الأَصْحَاحُ السَّادِسُ
تبشير المسيح – كرازة التلاميذ – قطع رأس يوحنا
معجزتى إشـباع الجموع – معجزة المشى على الماء
(1) تبشير المسيح فى وطنه (ع 1-6):
1- وخرج من هناك وجاء إلى وطنه، وتبعه تلاميذه. 2- ولما كان السبت، ابتدأ يعلم فى المجمع، وكثيرون إذ سمعوا بهتوا، قائلين: “من أين لهذا هذه، وما هذه الحكمة التى أعطيت له حتى تَجْرِى على يديه قوات مثل هذه. 3- أليس هذا هو النجار ابن مريم، وأخو يعقوب ويوسى ويهوذا وسِمعان، أَوَلَيْسَتْ أخواته ههنا عندنا؟!” فكانوا يَعثرون به. 4- فقال لهم يسوع: “ليس نبى بلا كرامة إلا فى وطنه وبين أقربائه وفى بيته.” 5- ولم يقدر أن يصنع هناك ولا قوة واحدة، غير أنه وضع يديه على مرضى قليلين فشفاهم. 6- وتعجب من عدم إيمانهم، وصار يطوف القرى المحيطة يعلّم.
ع1: “وخرج من هناك”: أى من كفرناحوم غرب البحر ونهر الأردن.
“وجاء إلى وطنه”: أى الناصرة فى الشمال، وهى المكان الذى قضى فيه الرب طفولته وشبابه حتى بدأ الكرازة.
ع2-3: “السبت… المجمع”: كان يوم السبت هو يوم العبادة، فإذا كان اليهودى فى أورشليم اتجه إلى الهيكل، أما باقى المدن، فقد انتشرت فيها المعابد، وهى أماكن مخصصة للعبادة والصلوات والشرح والتفسير دون تقديم الذبيحة، فالذبائح مكانها الهيكل وحده بأورشليم.
“إذ سمعوا”: أشار القديس مرقس إلى رد فعل الناس فى الانبهار بتعليم المسيح، الجديد فى مفهومه والقوى فى تأثيره، وكذلك تعجبهم وسؤالهم عن سر حكمته ومعجزات شفائه.
“النجار ابن مريم”: إشارة إلى العمل الذى اشتغل به المسيح قبل الكرازة، وهو عمل بسيط. كذلك ذكروا أمه، وذكروا أبناء مريم زوجة كلوبا أخت العذراء – أبناء خالته – والعرف اليهودى يعتبر أبناء الخالة إخوة.
“يَعثرون به”: أى اختلفوا على شخصه. وسبب العثرة هو الأحاديث السابقة بين الناس عن شخص المسيح، فهم يعرفون نشأته وأهله، ويتعجبون ويتهكمون عليه مما يذاع عن صيته وأعماله.
ع4: “ليس نبى بلا كرامة”: استخدم الرب مثلا معروفا عند اليهود، ومعناه أن الإنسان قد يجد الكرامة والمكانة والترحيب خارجا، أكثر مما يجدها عند أقربائه المستهينين به.
ع5-6: “لم يقدر…”: “لـم” تعنى عجز المسيح أو خلو قدرته – حاشا – والمقصود بها أنه، بسبب عدم إيمانهم، حرموا أنفسهم من أعمال السيد، باستثناء قليلين نالوا الشفاء لإيمانهم به. أما المسيح فلم ييأس من جحودهم، بل ظل يطوف بالأماكن القريبة من الناصرة يكرز فيها.
نصيحة أيها الحبيب… إن عدم الإيمان يمنع ويحجب عمل الله فى حياتنا، والكبرياء يمنع التعرف على الإله المتواضع.
