المعمـوديــة–الإيمان بالمسيح
(1) سر المعمودية (ع 1-8):
1- كان إنسان من الفريسيين اسمه نيقوديموس رئيس لليهود. 2- هذا جاء إلى يسوع ليلا وقال له: “يا معلم، نعلم أنك قد أتيت من الله معلما، لأنْ ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات، التى أنت تعمل، إن لم يكن الله معه.” 3- أجاب يسوع وقال له: “الحق الحق أقول لك، إن كان أحد لا يولد من فوق، لا يقدر أن يرى ملكوت الله.” 4- قال له نيقوديموس: “كيف يمكن الإنسان أن يولد وهو شيخ، ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد؟” 5- أجاب يسوع: “الحق الحق أقول لك، إن كان أحد لا يولد من الماء والروح، لا يقدر أن يدخل ملكوت الله. 6- المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح. 7- لا تتعجب أنى قلت لك ينبغى أن تولدوا من فوق. 8- الريح تهب حيث تشاء وتَسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتى ولا إلى أين تذهب؛ هكذا كل من ولد من الروح.”
ع1-2: الفريسيون: جماعة من اليهود حافظوا على صورة التقوى، وتمسكوا بتنفيذ الوصايا وتقاليد الشيوخ بتدقيق. ومعنى لقبهم “المفرزون”، وتميزوا بالتباهى، وهم من أشد المقاومين للمسيح أثناء خدمته. وكان منهم نيقوديموس، الذى كانت له مكانة اجتماعية ودينية – رئيس لليهود – أى أنه عضو فى المجلس الأعلى لليهود، والذى يضم عظمائهم. ذهب ليلا للمسيح، وذلك لأمرين:
أولا: أن يتحرى بنفسه عن شخص المسيح، ولا يعتمد على ما سمعه.
ثانيا: ألا ينكشف أمره، فاختار الظلام لهذه الزيارة، فلابد أنه كان يخشى معرفة باقى الفريسيين بهذه الزيارة.
ولعلنا نتعلم من نيقوديموس أن نذهب بأنفسنا للرب المسيح، ونتحدث معه، وتكون لنا عِشرة مع الكتاب المقدس والأسرار، بدلا من أن نكتفى بالسماع عنه من الآخرين فقط.
بدأ نيقوديموس حديثه مقدما احتراما لشخص المسيح، داعيا إياه معلما، وهو لفظ له دلالة خاصة عند اليهود. ولا يُطلَق على أى أحد. كذلك قدّم إيمانا، وإن كان إيمانه يحتاج لتأكيد. وهذا سبب الزيارة، كما سبق وأشرنا.
ع3: أجاب يسوع دون أن يسأل نيقوديموس، ومن إجابة المسيح، نفهم أن السؤال كان يتعلق بالخلاص وشرط دخول الملكوت. كذلك فى إجابة المسيح دون أن يُسأل، إعلان لنيقوديموس عن معرفة السيد لما بداخله، وهو إثبات للاهوته أيضا.
ع3-7: بدأ المسيح إجابته بتعبير استخدمه كثيرا، وهو: “الحق الحق أقول لك (لكم)”، وهذا التعبير يشير إلى صدق المتكلم وسلطانه وأهمية الموضوع.
أما خلاصة كلام المسيح، وتعليمه أن الخلاص ليس قاصرا على اليهود (ع16)، بل هو متاح للكل، ولكن شروطه:
(1) الميلاد من فوق: وهذا معناه ميلاد البنوة لله بالروح القدس، الذى يجعلنا أبناء للسماء، ونتغرب عن الشهوات الأرضية الشريرة.
(2) الميلاد من الماء والروح: وهو نفس الميلاد السماوى السابق، ولكن من خلال صورته المنظورة فى سر المعمودية المقدس. ولهذا، نرى حرص كنيستنا فى التعليم بأنه لا خلاص بدون الميلاد الروحى من مياه المعمودية المقدسة، وأن شرط الإيمان وحده لا يكفى.
ع4: نجد موقفا تكرر كثيرا، وأبرزه القديس يوحنا، وهو قصور العقل الإنسانى عن فهم القصد الإلهى. فنيقوديموس لم يفهم معنى الميلاد الثانى، ولم يتصور سوى الدخول مرة ثانية إلى بطن الأم. وقد حدث هذا أيضا، عندما تكلم السيد عن نقض الهيكل “جسده” (ص 2: 19)، وسيأتى أيضا فى حواره مع المرأة السامرية (ص 4: 7-14). ولكن مع هذا، لا يترك الله الإنسان إلا بشرح قصده له.
