الأَصْحَاحُ الرَّابِعُ وَالعِشْرُونَ
علامات خراب أورشليم – المجىء الثانى
(1) هدم هيكل سليمان (ع 1-2):
1- ثم خرج يسوع ومضى من الهيكل، فتقدم تلاميذه لكى يُرُوهُ أبنية الهيكل. 2- فقال لهم يسوع: “أما تنظرون جميع هذه؟ الحق أقول لكم، إنه لا يترك ههنا حجر على حجر لا يُنْقَضُ.”
كان هيكل سـليمان مبنًى عظيما جدا، اهتم هيرودس الملك – إرضـاءً لليهود – بتجميله وتوسيعه، وكان مبنيا بحجارة ضخمة جدا وبعضها مغطى بصفائح معدنية لامعة.
وفيما كان التلاميذ منبهرين بعظمة أبنية الهيكل، ويشيرون إليها أمام المسيح، قال لهم أنه سينهدم تماما، وقد حدث هذا عام 70م على يد الرومان لأن اليهود عصوا عليهم.
هدم الهيكل كان إعلانا لظهور هيكل جديد، وهو الكنيسة التى أساسها دم المسيح. ولكيما يبنى الله هيكله داخلك، ينبغى أن يموت إنسانك العتيق، أى طبيعتك المائلة للشر، وذلك من خلال سِر َّىِّ المعمودية والاعتراف.
(2) ظهور مُسَحاء كَذَبَة (ع 3-5):
3- وفيما هو جالس على جبل الزيتون، تقدم إليه التلاميذ على انفراد قائلين: “قل لنا متى يكون هذا، وما هى علامة مجيئك وانقضاء الدهر؟” 4- فأجاب يسوع وقال لهم: “انظروا لا يضلكم أحد. 5- فإن كثيرين سيأتون باسمى قائلين أنا هو المسيح، ويضلون كثيرين.”
ع3: جلس المسيح مع تلاميذه على جبل الزيتون، وهو قريب من أورشليم، ومن هناك يظهر الهيكل واضحا، فسـأل التلاميذ المسيح عن ميعاد خـراب الهيكل، وسألوه أيضا عن مجيئه الثانى، وما هى العلامات التى تظهر قبل مجيئه، حتى ينتبهوا ويستعدوا.
من هذا يظهر أن إجابة المسيح تشمل موضوعين، هما خراب أورشليم ومجيئه الثانى. وسنلاحظ تداخلهما، لأن الأمر المستفاد منهما واحد، وهو التوبة والاستعداد. وقد كان اليهود يظنون أن هيكلهم سيظل إلى نهاية الأيام، والتلاميذ ظنوا أن خرابه سيكون فى النهاية.
ع4-5: نبههم المسيح إلى ظهور أناس مدّعين كاذبين، يقول كل منهم إنه المسيح، أو يأتون كأنهم رسل منه؛ فينبغى فحصهم وعدم الانسياق وراءهم. وإن لم يقولوا كلاما يتفق مع كلام الكتاب المقدس والكنيسة، يكونون كاذبين، فنرفضهم.
لا تسرع نحو أية تعاليم خارج الكنيسة، حتى لو كان قائلها له اسم وشهرة، بل اثبت فى كنيسـتك وتعاليمها، وبالصـلاة والخضوع لإرشـاد الآباء الروحيين، ستكتشف الضلال فى تعاليم الغرباء.
(3) الكوارث العامة (ع 6-8):
6- “وسوف تسمعون بحروب وأخبار حروب، انظروا لا ترتاعوا، لأنه لابد أن تكون هذه كلها ولكن، ليس المنتهى بعـد. 7- لأنه تقـوم أمة على أمة، ومملكة على مملكة، وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل فى أماكن. 8- ولكن، هذه كلها مبتدأ الأوجاع.”
ع6: يثير الشيطان الناس على بعضهم البعض، فتحدث انقسامات وحروب، وذلك ليكرهوا بعضهم البعض، فيتسلط عليهم ويشغلهم بالمشاكل عن عبادة الله، ويملأهم بالقلق والخوف.
“لا ترتاعوا”: لا تنزعجوا من هذه الأخبار، بل توقعوها، وصلّوا لكى يسندكم الله ويعطيكم سلاما، ويحفظ الذين داخل هذه الحروب.
