الأَصْحَاحُ الخَامِسُ عَشَرَ
محاكمة المسيح – صلبه – دفنه
(1) المحاكمة المدنية أمام بيلاطس (ع 1-15):
1- وللوقت، فى الصباح، تشـاور رؤسـاء الكهنة والشيوخ والكتبة والمجمع كله، فأوثقوا يسوع ومضوا به، وأسلموه إلى بيلاطس. 2– فسأله بيلاطس: “أنت ملك اليهود؟” فأجاب وقال له: “أنت تقول.” 3- وكان رؤسـاء الكهنة يشـتكون عليه كثيرا. 4- فسأله بيلاطس أيضـا قائلا: “أما تجيب بشىء؟ اُنْظُرْ كم يشهدون عليك.” 5- فلم يجب يسوع أيضا بشىء، حتى تعجب بيلاطس. 6- وكان يطلق لهم فى كل عيد أسيرا واحدا، مَنْ طلبوه. 7- وكان المسمى باراباس موثقا مع رفقائه فى الفتنة، الذين فى الفتنة فعلوا قتلا. 8- فصرخ الجمع، وابتدأوا يطلبون أن يفعل كما كان دائما يفعل لهم. 9- فأجابهم بيلاطس قائلا: “أتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود؟” 10- لأنه عرف أن رؤساء الكهنة كانوا قد أسلموه حسدا. 11- فهيج رؤساء الكهنة الجمع، لكى يطلق لهم بالحرى باراباس. 12- فأجاب بيلاطس أيضا وقال لهم: “فماذا تريدون أن أفعل بالذى تدعونه ملك اليهود؟” 13- فصرخوا أيضا: “اصلبه.” 14- فقال لهم بيلاطس: “وأى شر عمل؟” فازدادوا جدا صراخا: “اصلبه.” 15- فبيلاطس، إذ كان يريد أن يعمل للجمع ما يرضيهم، أطلق لهم باراباس، وأسلم يسوع بعدما جلده ليصلب.
ع1: بعد محاكمة الرب أمام المجمع اليهودى فى بيت “قَيَافَا” رئيس الكهنة، ومجلس السبعين (السنهدريم – راجع مت 5: 21-22) أعلى سلطة يهودية، كان القرار بالتخلص منه. ولما كان حكم الإعدام من اختصاص الحاكم الرومانى دون اليهود، تحفظوا على الرب يسوع موثقا حتى الصباح ليذهبوا به إلى دار الولاية الرومانية ويقدموه إلى بيلاطس الحاكم.
ع2: سؤال بيلاطس هنا: “أنت ملك اليهود؟” قد يكون ما سمعه قبلا عن موكب استقبال الجموع للرب يوم الأحد السابق عند دخوله لأورشليم، أو نتيجة وشاية رؤساء الكهنة له أن تهمة هذا الإنسان هى الثورة على الحكم الرومانى ورغبته فى تنصيب نفسه ملكا. أما إجابة المسيح: “أنت تقول”، فهى تعبير يهودى معناه الموافقة، والمقصود بالطبع المُلك الروحى، إذ سبق المسيح وصرّح بأنه من فوق، وبأن مملكته ليست من هذا العالم (يو 8: 23، 18: 36).
ع3-5: كان القديس مرقس أكثر اختصارا فى إنجيله عن غيره من البشيرين، فلم يذكر شيئا عن زوجة بيلاطس، أو غسل يديه، أو تفاصيل الشكايات على الرب يسوع، بل اكتفى بالقول بأنها كانت كثيرة. وأمام كثرة هذه الشكاوى، عرض بيلاطس على الرب فرصة للدفاع عن نفسه، ولكن المسيح آثر الصمت على الكلام، لتتم نبوءة إشعياء: “ظُلِمَ، أما هو فتذلل ولم يفتح فاه، كشاةٍ تُسَاقُ إلى الذبح” (53: 7). أما بيلاطس، فتعجّب جدا لرفض الرب الكلام.
ع6-7: اعتاد بيلاطس أن يطلق لليهود فى كل عيد أحد المقبوض عليهم، لأنه كان على السلطة الرومانية فض الاشتباكات اليهودية. وفى ذلك الوقت, كان المسمى باراباس موثقا (محبوسا) إذ كان قاتلا فى أحد أعمال الشغب، وكان محكوما عليه بالصلب وينتظر الموت.
