التى أمسكت فى زنا –الإيمان بالمسيح
(1) المرأة الممسكة فى ذات الفعل (ع 1-11):
1- أما يسـوع، فمضى إلى جبل الزيتون. 2- ثم حضر أيضا إلى الهيكل فى الصبح، وجـاء إليه جميع الشـعب، فجلس يعلمهم. 3- وقدم إليه الكتبة والفريسيون امرأة أمسكت فى زنا. ولما أقاموها فى الوسـط، 4- قالوا له: “يا معلم، هـذه المـرأة أُمْسِـكَتْ وهى تـزنى فى ذات الفعل. 5- وموسى، فى الناموس، أوصانا أن مثل هذه ترجم. فماذا تقـول أنت؟” 6- قالوا هذا ليجربوه، لكى يكـون لهم ما يشـتكون به عليـه. وأما يسـوع، فانحـنى إلى أسـفل، وكان يكتـب بأصبعـه على الأرض. 7- ولمـا اسـتمروا يسـألونه، انتصب، وقال لهم: “من كان منكم بلا خطية، فليرمها أولا بحجر.” 8- ثم انحنى أيضا إلى أسـفل، وكان يكتب على الأرض. 9- وأما هم، فلما سـمعوا، وكانت ضمائـرهم تبكتهم، خرجوا واحدا فواحدا، مبتدئين من الشيوخ إلى الآخرين. وبقى يسـوع وحده، والمـرأة واقفـة فى الوسـط. 10- فلما انتصب يسـوع ولم ينظـر أحدا سـوى المرأة، قال لها: “يا امـرأة، أين هم أولئـك المشتكون عليك؟ أما دانـك أحد؟” 11- فقالت: “لا أحد يا سيد.” فقال لها يسوع: “ولا أنا أدينك، اذهبى ولا تخطئى أيضا.”
ع1: “أما يسوع… جبل الزيتون”: لم يشر القديس يوحنا لماذا مضى الرب إلى جبل الزيتون. ولكن، يمكن الاستنتاج، مما قاله القديس لوقا فى (6: 12)، إنه كان يخرج إلى الجبل، ويقضى الليل كله يصلى. أما جبل الزيتون، فيقع شرق أورشليم.
ع2: “فى الصبح”: أى ثانى أيام انقضاء العيد. وذهب إلى الهيكل ليكمل تعليمه للجموع، وجلس ككبار معلمى اليهود، يحدثهم عن كرازة الملكوت.
أخى الحبيب… ألا تلاحظ معى كيف كان أسلوب حياة السيد المسيح… ليس هناك وقتا لإضاعته، فبعد خدمة شاقة 4 أيام فى العيد مع الجموع، ثم سهر فى الصلاة، عاد للتعليم من جديد… إنه العمل الإيجابى الذى ينقصنا جميعا فى حياتنا، فنحن نهدر الكثير من أوقاتنا فى أشياء لا جدوى منها… أما الأشياء الأخرى، الباقية فى نفعها، واللازمة لخلاص نفوسنا، فلا نعطيها سوى الفتات…
أيها الحبيب… ليتنا نتذكر أن كل لحظة وكل دقيقة، سوف نعطى عنها حسابا…
ع3-5: قصة المرأة الزانية من القصص الشهيرة، والتى اهتم بذكرها القديس يوحنا. وقبل البدء فى الدخول إلى أحداثها، ننوه أن مفتاح القصة كلها فى (ع6)، حيث يوضح أن الغرض والدافع كانا شيئا واحدا، وهو الإيقاع بيسوع، وإيجاد سببا يشتكون به عليه، بصرف النظر عن المرأة وقصتها. أما ما حدث، فيمكن ايجازه فى الآتى.
(1) لم يكونوا فى حاجة لسؤال المسيح فالشريعة واضحة فى (لا 20: 10) و (تث 22: 22)، بأن الزانى والزانية، كلاهما يرجم حتى الموت، خاصة وأن هذه المرأة كانت فى “حالة تلبس”. فما الحاجة لسؤال المسيح إذن؟
(2) قدموا للمسيح نص ما قاله موسى، فهل يخالف الناموس، ويصبح كاسرا ومتعديا، مفضوحا أمام الشعب؟ أم يصدر حكما برجمها، وهو ليس له سلطان مدنى، إذ أن أحكام الإعدام من سلطان الدولة الرومانية، والتى كانت لا تجيز موت الزانية رجما فى القانون الرومانى. وبالتالى، إذا صرح المسيح برجمها، صار متعديا لسلطان قيصر؛ وهذا هو المأزق الذى دبره المشتكون.
(3) غلب الدهاء عليهم، وأرادوا استدراج السيد، ملقبين إياه “يا معلم”، وهو لقب كبير جدا، قاصر على طائفة معلمى الناموس المعتمدين (الربيين). فكان استخدامهم للفظ “معلم”، لا يعنى احترامهم، أو أنهم يعنوه، بل للايقاع به.
ع6: “انحنى إلى أسفل، وكان يكتب”: انحنى بهدوء، وكأن الأمر لا يعنيه.
وهذا الهدوء هو درس لنا فى سلوكيتنا من السيد المسيح، فالشر لا يواجَه بالردود السريعة المنفعلة، فهو أراد أن يمتص ثورتهم ومكيدتهم، ويقلل من غليانهم نحوه. فليتنا نتعلم كيف نقابل المكائد بالهدوء والصلاة، قبل الإدلاء بأى رأى…
أما ما كتبه المسيح على الأرض، فلم يذكره يوحنا، واختلف فيه الآباء المفسرون. وفيما يلى بعض الآراء:
(1) قد يكون كتب “من أخطأ فى وصية واحدة، صار متعديا لكل الوصايا. وهذا كتمهيد لما سوف يقوله لهم فى أنهم ليس لهم حق الحكم على أحد.”
(2) قد يكون كتب بعض الوصايا، التى كسرها معظمهم، وذلك بقصد التوبيخ لهم على غلاظة قلوبهم.
(3) قد يكون كتب ما سبق وقاله فى الموعظة على الجبل، ألا تدين حتى لا تدان…
(4) قد يكون كتب ما نطق به، أى: “من كان منكم بلا خطية فليرمها أولا بحجر.”