“ليس المنتهى بعد”: هذه الحروب تذكركم بالاستعداد لنهاية الأيام، ولكن ليست هى العلامة النهائية قبل يوم الدينونة.
ع7: علامة ثانية يعطيها المسيح، ليس فقط الانقسامات والحروب، بل نقص الطعام والشراب، أى المجاعات، فيموت الكثيرون. ثم ينشر الشيطان الأمراض كأوبئة، ليخيف الناس ويشغلهم عن الله. ويستخدم علامة أخرى وهى الزلازل وكل تغيرات فى الطبيعة، حتى يتذمر الناس على الله.
ع8: كل هذه العلامات ستتكرر كثيرا، ولكنها بداية المتاعب، وما زالت هناك علامات أخرى قبل مجىء المسيح.
لا تنزعج إن واجهتك ضيقات، بل ثق فى قدرة إلهك أن يحميك من حروب إبليس، ويحوّل الضيقة المادية إلى نمو فى حياتك الروحية؛ فقط تمسك بالله بصلوات وأمانة فى حياتك.
(4) ضيقات خاصة (ع 9-10):
9- “حينئذ يسلمونكم إلى ضيق ويقتلونكم، وتكونون مبغضين من جميع الأمم لأجـل اسمى. 10- وحينئذ يعثر كثيرون، ويسلمون بعضهم بعضا، ويبغضون بعضهم بعضا.”
ع9: إلى جانب الكوارث العامة التى يحاول إبليس بها أن يسقطهم فى التذمر، يثير ضيقات ضد أولاد الله فى اضطهادات كثيرة لأجل إيمانهم، فيخسرون كثيرا من راحة الجسد، بل يتعرضون لعذابات تصل إلى الموت؛ وهوبهذا يحاول إبعادهم عن الله، بل جحد المسيح.
ع10: أمام الاضطهادات التى تواجه أولاد الله، يخاف ويتشكك بعض المؤمنين فيرتدوا عن الإيمان ويقاوموا إخوتهم، ويتحالفوا مع الأشرار لاضطهاد المؤمنين، فيسلمونهم للحكام الأشرار حتى يعاقبونهم ويقتلونهم، وتحدث بهذا انقسامات وكراهية بين المرتدين عن الإيمان وبين إخوتهم المؤمنين، بل يصيرون أكثر اضطهادا لإخوتهم من المضطهدين الخارجيين.
اُنظر إلى مسيحك الذى احتمل آلاما كثيرة حتى الموت، لتقبل الضيقات من أجله. ولا تضطرب إذا قاومك أقرب الناس، بل اثبت فى محبتك لله ولهم، وَصَلِّ لأجلهم حتى يعودوا للإيمان، واثقا أن الله يسندك فلا يؤذيك أحد إلا بإذنه.
(5) التضليل (ع 11-14):
11- “ويقوم أنبياء كذبة كثيرون، ويضلون كثيرين. 12- ولكثرة الإثم، تَبْرُدُ محبـة الكثيرين. 13- ولكن، الذى يصبر إلى المنتهى، فهذا يَخْلُصُ. 14- وَيُكْرَزُ ببشارة الملكوت هذه فى كل المسكونة شهادة لجميع الأمم، ثم يأتى المنتهى.”
ع11: الضـربة الثالثة التى يوجهها الشيطان لأولاد الله، بعـد الكوارث العامـة والضيقات الخاصـة، هى تضليلهم عن الحق بظهـور أنبياء كذبة كثيرون، أى أناس يدّعـون أنهم مرسلون من الله، أو أصحاب فلسفات ومذاهب تبعد الناس وتشككهم فى الله وفى الكنيسة، وتسقطهم فى شهوات مختلفة.
ع12: بابتعـاد الناس عن الله وسـقوطهم فى شـهوات كثيرة، تضعف محبتهم لله، ويصيروا جسديين وبعيدين عن الحياة الروحية.
ع13: على الجانب الآخر، يتمسك القليلون بالإيمان المستقيم، ويرفضون ضغوط التشكيك والتضليل. ومن يظل متمسكا، يعلن إيمانه ومحبته، فينال الخلاص الأبدى.