ع8-9: يوضح القديس متى فى إنجيله (27: 17) أن بيلاطس خَيَّرَ الشعب فى إطلاق أحدهما (الرب يسوع أو باراباس)، وقد وضع هذا الاختيار لعل الجمع يطلب إطلاق الرب يسوع، ولكن هذا الشعب كان من اليهود الموالين للكهنة والرؤساء، وكانوا يخافونهم.
ع10: هـذا العدد يوضح سـبب ما فعله بيلاطس من تخيير الشعب بين (الرب وباراباس)، إذ كان يعلم دافع رؤساء الكهنة الأشرار، وأنه لم يجد فى المسيح علة يستوجب معها الموت.
ع11-13: كانت مشاعر الغيظ والحسد والشر المشتعلة داخل قلوب الكهنة محركا لهم فى التأثير على جموع الشعب المنقادة وراءهم، فالجميع طالبوا بإطلاق باراباس. وعندما سأل بيلاطس الجمع عن مصير المسيح، صرخوا جميعا: “اصلبه”، وهى العقوبة الرومانية للعبد المتمرد.
ع14: لم يجد بيلاطس فى كل ما سمعه شيئا كافيا لصلب المسيح، وعبّر عن ذلك بسؤاله لهم: “وأى شر عمل؟” إلا أن هذا السؤال لم يفعل شيئا سوى زيادة هياجهم عليه، ومطالبتهم بالأكثر بصلب المسيح.
ع15: باختصار أيضا، يمر القديس مرقس على الأحداث سريعا، ولكنه لم يَفُتْهُ أن يذكر أن بيلاطس حكم على المسيح دون اقتناع، ولكن لـ”يرضيهم”، مخالفا بذلك ضميره، وخائفا من الشغب الممكن حدوثه (مت 27: 24)، وإذا تحوّل هذا الشغب إلى ثورة فقد تطيح بكرسيه، ولهذا حكم بجلد الرب يسوع وتسليمه للصلب.
صديقى العزيز… لا حظ معى كم مرة أتيحت الفرص لتبرئة الرب وإطلاقه، فأولا خيّرهم بيلاطس بينه وبيت باراباس، ولكنهم اختاروا تبرئة الطالح دون الصالح. ومرة تالية يعلن بوضوح أمامهم: “أى شـر عمل؟” فى محاولة لإيقـاظ ضمائرهم، ومع هذا لم يتراجعوا عن شرهم، وازدادوا إصرارا.
يا أخى… نحن هنا لا نحاكم اليهود، بل نأخذ عبرة ودروسا، أولها: ألا نأخذ قرارا ونحن فى حالة هياج وغضب. وثانيها: ألا نتجاهل نداءات الله بتصويب قراراتنا. وآخرها: ألا ننقاد لتأثير أحد على ضمائرنا، بل نفحصها جيدا أمام الله وحده، وتذكّر أن: “مُبَرِّئُ المذنب ومذنِّب البرئ، كلاهما مكرهة الرب” (أم 17: 15).
لو سألت نفسى من المسئول عن صلب المسيح؟! فى هذا المشهد نجد أن يهوذا أسلمه، والقادة الدينيون يطالبون بموته، وبطرس أنكره، والتلاميذ تركوه خوفا، وبيلاطس خاف على كرسيه، والجموع كانت سلبية ولم تفعل شيئا، والعسكر استهزأوا به وضربوه وعذبوه! فماذا عنى لو تعرضت لنفس الموقف؟! يا له من سؤال صعب عسير!!!
(2) الاستهزاء بالمسيح (ع 16-20):
16- فمضى به العسـكر إلى داخـل الـدار التى هى دار الولايـة، وجمعـوا كل الكتيبة، 17- وألبسوه أَُرْجَُوَانًا، وضفروا إكليلا من شوك ووضعوه عليه. 18- وابتدأوا يسلمون عليه قائـلين: “السـلام يا ملك اليهـود.” 19- وكانوا يضربونه على رأسـه بقصبة، ويبصقون عليه، ثم يسجدون له جاثين على ركبهم. 20- وبعدما اسـتهزأوا به، نزعوا عنه الأرجوان وألبسوه ثيابه، ثم خرجوا به ليصلبوه.