وكل هذه الآراء، تقبلها الكنيسة من باب التأمل والاستنتاج، وليس هناك رأيا قاطعا يمكن الأخذ به وحده.
ع7: استمر الإلحاح والسؤال، وقطع السيد ما كان يكتبه، وانتصب. وجاءت إجابته تمثل عمق الحكمة الإلهية، مقابل دهاء وخبث الشياطين. فالمسيح لم يبرئ المرأة ولم يدينها، بل أضاف على الناموس عمق وروح الوصية؛ إن كاسر الناموس لا يحق له أن يدين آخر بالناموس. فإذا لم يكن فيكم كاسرا للناموس، فليبدأ برجمها…
هذا ما قاله أيضا القديس بولس: “لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك لأنك أنت الذى تدين تفعل تلك الأمور بعينها ” (رو2: 1).
وهكذا يعطينا السيد درسا جديدا جميلا فى كيف تنجى الحكمة صاحبها من المكائد. ولكن علينا أولا الصلاة للروح القدس معطى هذه الحكمة، وثانيا الهدوء والتريث قبل الإجابة.
ع8: انحناء الرب يسوع هذه المرة، كان هدنة أعطاها كفرصة لانصراف الجمع، متفكرين فيما قاله، دون مواجهة جديدة. أما ما كان يكتبه، فقد أشرنا له فى (ع6).
ع9: يصور القديس يوحنا هنا، كيف كانت كلمات المسيح القليلة، مؤثرة وعاملة فى القلوب والضمائر. وكيف لا، وهى كلمة الله الحية الفعالة، المخترقة للنفس والمفاصل والعظام؟ وجاءت الاستجابة من الشيوخ أولا، لأن إدراكهم الروحى أعلى، ثم تبعهم الشباب تاركين الحجارة من أيديهم، متذكرين تعدياتهم وخطاياهم فقط. وخلا المشهد من الجميع، عدا السيد وحده والمرأة الزانية.
ع10-11: بدأ هنا السيد الحديث مع المرأة، وهى فى حالة لم تكن تسمح لها أن تبدأ الكلام أبدا، من خزيها وإحراجها…
ولكن، أليس هذا قلب المسيح، الذى نصلى له فى أوشية المرضى: “يا رجاء من ليس له رجاء، ومعين من ليس له معين، عزاء صغيرى القلوب”؟
إنه قلب الحب والمغفرة، ودائما يمد يده لمنكسرى القلوب.
وبدأ يسألها عن المشتكين الذين انصرفوا، وهو العالم بانصرافهم، ولكنه يريد أن يشيع فيها الاطمئنان. إن من أرادوا موتها، لم يعودوا يطلبونها. وعندما أجابته، قال لها: وإن كنت أنا الإله الديان، وإن كنت الوحيد الذى بلا خطية، فأنا أيضا لا أدينك. ولكن، لا تعودى تخطئى. فليس معنى غفران الله هو الاستباحة والعودة للخطية، بل معناه أن مراحم الله تفتح فرصة للتوبة أمام الخاطئ الذى عليه أن يستغلها.
أخى الحبيب… لعلنا نخرج من هذه القصة، بكل أحداثها، بدرس واحد هام، هو ألا ندين أحدا، واضعين قول المسيح أمام أعيننا، إن كان أحد منا بلا خطية، فليدن أخوه أولا… فلنلق إذن بحجارة الإدانة التى فى أيدينا بعيدا، لأننا تحت الحكم عينه، ولنطلب من أجل إخوتنا، بدلا من إدانتهم، لعل الله يرحمنا أيضا معهم.
(2) المسيح نور العالم (ع 12-20):
12- ثم كلمهم يسوع أيضا قائلا: “أنا هو نور العالم، من يتبعنى فلا يمشى فى الظلمة، بل يكون له نور الحياة.” 13- فقال له الفريسيون: “أنت تشهد لنفسك، شهادتك ليست حقا.” 14- أجاب يسوع وقال لهم: “وإن كنت أشهد لنفسى، فشهادتى حق، لأنى أعلم من أين أتيت وإلى أين أذهب. وأما أنتم، فلا تعلمون من أين آتى ولا إلى أين أذهب. 15- أنتم حسب الجسد تدينون، أما أنا فلست أدين أحدا. 16- وإن كنت أنا أدين فدينونتى حق، لأنى لست وحدى، بل أنا والآب الذى أرسلنى. 17- وأيضا فى ناموسكم مكتوب: إن شهادة رجلين حق. 18- أنا هو الشاهد لنفسى، ويشهد لى الآب الذى أرسلنى.” 19- فقالوا له: “أين هو أبوك؟” أجاب يسوع: “لستم تعرفوننى أنا ولا أبى، لو عرفتمونى لعرفتم أبى أيضا.” 20- هذا الكلام قاله يسوع فى الخزانة وهو يعلم فى الهيكل، ولم يمسكه أحد، لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد.
مقدمة:
حتى لا نفقد تتابع الأحداث، فإن الحديث هنا لا زال مرتبطا بنهاية عيد المظال. ففى اليوم الأخير للعيد، استخدم المسيح طقس الماء، وعبّر عن نفسه بأنه هو الماء الحى ومصدره. وعرض القديس يوحنا بعض الأحداث العرضية، مثل: انقسام اليهود، محاولة القبض على يسوع، ثم المرأة الخاطئة والحديث القادم فى ثانى يوم بعد انتهاء عيد المظال، ولا زال العيد ماثلا وراسخا فى أذهان مستمعى تعليم السيد، فأخذ مثلا جديدا من طقوس العيد، واستكمل حديثه.
ع12: أيضا يربط السيد هنا كلامه بما سبق وقاله، أنه الماء الحى (ص7: 38). فكما نادى عن نفسه حينذاك، ينـادى اليوم، مقدما نفسه كنور العالم، مستخدما أيضا أحد طقوس ورموز العيد، وهو طقس النور. فكان فى الهيكل – الرواق الخارجى – أربعة أعمدة عالية جدا، وكل عمود يحمل أربعة فتائل تضاء فى عيد المظال، فتعطى نورا عظيما. وكان هذا الطقس يرمز إلى الله، نور العالم، وإلى تذكار عمود النور الذى أرسله الله فى البرية لقيادة شعبه ليلا فى برية سيناء.