ع14: حتى يكون الإنسان بلا عذر، يوفر الله الدعوة بالإيمان المستقيم لكل البشر، فتصل الكرازة للكل قبل المجىء الثانى للمسيح، لتعطى فرصة الخلاص للجميع.
لا تنساق وراء أية تعاليم غريبة أو اجتماعات خارج الكنيسة، ودقق فى صداقاتك لتحتفظ بإيمانك المستقيم.
(6) رجسة الخراب (ع 15):
15- “فمتى نظرتم رجسة الخراب، التى قال عنها دانيال النبى، قائمة فى المكان المقدس، ليفهم القارئ.”
يلاحـظ أن كلام المسيح، من هـذا العـدد حتى (ع22)، يقصـد به أساسـا خـراب أورشليم.
“رجسة الخراب”: هى النجاسة التى تظهر فى المكان المقدس، أى أورشـليم بهيكلها العظيم، وهذه النجاسة تعلن قرب خراب أورشليم. وقد تنبأ عنها دانيال (9: 27)، وكان يقصد تنجيس أورشليم عند محاصرة جيوش الرومان لها وهم يحملون تماثيلهم الوثنية. فهذا يعلن قرب خراب أورشليم، لأنهم بعد ذلك سيهجمون على المدينة ويدمرونها، ويخرّبون الهيكل.
“ليفهم القارئ”: لأن المسيح يعلـم أن الإنجيـل سـيُكتَب ويقـرأه المسيحيون، فيلـزم أن يهربـوا فى تلك السـاعة من أورشـليم قبل تخريبها وقتـل من فيها؛ وقد حـدث هذا فعلا، ونجا المسيحيون من الموت.
ويرمز هنا أيضا إلى قيام ضد المسيح فى المكان المقدس، أى الهيكل، ويدنسه بشره، ويتبعه كثيرون من الذين يضلهم، فليفهم القارئ أن يوم الدينونة قد اقترب.
عندما ترى علامات النهاية، مثل الحروب والأوبئة والاضطهادات، اعلم أن حياتك فى الأرض غير مستقرة واستعد لأبديتك، فتهرب من الخطية لتحيا مع الله.
(7) الهروب من أورشليم (ع 16-20):
16- “فحينئذ، لِيَهْرُبِ الذين فى اليهودية إلى الجبال. 17- والذى على السطح فلا ينزل ليأخذ من بيته شيئا. 18- والذى فى الحقل فلا يرجع إلى ورائه ليأخذ ثيابه. 19- وويل للحبالى والمرضعات فى تلك الأيام. 20- وصَلّوا لكى لا يكون هربكم فى شتاء ولا فى سبت.”
ع16: إذا لاحظ المسيحيون حصار أورشليم، سواء الموجودين فيها أو فى بلاد اليهودية المحيطة بها، فليهربوا إلى الجبال التى حولهم حتى لا يفتك بهم عساكر الرومان. وبالفعل، فالذين ظلوا فى أورشليم، قتلهم تيطس القائد الرومانى بأعداد ضخمة جدا.
ع17: إن كان شخص فوق السطح، فليهرب سريعا إذا رأى من بعيد جنود الرومان مقبلين، ولا يفكر فى أمتعته التى فى البيت حتى ينجو بحياته.
ع18: العاملون فى الحقول ينبغى أن يجروا سريعا للأمام، ولا يعودوا حتى لأخذ ثيابهم التى خلعوها ليقوموا بأعمالهم.
ع19: تظهر صعوبة الهرب على الحبالى والمرضعات اللائى يحملن الأَجِنّة والأطفال الصغار، لتثقّلهن بما يحملن.
ع20: يا ليت هذا الخراب والهرب منه لا يكون فى شتاء، حتى لا تكون الأمطار معوّقة للهرب والطرق موحلة، وأيضا لا يكون فى سبت، حتى لا يتعبهم ضميرهم أنهم يجرون مسافات طويلة فى يوم السبت ضد ما تأمر به الشريعة، أو تمنعهم شرطة اليهود من ذلك.
ومن الناحية الروحية، يرمز كل ما سبق للهروب من الشر سريعا إلى الجبال التى تشير للارتفاع مع الله عن العالم، وعدم النزول إلى الشهوات أو التراجع إليها، وطلب معونة الله ليسند ضعفنا إن كنا مثْقَلين بأحمال وأتعاب هذا العالم.
