الأَصْحَاحُ التَّاسِعُ عَشَرَ
الزواج – البتـولية – التجرد
(1) الوحدانية فى الزواج (ع 1-9):
1- ولما أكمل يسـوع هذا الكلام، انتقل من الجليل وجاء إلى تخوم اليهودية من عبر الأردن. 2- وتبعته جمـوع كثيرة فشفاهم هناك. 3- وجـاء إليه الفرّيسيّون ليجربـوه، قائلين له: “هل يحل للرجل أن يطلق امرأته لكل سبب؟” 4- فأجاب وقال لهم: “أما قرأتم أن الذى خلق من البدء، خلقهما ذكـرا وأنـثى؟” 5- وقال: “من أجـل هـذا يترك الرجـل أباه وأمه ويلتصق بامـرأته، ويكون الاثنان جسدا واحدا. 6- إذًا، ليسا بعد اثنين بل جسد واحد، فالذى جَمَعَهُ الله لا يفرقه إنسـان. 7- قالوا له: “فلماذا أوصى موسـى أن يُعطَى كتـاب طـلاق فَتُطَلَّقُ؟” 8- قـال لهم: “إن موسـى، من أجـل قسـاوة قلوبكم، أذن لكم أن تطلقوا نسـاءكم، ولكن من البـدء لم يكن هـكذا. 9- وأقـول لكم، إن من طلق امـرأته إلا بسبب الزنا وتزوج بأخرى يزنى، والذى يتزوج بمطلقة يزنى.”
ع1-2: “عبر الأردن”: هى المنطقة الواقعة بجوار نهر الأردن وتسمى بِيرِيَّةَ، وقد سكنها قديما سبط راؤبين وجاد ونصف سبط منسى، وتسمى حاليا الجولان.
بعد تعاليمه التى ذكرها متى البشير فى الأصحاح السابق، ترك المسيح منطقة الجليل الواقعة فى الشمال، التى قضى فيها ثلاث سنوات تقريبا، وانتقل إلى اليهودية، وهى المنطقة الجنوبية وفيها أورشليم، مارا بجوار نهر الأردن، ولم يتجه سريعا إلى أورشليم، بل دار وتنقّل بهدوء فى هذه المنطقة قبل أن يصل إليها.
قضى المسيح فى هذه الرحلة، من الجليل إلى أورشليم، مدة حوالى ستة أشهر حدثت خلالها أمور كثيرة، ذكرها لوقا ويوحنا، أما متى فذكر أحداث قليلة منها فى هذا الأصحاح والأصحاح التالى له.
وذكر متى أنه كانت تتبعـه جمـوع كثـيرة، فعلّمهم تعاليمه الروحية، وشـفى أمراضهم كعادته.
ع3-6: هنا كلام واضـح عن سـر الزواج، الذى أسـسه المسيح بحضوره عُرس قانا الجليل فى بداية خدمته. وكان الدافع إليه سـؤال الفرّيسيّين له عن الأسـباب المسموح بها حـتى يطلق الرجـل امرأته، هل لأى سـبب، أم أن هناك أسـباب محـددة؟ وكانـوا يعرفـون، من عظته على الجبل، رأيه فى عـدم جـواز الطـلاق إلا لعلـة الزنـا (ص 5: 32). لذا، فإن سـؤالهم هـذا، ليس لمعـرفة الحق، بل ليصطادوا عليه كلمـة، لأنـه لو منع الطـلاق يعتبر كاسـرا لناموس موسـى الذى يسمح به (تث 24: 1 و3)، وليهيّجوا هيرودس عليه لأنه طلق امـرأته وتزوج بهيروديا.
واستشهد المسيح بكلام موسى فى التوراة، فأعادهم إلى بداية الخليقة، حين خلق الله حواء من جنب آدم، وأعلن آدم بروح النبوة أنه عندما يتزوج الرجل، ينبغى أن يترك أباه وأمه ويلتصق بامرأته، “فيصير الاثنان جسدا واحدا” (تك 2: 24)، فهكذا جمعهما الله فى سر الزيجة، فكيف نسمح بفصل ما جمعه الله؟!