(2) كرازة التلاميذ (ع 7-13):
7- ودعا الاثْنَىْ عَشَرَ، وابتدأ يرسـلهم اثنين اثنين، وأعطاهم سـلطانا على الأرواح النجسة. 8- وأوصـاهم أن لا يحملوا شـيئا للطريق غير عصا فقط، لا مزودا ولا خبزا ولا نحاسا فى المنطقة. 9- بل يكونوا مشدودين بنعال، ولا يلبسوا ثوبين. 10- وقال لهم: “حيثما دخلتم بيتا، فأقيموا فيه حتى تخرجوا من هناك. 11- وكل من لا يقبلكم ولا يسمع لكم، فاخرجوا من هناك، وانفضوا التراب الذى تحت أرجلكم شهادة عليهم. الحق أقول لكم، ستكون لأرض سدوم وعمورة يوم الدين حالة أكثر احتمالا مما لتلك المدينة.” 12- فخرجوا، وصاروا يكرزون أن يتوبوا. 13- وأخرجوا شياطين كثيرة، ودهنوا بزيت مرضى كثيرين فشفوهم.
ملاحظة: ذكر القديس متى دعوة وإرسالية التلاميذ بتفاصيل أكثر، شغلت الأصحاح العاشر كله من بشارته.
ع7: “اثنين اثنين”: يقول سليمان الحكيم: “اثنان خير من واحد… لأنه إن وقع أحدهما يقيمه رفيقه” (جا 4: 9، 10)، وحكمة الرب فى ذلك أن يكون كل منهما سندا للآخر، خاصة وأن التلاميذ كانوا فى أولى تجارب العمل الكرازى، ولم يتركهم السيد بلا عون، بل أعطاهم سلطانا على الشيطان وإخراج الأرواح النجسة.
ع8-9: منع السيد المسيح تلاميذه من بعض الأمور، بغرض عدم الانشغال بشىء عن العمل المكلفين به، واختبار تدبيره الإلهى لكل ما سوف يحتاجون إليه من الماديات أثناء خدمتهم.
“عصا فقط”: هى الشىء الوحيد الذى سمح به المسيح للتلاميذ، فى إشارة واضحة للصليب الذى هو قوة المعونة للخادم المُرسَل.
“مزودا”: هو الكيس الذى يحمله المسافر لوضع حاجاته.
“خبزا”: أى طعاما… فأنا من سوف يدبر لكم هذا.
“نحاسا”: أى نقودا.
“لا يلبسوا ثوبين”: أى الاكتفاء بالقليل والضرورى جدا، فالله يدبر باقى احتياجاتهم.
ع10: “أقيموا.. حتى تخرجوا”: أى عدم الانشغال بالتنقل والولائم فى بيوت كثيرة، بل الاكتفاء بالضرورى، وهو الإقامة فى بيت واحد والتركيز على التبشير والخدمة فقط.
ع11: توضح هذه الآية جزاء رفض الإنسان لقبول كلمة الله اللازمة لخلاصه، فستكون العقوبة فى الدينونة – إذا استمر الرفض، والذى يعنى التجديف على الروح القدس – أشد من عقوبة الله عندما أحرق سدوم وعمورة (تك 19: 24).
“انفضوا التراب”: كانت عادة معروفة عند اليهود، معناها أن هؤلاء الناس غير مستحقين للمعاشرة أو الاشتراك فى شىء، حتى تراب بلدتهم. وتعنى أن من يرفض خدام الله يرفض الله، لأن الخادم هنا ممثل وسفير للمسيح نفسه.
ع12-13: بدأ التلاميذ عملهم كما أوصاهم المسيح، فبدأوا بالتعليم والكرازة بالملكوت، موضحين أن الطريق هو التوبة… وأعطاهم الله القوة والمواهب، فاستطاعوا إخراج الشياطين، كذلك شفاء المرضى بالصلاة ودهن الزيت.
“دهنوا بزيت”: صار دهن الزيت سرا وتقليدا فى الكنيسة، مُستلما من الآباء الرسل (راجع يع 5: 14).