فلنسـرع فى الهـرب، مهتمين بخـلاص نفوسـنا قبـل كل شـىء، ومتنازلين عن الماديات لننال الملكوت.
(8) الضيقة العظيمة (ع 21-22):
21- “لأنه يكون حينئذ ضيق عظيم، لم يـكن مثله منذ ابتـداء العالم إلى الآن، ولن يـكون. 22- ولو لم تُقَصَّرْ تلك الأيام، لم يخلص جسد. ولكن، لأجل المختارين، تُقَصَّرُ تلك الأيام.”
ع21: كان هجوم تيطس الرومانى على أورشليم عنيفا، فقتل فيها أكثر من مليون يهودى، بالإضافة إلى من قتلهم فى اليهودية؛ هذا الدمار لم يكن مثله فى كل هذه المنطقة.
“لم يكن مثله… ولن يكون”: أى لم يحدث خراب بهذه القسوة فى أورشليم، ولن يحدث بعد ذلك بهذا المقدار.
وهذا يرمز للضيق العظيم الذى سيحدث فى العالم كله قبل يوم الدينونة، الذى لم يكن ضيق مثله قبل ذلك، ولن يكون.
ع22: تَدَخَّلَ الله، فلم يستمر حصار أورشليم إلا خمسة أشهر، حتى لا يهلك كل من فيها. وقد فعل الله هذا ، حتى يهرب المسيحيون إلى الجبال كما قال لهم.
ينطبق هذا أيضا على نهاية الأيام، إذ يكون اضطهاد شديد من الشيطان لأولاد الله حتى يرجعوا عن إيمانهم، فَيُضَيِّقُ عليهم حتى فى الحصول على ضروريات الحياة، ويعذب ويقتل الكثيرين. ولكن محبة الله ستجعل هذه الفترة قصيرة، حتى لا يضعف إيمان أولاده وينكروا مسيحهم، بل يسمح بضيقات على قدر احتمال أولاده، ويعطيهم المعونة للهرب منها، والالتجاء للكنيسة والعبادة الروحية، فيجدوا خلاصهم.
اطمئن، فالله لا يدعك تجرَّب فوق طاقتك، ويسندك فى الضيقة، بل ويجعلها دافعا لاقترابك إليه؛ فثق أن يد الله ضابط الكل أبوك السماوى تدبّر حياتك ولا يضرك شىء.
(9) المجىء الثانى معلن للكل (ع 23-28):
23- “حينئذ، إن قال لكم أحد هوذا المسيح هنا أو هناك، فلا تصدقوا. 24- لأنه سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة، ويعطون آيات عظيمة وعجائب، حتى يضلوا، لو أمكن، المختارين أيضا. 25- ها أنا قد سبقت وأخبرتكم. 26- فإن قالوا لكم ها هو فى البرية، فلا تخرجوا. ها هو فى المخادع، فلا تصدقوا. 27- لأنه كما أن البرق يخرج من المشارق ويظهر إلى المغارب، هكذا يكون أيضا مجىء ابن الإنسان. 28- لأنه حيثما تكن الجثة، فهناك تجتمع النسور.”
ع23-25: ينبّه المسيح أولاده إلى ظهور أشرار يدّعون أنهم هو، ويتظاهرون بالتقوى، ولكن يدسون تعاليم غريبة لتضليل المؤمنين. فينبغى الابتعاد عنهم ورفض تعاليمهم ما داموا خارجين عن الكنيسة، مهما كانت معجزاتهم، فالشيطان قادر على عمل معجزات، ولكن غير بنّاءة. وطالما أن الإنسان مطيع للكنيسة وآبائها، فلا خوف عليه من الضلال.
ع26: من التضليل، الادعاء أن مجىء المسيح وظهوره سيكون لعدد قليل فى مكان ما، مثل صحراء معيّنة، أو مختفيا فى مكان مغلق مع جماعة خاصة؛ فينبّه المسيح أن مجيئه سوف يُعلَن لكل البشر فى نفس الوقت.
ع27: يعطى المسيح تشبيها لمجيئه بالبرق الذى يظهر فى السماء، فيراه كل الناس سواء فى الشرق أو الغرب، هكذا لا يحتاج إنسان أن ينبّه آخر لمجىء المسيح. ويلاحظ أن البرق يظهر فجأة ويكون واضحا لكل الناظرين، هكذا يكون مجىء المسيح الثانى.