إذن، فالطلاق كسر لما عمله الله، فهو ضده.
ع7-8: اعترض الفرّيسيّون على كلام المسيح بأن موسى سمح بالطلاق، فكيف يمنعه هو؟! فرد عليهم المسيح أن هذا السماح كان من أجل انخفاض مستواهم الروحى، لأنه، بعد اختلاطهم بالمصريين، تعودوا الطلاق. فلما خرجوا إلى البرية، نقلهم تدريجيا إلى الشريعة الأصلية بتضييق إمكانية التطليق، حتى يتركوه بعد ذلك تماما، إذ أن الوضع الطبيعى السليم الذى أسسه الله فى جنة عدن بين آدم وحواء، كان الاتحاد بين الاثنين وعدم السماح بالطلاق.
وموسى لم يأمر بالطلاق، بل على العكس، أمر من يريد أن يطلق امرأته بألا يتسرع، بل يجلس ويكتب لها كتاب طلاق، ليعطيه فرصة أن يراجع نفسه، ويهدأ غضبه، فيتراجع عن قراره إذا فكر أن امرأته ستكون مع آخر، وسيهدم بيته ويشتت أولاده.
ع9: بعد انتهـاء حديث المسـيح مع الفرّيسيّين، دخـل إلى بيت كما يذكر معلمنا مرقس (10: 10)، فأكمل حديثه مع تلاميذه مؤكدا شريعة العهد الجديد، وهى أن السبب الوحيد المسموح فيه بالطلاق فى المسيحية هو سقوط أحد الطرفين فى الزناٍ، فبهذا يكون قد انفصل جسديا عن الآخر، فيكون الطلاق قد حدث جسديا فعلا، ويُسمح بكتابة ورقة طلاق.
أما من يريد أن يطلق امرأته لأجل خلافات بينهما، فلا توافق الكنيسة على ذلك، إذ هو متحد بها فى نظر الله.
أما إذا تحايل هذا الإنسان وحصل على طلاق مدنى لا تقرّه الكنيسة وتزوج بأخرى، يسقط فى الزنا. ومن تزوج بامرأة مطلقة لغير علة الزنا، يسقطان كلاهما فى الزنا.
إن وجود اختلافات فى الآراء والطباع، ليس حلها هو الطلاق، بل الالتجاء إلى الله ليتنازل الإنسان عن بعض طباعه. وبهذا، ليس فقط يستعيد السلام فى بيته، ولكن تنمو إرادته أيضا، فيستطيع أن يتقدم روحيا ويضبط شهواته وخطاياه؛ وهكذا تتحوّل الضيقة إلى بركة، أى تكون مشاكل الزواج وسيلة للنمو الروحى.
(2) البتولية (ع 10-12):
10- قال له تلاميذه: “إن كان هكذا أمر الرجل مع المرأة، فلا يوافق أن يتزوج.” 11- فقال لهم: “ليس الجميع يقبلون هذا الكلام، بل الذين أُعْطِىَ لهم. 12- لأنه يوجد خِصْيَانٌ وُلِدُوا هكذا من بطـون أمهاتهم، ويوجـد خصيان خصاهم الناس، ويوجـد خصيان خَصَوْا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات، من استطاع أن يقبل فليقبل.”
ع10: إذ لم يسمح المسيح بالطلاق إلا للزنا، شعر السامعون بأن هذا أمر فوق احتمال البشر، والأفضل هو عدم الزواج، لأنهم لم يفهموا عظمة الوحدانية بين الزوجين، فكان من السهل فى نظرهم الطلاق لأجل أية خلافات، ولم يكن لهم استعداد لاحتمال بعضهم البعض.