ع7: هناك فرق كبير بين من ينتسب للسماء بميلاده الجديد، ومن ينتسب للجسد.
فإن كنا قد أخذنا الطبيعة الجديدة الروحانية مجانا فى سر المعمودية، فهل نسلك كروحانيين، أم أن شهوات الجسد وميوله هى التى تقودنا؟
أيها الحبيب، لقد أعطاك الروح القدس ما لا يستطيع الآخرون فهمه، فهل تُقدّر هذه العطية وهذه المسئولية؟ إنها دعوة لأن تفكر وتسأل: فى أمورى وعلاقاتى، هل أسلك كإنسان سماوى، أم يحكمنى، كالآخرين، قانون العالم ومادياته؟
يلاحظ أيضا أن كلمة “ينبغى”، أعطت تأكيدا وإلزاما لكل المسيحيين بضرورة الولادة من فوق (المعمودية).
ع8: “الريح”: الكلام هنا عن الروح القدس وعمله السرى، فأنت لا تراه ماديا، ولكنك تدرك فعله وآثاره. فإذا رأينا شجرة تهتز بكل أوراقها وتنحنى، ندرك تعرضها للريح وتأثرها بها، دون أن نعلم مصدر الريح ولا إلى أين تذهب… هكذا الروح القدس، ندركه بآثاره على كل من أخذه وقبله فى مسحة الميرون، أو وضع الأيدى الرسولية (أع 19: 6). وبالتالى، هكذا كل من وُلد من الروح، أخذ منه القوة والحب والحكمة والصبر والاتضاع والبصيرة الروحية.
وتعطينا المعمودية أساسيات ثلاثة: الملكية لله وليس للشيطان، وأن نكون أقوى من الشيطان، وأن نصير ميالين للخير لا للشر.
(2) أهمية الإيمان وسموّه (ع 9-15):
9- أجاب نيقوديموس وقال له: “كيف يمكن أن يكون هذا؟” 10- أجاب يسوع وقال له: “أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا؟! 11- الحق الحق أقول لك، إننا إنما نتكلم بما نعلم، ونشهد بما رأينا، ولستم تقبلون شهادتنا. 12- إن كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون، فكيف تؤمنون إن قلت لكم السماويات؟ 13- وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذى نزل من السماء، ابن الإنسان، الذى هو فى السماء. 14- وكما رفع موسى الحية فى البرية، هكذا ينبغى أن يُرفع ابن الإنسـان. 15- لكى لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية.”
ع9-10: لم يزل الحوار مستمرا بين تعجب نيقوديموس، وبين عتاب المسيح الرقيق له؛ فكيف أنت يا معلم الناموس ومفسره، لا تدرك المعانى الروحية والقصد الإلهى؟ والمعنى المراد هنا أن المعرفة النظرية والحرفية، ليست هى قصد الله وفكره.
وهكذا حال الكثيرين منا الآن، فنقرأ الكتاب المقدس، وقد نُعلّم به أيضا، ونحن لا ندرك الأبعاد الروحية لكلمة الله، والتى لا تُدرك إلا باتضاع الإنسان أمام إرشاد الروح القدس، وخضوعه له تحت إرشاد الكنيسة.
ع11: يزيد السيد المسيح إلى كلامه لنيقوديموس، الذى لم يزل عاجزا عن الفهم، تأكيدا بأن كلامه وشهادته صادقين، وقد استخدم السيد المسيح صفة الجمع – الغير معتادة عند اليهود – عن نفسه، بقوله: “إننا… نتكلم… نعلم…نشهد… شهادتنا”، وهى إشارة واضحة لوحدانيته فى الثالوث الأقدس، هذا الثالوث وحده هو الذى يعلَم ويعلّم ويشهد لنفسه، وعدم قبول شهادته وتعليمه، هى جهالة العالم المادى الذى يرفض الله ذاته.