ع28: يمكن أن يُقصَد بهذه الآية خراب أورشليم، فالجثة هى الأمة اليهودية التى ابتعدت عن الله، فصارت ميتة بالنسبة له، وهجم عليها الرومان كالنسور فخرّبوا أورشليم، وكانوا يحملون رمزهم، وهو النسور، على راياتهم وهم يهاجمون أورشليم.
وتنطبق أيضا هذه الآية على نهاية الأيام، عندما تهجم النسور، وهم الملائكة، على الأشرار الذين يُرمَز لهم بالجثة ليعلنوا غضب الله وقضائه عليهم، ليلقوهم فى العذاب الأبدى.
وكذلك يُقصَد بالجثة المسيح المصلوب والمعطى على المذبح فى كنيسته كل يوم جسدا ودما حقيقيا، هناك يجتمع القديسون المرتفعون فى حياة سمائية مثل النسور الطائرة فى علو السماء.
هكذا فى مجىء المسيح، يجتمع أولاده حوله بواسطة الملائكة، ويفرحون معه. وعلى العكس، يجتمع الأشرار حول إبليس فى العذاب الأبدى.
إن كنت كالنسر من أولاد الله، فمكان اجتماعك يكون حول المسيح فى الكنيسة، فتجد راحتك وفرحك دائما.
(10) انهيار الطبيعة (ع 29):
29- “وللوقت، بعد ضيق تلك الأيام، تظلم الشمس، والقمر لا يعطى ضوءه، والنجوم تسقط من السماء، وقوات السماوات تتزعزع.”
يتكلم هنا عما يحدث فى نهاية الأيام، يختفى ضوء الشمس والقمر، وتتساقط النجوم، فتضطرب الطبيعة كلها، وحينئذ يظهر المسيح ليدين العالم كله. وستزداد هذه العلامات بظهور المسيح بنوره القوى، فتصير الشمس والقمر بالنسبة له مظلمان لضعفهما أمام نوره القوى، وكل شىء فى الطبيعة يصبح بلا قيمة.
ومن الناحية الروحية، يرمز ظلام الشمس والقمر إلى ضعف المعرفة بالله، واضطهاد الكنيسة أيام ضد المسيح، والارتداد العام عن الله. ويصبح الحق مهتزا، بل يتساقط فى نظر الكثيرين.
وينطبق هذا على كل إنسان يبتعد عن الله، فَتُظْلِمُ روحه وعقله، وتتساقط مواهبه وقدراته، ويهتز كيانه نتيجة انغماسه فى الشهوات والأمور الدنيوية.
عندما تقابل اضطرابات فى حياتك وتُحَارَبَ بالقلق، التجئ سريعا إلى الله ليحميك ويرشدك، فتسلك مطمئنا مهما كان الاضطراب محيطا بك.
(11) مجىء المسيح (ع 30-31):
30- “وحينئذ، تظهـر علامة ابن الإنسـان فى السماء. وحينئذ، تنـوح جميع قبائل الأرض، ويبصرون ابن الإنسان آتيا على سحاب السماء بقوة ومجد كثير. 31- فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت، فيجمعون مختاريه من الأربع الرياح، من أقصاء السماوات إلى أقصائها.”
ع30: يكمل المسيح حديثه عن يوم الدينونة، فبعد انهيار الطبيعة، تظهر علامة ابن الإنسان فى السماء، وهى الصليب، بنور ومجد. وحينئذ، يرتعد ويخزى غير المؤمنين وغير التائبين جميعهم، لأنهم رفضوا الإيمان بالمسيح المصلوب، بل صلبوه مرارا فى حياتهم بانغماسهم فى الشر، ويبكون فى ندم بلا رجاء. ويسميهم “قبائل الأرض”، تمييزا لهم عن أولاد الله السمائيين المؤمنين به.
ثم يظهر المسيح نفسه بمجد عظيم على سحاب السماء، لأننا قد تعودنا أن السحاب يشير لحضرة الله، كما حدث أيام موسى وفى التجلى.
ومنظره فى مجده، يختلف تماما عن صورة تواضعه عند مجيئه الأول فى الجسد.