فينادى المسيح مرة أخرى معلنا نفسه: “أنا هو نور العالم”… لاحظ أيها القارئ العزيز، أنه عندما كان الكلام عن المن، قدم المسيح نفسه على أنه: الخبز الحقيقى، و خبز الحياة، والخبز الحى (ص 6: 32 و35 و48 و51). والآن، الحديث عن نور العيد، فيقدم نفسه كنور حقيقى للعالم. وكأن المسيح يقول أن كل رموز الماضى الباهتة، قد صارت اليوم حقيقة لامعة فى ابن الإنسان بتجسده الذى تمت فيه كل الرموز. ولنلاحظ بعض المعانى الروحية فى هذه الكلمات:
(1) بكونه نور العالم: صار كل ما عداه أو خارجه ظلاما.
(2) بكونه نور العالم: صار مصدر الإرشاد الوحيد للنفس التائهة فى الخطايا.
(3) بكونه نور العالم: منح أولاده أن يكون لهم نور حياة بداخلهم يميزوا به الأشياء، يعكس نوره لكل من حولهم.
(4) مع أنه نور العالم: ترك للإنسان الحرية فى أن يتبعه أو لا يتبعه بإرادته.
والكنيسة، أيها الحبيب، حرصت على أن تذكّر أبنائها دائما بكل هذه المعانى فى صلاة باكر اليومية من الأجبية، فنقرأ الأصحاح الأول من إنجيل يوحنا، الذى يصف المسيح بأنه النور الذى أضاء فى الظلمة. وكذلك نصلى فى القطع والتسبحة الصباحية: “أيها النور الحقيقى الذى يضئ لكل إنسان آت إلى العالم.” فليتك تتذكر دائما هذه الصفة فى إلهك، فتشرق نفسك بنوره الإلهى…
ع13: استند الفريسيون إلى أن شريعة موسى تطلب شاهدين لإثبات الدعوى، ولا تقبل شهادة الإنسان عن نفسه. وبهذا، عللوا رفضهم لقبول فكر المسيح، وقوله بأنه نور العالم.
ع14: فى (ص 5: 31)، يقول المسيح: “إن كنت أشهد لنفسى فشهادتى ليست حق… الذى يشهد لى هو آخر…” قاصدا شهادة الآب للابن.
أما هنا، وقد قربت أيام تجسد المسيح، ولم يبق إلا زمنا يسيرا، بدأ يعلن عن نفسه بقوة ووضوح، ويوضح أن شهادته لنفسه هى حق، لأنه هو نفسه الحق، وليس للظلمة أن تحكم على النور، فلقد سبق وشهد المعمدان لى، كذلك الآب يشهد لى، وأيضا أعمالى. أما الآن، فأنا أشهد لنفسى، وشهادتى حق، ولن تقبلوها أو تفهموها، لأنكم لا تدركون سر التجسد، فلا تعلمون من أين أتيت، ولا تعلمون إلى أين أذهب بعد ذلك، قاصدا وجوده الأزلى فى حضن الآب، ثم صعوده للسماء.
ع15: “أنتم حسب الجسد تدينون”: لها معنيان:
المعنى الأول: إنكم تدينون حسب أهوائكم الجسدية وميولكم. وذلك لأنهم أدانوا المسيح، واعتبروه كاذبا، عندما قالوا لا نقبل شهادتك.
المعنى الثانى: إنهم يحكموا بحسب رؤيتهم الجسدية لشخص المسيح، ومعرفة نسبه ووطنه الأرضى. وهى رؤية قاصرة بحسب الظاهر، تخلو من البصيرة الروحية التى تدرك حقيقة جوهر المسيح الإلهى.
“أما أنا فلست أدين أحدا”: وذلك لأنه لم يأت ليدين العالم، بل ليخلصه (ص3: 17)؛ وقد دلل المسيح على ذلك أيضا بعدم إدانته للمرأة الزانية التى قدموها إليه.
ع16: أى وإن كنت لا أدين الآن، فإن المهمة الحالية هى تقديم الخلاص، لكن الدينونة من صفاتى اللاهوتية. ودينونته حق، لأنه هو الحق. ويعود ثانية السيد المسيح لربط نفسه بالآب فى وحدانية اللاهوت، فالدينونة هى حق الله، وقد أعطاها الآب للابن (ص5: 22) الذى سيدين كل من لا يقبل عمل خلاصه، أو يرفض وصيته ولا يعمل بها.
ع17-18: يقدم المسيح للفريسيين الرد على اعتراضهم عن عدم قبول شهادته فى (ع13) بأنه، وإن كانت شهادته لنفسه حقا، إلا أن هناك من يشهد ويؤكد ذلك، وهو الآب السماوى الذى أرسله، وبذله خلاصا للعالم (تث 17: 6).
ع19: سأل اليهود بخبث لإيقاع المسيح، فعندما تكلم عن أبيه السماوى فى (ص5: 18)، طلبوا أن يقتلوه. وهنا أيضا أرادوا اصطياده بكلمة، ولكن المسيح لم يجبهم بما سألوا، بل أظهر أن سبب عدم معرفتهم للآب جهلهم لشخصه، إذ هو الصورة المنظورة للآب غير المنظور؛ ولنراجع قولا للمسيح فى مكان آخر: “لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالا لم يعملها أحـد غـيرى لم تكن لهم خطية، وأما الآن فقد رأوا وأبغضونى أنا وأبى” (ص 15: 24 و25).
ع20: الخـزانة أحـد الأماكن فى الهيكل فى رواق النسـاء. واسـتخدم السـيد هذا المكان، لأنه كان أكثر الأماكن ازدحاما بالناس، لسبب تقديم النذور وما شابه. وبالرغم من شدة كلام المسـيح مع اليهود، فلم يستطع أحد القبض عليـه، لأنه وحـده المحدد لساعته، وليس بحسب رأْى أو مشورة إنسان.