ع11-12: انتهز المسيح هذه الفرصة، ليوضح الفرق بين عدم الزواج (العزوبية) وبين البتولية، فبيّن أن هناك ثلاثة أنواع من غير المتزوجين:
النوع الأول: من وُلِدَ بعجـز جنسى، فلا يستطيع الزواج، ليس حبا فى البتولية والوجـود مع الله، بل لعجزه عن ذلك.
النوع الثانى: من أرادوا الخدمة فى قصور العظماء والملوك، فأجروا لهم عملية استئصال، فصاروا عاجزين جنسيا، حتى ينالوا مركزا أو عملا فى هذه القصور، فيأتمنونهم على خدمة النساء دون خوف من الاعتداء عليهن. فعدم زواجه فى هذه الحالة، هو من أجل شهوة المركز والمال، وإرضاءً للناس، وهذا أسوأ نوع.
النوع الثالث: من ارتفعوا وسموا بالغريزة الجنسية، وحوّلوها كطاقة حب لله، فَهُمْ، وإن كانوا قادرين على الزواج جسديا، فقد حوّلوا فكرهم وقلبهم لمحبة الله كعريس سماوى، فهم فى زيجة روحانية مع الله، أسمى من كل زيجة بشرية.
هذه هى البتولية، سواء الخادمة فى العالم أو فى الرهبنة, وهى خاصة ببعض الناس الذين وهبهم الله هذه النعمة، والميل للاكتفاء بها، ولا يقدر الكل على قبولها، فهى عظيمة جدا إن كان الإنسان مؤهلا لها.
“من استطاع أن يقبل فليقبل”: أى من له ميل للبتولية، فجيد له أن يحيا به، فيتمتع بتكريس فكره وقلبه لله.
إن لم تكن مؤهـلا للبتولية، فعلى الأقل كن متعففا عن الخطية قبل الزواج. وحتى بعد الزواج، لا يكن شغلك الشاغل هو انهماكك فى العلاقة الجسدية لدرجة أن تختلف مع شريك حياتك، بل أعطِ مكانا أكبر لمحبة الله فى قلبك، ومحبة الآخر وتقدير مشاعره، فتترك التفكير فى هذه العلاقة إرضاءً للآخر، أو ترتبط بهذه العلاقة، حتى لو لم تكن ميالا لها، إرضاءً أيضا للآخر؛ فلا تطلب راحتك بل راحته، فهذا هو الحب الحقيقى.
(3) محبة المسيح للأطفال (ع 13-15):
13- حينئذ قُدِّمَ إليه أولاد لكى يضع يديه عليهم ويصَلّى، فانتهرهم التلاميذ. 14- أما يسوع فقال: “دعوا الأولاد يأتون إلىَّ ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت السماوات.” 15- فوضع يديه عليهم، ومضى من هناك.
ع13: كان المسيح يبارك ويشفى المرضى، ويهتم بالتعليم وحل مشاكل الناس. فقدم له بعض الآباء أطفالهم ليصلى عليهم ويباركهم.
أما التلاميذ، فشعروا أن وقت معلهم أثمن من أن يضيعه فى الاهتمام بالأطفال، فحاولوا إبعادهم عنه ليهتم بشئون الكبار.
ع14-15: لم يكتف المسيح بمباركة الأطفال والترحيب بهم، بل أعلن حقيقة هامة، وهى أن هؤلاء الأطفال هم أبناء الملكوت السماوى، ليدعونا جميعا أن نتمثل ببراءتهم وبساطتهم. وإن كان الطفل مهملا وقتذاك فى الديانات السائدة، والعصور والممالك السابقة، فإن المسيحية تهتم بالأطفال، بل وتدعو الكبار للتعلم منهم، والاهتمام بهم ورعايتهم.
“لمثل هؤلاء”: أى لمن يتمثل بهم فى البراءة والبساطة.