ع16-18: “كل الكتيبة”: كانت الكتيبة الرومانية تتكون من ستمائة جندى، اجتمعوا كلهم على المسيح فى فناء دار الولاية الرومانية، وجعلوا من المسيح تسلية لهم، إذ استهزأوا به.
“أَُرْجَُوَانًا”: الرداء الأرجـوانى، أو القرمـزى كما دعاه متى، هو رداء أحمر اللون كان يلبسه الملوك.
“إكليلا من شوك”: صنعوا من ساق (أو فرع) نبات شوكى معروف باسم “البلان” إكليلا دائريا ووضعوه على رأسه. ويضيف القديس متى فى (27: 29) أنهم أمسكوه “قصبة فى يمينه”، لتكمل بذلك سخريتهم منه، إذ جعلوه فى منظر الملوك. وفى تهكم، سلموا عليه، وقدموا إليه تحية كملك لليهود.
ومن التأملات الرمزية الجميلة أن ثيابه التى خلعها تشير إلى خلع الأمة اليهودية ورفضها، أما الرداء الأحمر فيرمز إلى دم المسيح الذى يفدينا به ويملك به على قلوبنا.
لاحظ أيضا تمادى الأمة اليهودية فى الرفض، إذ سبق لها أن قطعت آذانها عن الاستماع للرب (راجع تفسير 14: 46-47).
ع19-20: استمرار لهذا المشهد الحزين والمخزى للبشرية كلها، التى تهزأ من خالقها ومدبرها وفاديها، تطاول جند الكتيبة على الرب بالضرب على رأسه فى أسوأ صور الإهانة، وبصقوا عليه، وسجدوا سخرية منهم للقب الملك. وبعد هذا المشهد المؤلم جدا، نزعوا عنه رداء الأرجوان وألبسوه ثيابه الأولى، ثم خرجوا به إلى طريق الصليب.
يا نفسى… ماذا يمكن أن تقولى أمام هذا المشهد العجيب والفائق عن الوصف… من يهزأ بمن، ولمـاذا كل هـذا، أليس بسـببك… أليس من أجـل تحريرك؟! وفى المقابل، ماذا تفعلين… هل تحفظين الصنيع… أم أنك لا زلت تؤلمينه بكثرة خطاياك؟!
توبى يا نفسى ولا تنسى آلام مخلّصك، فهى إن ظلت أمامك، لا أعتقد أنك تجسرين على الخطأ… سامحنا أيها المخلّص القدّوس… ونشكرك على كل ما احتملت من أجلنا.
(3) الصليب (ع 21-41):
21- فسخّروا رجلا مجتازا كان آتيا من الحقل، وهو سِمعان الْقَيْرَوَانِىُّ، أَبُو أَلَكْسَنْدَرُسَ وَرُوفُسَ، ليحمـل صـليبه. 22- وجاءوا به إلى موضـع جلجثة، الذى تفسـيره موضع جمجمة. 23- وأعطوه خمرا ممزوجة بمر ليشرب، فلم يقبل. 24- ولما صلبوه، اقتسموا ثيابه، مقترعين عليها ماذا يأخذ كل واحد. 25- وكانت الساعة الثالثة، فصلبوه. 26- وكان عنوان علته مكتوبا: ملك اليهود. 27- وصلبوا معه لصين، واحد عن يمينه وآخر عن يساره. 28- فتم الكتاب القائل: وَأُحْصِىَ مع أثمة. 29- وكان المجتازون يجدفون عليه، وهم يهزون رؤوسهم قائلين: “آه يا ناقض الهيكل وبانيه فى ثلاثة أيام!! 30- خلّص نفسك وانزل عن الصليب.” 31- وكذلك رؤساء الكهنة، وهم مسـتهزئون فيما بينهـم مع الكتبة، قالـوا: “خلص آخرين، وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها. 32- لينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصليب، لنرى ونؤمن.” واللذان صلبا معه كانا يعيّرانه. 33- ولما كانت الساعة السادسة، كانت ظلمة على الأرض كلها إلى الساعة التاسعة. 34- وفى الساعة التاسعة، صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا: “إلُوِى، إلُوِى، لَمَا شبقتنى؟” الذى تفسيره: إلهى، إلهى، لماذا تركتنى؟ 35- فقال قوم من الحاضرين لما سمعوا: “هوذا ينادى إيليا.” 36- فركض واحد وملأ إسفِنجة خلا وجعلها على قصبة، وسقاه قائلا: “اتركوا، لِنَرَ هل يأتى إيليا لينزله؟!” 37- فصرخ يسوع بصوت عظيم وأسلم الروح. 38 – فانشـق حجاب الهيكل إلى اثنين مـن فوق إلى أسـفل. 39- ولما رأى قائد المئة، الواقف مقابله، أنه صرخ هكذا وأسلم الروح، قال: “حقا كان هذا الإنسان ابن الله.” 40- وكانت أيضا نساء ينظرن من بعيد، بينهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب الصغير ويوسى وسالومة، 41- اللواتى أيضا تبعنه وخدمنه حين كان فى الجليل، وَأُخَرُ كثيرات اللواتى صعدن معه إلى أورشليم.