يا إلهى… لعل كان لليهود عذرا لعماهم الروحى، وعدم تعرفهم عليك. ولكن، ما عذرى أنا الممسوح بالروح القدس. ما اقبح ذنبى عندما أتركك أيها النور الحقيقى، وأسقط فى ظلمة الخطية. نعم، أنا بلا عذر. ولكنى أعود وأشكرك، لأنك جعلت فى كنيستك من يسندنى ويقيمنى، ويقرأ لى حِلا بالمغفرة، فتنفتح الأعين ثانية على بهاء نورك الذى لا يُحد…
يا إلهى… لا تجعل معرفتى لك على مستوى العقل والنظريات، بل أريد معرفة الاستنارة الكاملة، أيها النور الحقيقى الذى يضئ لكل إنسان آت إلى العالم.
(3) دينونة عدم الإيمان بالمسيح (ع 21-29):
21- قال لهم يسوع أيضا: “أنا أمضى، وستطلبوننى وتموتون فى خطيتكم، حيث أمضى أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا.” 22- فقال اليهود: “ألعله يقتل نفسه، حتى يقول حيث أمضى أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا؟” 23- فقال لهم: “أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم. 24- فقلـت لكم إنكم تموتـون فى خطاياكم، لأنـكم إن لم تؤمنـوا أنى أنـا هـو، تموتون فى خطاياكم.” 25- فقالوا له: “من أنت؟” فقال لهم يسوع: “أنا من البدء ما أكلمكم أيضـا به. 26- إن لى أشياء كثيرة أتكلم وأحكم بها من نحوكم، لكن الذى أرسـلنى هـو حـق، وأنا ما سمعته منه فهذا أقوله للعالم.” 27- ولم يفهموا أنه كان يقول لهم عن الآب. 28- فقال لهم يسوع: “متى رفعتم ابن الإنسان، فحينئذ تفهمون أنى أنا هو. ولست افعل شيئا من نفسى، بل أتكلم بهذا كما علمنى أبى. 29- والذى أرسلنى هو معى، ولم يتركنى الآب وحدى، لأنى فى كل حين أفعل ما يرضيه.”
ع21-22: الحوار المتكرر يعود مرة أخرى، من ناحية قصد المسيح شئ وفهم اليهود شئ آخر. والآية 21، تطابق فى معناها ما جاء فى (ص7: 33-34)، والمعنى هو أنكم سوف تموتون فى خطية عدم الإيمان بالابن، وستطلبون وتنتظرون مسيحا أرضيا بحسب هواكم، ولن تجدوا. وبسبب عدم إيمانكم، فلن تقدروا أن تدخلوا ملكوت السموات (ع22). أما اليهود، فبنفس السخرية المعهودة، وانغلاق الرؤية الروحية، لم يفهموا القصد الإلهى، بل عبروا عن عماهم الروحى، وبغضهم للمسيح، بأن الحل الوحيد لفهم كلامه، هو إنه مزمع أن يقتل نفسه، وهو المكان الوحيد الذى لا يستطيعوا الذهاب إليه، أى “الجحيم”.
ع23-24: يوضح السيد المسيح هنا السبب والداء والفرق بين كلمتى “أنا” و “أنتم” فى الآية السابقة، وهو الخلاف بين كل ما هو سمائى روحى، وبين ما هو أرضى زمنى مرتبط بأمجاد العالم التى لا أطلبها. و (ع23) يكمل المعنى فى (ع14) من نفس الأصحاح: “أعلم من أين أتيت و إلى أين أذهب”، وكلتا الآيتين إشارة واضحة لتجسد المسيح ونزوله من السماء وطبيعته اللاهوتية الأزلية. ويقدم المسيح مرة أخرى سبب هلاكهم، وهو عدم إيمانهم به!!!
سيدى الحبيب… أثار حديثك مع اليهود فى نفسى سؤالا محيرا ومخيفا: هل أنا أرضى؟ أم أنا سماوى؟ هل أستطيع أن أكون معك حيثما تكون، هناك فى بيت أبيك، أم لا أستطيع؟ لقد أعطيتنى، مجانا، نعمة الميلاد السمائى فى سر المعمودية. ولكن، لا زلت أجد أن ما بداخلى متجها إلى أسفل، حيث أمجاد العالم وزيفه، ناسيا عظم دعوتك لى، أن أكون من فوق كما أنت… إلهى، أخاف من نفسى على نفسى، فلا تسمح يا سيدى أن أنزلق لأسفل بل اجذبنى إلى فوق كما وعدت: “وأنا إن ارتفعت عن الأرض، أجذب إلىّ الجميع”، واجعل كل اشتياق قلبى نحوك أنت وحدك.
ع25: لم يكن غرض الفريسيين من سؤالهم: “من أنت؟” هو الاستيضاح، بل الاصطياد. أما المسيح، فأجاب: “أنا من البدء ما أكلمكم أيضا به”… أى سبق وأعلنت من أكون: “أنا الخبز النازل من السماء”… “أنا الماء الحى”… “أنا نور العالم”… “أنا من تشهد لى أعمالى”… “أنا من يشهد لى الآب”… وهكذا… أى أنا المسيح مخلص العالم. ولكن، هل هناك من يفهم، أو يقبل، أو يؤمن؟!
ع26-27: “لى أشياء كثيرة”: يعلن المسيح أنه وحده العالِم، ووحده الديان. فإذا كنت أتكلم من جهتكم بأشياء، فكلها حق، لأننى الوحيد العالِم بما فى قلوبكم. وإن كنت أحكم عليكم، فحكمى حقيقى وعادل. ولكنى أيضا لا أحكم ولا أتكلم من نفسى، فإنى أقول ما يقوله الآب أيضا، لأنى أنا والآب واحد، وهو الذى أرسلنى. ويضيف القديس يوحنا فى (ع27) إيضاحا أن المسيح كان يشير للآب هنا، دون أن يفهم اليهود قصده.