(3) قطع رأس يوحنا (ع 14-29):
14- فسمع هيرودس الملك، لأن اسمه صار مشهورا، وقال: “إن يوحنا الْمَعْمَدَانَ قام من الأموات، ولذلك تُعمل به القوات.” 15- قال آخرون: “إنه إيليا.” وقال آخرون: “إنه نبى، أو كأحد الأنبياء.” 16- ولكن لما سمع هيرودس، قال: “هذا هو يوحنا الذى قطعت أنا رأسـه، إنه قام من الأموات.” 17- لأن هيرودس نفسه، كان قد أرسل وأمسك يوحنا، وأوثقه فى السجن من أجل هيروديا امرأة فيلبس أخيه، إذ كان قد تزوج بها. 18- لأن يوحنا كان يقول لهيرودس، لا يحل أن تكون لك امرأة أخيك. 19- فحنقت هيروديا عليه، وأرادت أن تقتله، ولم تقدر. 20- لأن هيرودس كان يهاب يوحنا، عالما أنه رجل بار وقديس، وكان يحفظه. وإذ سمعه فعل كثيرا، وسمعه بسرور. 21- وإذ كان يوم موافق، لما صنع هيرودس، فى مولده، عشاء لعظمائه وقواد الألوف ووجوه الجليل، 22- دخلت ابنة هيروديا ورقصت، فَسَرَّتْ هيرودس والمتكئين معه. فقال الملك للصبية: “مهما أردت اطلـبى منى فأعطيـك.” 23- وأقسم لهـا أَنْ “مهما طلبت مـنى لأُعْطِيَنَّكِ، حتى نصف مملكتى.” 24- فخرجت وقالت لأمها: “ماذا أطلب؟” فقالت: “رأس يوحنا المعمدان.” 25- فدخلت للوقت بسرعة إلى الملك، وطلبت قائلة: “أريد أن تعطينى حالا رأس يوحنا المعمدان على طبق.” 26- فحزن الملك جدا. ولأجل الأقسام والمتكئين، لم يرد أن يردها. 27- فللوقت أرسل الملك سيافا، وأمر أن يؤتى برأسه. 28- فمضى وقطع رأسه فى السجن، وأتى برأسه على طبق وأعطاه للصبية، والصبية أعطته لأمها. 29- ولما سمع تلاميذه، جاءوا ورفعوا جثته ووضعوها فى قبر.
ع14-16: يتحدث القديس مرقس هنا عن ردود أفعال الناس وهيرودس الملك على كرازة المسيح، فالناس بعضها قال “إنه إيليا” الذى صعد إلى السماء قد نزل حيا مرة أخرى، وهذه هى عجائبه. وآخـرون قالوا إنه نبى يفتقـد الله به شـعبه بعد توقف إرسـال الأنبياء لمئات السنين. أما هيرودس، فشعوره بالذنب من قتل يوحنا الْمَعْمَدَانَ ظلما، جعله يقول إنه يوحنا وقد قام من الأموات، وتُعمل به القوات، ولعله أتى للانتقام منى.
أيها الحبيب… إن إحساس هيرودس هذا هو إحساس كثيرين من الأشرار الذين ضحوا بسلامهم القلبى من أجل شهوة الخطية… فالشهوة جعلته يقتل، وبعدها فارقته الطمأنينة، إذ يقول إشعياء: “ليس سلام قال إلهى للأشرار” (57: 21). فلا تنخدع يا صديقى بالخطية، فثمنها فادح على الأرض وأكثر فداحة فى الأبدية.
ع17-18: يشرح هنا القديس مرقس قصة قتل يوحنا الْمَعْمَدَانَ من البداية، وما أحاطها من دوافع وأحداث، فلقد كان يوحنا أثناء تعليمه للجموع وكرازته بالتوبة، يوبخ أيضا هيرودس أنتيباس – ابن هيرودس الكبير الذى قتل أطفال بيت لحم – وذلك أنه وضع أخيه فيلبس فى السجن، وأخـذ امرأة أخيه زوجة له، مما جعل هيرودس (الابن) يقبض عليه ويسجنه، ليستريح من توبيخه.
ع19-20: أخذت الغيرة من هيروديا، وامتلكتها مشاعر الغيظ والغضب على يوحنا الذى أرادت قتله، ولكن الذى منعها هو هيرودس نفسه الذى، بالرغم من قبضه عليه، إلا أنه كان يخافه ويحترمه، ويعرف أنه رجل الله. وقد سمع الكثير من أقواله وحفظها، وكذلك كل أعماله التى صنعها…
وهذه هى المهابة الروحية التى يضعها الله على وجوه أبنائه أمام مضطهديهم الذين قد يملكون السلاح والسلطان، ولكنهم داخليا، يخافونهم ويحترمونهم.