ع21: حمل المسيح صليبه فى أول الطريق (يو 19: 17)، وعندما أصابه الإعياء، بسبب الجلد والسهر طوال الليل والمحاكمات المتعددة، أجبر الجند الرومان إنسانا يهوديا نشأ بالْقَيْرَوَانَ – شمال ليبيا – فصار لقبه الْقَيْرَوَانِىُّ. ويبدو أن ابنيه أَلَكْسَنْدَرُسَ وَرُوفُسَ صارا معروفين لجماعة المسيحيين بعد ذلك، إذ حرص القديس مرقس على ذكر اسميهما.
ع22: “جلجثة”: أى “جمجمة”، وهى موضع خارج أورشليم. ويقول البعض أنها تكوين صخرى مرتفع يشبه جمجمة الإنسان، ويقول آخرون أن سبب تسميتها هكذا هو اعتقاد اليهود بأن جمجمة آدم دُفنَت فى هذا المكان.
ع23: “خمرا ممزوجة بِمُرٍ”: كان المر أحد المسكنات القوية والمعروفة التى تصل إلى درجة من التخدير، وكان يُمـزَج بالخمر – الذى يشبه فى طعمه الخل لرخص ثمنه (راجع تفسير مت 27: 34) – حتى يسهل تناوله، وكان عادة يقدم للمصلوب لتخفيف بعض آلامه، ولكن المسيح رفضه حتى تكمل آلامه!!
ع24: “صلبوه”: رفعوا المسيح، مُسمّرين يديه ورجليه، على عود الصليب. وبدأت معاناة الألم ونزيف الدم داخل وخارج جسده، نتيجة صعوبة التنفس وهو مسمر. وكان من حق الجند الرومان أن يأخذوا ثياب من يصلبونه، فخلعوا ثيابه عنه – وصار عاريا من يستر الخليقة كلها بمراحمه – وقسم الجند الرومان ثيابه عليهم بإلقاء القرعة عليها… فى إشارة واضحة لما تنبأ به داود فى مزموره (22: 18): “وعلى لباسى يقترعون.”
ع25: يقول القديس يوحنا والتقليد أن الصلب كان نحو الساعة السادسة (التى تبدأ فى الثانية عشرة ظهرا – يو 19: 14)، أما مرقس بقوله هنا الساعة الثالثة (التى تبدأ فى التاسعة صباحا)، فهو بذلك يعنى إجراءات بدء الصلب، والتى أخذت بعض الوقت، والأرجح أن الصليب انتصب كاملا قبل الساعة السادسة يقليل، قرب نهاية الساعة الثالثة.
ويلاحظ أنه بالنسبة للتوقيت اليهودى لا توجد فواصل بين الساعة الثالثة والساعة السادسة، فنهاية الأولى هى بداية الثانية، مثل الفرق بين الصباح والظهر فى توقيتنا الحالى.
ع26: “علته”: كان من المتبع أن يحمل المصلوب مع صليبه علته (أى سبب جريمته وصلبه). ولما لم يجد بيلاطس سببا يستحق الصلب، جعل العلة التى تعلق على الصليب مع المصلوب هى: “هذا هو يسوع ملك اليهود”، وقد كتبها بالثلاث لغات المنتشرة فى المنطقة فى ذلك الوقت، وهى العبرانية واليونانية واللاتينية. ويضيف البعض أن بيلاطس كتب ذلك إغاظـة لليهود فى أن ملكهم قد صُلب.