ع28: ينفى المسيح هنا أى احتمال لليهود فى التعرف عليه قبل أن يرفعوه على الصليب. واستخدم المسيح كلمة “رفعتم”، ليؤكد مسئولية خاصته التى رفضته فى صلبه، وبعضهم سيفهم عند صلبه، لما سيصاحبه من أحداث وعلامات، مثل: “الظلمة”، و “خروج كثيرين من القبور”. وكلمة “رفعتم” أيضا تحمل هوان الصليب، والألم، ومجد الرفعة الذى تم بالفداء. وإشارة واضحة جدا لرمز الحية النحاسية التى رفعها موسى على خشبة لكى لا يموت كل من ينظر إليها (عد 21: 9). ويعود المسيح مرة أخرى ليؤكد طبيعة علاقته الوثيقة الفريدة بالآب، فى وحدة العِلم والاتصال، وسبق وأشار السيد إلى هذا كثيرا.
ع29: “الذى أرسلنى”: أى الآب، هو معى ولم يتركنى. وهذا يكشف لنا سر الاتصال الدائم بين الآب والابن على مستوى الجوهر الواحد. فالابن، بتجسده، لم يترك حضن الآب ولم يفارقه، وكذلك الآب أيضا… وينهى المسيح بإضافة حقيقة لاهوتية جديدة، وهى الاتحاد أيضا على مستوى الإرادة؛ فكل ما يفعله الابن هو إرادة الآب، وكل ما يريده الآب، فهو معمول بالابن.
(4) ذرية إبراهيم ومفهوم الحرية (ع 30-41):
30- وبينما هو يتكلم بهذا آمن به كثيرون. 31- فقال يسوع لليهود الذين آمنوا به: “إنكم إن ثبتم فى كلامى فبالحقيقية تكونوا تلاميذى. 32- وتعرفون الحق، والحق يحرركم.” 33- أجابوه: “إننا ذرية إبراهيم، ولم نستعبد لأحد قط. كيف تقول أنت إنكم تصيرون أحرارا؟” 34- أجابهم يسـوع: “الحق الحق أقول لكم، إن كل من يعمـل الخطية هو عبد للخطية. 35- والعبد لا يبقى فى البيت إلى الأبـد، أما الابن فيبقى إلى الأبد. 36- فإن حرركم الابن، فبالحقيقة تكونون أحـرارا. 37- أنا عالم أنـكم ذرية إبراهيم، لكنكـم تطلبون أن تقتلـونى، لأن كلامى لا موضـع له فيكم. 38- أنا أتكلم بما رأيـت عند أبـى، وأنتم تعملون ما رأيتم عند أبيكم.” 39- أجابوا وقالوا له: “أبونا هـو إبراهيم.” قال لهم يسـوع: “لو كنتـم أولاد إبراهيم، لكنتـم تعملون أعمال إبراهيم. 40- ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلونى، وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذى سمعه من الله، هذا لم يعمله إبراهيم. 41- أنتم تعملون أعمال أبيكم.” فقالوا له: “إننا لم نولد من زنا، لنا أب واحد وهو الله.”
ع30-32: “آمن به كثيرون”: ولكن إيمانهم لم يكن كافيا، بل يعتبر مجرد قبول، بدليل حث المسيح إياهم فى الآية 31 بالثبات فى كلامه. وتدل الأعداد القادمة من نفس الأصحاح على انقلابهم السريع على المسيح.
“تعرفون الحق”: تدركون من أنا، فأنا هو “الطريق والحق والحياة” (ص 14: 6). وهذا الحق – أى أنا – هو الوحيد المحرر من عبودية الشهوات والخطية، بل المخلص الوحيد من عقوبة الخطية…
ما أحلى ألقابك أيها الحبيب المخلص… فأنت الحق، وكل ما سواك هو باطل. وأنت الحرية، وكل ما عداك، هو سجن حتى لو بأسوار ذهبية. فما أحلى أن تحررنا من ذواتنا واهتماماتها البالية الفانية، وتدعونا إلى الانطلاق والتمتع بحرية الحياة معك، حيث تصغر كل الأشياء، بل تنعدم، فلا يعود ينغص على النفس شئ، أو يسجنها فى شهواتها أو رغباتها المتدنية والبعيدة عنك.
ع33: أى إننا أبناء لإبراهيم الحر، والذى لم يكن عبدا لأحد، وبالتالى نحن أحرار… نلاحظ الآتى:
أولا: أنهم لم يفهموا ما قصده المسيح روحيا، بل انصرفوا لمعنى الحرية السياسى بأنهم ليسوا عبيدا لأحد، وكانت بنوتهم لإبراهيم موضع فخرهم الجسدى أمام الأمم.
ثانيا: أنهم، حتى على مستوى الفهم السياسى المادى، وقعوا فى مغالطة تاريخية، وهى أنهم كانوا مستعبدين بالفعل لممالك كثيرة، مثل بابل وأشور وبلاد اليونان وكذلك الحكم الرومانى المواكب لعصر المسيح. ولهذا الفهم القاصر والمغلوط، استنكروا على المسيح كيف يدعوهم للحرية… غير مدركين دعوة خلاصه؟!
ع34: “الحق الحق”: أسلوب تكرار للتأكيد، استخدمه المسيح كثيرا. والمعنى هنا، إنكم لا تدركون ما عنيته: بالحق يحرركم. ولهذا، فى إيضاح جديد، يواجه المسيح اليهود بما قصده، وهو أن كل إنسان غير تائب ويحيا حياة الخطية، هو عبد وليس حرا، بصرف النظر عن نسبه أو انتسابه أو وصفه السياسى؛ فالمعمودية والحرية مقياسها عند الله بخلاف الناس، فهى إما الخطية أو التوبة. وبالتالى، كم من قديسين سُجنوا وتم نفيهم، ولكن حياة البر والتوبة جعلت منهم أحرارا…
“عبد للخطية”: هذه الكلمة تصور لنا بشاعة سلطان الخطية، كسيد شرير، يتحكم فى إرادة الإنسان، الذى لا يملك حولا ولا قوة أمام هذا السيد. والتوبة الصادقة، والعودة إلى حضن الله، هما طريق الحرية الحقيقى من نير هذه العبودية.