ع21-23: فى حفل أقامه هيرودس لتذكار ميلاده، ودعا فيه عظمائه (وزرائه) وقواد الألوف (رؤساء جيشه) ووجوه الجليل (أعيانه)، دخلت سالومى ابنة هيروديا ورقصت، فكان رقصها مصدر إسعاد ومديح الحاضرين. وإذ أخذت النشوة هيرودس، أراد مكافأتها، فنطق بتفاخر وكبرياء ملوك الأرض بأن تطلب أى شىء حتى ولو كان نصف مملكته، وازداد حماقة إذ جعل وعده لها بقسم، مما جعل الرجوع فيه مستحيلا.
هل رأيت يا صديقى إلى ماذا يقود السكر والشهوة وكبرياء العظمة؟! أليس إلى حماقة واندفاع وتسرّع يضيع معهم كل شىء، وأهمهم الحكمة؟
فلتحترس إذن يا صديقى، ولا تدع شىء يأخذ منك إرادتك ووعيك وقرارك.
ع24-25: يشير القديس مرقس هنا، كما أشار القديس متى (14: 8)، إلى أن ما طلبته الابنة لم يكن سوى تنفيذ رغبة أمها الشريرة فى الانتقام من يوحنا، الذى كان يمثّل – حتى فى سجنه – صوت الضمير الذى لا ينام، والذى يريد دائما الإنسان الشرير إسكاته، ولهذا طلبت… حالا رأس يوحنا المعمدان على طبق، مما يضيف على شخصيتها أيضا القسوة والدموية.
ع26-27: حزن الملك، وكان من الممكن أن يرجع فى كلامه. ولكن، من أجل كبريائه أمام ضيوفه وما أقسم به، استمر فى خطئه بالأكثر فأرسل السياف ليقطع رأس يوحنا. ويذكّرنا هذا ببيلاطس الذى، بالرغم من إنذارات الله، خاف على مكانته، وأرسل المسيح البرىء إلى الصليب.
يا إلهى الحبيب… هكذا يكون مسلسل الشر إذا بدأ، فإنه يستمر ويزداد أكثر اشتعالا، ويؤدى إلى ما لا يمكن تفاديه، فنار الشر تلتهم كل شىء حتى وإن كانت بدايتها شرارة صغيرة… أرجوك يا إلهى، احفظنى من الشر ومن نفسى ومن أهوائى، فأنا إنسان ضعيف وليس لى سواك أحتمى فيه.
ع28-29: فى منظر يوضح شراسة النفس البشرية التى امتلكها الشر، أخذت سالومى الابنة الرأس المقطوعة وذهبت بها إلى أمها، لتشفى بهذا المنظر غليلها. أما تلاميذ يوحنا الأوفياء، فأخذوا جسده وطيّبوه كعادة اليهود، ودفنوه فى حزن وإكرام.
(4) رجوع الاثْنَىْ عَشَرَ وإشباع خمسة آلاف (ع 30-44):
30- واجتمع الرسـل إلى يسـوع، وأخبروه بكل شـىء، كل ما فعلـوا وكل ما علمـوا. 31- فقـال لهم: “تعالـوا أنتم منفردين إلى موضع خلاء واستريحوا قليلا.” لأن القادمين والذاهبين كانـوا كثيرين، ولم تتيسر لهم فرصـة للأكل. 32- فَمَضَـوْا فى السفينة إلى موضع خلاء منفردين. 33- فرآهم الجموع منطلقين، وعرفه كثيرون، فتراكضوا إلى هناك من جميع المدن مشاة، وسبقوهم، واجتمعوا إليه. 34- فلما خرج يسوع، رأى جمعا كثيرا فتحنن عليهم، إذ كانوا كخراف لا رَاعِىَ لها، فابتدأ يعلمهم كثيرا. 35- وبعد ساعات كثيرة، تقدم إليه تلاميذه قائلين: “الموضع خلاء، والوقت مضى. 36- اِصرفهم لكى يمضـوا إلى الضياع والقرى حوالينا، ويبتاعوا لهم خبزا، لأنْ ليس عندهم ما يأكلون.” 37- فأجاب وقال لهم: “أعطوهم أنتم ليأكلوا.” فقالوا له: “أنمضى ونبتاع خبزا بمئتى دينار ونعطيهم ليأكلوا؟!” 38- فقال لهم: “كم رغيفا عندكم؟ اذهبوا وانظروا.” ولما علموا قالوا: “خمسـة وسـمكتان.” 39- فأمرهم أن يجعلوا الجميع يتكئون، رفاقا رفاقا، على العشب الأخضر. 40- فاتكاوا صفوفا صفوفا مئة مئة وخمسين خمسين. 41- فأخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين، ورفع نظره نحو السماء، وبارك، ثم كسّر الأرغفة، وأعطى تلاميذه ليقدموا إليهم؛ وقسم السمكتين للجميع. 42- فأكل الجميع وشـبعوا. 43- ثم رفعـوا من الْكِسَرِ اثنتىْ عشـرة قفـة مَمْلُوَّةً ومن السمك. 44- وكان الذين أكلوا من الأرغفة نحو خمسة آلاف رجل.