ع12: المعنى المباشر هنا هو: إن لم تقبلوا الأمور البسيطة، فكيف تدركون الحقائق الإيمانية الأكثر صعوبة؟
“الأرضيات”: معناها هنا، هو الأمور الأرضية الروحية اللازمة للحياة على الأرض، مثل الميلاد الثانى الروحى – المعمودية – ومعناها أيضا أن المسيح استخدم تشبيها أرضيا لشرح المعنى الروحى، عندما ربط بين الريح الأرضية وعمل الروح القدس فى حياة المؤمن.
“إن قلت لكم السماويات”: معناها أن هناك جزء أصعب على العقل، ولكنه من صميم الإيمان، ولابد من إعلانه والإيمان به، كعلاقته بالآب “أنا والآب واحد” (ص 10: 30)، وعن الفداء بموته، والقيامـة من الأمـوات، والصعـود والجلوس عن يمين الآب، وكلها أمور فوق مستوى الأرضيات أو المحسوسات المادية.
ع13-15: عندما اقترب حديث السيد المسيح مع نيقوديموس من النهاية، بدأ السيد فى إعلان ثلاث حقائق متتالية للاهوته:
الأولى: أنه هو الإله المتجسد، النازل من السماء والصاعد إلى السماء والكائن فى السماء فى نفس الوقت. وهـذا معناه أنه فى زمن تجسـد المسـيح على الأرض، لم يترك السماء – بلاهوته غير المحدود – لحظة واحدة، فهو فى حالة تجسد وصعود دائمة كما يفيد تصريف كلمة “صعد” فى اللغة اليونانية، فهى ليست فى زمن الماضى كما تفيد اللغة العربية، ولكنها فى زمن المضارع التام كما فى اللغة الإنجليزية.
الثانية: وهى حتمية رفع ابن الإنسان على خشبة الصليب من أجل الفداء. وقد أشار السيد المسيح إلى ما صنعه موسى من رفع الحية النحاسية بحسب أمر الله (راجع عد 21: 8-9)، لإنقاذ كل من ينظر إليها من لدغ موت حيات البرية، لم يكن سوى رمزا للمسيح المعلق على خشية الصليب، والذى، بموته، إنقاذ من الموت لكل من يؤمن به.
الثالثة: ارتباط الخلاص المجانى المقدم على الصليب بالإيمان، فالمسيح بفدائه فتح أبواب الحياة الأبدية لجميع الناس، ولكن بشرط الإيمان به.
فالخلاص صار هبة مجانية لا تتوقف على استحقاقى، بل على نعمة محبة الله لى، فقدم لِىَ الصليب والفداء كإنقاذ، والمعمودية كمدخل له، وأعطانى الحياة لأحيا وأتنعم بالوجود هنا معه، حتى أشهد له، وأجاهد من أجل هذا الخلاص الممنوح لى، لئلا أضيّعه… أعطنى يا رب أن أتمم هذا الخلاص بخوف ورعدة (فى 2: 12).
(3) الإيمان بالمسيح المخلّص (ع 16-21):
16- لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكى لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية. 17- لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلُـص به العـالم. 18- الذى يؤمن به لا يدان، والذى لا يؤمن قد دين لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد. 19- وهذه هى الدينونة، إن النور قد جاء إلى العالم، وأحب الناس الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة. 20- لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور، ولا يأتـى إلى النـور لئلا توبَّخ أعمـاله. 21- وأما من يفعل الحق فيقبل إلى النور، لكى تظهر أعماله أنها بالله معمولة.
ع16-18: هذان العددان فى معناهما، تكرار لما سبقهما فى أن الإيمان بالمسيح هو الشرط الأساسى للخلاص، ولكنهما يضيفان بعدا روحيا جميلا، وهو أن تدبير الخلاص ليس له سبب سوى محبة الله غير الموصوفة والمحدودة للإنسان… محبة فوق استيعاب العقل… أن يبذل الآب ابنه الوحيد للموت من أجل خلاص وحياة العالم. وهذا التجسد والفداء لم يكن غرضه الدينونة أو استيفاء العدل الإلهى… فما كان أسهل أن يدين الله خليقته بكلمة واحدة، إنما الأصعب هو البذل والموت من أجل تبرير الخطاة فى دم المسيح… ولكن من رفض هذا الفداء وهذا الحب المقدم من الآب فى بذل ابنه الوحيد، استحق الدينونة.