(4) الشاب الغنى (ع 16-22):
16- وإذا واحد تقدم وقال له: “أيها المعلم الصالح، أى صلاح أعمل لتكون لِىَ الحياة الأبدية؟” 17- فقال له: “لماذا تدعونى صالحا؟ ليس أحد صالحا إلا واحد، وهو الله. ولكن، إن أردت أن تدخل الحيـاة، فاحفظ الوصـايا.” 18- قال له: “أية الوصايا؟” فقال يسوع: “لا تقتل، لا تَزْنِ، لا تسرق، لا تشهد بالزور. 19- أكرم أباك وأمك وأحب قريبك كنفسك.” 20- قال له الشاب: “هذه كلها حفظتها منـذ حـداثتى، فماذا يعـوزنى بعد؟” 21- قال له يسـوع: “إن أردت أن تكون كاملا، فاذهب وبع أملاكك وأعطِ الفقراء فيكون لك كنز فى السماء، وتعال اتبعنى.” 22- فلما سمع الشاب الكلمة، مضى حزينا لأنه كان ذا أموال كثيرة.
ع16-17: تقدم إلى المسيح شاب غنى (ع22)، وكان رئيس أحد مجامع اليهود (لو18: 18)، وإذ قد تعوّد الكلام المنمق، لقّب المسيح بالمعلم الصالح، وسأله سؤالا روحيا، وهو كيفية الوصول للحياة الأبدية. فاهتم المسيح بسؤاله، ولكن، قبل أن يجيبه، وجّه نظره إلى عدم استخدام كلمات المديح دون فهم، فقال له: “لماذا تدعونى صالحا؟ ليس أحد صالحا إلا… الله.” ومعنى السؤال: هل تؤمن أنى أنا الله، أم تقولها مجرد مجاملة؟ والمسيح بالطبع هو المعلم الصالح، بل الراعى الصالح كما قال عن نفسه (يو 10: 11)، وهو الله الذى بلا خطية، كما قال لليهود: “من منكم يبكتنى على خطية؟” (يو 8: 46)؛ ثم رد على السؤال بأن الطريق للأبدية هو حفظ الوصايا وتنفيذها فى الحياة.
ع18-19: سأل الشاب المسيح: “هل المقصود وصايا معينة؟” فأجاب المسيح: “كل الوصايا التى فى اللوحين اللذين استلمهما موسى من الله، سواء الخاصة بعبادة الله، أو التعامل مع الآخرين.”
وركّز المسيح على وصايا اللوح الثانى، وهى الخاصة بالتعامل مع الآخرين، لأنه لا يمكن إتمامها إلا بحفظ وصايا اللوح الأول، وهى عبادة الله ومحبته.
ولخّص المسيح فى نهاية رده وصايا اللوح الثانى بقوله: “أحب قريبك كنفسك.”
ع20: أجاب الشاب بتسرع أنه قد حفظ هذه الوصايا منذ طفولته. ولم يكن قصد المسيح حفظها حرفيا، أو تطبيقها سطحيا، بل بكل أعماقها. لذلك، ركّز المسيح على علاج المرض الذى فى داخله، حتى يفهم عمق تطبيق الوصية، فمشكلته هى محبة المال، وقال له إنه محتاج لشىء واحد، أى علاج محبة المال (مر 10: 21).
ع21: طلب المسيح من الشاب أن يبيع ممتلكاته ويوزّع ثمنها على الفقراء، وبهذا يحوّل كنزه من الأرض إلى السماء ويتعلق قلبه بها. وامتدادا لهذا الفكر، يتبع المسيح ليسير بتعاليمه.
† إن التطبيق الفعلى لهذه الوصايا هو الكمال المسيحى، وإن لم يستطع الإنسان تطبيق هذا الكلام حرفيا، كما فعل الأنبا أنطونيوس أب الرهبان، فعلى الأقل يبيع محبة الماديات من قلبه، أى يكون مستعدا للتنازل عنها، ويترك جزئيا هذه الممتلكات ويعطيها للمحتاجين.
ع22: أمام كلام المسيح الواضح، انكشف ضعف هذا الشاب ومحبته للمال، لأنه مضى حزينا، إذ لم يستطع تنفيذ كلام المسيح، لأن محبته للمال أقوى من محبته لله، وكثرة أمواله ساعدت على تعلق قلبه بمحبة المال.