ع31: تظهر ملائكة الله فى الحال بأبواق الهتاف والفرح والنصرة، ليجمعوا أولاد الله المؤمنين به من أركان العالم الأربعة ليملكوا إلى الأبد مع مسيحهم. يجمعون، ليس فقط سكان السماء، أى أرواح القديسين، بل كل الذين عاشوا حياة سماوية على الأرض.
كم هـو يـوم عظيم ومبهج لأولاد الله، فلنستعد بتوبة وتدقيق شـديد، ونحتمل آلام الحياة لنتمجّد معه.
(12) مثل شجرة التين (ع 32-34):
32- “فمن شجرة التين تعلّموا المثـل، متى صـار غصنها رخصا وأخرجت أوراقها، تعلمون أن الصيف قريب. 33- هـكذا أنتم أيضـا، متى رأيتم هذا كله، فاعلموا أنه قريب على الأبواب. 34- الحق أقول لكم، لا يمضى هذا الجيل حتى يكون هذا كله.”
ع32-33: يعطى المسيح مثلا هنا، وهو شجرة التين التى تبدو جافة فى فصل الشتاء، ولكن عندما يأتى الصيف تسرى العصارة فى أغصانها، وتمتلئ بالأوراق والأزهار والثمار، وهذا دليل على حلول فصل الصيف.
كذلك إذا ظهرت العلامات السابق ذكرها فى هذا الأصحاح (ع5-15)، فهذا يعنى قرب خراب أورشليم.
إذا زاد الشر واحتملت ضيقات كثيرة، فهذا معناه قرب انفراج الضيقة، وتمجيد الله لك.
ع34: “هذا الجيل”: الجيل يشمل من 30 إلى 40 سنة، وقد حدث خراب أورشليم بعد هذا الكلام بأربعين سنة، وبعض السامعين عاشوا حتى خراب أورشليم، مثل يوحنا الحبيب.
يحدد المسيح ميعاد إتمام هذه العلامات، وهو الجيل الذى يعيش فيه من يسمعونه، ويقصد خراب أورشليم عام 70م.
كما يقصـد أيضا انتشـار الإيمان به فى القارات المعروفة وقتذاك، وبدء اسـتعداد المؤمنين للملكوت الأبدى.
(13) ميعاد مجىء المسيح (ع 35-36):
35- “السماء والأرض تزولان، ولكن كلامى لا يزول. 36- وأما ذلك اليوم وتلك الساعة، فلا يعلم بهما أحد، ولا ملائكة السماوات، إلا أبى وحده.”
ع35: يؤكد المسيح صدق كلماته وحتمية تنفيذها، فهى أثبت من أى شىء يعرفه البشر. فإن كانت الأرض ثابتة تحت أقدامهم، والسماء مرتفعة فوقهم، لكنهما سيزولان فى يوم الدينونة، ليتم كلام الله، فيأخذ أولاده إلى ملكوته. والسماء ترمز إلى الروح التى تنتقل إليها، والأرض للجسد الذى يوضع فيها. أى أن البشر يموتون على مدى الأجيال، لكن لابد أن تتم فى النهاية هذه العلامات ومجيئه الثانى.
ع36: يجب ألا ينشغل أحد بتحديد ميعاد مجيئه، فهو لن يعلنه ولا حتى لملائكته، حتى لا يتراخى الناس فى جهادهم واستعدادهم الروحى، أو يرتعدوا ويخافوا فَتُشَلُّ حركتهم الروحية.
حيث أن الله لن يعلن ميعاد مجيئه، ولا يوم انتقالك من العالم، فيلزم أن تستعد كل يوم بالتوبة والصلاة ومحبة الآخرين.
(14) الاستعداد لمجىء المسيح (ع 37-41):
37- “وكما كانت أيـام نوح، كذلك يكون أيضا مجىء ابن الإنسان. 38- لأنه كما كانوا، فى الأيام التى قبـل الطوفـان، يأكلون ويشـربون ويتزوجون ويزوجون، إلى اليوم الذى دخـل فيه نوح الفلك. 39- ولم يعلموا حتى جاء الطوفان وأخذ الجميع، كذلك يكون أيضا مجىء ابن الإنسان. 40- حينئذ يكون اثنـان فى الحقل، يؤخذ الواحد ويُترَك الآخر. 41- اثنتان تطحنان على الرحى، تؤخذ الواحدة وتترك الأخرى.”