ع30-32: بعد سرد قصة استشهاد يوحنا الْمَعْمَدَانَ، يعود بنا القديس مرقس إلى حديثه عن إرسالية التلاميذ وعودتهم للمسيح. وكان من الطبيعى أن أول ما يفعله الرسل، هو إخبار المسيح بكل ما فعلوا. إلا أن المسيح، فى حنانه واهتمامه بكل شىء، لم تشغله تقارير الخدمة عن الاهتمام بالحالة الجسدبة والنفسية لتلاميذه، فدعاهم لقسط من الراحة بعد التعب. وإذ هم قد نَسَوْا أن يأكلوا وسط مشاغلهم، لم ينس هو، فدعاهم للانفراد بهم بعيدا عن زحام الجمع، ولهذا ذهب بهم إلى سفينة لأى مكان أكثر هدوءا.
إن ما صنعه المسيح مع تلاميذه كان فى غاية الرقة والحنان… يهتم بكل شىء… فماذا عنى أنا الذى ينسى كثير من المشاعر الرقيقة فى وسط زحام الحياة؟! وربما هذا ما كان يحتاجه الناس منى أكثر من أى شىء آخر… علمنى يا سيدى أن أكون مثلك بقدر إمكانى.
ع33-36: إلا أن الجموع الملاحقة دائما للمسيح رأته ذاهبا مع تلاميذه، فركضوا إلى هناك بسرعة، وخرج آخرون من القرى والمدن واجتمعوا حيث كان المسيح جالسا مع تلاميذه فى السفينة. وإذ تطلّع المسيح من السفينة، رأى الأعداد الغفيرة فتحنن عليهم، إذ كانوا كخراف لا رَاعِىَ لها، وبدأ يعظهم بتعاليم متنوعة كما صنع فى الموعظة على الجبل. وبعد طول وعظ – ساعات كثيرة – تقدم إليه تلاميذه قائلين:
“الموضع خلاء”: أى المكان بعيد عن العمران والأسواق وأماكن بيع الأكل،
“والوقت مضى”: إشارة إلى طول الوقت وجوع الجموع…
ثم كان الاقتراح المقدم من التلاميذ لحل هذه المشكلة، وهو صرف الجموع ليشتروا ما يعوزهم من طعام.
ع37: جاءت إجابة المسيح مفاجأة للتلاميذ: “أعطوهم أنتم”…!! من أين، وأنت العالم بكل شىء، فنحن لا نملك طعاما لهؤلاء… وإن قصدت أن نذهب ونشترى، فنحتاج على الأقل إلى مئتى دينار ثمنا للخبز فقط… (وهذا يوضح أن العدد كان كبيرا). وبالطبع، حمل سؤال الرسل قدرا من التعجب من قول المسيح!!… وهى مقابلة كثيرا ما تحدث بين إرادة الله وتدبيره الشامل، وبين عجز الإنسان وقدراته الفعلية المحدودة…
ع38-40: “اذهبوا وانظروا”: بالطبع كان المسيح يعلم عدد الخبز والسمك، لكنه كلّف التلاميذ لهذا، ليتأكدوا بأنفسهم أنه لم يكن موجودا سوى هذه الكمية القليلة. ويبدو أنهم نادوا على الجمع… (من معه طعاما فليقدمه)، لأن القديس يوحنا يذكر (أن غلاما أتى بذلك).