ع27-28: ونُفّذ حكم الإعدام صلبا أيضا على لصين يستوجبان الحكم، فوضعوا واحد عن يمينه وآخر عن يساره، فتتم بذلك نبوءة إشعياء بأنه: “أُحْصِىَ مع أثمة” (53: 12)، ولعل فى صلب اللصين إشارة إلى أن فداء المسيح يشمل كل اليهود والأمم.
ع29-30: فى استهزاء وسخرية، جدف كل المارون على مشهد الصليب، مرددين ما ادعاه شهود الزور فى تأويلهم لقول المسيح بأنه سوف يهدم الهيكل ويقيمه فى ثلاثة أيام – بينما كان يقصد جسده – وكانوا يقولون: بدلا من أن تهدم الهيكل وتقيمه، أليس من الحرى أن تُنزل نفسك – إن استطعت – من على عود الصليب؟!
ع31: مجموعة أخرى من الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب اشتركوا فى السخرية من رب المجد، وكانت هذه السخرية بغرض إثبات أن ما قاموا به من قتله كان قرارا سليما، فلو كان هو المسيح – الممسوح من الله – أما كان يقدر أن يخلّص نفسه مما هو فيه الآن، وقالوا: “خلص آخرين، وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها.”
ع32: برهانا لكلامهم فى العدد السابق، وضعوا شرطا أنه لو تمكن بالفعل من تخليص نفسه لآمنوا به.
“يعيّرانه”: أى اللصان اللذان صلبا معه. ذكر متى ومرقس أن اللصين كانا يعيّرانه، بينما ذكر لوقا الحديث نفسه، ونستنتج من حديثه أن الاثنان أخذا فى تعيير المسيح، إلا أن أحدهما لم يشترك بالفعـل فى هـذا التعيير، كما أوضـح القديس لوقا فى (23: 39)، راجع أيضا شرح (مت 27: 44).
ع33: “ظلمة على الأرض كلها”: كانت هذه الظلمة معجزة بكل المقاييس، فلا يوجد كسوف كلى للشمس يستمر لأكثر من دقائق، فكيف إذن استمر ثلاث ساعات؟! وكان من الأجدر أن ينتبه اليهود لهذه الظاهرة، ولهذا الغضب المستعلن من السماء والطبيعة بسبب فعلتهم، ويتعظوا… ولكن، هكذا من استبد به الظلم والعمى الروحى، لا يستطيع أن يرى أبسط وأوضح الأشياء.
يا نفسى افهمى… اتشحت الطبيعة كلها بالسواد حزنا على خالقها الذى حمل كل آثامنا… وأنت، ماذا تفعلين الآن؟ راجعى ضميرك وارجعى…
ع34-35: استمرت الظلمة من الساعة السادسة بالتوقيت اليهودى (تقابل الثانية عشرة ظهرا) إلى الساعة التاسعة (تقابل الثالثة عصرا). وفى الساعة التاسعة، صرخ الرب يسوع بصوت عظيم قائلا: “إلُوِى، إلُوِى، لَمَا شبقتنى؟” وتعنى فى اللغة السريانية: “إلهى، إلهى، لماذا تركتنى؟” وقد نطق بها المسيح، وهى أول كلمات المزمور (22: 1) الذى تنبأ فيه داود عن كل آلام المسيح، وإلقاء القرعة على ثيابه، والاستهزاء والسخرية به… وكأن المسيح يقول لليهود فى نداء أخير: ارجعوا إلى نبواتكم لتعلموا أن كل شىء كمل بالتمام كما هو مكتوب… أما الحاضرون، فقد اعتقد بعض منهم أنه ينادى إيليا النبى.
ملاحظة: يلاحظ أن السيد المسيح وهو على عود الصليب كانت له سبعة أقوال، ولكن القديس مرقس لم يذكر سوى هذا القول الرابع (راجع شرح مت 27: 50).
ع36: “خلا”: الخل هنا هو الخمر الحامض، له تأثير الخمر، ولكنه لاذع الطعم، وكان رخيصا جدا ويقدم للجنود.