حتى تكون ابن الملكوت، يلزمك أن تحب الله أكثر من محبة الماديات، والدليل على ذلك تقديمك البكور والعشور مهما كانت ظروفك المالية ضيقة، وتكون مستعدا للتنازل عن الماديات من أجل إرضاء من حولك، والقناعة بكل شىء.
(5) محبة المال (ع 23-26):
23- فقال يسوع لتلاميذه: “الحق أقول لكم، إنه يعسر أن يدخل غنى إلى ملكوت السماوات. 24- وأقـول لكم أيضـا، إن مرور جمـل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غنى إلى ملكوت الله.” 25- فلما سمع تلاميذه بهتوا جدا، قائلين: “إذًا، من يستطيع أن يخلص؟!” 26- فنظر إليهم يسوع وقال لهم: “هذا عند الناس غير مستطاع، ولكن عند الله كل شىء مستطاع.”
ع23-24: علّق المسيح لتلاميذه على حواره مع الشاب بعد انصرافه، موضحا خطورة محبة المال، فقال إنه من العسير جدا دخول غنى، محب لأمواله ومتكل عليها، إلى ملكوت السماوات. وشـبّه ذلك بمرور جمـل ضخم من ثقب إبرة، وهذا مستحيل، فكذلك الغنى، لا يمكن أن يدخل إلى الملكوت. فيلزم أولا أن يبيع من قلبه محبة المال والاتكال عليه، وحتى لو كان له أموال كثيرة، لا تعوقه عن دخول الملكوت لأن قلبه ليس فيها.
ع25-26: شعر التلاميذ بصعوبة تنفيذ هذا الكلام، لأن تفكيرهم كان متعلقا بمُلك المسيح الأرضى ومحبة الغنى والمركز، فوجّه المسيح نظرهم إلى معونة الله التى تساعد الإنسان على ذلك، فما يبدو مستحيلا فى نظر الإنسان، يسهل بمعونة الله.
وهذا ما حدث فعلا فى حياة كثير من القديسين الأغنياء، الذين تركوا أموالهم وممتلكاتهم، وعاشوا الفقر فى حياة الرهبنة، أو تقدموا للعذاب والاستشهاد من أجل المسيح.
إن كان لك أية ممتلكات وأموال، فاشكر الله عليها، ولا تقارن نفسك بغيرك ممن هم أغنى منك، بل اكتفِ بما عندك، ولا تحزن إن ضاع منك شىء من المال لأنه متغيّر، بل ليكن هذا دافعا لك للتعلق بمحبة الله، فهى الأساس الوحيد الراسخ، والسند الذى لا يتزعزع.
(6) مكافأة الرعاة (ع 27-30):
27- فأجاب بطرس حينئذ وقال له: “ها نحن قد تركنا كل شـىء وتبعناك، فماذا يكون لنا؟” 28- فقال لهم يسـوع: “الحق أقـول لكم، إنكم أنتم، الذيـن تبعتمونى فى التجديـد، متى جلس ابن الإنسان على كُرْسِىِّ مجده، تجلسون أنتم أيضا على اثنى عشر كرسيا، تدينون أسباط إسرائيل الاثنى عشر. 29- وكل من ترك بيوتا أو إخوة أو أخوات أو أبا أو أما أو امرأة أو أولادا أو حقولا من أجل اسمى، يأخذ مئة ضعف، ويرث الحياة الأبدية. 30- ولكن، كثيرون أولون يكونون آخرين، وآخرون أولين.”
ع27: بعد أن تكلم المسيح عن أهمية التنازل عن محبة المال، ليستطيع الإنسان أن يتبعه، أراد بطرس أن يطمئن على نفسه هو والتلاميذ، ماذا تكون مكافأتهم، إذ قد تركوا كل شىء لأجله؟ وليس المقصود فقط ترك الشباك والمقتنيات، لأنها ضئيلة، بل بالأكثر احتمال التعب والمقاومة من الفرّيسيّين.