ع35: أما النتيجة، فإن العبد المستعبَد لهذا السيد الشرير، لا يبقى فى البيت طالما الخطية هى سيده، فلا مكان للعبيد بين الأبناء. أما الابن، أى المسيح، فبقائه شئ طبيعى، فهو الوارث لكل بيت أبيه…
ع36-37: “إن حرركم الابن”: وإن كان المسيح هو مصدر الحرية الحقيقية الوحيد، إلا أنه وضعها فى أسلوب شرطى: “إن حرركم”. وهذا الشرط لا يعود على مشيئة المسيح فى منح الحرية، لكن يعود على اليهود فى قبولهم لهذا الخلاص من عدمه، بمعنى آخر: لديكم الحرية الحقيقية الممنوحة من الابن، فهل تقبلوها؟
أما من الناحية الجسدية (ع37)، فأنا أعلم أنكم ذرية إبراهيم. ولكن هذه البنوة الجسدية صارت قاصـرة جـدا، ولا تعنى شيئا عند الله، بدليل عدم قبولكم لكلامى وإيمانكم به، بل بدلا من هـذا – وأنا العالم لفكر قلوبكم – تطلبون موتى؛ وقد كرر المسيح هذا الكلام فى (ص 7: 19) من حيث رغبتهم فى قتله، وعبارة “كلامى لا موضع له فيكم”، تقابل ما قاله فى (ع31) “إن ثبتم فى كلامى”، وهذا معناه أن المسيح كان يعلم أولا أنهم لم ولن يثبتوا فى كلامه!
ع38: “أنا أتكلم بما رأيت عند أبى”: (راجع 5: 19-20) “وأنتم تعملون”: أى أن المسيح هنا ينكر بنوتهم لإبراهيم، وينسب بنوتهم للشيطان، فطلبهم قتله هو مشيئة الشيطان نفسه, وبالتالى، ليس لهم أن يدّعوا إنهم أبناء إبراهيم، طالما أن عملهم يتمشى مع مشيئة أب آخر، وهو إبليس.
ع39-40: يلفت السيد المسيح نظرنا هنا إلى مبدأ هام، وهو أن الإنسان لا يُقَيّم بما يدعيه عن نفسه، ولكن بالأعمال التى يعملها. فمثلا، ليس كافيا أن نقول: إننا كنيسة تذخر بالقديسين. ولكن، هل لنا جهاد وأعمال آبائنا القديسين؟ ولهذا، فالمسيح ينكر على اليهود ثانية ادعاء بنوتهم لإبراهيم، بسبب أعمالهم التى تتنافى مع هذا الانتساب. والخلاف هنا، هو أن إبراهيم آمن ووثق فى كلام الله، وتبعه بكل قلبه. أما من يدعون إنهم أبنائه، فإنهم يرفضون كلمات الحق والحياة من فم الإله نفسه، بل يطلبون قتله.
ع41: إذ نفى المسيح على محدثيه بنوتهم لإبراهيم، مما أغاظهم جدا، لافتخارهم بهذا النسب، جاء ردهم فى نقطتين:
الأولى: إننا لسنا أولاد زنا، أى أنسابنا محفوظة إلى إبراهيم، بل إلى آدم، ولم نختلط بالأمم ولم نتزاوج منهم؛ وكان اليهود يعتزون دائما بحفظ سجلات أنسابهم عن ظهر قلب.
الثانية: إنهم رفعوا بنوتهم إلى الله مباشرة، وهو الأعلى من إبراهيم، وهو الآب الواحد لنا جميعا.
ملاحظة: بالرغم من هذا الافتخار بالبنوة الكاذبة، ونفى تهمة الزنا، إلا أن تاريخ الكتاب المقدس يخـبرنا أن هـذا الشعب كثـيرا ما زاغ وزنا جسـديا مع بنات الأمم وتزاوج منهم، وكذلك زنـا روحيا بترك الله، وعبادة آلهة الأمم على المرتفعات وتقديم ذبائـح لها (راجع نح 13: 23 ؛ إر 3: 6-10)، مما عرضهم لعقوبات الله التى كانت أصعبها أسرهم وتشتيتهم.
إلهى الحبيب… أخشى أن أعتقد فى نفسى باطلا إنى أدعَى لك ابنا، مشاركا اليهود فيما نسبوه لأنفسهم. فإن كانت حياتى حتى هذه اللحظة لا تخلو من خطايا، فلا تطفئ روحك القدوس وعطية الحياة بالمعمودية بداخلى. وإن كانت بنوتى لك قاصرة، فلتدم أبوتك لى كاملة… ولا تتركنى أبدا لنفسى.
(5) أبناء إبليس وصفاتهم (ع 42- 47):
42- فقال لهم يسـوع: “لو كان الله أباكم لكنتم تحبوننى، لأنى خرجت من قِبَلِ الله وأتيت، لأنى لم آت من نفسى، بل ذاك أرسـلنى. 43- لماذا لا تفهمون كلامى؟ لأنكم لا تقـدرون أن تسمعوا قـولى. 44- أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتّالا للناس من البدء، ولم يثبت فى الحق، لأنه ليس فيه حق. متى تكلم بالكذب، فإنما يتكلم مما له، لأنه كذاب وأبو الكذاب. 45- وأما أنا، فلأنى أقول الحق، لستم تؤمنون بى. 46- من منكم يبكتنى على خطية؟ فإن كنت أقول الحق، فلماذا لستم تؤمنون بى؟ 47- الذى من الله يسمع كلام الله، لذلك أنتم لستم تسمعون لأنكم لستم من الله.”
ع42-43: كما نفى المسيح بنوة اليهود لإبراهيم، يعود وينفى بنوتهم الروحية لله، مقدما الدليل على ذلك، وهو رفض اليهود للمسيح نفسه. ويقدم المسيح نفسه هنا، كما سبق وقدم أيضا أنه كلمة الله المتجسدة، فهو الخارج من عند الله – المتجسد – وبإرادة الآب لخلاص البشر. فعندما يرفض اليهود المسيح المتجسد، يرفضون الله نفسه. ويزيد المسيح لحديثه سببا آخر لرفض اليهود الإيمان به، وهو أن اليهود سمعوا كلمات المسيح بآذانهم الجسدية، فلم يفهموا قصده من البداية، وكان ينبغى أن يسمعوا حديثه بقلوبهم، فكلام الله يُقبل بالإيمان، وليس بالعقل القاصر أو الأذن الجسدية.