فأخذ أحد الجنود إسفِنجة مملوءة خمرا وقدمها إليه لكى يسقيه، ربما بنوع من الشفقة، ولكن لا تخلو من سخرية، إذ قال: “لِنَرَ هل يأتى إيليا لينزله؟!”
ع37: “صرخ”: كانت هـذه آخـر صيحة نطـق بها المسيح على عود الصليب، ولم يذكر متى ومرقس إذا ما كانت هـذه الصـرخة تحـوى كلاما… ولكن القديس يوحنـا يذكر (فى 19: 30) أن المسيح قال: “قد أٌكْمِلَ” كآخـر كلام له… ولعل المسيح قد قال: “قد أٌكْمِلَ” بصـراخ، لأنه يريد أن يعلن بقـوة أن الفداء قد تم وشمل جميع من يقبله فى العالم أجمع، ثم أسلم روحه الإنسانية.
ع38: فى نفس اللحظة انشق حجاب الهيكل، وهو ستر من القماش يفصل بين القدس وقدس الأقداس فى الهيكل، ويرمز للفصل بين الله القدّوس والبشر الخطاة… وانشقاق الحجاب له أكثر من معنى كالآتى:
(1) أن المسيح قدّم نفسه ذبيحة كاملة دخل بها إلى أبيه (قدس الأقداس) أبطل بها الذبائح الحيوانية والعبادة اليهودية، وبداية العهد الجديد (عب 9: 11، 12).
(2) بطلان العداوة بين الله القدّوس، الذى لا يعاينه الإنسان الخاطئ إلا من خلال التوبة، وقبول الفداء بدم المسيح الذى بذل ذاته من أجل هذه المصالحة.
ع39: كان من بين الوقوف قائد مائة (رومانى)، وهو المكلف بالإشراف وتنفيذ الحكم. وعندما رأى الرجل كل هذه الأحداث من ظلام وأحاديث على عود الصليب وخروج الدم والماء من جنب رب المجد، لم يجد شيئا يقوله سوى أن يعلن أن المسيح هو ابن الإله العظيم (الله).
تأمل معى يا أخى شهادة هذا الرجل الوثنى، فهو ليس من نسل إبراهيم، ولم يكن منتظرا للمسيح، ولم يحفظ نبوات اليهود… ومع هذا نطق وشهد وكانت شهادته حقا… بينما ظل اليهود – المدعوين – رافضين فى عناد وقسوة قلب وعمى للبصيرة الروحية… حقا، إنها شهادة من وثنى أدان بها كل من لم يؤمن بالمسيح من اليهود.
ع40-41: تبع المسـيح طـوال حياته وكرازته على الأرض كثيرات من النسـاء قمـن بخدمته بصـورة لا نعـرف تفاصيـلها، وإن كان القديس لوقا يشـير إلى أن: “أُخَرُ كثيراتٌ كن يخدمنه من أموالهن” (8: 3)، أما القديس مرقس فيذكر أن من هؤلاء النساء من تبعن المسيح حتى الصليب، وإن وقفن بعيدا قليلا، بعكس القديسة العذراء مريم التى وقفت تحت الصليب تماما (يو 19: 26، 27).
“مريم المجدلية”: وهى من تبعت المسيح بعد أن أخرج منها سبعة شياطين، وهى أصلا من قرية مجدل بالقرب من مدينة طبرية.
“مريم أم يعقوب الصغير ويوسى”: وهى زوجة حَلْفَى الذى يسمى أيضا كِلُوبَا، وهى أخت العذراء مريم (يو 19: 25).
“سالومة”: هى زوجة زَبَْدِى وأم يعقوب ويوحنا.
هكذا ظهرت شجاعة النساء اللواتى أحببن المسيح، فلم يستطع الخوف أن يمنعهن من تبعيته حتى الصليب، بينما اختفى الرجال (فيما عدا يوحنا – بتدبير إلهى – حتى يترك المسيح أمه العذراء فى رعايته)!!!
هكذا أيها الحبيب… إذا ملك الرب المسيح بالحب على القلب، لا يخاف الإنسان شيئا، بل يتبع مسيحه حتى المنتهى وسط الآلام والمصاعب.