أيها الحبيب… إن ما يميز القديسين عنا هو إدراكهم العملى لهذا الحب غير الموصوف، فحب الله فوق مستوى العواطف البشرية المتقلبة، فهو ثابت وأبدى (إر 31: 3)، وكذا شبع للنفس والروح. ولما أدرك القديسون هذا النوع من الحب، تركوا كل شيئ من أجله، وهم الرابحون… فهل ندرك مثلهم هذا الحب العجيب؟ وهل يعبّر سلوكنا عن هذا الحب؟ نحن لا نحتاج أن نعرف أن الله أحبنا، بل أن ندخل معه فى شركة الحب اللانهائى…
سؤال نطرحه أيها الحبيب لنا جميعا: ماذا تركنا من أجل حب المسيح كما ترك هؤلاء؟!
ع19-21: إن هذا الحب وهذا النور لم يقبله الكثيرون، مستوجبى الدينونة. ويقدم لنا القديس يوحنا سبب رفضهم لهذا النور، وهو أنهم أشرار، وكل من يفعل الشر والخطية يكره بالتالى النور الذى يكشف هذه الأفعال الشريرة ويوبخها.
إن سر ابتعاد الكثيرين هذه الأيام عن الله والكنيسة هو أنهم يعلمون أين الحق وأين المسيح، لكنهم يتجاهلونه بسبب حبهم للحطية… وذلك بعكس الإنسان الروحى الذى يجاهد فى الوصية الإلهية بالحب، فلا مكان له سوى المسيح، ويستمد القوة من الكنيسة، وتشهد أعماله بعمل الله فى حياته.
(4) معمودية التوبة (ع 22-24):
22- وبعد هذا، جـاء يسـوع وتلامـيذه إلى أرض اليهودية، ومكث معهم هنـاك، وكان يعمد. 23- وكان يوحنا أيضا يعمد فى عين نون بقرب ساليم، لأنه كان هناك مياه كثيرة، وكانوا يأتون ويعتمدون. 24- لأنه لم يكن يوحنا قد ألقى بعد فى السجن.
ع22: “وبعد هذا”: جملة يستخدمها القديس يوحنا دائما لينقل القارئ من حديث لحديث آخر، أو من مكان لمكان آخر، أو من زمن لزمن آخر.
“أرض اليهودية”: شرق جبال أورشليم على ضفاف الأردن، ومن المعروف أن الحديث السابق مع نيقوديموس كان فى أورشليم.
“كان يعمّد”: معناها أن تلاميذه كانوا يعمّدون وليس هو (راجع ص 4: 2)، ولكن ما كان يفعله تلاميذه يُنسَب إلى معلمهم. ويجمع كل من القديس ذهبى الفم والقديس أغسطينوس على أن معمودية التلاميذ لم تُحسَب معمودية سرائرية كتلك التى مارسها التلاميذ أيضا بعد حلول الروح القدس عليهم، بل تُعد الأولى شبيهة بمعمودية يوحنا فى أنها إعداد للتوبة فقط.
ع23: تكشف لنا هذه الآية عن انتقال يوحنا المعمدان من عبر الأردن إلى عين نون بالقرب من ساليم، بسبب وفرة المياه فى ذلك المكان الجديد عن عبر الأردن. ويُفهم ضمنا أن ازدياد أعداد التائبين دفع المعمدان للبحث عن مكان فيه المياه أكثر وفرة من مياه الأردن الضحلة، مما يؤكد أن المعمودية كانت بالتغطيس وليس الرش. أما عين نون وساليم، فلا يُستدل عليهما جغرافيا الآن، ولكن أجمع المفسرون أنهما يقعان غرب نهر الأردن بالقرب من أرض اليهودية التى مكث فيها المسيح مع تلاميذه.
ع24: يُفهم من هذه الآية أن هناك فترة خدم فيها المعمدان أثناء خدمة السيد المسيح، فالمعمدان هنا لم يُلق به فى السجن بعد. ونجد نيقوديموس فى (ع2) يشهد للمسيح بأنه يصنع آيات. وكان القديس يوحنا حريصا على أن يذكر هذا، لأن من يكتفى بقراءة البشائر الثلاثة الأخرى فقط، يعتقد أن خدمة المسيح لم تبدأ إلا بعد سجن المعمدان، ولكن الحقيقة أن ما بدأ بعد السجن، هو خدمة المسيح فى الجليل.