ع44: تعتبر هذه الآية من أقوى المواجهات التى واجه فيها السيد المسيح اليهود. ولم يكن الغرض هو التعدى على مشاعرهم، بقدر تبرئة الله وإبراهيم من هذا الشعب الغليظ القلب. وقصد بشهوات أبيكم إبليس هنا، هى رغبتهم فى قتله، فعادة ما يجتمع الأشرار مع الشيطان فى إرادة واحدة، فيصيروا بذلك أبناءا لإرادته. ويستطرد السيد حديثه فى وصف الشيطان بصفاته التالية:
(1) “قتّالا”: أى منذ دخول الشر قلبه، كانت غاية الشيطان الوحيدة هى الفتك بالناس وتضليلهم، من أجل هلاك نفوسهم. بل هو المصدر الوحيد لكل الصراعات والحروب، وإثارة الكثيرين على قتل إخوتهم وشعوبهم. واستخدم المسيح كلمة “قتّالا”، وليس قاتلا، ليوضح أن هلاك الناس هو عمل مستمر للشيطان، بل هدفه الوحيد من كل أعماله.
(2) “لم يثبت فى الحق”: عندما خلق الله الشيطان، كان ملاكا عظيما ذو رئاسـة، أى أن الله خلقه فى النـور والحق. أما هو، فبإرادته، لم يثبت فى هذا الحق، وتدنى إلى كل الشر بانفصاله عن الله. راجع قصة سقوط الشيطان (إش 14 ؛ حز 28: 12-19).
(3) “كذاب”: من أهم صفات الشيطان التى يضل بها الناس، كما أضل بكذبه أبوينا الأولين. وهذه الصفة تنتقل بالتبعية لأولاده الذين يحملون صفاته.
وهذا يوضح لنا جميعا خطورة خطية الكذب التى لا يهتم بها الكثيرون، بل لا يعتبروها خطية كبيرة، وأنها صارت من لوازم الحياة اليومية… ليتنا نراجع أنفسنا، ونتذكر كلمات المسيح المخيفة فى هذا الموضوع.
ع45: يعود السيد المسيح مرة أخرى لسبب عدم إيمان اليهود بكلامه، فهو يتكلم بالحق، ولكنهم أبناء الكذاب، فلا يفهمون ولا يصدقون كلماته.
ونأخذ هنا درسا جديدا من المسيح، أن الإنسان المسيحى لا يتكلم بغير الحق، بصرف النظر عن تصديق أو عدم تصديق سامعيه. ألم يكن هكذا الأنبياء الذين قتلهم اليهود؟ ألم يكن هكذا أيضا آباءنا الشهداء والقديسين الذين قدموا أرواحهم من أجل الحق؟
ع46: يقدم السيد هنا دليلا قويا على كل ما قاله سابقا، وخروجه من عند الآب وتجسده. وهذا الدليل قدمه فى صورة سؤال لليهود، وهو: من يمسك علىّ تعديا واحدا، سواء للناموس أو بأية خطية أخرى؟
وهذا دليل على سلوك السيد بالبر والطهارة والوداعة فى حياته، ودرسا لنا نحن أيضا أن نسلك كما سلك هو بتدقيق وحساب مستمر للنفس. فالإنسان ليس بما يدعى لنفسه، بل بسلوكه المطابق لما يعلنه من حق، كما سبق الشرح (ع 39-40).
ع47: يأتى المسيح هنا لنهاية جزء من حواره مع اليهود، ردا على الآية 41: “لنا أب واحد هو الله”. فبعد أن أثبت لهم عدم بنوتهم لإبراهيم بسبب أعمالهم، وأنهم أبناء الشيطان بإرادتهم الشريرة لمحاولة قتله، وكذبهم؛ يأتى لنهاية هذا الجزء، نافيا تماما بنوتهم لله أبيه، ومقدما هذا سببا لعدم سماع كلامه والإيمان به.
(6) اتهام المسيح أن به شيطان (ع 48-59):
48- فأجاب اليهود وقالوا له: “ألسنا نقول حسنا: إنك سامرى وبك شيطان؟” 49- أجاب يسوع: “أنا ليس بى شيطان، لكنى أكرم أبى، وأنتم تهينوننى. 50- أنا لست أطلب مجـدى، يوجد من يطلب ويديـن. 51- الحق الحق أقول لكم، إن كان أحد يحفظ كلامى، فلن يرى الموت إلى الأبد.” 52- فقال له اليهود: “الآن علمنا أن بك شيطانا. قد مات إبراهيم والأنبياء، وأنت تقول: إن كان أحد يحفظ كلامى، فلن يذوق الموت إلى الأبـد. 53- ألعلك أعظم من أبينا إبراهيم الذى مات؟ والأنبياء ماتوا، من تجعل نفسك؟” 54- أجاب يسوع: “إن كنت أمجد نفسى فليس مجدى شيئا، أبى هو الذى يمجدنى، الذى تقولون أنتم إنه إلهكم. 55- ولستم تعرفونه، وأما أنا فأعرفه. وإن قلت إنى لست أعرفه، أكون مثلكم كاذبا، لكنى أعرفه وأحفظ قوله. 56- أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومى، فرأى وفرح.” 57- فقال له اليهود: “ليس لك خمسون سنة بعد، أفرايت إبراهيم؟” 58- قال لهم يسـوع: “الحق الحق أقول لكم، قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن.” 59- فرفعوا حجارة ليرجموه. أما يسوع فاختفى، وخرج من الهيكل مجتازا فى وسطهم، ومضى هكذا.