(4) الدفن (ع 42-47):
42- ولما كان المسـاء، إذ كان الاسـتعداد، أى ما قبـل السبت، 43- جاء يوسف الذى من الرامة، مشير شريف، وكان هو أيضا منتظرا ملكوت الله، فتجاسر ودخل إلى بيلاطس، وطلب جسد يسوع. 44- فتعجب بيلاطس أنه مات كذا سريعا، فدعا قائد المئة، وسأله هل له زمان قد مات. 45- ولما عرف من قائد المئة، وهب الجسد ليوسف. 46- فاشترى كَتَّانًا، فأنزله وكفنه بِالْكَتَّانِ، ووضعه فى قبر كان منحوتا فى صخرة، ودحرج حجرا على باب القبر. 47- وكانت مريم المجدلية ومريم أم يوسى تنظران أين وُضع.
ع42-43: “المساء”: أى قبل السبت الذى يبدأ مع غروب الجمعة.
“الاستعداد”: أى الاسـتعداد لأكل الفصـح الجمعة مساءً، والاسـتعداد أيضا للسبت أول أيام الفطير.
“مشير شريف”: لقبين أطلقهما القديس مرقس على يوسف الرامى، فلقب مشير يطلق على أعضـاء مجلس اليهود الأعـلى (السنهدريم)، ولقب شـريف تعنى كرامته ومكانته الاجتماعية ونبـل أخلاقه أمام الناس. وقد كان تلميـذا للمسـيح “ولكن خُفْيَةً لسبب الخوف من اليهود” (يو 19: 38)، كما كان نيقوديموس أيضا.
تجرأ يوسف ولم يخف اليهود، بل وضع رجاءه كله فى ملكوت الله. ولهذا، ذهب إلى بيلاطس ليطلب الإذن بدفن جسد يسوع. ولو أن الرومان دفنوا جسد الرب يسوع، لما تأكد لليهود أنه مات، وبالتالى يجادلون فى قيامته.
ع44-45: تعجب بيلاطس من موت المسيح السريع، إذ أنه فى عقوبة الصلب، كان يمكن أن يظل المصلوب أكثر من يوم معلقا دون أن يموت. ولهذا دعا قائد المئة الذى كان مكلفا بالتنفيذ وسأله هل له زمان قد مات. ولما تأكد من قائد المئة تمام موت المسيح، وهب الجسد ليوسف.
ع46: اشترى يوسف كفنا غاليا من الكَتّان الأبيض الرامز للنقاوة، وكفنه بالأطياب ولفه بِالْكَتَّانِ – ولم يكفن التلاميذ الجسد – وكان ذلك ترتيبا إلهيا حتى لا يُتهموا بسرقته. ووضع يوسف الجسد فى قبر جديد كان قد اشتراه لنفسه، لأن الرب لم يكن له قبر خاص، فمن يغلب الموت لا يقتنى قبرا، ودفن الرب فيه وحده، وبعد ذلك دحـرج يوسـف ومن معه حجرا كبيرا سدّ به باب القبر المنحوت. وراقب القادة الدينيون القبر، ووضعوا عليه “الحراس وختموا الحجر” (مت 27: 66).
أخى الحبيب… يذكرنا يوسف الرامى هنا بمعنى روحى هام، وهو أن من يأخذ نعمة يجب أن يغلق عليها ليحفظها، كما نضع نحن لفافة على فمنا عند تناول جسد المسيح الأقدس.
ع47: لم يكن فى مقدرة المريمات والنساء الوقوف أمام بيلاطس أو السنهدريم أو جماهبر الشعب، ولكنهن فعلن أقصى ما فى مقدرتهن، فذهب الحب بهن حتى القبر والدفن، وكأن أعينهن رفضت أن تفارق منظر جسد الحبيب حتى آخر لحظة يمكن للعين أن تراه فيها…
حقا… طوبى وسعادة للنفس التى تتمسك بالمسيح حتى آخر لحظة، فلها يقول: “من يغلب يرث كل شيء وأكون له إلها وهو يكون لى ابنا” (رؤ 21: 7).
أعطنا يا رب ألا نغلق أعيننا كل ليلة إلا وتكون صورتك هى آخر ما نظرناه بقلوبنا… آمين.