(5) المسيح فوق الجميع (ع 25-36):
25- وحدثت مباحثة من تلاميذ يوحنا مع يهود من جهة التطهير. 26- فجاءوا إلى يوحنا وقالوا له: “يا معلم، هـوذا الذى كان معـك فى عـبر الأردن، الذى أنت قد شهدت له، هو يعمد، والجميع يأتون إليه.” 27- أجاب يوحنا وقال: “لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئا إن لم يكن قد أُعْطِىَ من السماء. 28- أنتم أنفسكم تشهدون لى أنى قلت لست أنا المسيح، بل إنى مرسل أمامه. 29- من له العروس فهو العريس، وأما صديق العريس، الذى يقف ويسمعه، فيفرح فرحا من أجل صوت العريس؛ إذًا فرحى هذا قد كمل. 30- ينبغى أن ذلك يزيد، وأنى أنا أنقص. 31- الذى يأتى من فوق هو فوق الجميع، والذى من الأرض هو أرضى ومن الأرض يتكلم، الذى يأتى من السماء هو فوق الجميع.” 32- وما رآه وسمعه به يشهد، وشهادته ليس أحد يقبلها. 33- ومَن قَبِلَ شهادته، فقد ختم أن الله صادق. 34- لأن الذى أرسله، الله يتكلم بكلام الله، لأنه ليس بكيل يعطى الله الروح. 35- الآب يحب الابن، وقد دفع كل شىء فى يده. 36- الذى يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذى لا يؤمن بالابن لن يرى حياة، بل يمكث عليه غضب الله.
ع25-26: فهم اليهود معموديتا يوحنا وتلاميذ المسيح على أنها إحدى صور التطهير والتوبة، وفى هذا لم يخطئوا بحسب فهمهم الذى لا زال مرتبطا بناموس العهد القديم، والذى كان يحوى شرائع للتطهير… ولكن المباحثة أو المجادلة كانت مقارنة بين معمودية تلاميذ المسيح الآخذة فى الازدياد، والتفاف اليهود حول المسيح، وبين معمودية يوحنا المعمدان وأتباعه، الآخذة فى النقصان من جهة أخرى. وفى هذه المباحثة، أغاظ اليهود تلاميذ يوحنا الذين ذهبوا بدورهم إلى يوحنا، عارضين عليه ما أثارهم فى أن الجميع يذهبون للمسيح عوضا عنه، طالبين من يوحنا الدفاع عن نفسه وعن معموديته الأسبق عن معمودية تلاميذ المسيح.
نسى تلاميذ يوحنا المعمدان شهادته الأولى فى عبر الأردن للسيد المسيح، وهو القائل بأنه غير مستحق أن يحل سيور حذائه (ص 1: 27)، وأنه ابن الله (ص 1: 34). فارتباطهم العاطفى، وتبعيتهم للمعمدان بمشاعرهم البشرية فقط، أوقعتهم فى الغيرة من انتشار كرازة المسيح.
ونحن هكذا نفعل فى بعض الأحيان، فحبنا لبعض الشخصيات وتعلقنا بها، قد يجعلنا نقع فى تحيز خاطئ لا يجعلنا نرى الحق، ونتبعهم فى كل شيئ حتى لو خالفنا المسيح ووصيته… أفلا نشارك تلاميذ المعمدان خطأهم حينذاك؟!
ع27-30: فى هذه الأعداد، يرد المعمدان على غيرة تلاميذه الغاضبة بنوع من التعليم الهادئ، الواضح والصريح أيضا، ولخص المعمدان تعليمه فى النقاط الآتية:
(1) أنه لا يستطيع أن يأخذ شيئا أو يدّعى حقا لم تعطه له السماء (ع27).
(2) تذكير تلاميذه بما سبق وقاله بأنه السابق للمسيح لتهيئة الطريق والنفوس، وليس هو المسيح.
(3) شتان الفرق بين العريس صاحب الخليقة والعُرس، والذى له العروس (نفوس المؤمنين)، وبين صديق العريس الذى يكفيه، فخرا وافتخارا، أنه صديق ساهم فى إعداد العروس للعريس دون أن يدعى أن له نصيبا فيها، ولهذا يعتبر أن فرحه قد كمل (ع29)، لأن الكنيسة كنيسة المسيح.