وقد يحمل كلام بطرس نوع من ضعف الإيمان، فيحتاج لتأكيد المكافأة من المسيح، وقد يحمل أيضا نوع من الإحساس بنفسه أنه قد أعطى. ولكنه سيكتشف بعد إتمام الفداء أن كل ما يعطيه الإنسان لا شىء أمام الحب الكامل فى عطاء المسيح نفسه على الصليب من أجل خلاص البشرية.
ع28: أعلن المسيح مكافأة عظيمة لتلاميذه الذين تبعوه، بل لكل من يتبعه، أنه فى التجديد، عندما تتغيّر صورة المسيح، من المنظر البشرى الضعيف إلى الله الديّان فى الملكوت، يكون تابعوه بجواره لهم مكانة عظيمة، بدليل قوله: تجلسون على كراسى لتدينوا العالم، وذلك بإيمان تابعيه وكرازتهم باسمه، يدينون اليهود الذين رفضوا الإيمان، مع أنهم كان المفروض أن يكونوا أول من يقبله.
ع29: أكد المسيح مكافأة المتجردين، ومن يترك تعلقه بالممتلكات أو الأحباء، لأجل تكريس قلبه لمحبة وخدمة الله، وهى أنه يأخذ مائة ضعف فى هذه الحياة. والمقصود ليس تعويضات مادية، بل بالأحرى سلاما وحبا.
فمثلا الراهب الذى يترك أبا أو أما ولا يتزوج وينجب أبناء لأجل الله، يجعل الله كل الناس إخوة وأحباء له، ويصير الله أبا له يهتم به ويعوضه عن كل أبوة جسدية، ويصبح الكل أبناءه، ويجد كفايته المادية، وأكثر من ذلك. ويُختار بعض الرهبان ليصيروا أساقفة، توضع كل أموال وممتلكات الكنيسة تحت أيديهم، فيوجهونها بحكمة. ثم ما هو أفضل من ذلك، المكافأة الأبدية فى الملكوت، هذه التى لا يُعَبَّرُ عنها.
الله لا يمكن أن يكون مديونا لأحد، فما يتنازل عنه الإنسان، سيعوّضه عنه فى الحياة الحاضرة، فيكفى احتياجات أولاده، ثم يكافئهم بأعظم شىء وهو ملكوت السماوات. وهذه حقيقة واضحة نلاحظها، أن الذين يحبون الله ويتنازلون عن الماديات، يعطيهم نعمة فى أعين الكل، ويكونون محبوبين من الكثيرين.
ع30: وهكذا نجد عظماء كثيرين فى العالم، يكون مكانهم فى السماء متأخرا أقل من غيرهم، أو ليس لهم مكان فى الملكوت. وعلى العكس، كثيرون من المزدرَى بهم والأقل فى نظر البشر، يصيرون عظماء فى ملكوت السماوات، مثل القديسين الذين زهدوا العالم وعاشوا فى البرّية، أو الشهداء الذين احتملوا عذابات كثيرة. وكذلك الأولون فى أعين أنفسهم، أى المتكبرون، يسبقهم المتضعون، أى الآخرون فى أعين أنفسهم.
وهناك معنى آخر، فالذين دُعوا أولا مثل اليهود، يمكن أن يُرفَضوا إن لم يؤمنوا بالمسيح، والأمم الذين دُعوا بعدهم وآمنوا، يكون لهم مكان متقدم فى السماء.
ثق أن كل ما تتركه على الأرض، تنال عوضا عنه سلاما وفرحا فى الأرض، وأضعاف ذلك فى السماء. فلا تتضايق إن خسرت شيئا من أجل المسيح، أو تنازلت عن شىء من أجل كسب محبة الآخرين لخلاص نفوسهم. وعلى العكس، أنت أكثر حكمة بقدر استطاعتك أن تبذل فى هذه الحياة، لأن هذا إعلان محبتك للمسيح.