ويرى البعض أن الخمس خبزات تشير إلى أسفار موسى الخمسة، والسمكتين إلى العهدين القديم والجديد.
ثم أمر التلاميذ أن يُجلسوا الجمع فى مجموعات، رفاقا رفاقا، تسهيلا للتوزيع.. وصنع التلاميذ هكذا، فكانت هناك مجموعات من مئة شخص وأخرى من خمسين.
ع41-42: “رفع نظره نحو السماء”: يريد السيد أن يعلمنا أنه عند احتياجنا، ليس لنا عونا سوى أبينا السماوى.
“بارك”: لأنه هو الله مصدر كل بركة، و”كسّر”: معناها أنه المسئول عن تقسيم الخير والبركات على كل خليقته وكنيسته على الأخص.
“أعطى تلاميذه”: يحترم الله دور خدامه، فيقوم هو بالعمل الذى لا يقدرون عليه، لكن لهم دورهم فى التعب، ثم الفرح بعمل الله، وخاصة بعد أن أكل الجميع وشبعوا.
ع43-44: كان الجمع كبيرا والطعام وفيرا. ويضيف القديس متى على القديس مرقس أن: “الآكلون كانوا نحو خمسة آلاف رجل ما عدا النساء والأولاد” (14: 21). وما تبقّى من الْكِسَر كانِ اثنتىْ عشرة قفة – توافق عدد التلاميذ – ليكون كل واحد فيهم شاهدا على هذه المعجزة بنفسه، إذ يذكر القديس يوحنا (6: 12) أن المسيح هو الذى كلّف التلاميذ بجمع الْكِسَر.
يلاحظ الآتى:
(1) أن هذه المعجزة هى الوحيدة التى ذكرتها البشائر الأربعة لما سببته من شهرة للسيد المسيح، إذ أن كل من أكل من الجمع صار كارزا بها (مت 14: 15-21؛ لو 9: 12-17؛ يو 6: 5-14).
(2) من أهمية هذه المعجزة، وضعتها الكنيسة فى قراءات قداساتها، وتُقرأ فى الأحد الخامس من الشهر القبطى الذى يسمى عادة “أحد البركة”
(3) من أجمل المعانى الروحية فى هذه المعجزة، هى تقديم إمكانياتك القليلة فى يد المسيح، حتى ولو دقائق قليلة فى اليوم… قدمها بأمانة، ودع الله يباركها وينميها، فتشبع أنت أولا… وتُشبع آخرين، ثم تكون شاهدا وخادما له.
(4) جمع الكسر يعلمنا ألا نسرف فى كسر الخبز الذى، فى أحيان كثيرة، نلقى بما يفضل عنا منه فى القمامة، بينما آخرين قد لا يجدونه.
(5) المشى على الماء (ع 45-56):
45- وللوقت، ألزم تلاميذه أن يدخلوا السفينة، ويسبقوا إلى العبر إلى بيت صيدا، حتى يكون قد صرف الجمع. 46- وبعدما ودعهم، مضى إلى الجبل ليصَلّى. 47- ولما صار المساء، كانت السفينة فى وسط البحر، وهو على البر وحده. 48- ورآهم معذبين فى الْجَذْفِ، لأن الريح كانت ضدهم. ونحو الهزيع الرابع من الليل، أتاهم ماشيا على البحر، وأراد أن يتجاوزهم. 49- فلما رأوه ماشيا على البحر، ظنوه خيالا فصرخوا، 50- لأن الجميع رأوه واضطربوا. فللوقت، كلمهم وقال لهم: “ثقوا، أنا هو، لا تخافوا.” 51- فصعد إليهم إلى السفينة، فسكنت الريح، فبهتوا وتعجبوا فى أنفسهم جدا إلى الغاية. 52- لأنهم لم يفهموا بالأرغفة، إذ كانت قلوبهم غليظة. 53- فلما عبروا، جاءوا إلى أرض جَنِّيَسَارَتَ وَأَرْسَوْا. 54- ولما خرجوا من السفينة، للوقت عرفوه. 55- فطافوا جميع تلك الكورة المحيطة، وابتدأوا يحملون المرضى على أَسِرَّةٍ إلى حيث سمعوا أنه هناك. 56- وحيثما دخل إلى قرى أو مدن أو ضياع، وضعوا المرضى فى الأسواق، وطلبوا إليه أن يلمسوا ولو هدب ثوبه، وكل من لمسه شفى.