ع37-38: بعطى تشبيها لحياتنا الآن التى نستعد فيها لمجىء المسيح، بما كان يحدث أيام نوح. فقبل الطوفان، كان الناس منشغلين بشهواتهم وأعمالهم المادية من زواج وأكل وشرب، متناسين علاقتهم بالله، والتوبة عن خطاياهم. كذلك الآن فى حياتنا، يوجد كثيرون منشغلون عن خلاص نفوسهم باهتماماتهم العالمية.
ع39: أتى الطوفان فجأة، ولعدم استعدادهم هلكوا.
كذلك فمجىء المسيح يأتى فجأة، فَيَخْلُصُ فقط المستعدون بحياة التوبة.
ع40-41: سيكون البشر مختلطين معا فى معيشتهم فى الأسرة الواحدة أو العمل أو الجيرة، ولكن بعضهم يهتم بالاستعداد للأبدية، والآخر منهمك فى شهواته رافضا التوبة. فيؤخذ الواحد إلى الأمجاد السمائية، ويُترَك الآخر لِيُلْقَى فى العذاب الأبدى.
لا تنهمك فى الانشغالات المادية لأنها ليست هدف حياتك، بل الهدف هو محبة الله. فتعَوَّد العلاقة معه فى صلوات وأصوام وقراءات روحية، حتى إذا فاجأك يوم النهاية تكون مستريحا، بل ممجدا فى فرح لا يُعَبَّرُ عنه.
(15) مثل رب البيت والسارق (ع 42-44):
42- “اسهروا إذًا لأنكم لا تعلمون فى أية ساعة يأتى ربكم. 43- واعلموا هذا، أنه لو عرف رب البيت فى أى هزيع يأتى السارق، لَسَهَرَ ولم يدع بيته يُنْقَبُ. 44- لذلك، كونوا أنتم أيضا مستعدين، لأنه فى ساعة لا تظنون، يأتى ابن الإنسان.”
ع42: يستكمل المسيح حديثه عن الاستعداد للملكوت، فينادى صراحة بأهمية السهر الروحى، أى اليقظة والانتباه لخلاص النفس بالتوبة، ومحاسبة النفس كل يوم، والاهتمام بالممارسات الروحية، لتنمو محبتنا لله، فينتج عنها محبة وتسامح وخدمة للآخرين.
وسبب تركيزه على أهمية السهر، أى الاستعداد الدائم، هو عدم معرفتنا لميعاد مجيئه.
ع43-44: “هزيع”: قسم من الليل الذى يقسّمه اليهود إلى أربعة أقسام.
“السارق”: الموت، وكناية أيضا عن مجىء ابن الإنسان المفاجئ.
“يُنْقَبُ”: يُسرق.
“فى ساعة لا تظنون”: فى ساعة لا تعرفونها.
يعطى المسيح مثلا عن أهمية السهر الروحى لمواجهة السارق (الموت) الذى يأتى أثناء الليل، منتهزا فرصة نوم من فى البيت ليكسر ويدخل من أى مكان ليسرقه. فلو كان رب البيت المسئول عنه يعرف ميعاد مجىء اللص، لَظَلَّ مستيقظا ليمنعه من سرقة بيته.
ثم يؤكد أهمية الاستعداد، لأن المسيح لم ولن يحدد ميعاد مجيئه.
كن حريصا لئلا يوجه الشيطان فكرك وحواسك إلى شهوات الشر حتى يقنعك بضرورتها، فتفاجأ بيوم الدينونة، ولا تستطيع أن تفعل شيئا.
(16) مثل العبد الأمين (ع 45-51):
45- “فمن هـو العبد الأمـين الحكيم، الذى أقامه سيده على خَدَمِهِ ليعطيهم الطعام فى حينه؟ 46- طوبى لذلك العبد الذى إذا جاء سيده يجده يفعل هكذا. 47- الحق أقول لكم، إنه يقيمه على جميع أمواله. 48- ولكن، إن قال ذلك العبد الرَّدِىُّ فى قلبه، سيدى يبطئ قدومه. 49- فيبتدئ يضرب العبيد رفقاءه، ويأكل ويشرب مع السـكارى. 50- يأتى سيد ذلك العبد فى يوم لا ينتظره، وفى ساعة لا يعرفها. 51- فَيُقَطِّعَهُ، ويجعل نصيبه مع المرائين؛ هناك يكون البكاء وصرير الأسنان.”
