في عقول وقلوب الأقباط وقطاعات واسعة من المصريين اعتادوا دائما منذ تفتح وعيهم على عراقة وعمق وعالمية الكنيسة المصرية وأثرها في الاعتقاد المسيحي وتاريخ المسيحية في العالم، التأكيد بفخر وطني أن رأس هذه الكرازة هو ” البابا بتاعنا” سواء كنا مسلمين أو مسيحيين.
ربما أجهدتك في تلك السطور السابقة التي حاولت التعبير عنها بإيجاز لتعرف عمق التحدي الذي كان على البابا تواضروس أن يخوضه وحجم الفراغ الكبير الذي كان مطلوباً منه أن يملأه.
في بداية عام جلوسه الأول كانت الأسئلة واضحة وقوية وجارحة أيضا، عن قدرة البابا الجديد أن يثبت للمسيحيين أنه مصدر اطمئنان وحماية كسابقه، وأن يعزز عند المصريين جميعاً انه “البابا بتاعهم”.
ولم تتركه الأيام ليلتقط الأنفاس فبعد شهور قليلة من جلوسه صارت كافة الخيوط في البلد في يد خطاب التشدد والتصنيف والاستحواذ. رئاسة وبرلمان وجمعية تأسيسية للدستور، وتوالت الحوادث الطائفية.
هنا ولوهلة شعر الأقباط بمدى الفراغ الذي تركه البابا شنودة الذي كان قادرا بشخصيته القوية على المواجهة والمجابهة والتحدي، وعلى الأقل لملمة مشاعر الأقباط خلف خطاب فيه من الحماسة والقوة ما يكفي لإشاعة الاطمئنان حتى داخل أسوار الكنيسة.
لكن البابا تواضروس لم يذهب في طريق البابا شنودة الحاسم ولم يمضى في طريق البابا كيرلس الدبلوماسي المتصالح مع السلطة، وإنما اتخذ طريقا وسطاً خاصة وهو يرى التحولات في المجتمع كلها رافضة لخطاب التشدد والتصنيف والاستحواذ.
لماذا إذن يجعلها معركة طائفية.. إذا كانت في أصلها معركة مصرية لمصر وعن مصر وهويتها؟
فضل أن يكون شريكا في حراك مصري على أن يكون في عيون البعض بطلا وقائدا لحراك قبطي.
شجع الأقباط على الخروج إلى المجال العام لانتزاع مواطنتهم التي لا تنتظر بالضرورة اعترافا أو منح.
وحين كان الخيار أمن الكنائس أم أمن الوطن، اختار الثانية لإدراكه أنه لا كنائس آمنة في وطن غير آمن.
ودفع مع الأقباط ثمن اختياره بشجاعة، وحتى إن كان الثمن وقتها فادحا في صدام واستهداف أعقب الإطاحة بالرئيس المنتدب من جماعات الاستحواذ والتصنيف والتشدد، إلا أن البيع ربح بوطن مختلف ونظرة أكثر وعياً لمشاكل الأقباط.
تستطيع القول أن البابا شنودة كان بابا الهوية القبطية الأرثوذكسية وكان لذلك ظروف تاريخية وسياسية معتبرة، فتحت أبواب الكنائس لاحتضان الأقباط بعيدا عن المجال العام الذي كان معبأ بالطائفية والتصنيف والتمييز وكان ذلك شكل منطقي من أشكال الحماية.
لكن البابا تواضروس هو بابا المواطنة بامتياز، لم يتخل عن الاحتضان الكنسي للأقباط، وإنما دفعهم بقوة هذا الاحتضان للاندماج في المجال العام عن قناعة بأن كل شيء تغير وصار أكثر اطمئنانا، ساعد على ذلك تغيرات سياسية وثقافية كبيرة على رأسها نظام داعم للمواطنة، لا يهادن ولا يجمل القبيح ويسبقه الرئيس السيسي في هذا الاتجاه بالفعل قبل القول.
وخطاب إسلامي مصري أزهري رشيد يضع المواطنة في صلب مقرراته ومفاهيمه، ويعتبر مصطلحات مثل أهل الذمة سياقات تاريخية تنسخها المواطنة الكاملة التي عبر عنها الإمام الأكبر د. أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف مع البابا تواضروس في إصدارهما معاً إعلان الأزهر للمواطنة والتعايش ليكون وثيقة مؤسسة لفهم ديني ووطني قائم على المساواة والتكافؤ.
الآن بعد 9 أعوام وفي عيد الجلوس التاسع نستطيع أن نهنئ أنفسنا قبل البطريرك بكونه “البابا بتاعنا”.. بابا المصريين.
أحمد الصاوي
رئيس تحرير جريدة صوت الأزهر