ع45-46: “وللوقت”: أى بعد إشباع الجموع، أمر تلاميذه أن يأخذوا المركب ويتجهوا إلى بيت صيدا. أما هو، فقد انتظر ليتمم أمرين، وهما: صرف الجموع بحنان الأب الذى يودع أبناءه. والأمر الثانى هو الاختلاء بنفسه من أجل الصلاة، فى درس عملى لكل الخدام ألا تأخذهم خدمة الجموع عن الاهتمام بالانفراد بالله والحديث معه. فلا يوجد عمل فى حياة الخادم الأمين أبهى من الوقوف والتحدث مع الله، فيطرح كل مشاكله على أبيه، ويشكره على عظيم أعماله معه.
ع47-49: “صار المساء”: أى وقت الغروب، فقد كان عند اليهود مساءان، الأول هو وقت العصر الذى حدثت فيه معجزة الإشباع، أما الثانى فهو وقت الغروب. وقد ذكر القديس متى فى روايته المساءين (14: 15، 23)، وكان المسيح واقفا على الشاطئ، ناظرا إلى السفينة فى وسط البحر الذى كان هائجا جدا، حتى خاف التلاميذ وصاروا يبذلون كل جهدهم فى التجديف من أجل نجاة نفوسهم.
“الهزيع الرابع”: أى القسم الأخير من الليل – تقريبا من الثالثة صباحا وحتى نهاية الفجر – وهذا يدل على أن المسيح تركهم فى معاناة طويلة جدا وشاقة، ولم يتدخل إلا فى آخر وقت.
وهذا معناه أن الله قد يتركنا إلى حين حتى نجاهد ضد التيارات (الشهوات والمصاعب)، فالجهاد حتى الدم (عب 12: 4) مطلوب منا… فالله يحبنا وهو راعى نفوسنا. ولكنه، بحكمته، يعرف متى يتركنا ومتى يسرع لإنقاذنا… فهناك فرق بين الحب والتدليل المفسد للإنسان.
“أتاهم ماشيا …”: أى ترك البر ومشى على الماء لإنقاذهم. ومن الظلام والخوف، ظنوا أنه تجاوز السفينة… ولم يستطيعوا أن يميزوا ملامحه، فظنوه شبحا أو خيالا، فزاد خوفهم حتى الصراخ.
“أراد أن يتجاوزهم”: التجاوز هنا ليس معناه “الترك”، بل قصد أن يسبقهم قليلا حتى يروه.
ع50-51: ازداد الاضطراب والخوف مع الإجهاد النفسي من الصراع مع البحر طوال الليل، وهنا جاءت كلمات المسيح: “ثقوا، أنا هو، لا تخافوا.” وعند صعوده إلى السفينة، سكنت الريح تماما، مما أدهش التلاميذ كثيرا.
هكذا أيها الحبيب… إذا دخل المسيح حياتنا، صار الهدوء والراحة والطمأنينة… فلا سلام خارج المسيح، ولا سلام كسلام المسيح.
ع52: “لم يفهموا بالأرغفة”: أى سبب تعجبهم وخوفهم هو عدم إدراكهم أن الإله القادر على إشباع الجموع من خمس خبزات، هو نفسه القادر على المشى على الماء.
“قلوبهم غليظة”: أى لم تضاء بالإيمان الكامل بعد… وهذا يحدث معنا كثيرا فى أوقات الضيقة، إذ ننسى أعمال الله السابقة الصالحة.
ع53-54:عبرت السفينة إلى أرض جَنِّيَسَارَتَ (سهل على الجانب الغربى من البحر جنوب كفرناحوم) ورست هناك، وعرفه الناس عند خروجه من السفينة وإن كان الصباح باكرا.
ع55-56: ابتدأ الناس فى جمع مرضاهم، والمقعدين فيهم، ليأتوا بهم إلى المسيح لنوال الشفاء. وكل مكان دخله المسيح، كان يشفى مرضاهم؛ ولتوضيح الأعداد الكبيرة لمن شُفُوا، يذكر القديس مرقس أن كل من لمسه شُفِىَ.