ع45: يقدم المسيح مثلا آخر لسيد يقيم أحد عبيده وكيلا له للعناية باحتياجات العاملين عنده، ويسافر فترة. ثم يتساءل عن صفات العبد الأمين الحكيم، ويجيب بأنه هو الذى يعطى طعاما لكل من فى البيت فى الوقت المناسب.
“العبد”: كل مسيحى: أب أو أم أو خادم مسئول أن يرعى ويخدم غيره.
“الأمين”: الذى يتمم واجباته على الوجه الأكمل.
“الحكيم”: من يستعد لأبديته بالسهر الروحى.
“سيده”: المسيح.
“خَدَمِهِ”: كل النفوس المحيطـة بالمسيحى أو الخـادم، التى يطالبـه الله برعايتهـا والاهتمام بها روحيا.
“الطعام”: الرعاية الروحية، وما تشمله أيضا من سد الاحتياجات المادية والنفسية.
“فى حينه”: أى فى الوقت المناسب عند احتياجهم.
ع46-47: يمتدح العبد الذى يفعل ما كلّفه به سـيده طوال فترة سـفره، ويكافئه بأن يقيمه وكيلا على جميع ممتلكاته.
وهو بهذا يرمز لأهمية عناية كل واحد بخلاص نفسه، وإشباع روحه وجسده بعلاقة حية مع الله، ويهتم أيضا بخدمة كل من حوله وجذب النفوس للمسيح. والمكافأة هى أن يرفعه إلى السماء ليعطيه معرفة الله، والتمتع الدائم بعشرته.
“إذا جاء سيده”: مجىء المسيح فى يوم الدينونة.
“يفعل هكذا”: مستمر فى أمانته ويقظته الروحية واستعداده للأبدية.
“الحق”: تأكيد لأهمية ما سيعلنه.
“جميع أمواله”: أى معرفة الله فى الأبدية والتمتع بعشرته.
ع48-49: العبد غير الأمين يسلك بالشر بعد إقامته وكيلا للعناية بالخدم الذين فى البيت، فبدلا من أن يهتم باحتياجاتهم، يكون قاسيا عليهم، ظانا أن سيده لن يأتى سريعا. وينهمك فى إشباع لذاته المادية التى يمثلها بالأٍكل وشرب الخمر حتى السكر.
“العبد الرَّدِىُّ”: المسيحى أو الخادم الذى يهمل علاقته مع الله، وينشغل بالشهوات الشريرة.
“يبطئ قدومه”: يتناسى الاستعداد ليوم الرب بداعى أنه ما زال هناك وقت طويل فى العمر، فينغمس فى الشهوات.
“يضرب العبيد”: القسوة والظلم فى معاملة الآخرين.
“يأكل ويشرب مع السكارى”: الانهماك فى اللذات والشهوات المادية.
ع50-51: “سيد”: كناية عن الله.
“ذلك العبد”: الإنسان الأنانى المنشغل بشهواته الفاسدة، وليس له محبة نحو الآخرين، ويتغافل عن الاستعداد لأبديته.
“فَيُقَطِّعَهُ”: أى يبيده.
يأتى السيد بغتة دون ميعاد، فيرى عدم أمانة عبده فى خدمته، فيبيده ويلقيه مع الأشرار المرائين فى العذاب الأبدى حيث البكاء وصرير الأسنان، أى الآلام الصعبة جدا واليأس، لأنه يتظاهر أنه وكيل عن الله فى العناية بنفسه وَمَنْ حوله، وهو فى الحقيقة يُفسد نفسه ويسىء للآخرين.
افحص المسئوليات والنفوس التى وضعك الله بينها لتجذبها إليه، واسأل نفسك ما مدى أمانتك فى وقتك ومواهبك وكل إمكانياتك، وهل استخدمتها لمجد الله أم لمزاجك الشخصى وانحرفت بها فى الشر؟
وهل تصلى وتسعى لخلاص كل نفس حولك؟