(4) يؤكد المعمدان هذا الفرق، إذ يعلن أن الوضع الطبيعى “أن ذلك” (المسيح) وملكوته ينبغى أن يزيـد لأنه وحـده صاحب الكرامة، وأنه هو ينقص ويتوارى، حتى يقدم أيضا كل من معه – تلاميذه – إلى المسيح صاحب العرس الحقيقى، وكأنه يقول: إذا أشرقت الشمس طغى نورها عل كل المصابيح.
طوباك أيها المعمدان، يا من استحققت أن تكون أعظم نبى من مواليد النساء. طوباك فى اتضاعك ووضوح الأمور بداخلك، فلم تسرق مجد الله لحسابك، ولم تأخذ شيئا لم يُعْطَ لك. فليتنا نتعلم منك ألا نعتقد أننا أصحاب الكرامة، بل مجرد خدام وعبيد… ننسب كل مجد وكرامة للرب وحده، فيكمل فرحنا بمن خلّصنا كما كمل فرحك أنت.
ع31: يستكمل المعمدان حديثه، موضحا الفرق بين السيد المسيح وأى مخلوق آخر حتى المعمدان نفسه. فأى إنسان هو أرضى، ومهما بلغ علمه ومعرفته فهى قاصرة لأنها أرضية، ولم تنكشف له السماء بكل أسرارها. ومهما تكلم، فإنه يتكلم بلغة الأرض القاصرة والناقصة عن فهم السماويات والتعبير عنها. هذا بخلاف المسيح الذى وحده “من فوق”، أى من الآب، وهذا سبب أنه “فوق الجميع”، لأن مصدره الآب وليس السماء فقط، وإلا كان أى ملاك مصدره السماء هو فوق الجميع أيضا.
ع32: المقصود أن المسيح يشهد بالحق الذى يعلمه ويعلنه. أما استخدام تعبير “رآه وسمعه”، فهو استخدام الروح القدس لتعبير بشرى حتى يقرّب المعنى، فالشهادة الحق التى يصدقها الإنسان، هى شهادة العَيان “بالرؤية والسمع”، وهى كناية عن صدق شهادة المسيح حتى لو لم يقبلها إنسان. وعبارة “وشهادته ليس أحد يقبلها”، هى نبوة عن رفض الكتبة والفرّيسيّين، والكثيرين من بعدهمٍ، ومجلس السبعين والكهنة لتعليم وفداء المسيح.
ع33-34: أى من قبل شهادة المسيح وصدقها‘ فقد آمن وأقر بأن الله صادق، لأن المسيح هو الله، ولأن المسيح هـو كلمـة الله والمُعْلِنُ للناس كلام أبيه، ولأنه من الله فلا يتكلم إلا بكلام أبيه… أما معنى “ليس بكيل يعطى الله الروح”، فهو أن الروح القدس أُعْطِىَ لكل الأنبياء بمقدار (مكيال) بحسب ما يحتمل السامع، وبحسب الظروف القائمة. أما بالنسبة للمسيح، فالروح القدس لا يُعْطَى بمكيال، بل إلى كل ملء الروح، لأن قياس ملء المسيح هو قياس الله ذاته، بمعنى آخر: لأن المسيح هو الله، فإنه لم يأخذ مقدارا من الروح القدس، فالروح القدس يملأه بالكمال كما أن الروح القدس يمتلئ من حكمة الابن بالكمال، وهذا تمييز آخر يضيفه المعمدان فى شهادته عن المسيح فى اختلافه عن باقى الخليقة، إذ هو خالقها.
ع35: “الآب يحب الابن”: سر جديد يكشفه لنا القديس يوحنا فى علاقة الثلاثة أقانيم، فالحب هو لغة الثالوث الأقدس…
كذلك توضح هذه الآية، بصورة غير مباشرة، لاهوت السيد المسيح وتثبته، فيقول الله: “مجدى لا أعطيه لآخر” (إش 42: 8). ولكن، أن يعطى كل المجد للابن “دفع كل شىء فى يده”، لأن الابن مساوٍ للآب فى الجوهر، وكل ما هو للآب هو للابن، وكل ما هو للابن هو للآب.
ع36: يختتم القديس يوحنا هذا الأصحاح بما يريد تأكيده، وتكلم عنه فى الأعداد (15، 16، 18)، فى أنه لا خلاص بدون الإيمان بالسيد المسيح، بل إن هذه الآية هى مفتاح وملخص الأصحاح كله.