ع48: لم يجـد اليهـود تهمة يوجهونها للمسيح أشد من أنه سامرى، وكانت العداوة بين الفريقين كبيرة (راجع ص 4). وأضافوا أيضا أن به شيطان، وكأنهم يردون عليه فيما اتهمهم به… وذلك غيظا منهم لما قاله عنهم. ولم يدللوا على هذه التهمة بشئ، لأنهم يعلمون جيدا إنه يهودى، ولم يمسكوا عليه خطية واحدة. ولهذا، فإن ما قاله اليهود عن المسيح، يعتبر فى عداد الشتيمة والإهانة.
ع49: أما المسيح، فلم ينشغل بالدفاع عن أصله ونسبه اليهودى، بل اهتم بدفع ورفض الاتهام الثانى، الذى يمس جوهر لاهوته وقداسة أبيه، معبرا أن ادعاء اليهود أن به شيطان، هو إهانة لكرامة أبيه السماوى التى لا يمكن قبولها، أو التغاضى عنها، لأن الذى فى المسيح هو الآب، فكيف يقولون عن الآب إنه شيطان؟!
ع50: “لست أطلب مجدى”: ليست مهمتى أن أنادى بمجدى الذى هو لى. فقد أتيت لاحتمال المهانة والعار، وليس للدفاع عن نفسى، فتلك مهمة أبى الذى يرى ويفحص كل شئ، وهو الذى يغير على مجدى ويطلبه، بل يدين أيضا كل من أهان مجد الابن الوحيد.
وما قاله المسيح هنا، هو تعزية لكل أبنائه الذين يعانون من اضطهاد أو إهانة من أجل اسمه. فكل ما يتحمله الإنسان من أجل المسيح، يعتبر مجدا مدخرا له، بل أيضا الله العادل يدين الأشرار بحسب صلاحه ودينونته العادلة.
ع51: يؤكد المسيح على حقيقة إيمانية، وهى أن كل من يسمع ويعمل بوصيته، لن يؤذيه الموت الثانى، بل له حياة أبدية. وقد سبق وقال نفس المعنى فى (ص 5: 24).
ع52-53: يعود القديس يوحنا ويبرز استمرار الفهم المادى الجسدى الحرفى من اليهود لكلمات المسيح، بدلا من الفهم الروحى لها. ودللوا، بفهمهم الخاطئ، على صحة اتهامهم السابق له بأن به شيطان. وكلمة “علمنا” معناها تأكيد، وهى تشبه تعبير رئيس الكهنة فى المحاكمة: “ما حاجاتنا بعد إلى شهود” (مت 26: 65). واستمروا فى تأكيد رأيهم بأن إبراهيم وكل الأنبياء والآباء قد ماتوا؛ فمن أنت حتى تُعطَى الحياة وعدم الموت؟ لأنهم لم يدركوا بالطبع أنه كان يتكلم عن العتق من الموت الأبدى، وليس الموت الجسدى.
ع54-55: يطابق (ع54) فى معناه ما جاء فى (ص5: 31)، ويضيف إن ادعاء اليهود بأن الله أبيهم، لم ينقلهم للمعرفة الحقيقية لله، الذى يعرفه هو معرفة ذاتية، من خلال وحدة الطبيعة والجوهر. ويؤكد المسيح أنه لو ادعى عدم معرفة الآب، يكون كاليهود كاذبا فى ادعائهم المعرفة به. والبرهان الذى يقدمه المسيح على معرفته بالآب، هو حفظ أقواله وطاعة مشيئته، وهى أبسط المبادئ الإيمانية التى لم يفعلها اليهود مع الله نفسه، وهى سبب دينونتهم، وعدم تعرفهم على شخص المسيح.
لاحظ أيها القارئ العزيز، أن السيد المسيح لم يزل يكرر أن الإيمان الحقيقى ليس هو الموروث، كإيمان اليهود‘ أو المتفاخَر به. ولكن الإيمان فى مفهوم الله، هو حفظ أقواله ووصاياه والعمل بها فى الحياة التى نحياها… فكم من أناس يدعون الإيمان، وبأعمالهم ينكرونه؟!
ع56: جاءت هذه الآية ردا على تهكم اليهود على المسيح فى (ع53) “ألعلك أعظم من أبينا إبراهيم؟”
أما المعنى: فهو أنه بالحقيقة أعظم من إبراهيم، فإبراهيم – مع مكانته عند اليهود – لم يكن أكثر من شاهدا لمواعيد الله… وهو بخلافكم، صدق الوعد، بل اشتهى أن يكون معاصرا لأحداث التجسد والفداء، فرآها بالإيمان، وصدق ففرح، وتهلل بالروح… وهذا ما عبر عنه القديس بولس فى (عب 11: 13) عندما قال: “فى الإيمان مات هؤلاء أجمعون وهم لم ينالوا المواعيد، بل من بعيد نظروها وصدقوها وحيوها.”
ع57-58: كالمعتاد، لم يفهم اليهود قصد المسيح، بل فسروا كلامه بأنه رأى إبراهيم بالجسد. ولهذا، تهكم اليهود ثانية قائلين: إنك لم تبلغ مبلغ الشيوخ – وهو خمسون سنة عند اليهود – فكيف تدعى رؤياك لمن مات منذ الفى عام؟! أما إجابة المسيح، فكانت تحمل الجانب اللاهوتى فى الإعلان عن نفسه، وتؤكد ما جاء فى (ص 1: 1) “فى البدء كان الكلمة”. والمعنى المقصود: وإن كنتم تتعجبون وتهزئون من أنى معاصر لإبراهيم، فالحقيقة، والتى سوف لا تقبلونها أيضا، أننى كائن قبل أن يكون إبراهيم؛ وكلمة “كائن” هذه، هى نفسها الكلمة التى استخدمها الله فى تقديم نفسه لشعبه، عندما قال فى (خر 3: 14) “أَهْيَهْ” كاسم له، ومعناها: “أنا كائن”. فالمسيح هنا يستخدم اسم الله المعروف عند اليهود. وقوله: “قبل أن يكون إبراهيم”، إشارة واضحة للاهوته الأزلى.
ع59: اعتبر اليهود ما قاله المسيح تجديف عقوبته الرجم. ولكن، لأن ساعته لم تأت بعد، خرج من الهيكل، واجتاز واختفى عن عيونهم، دون أن يتمموا قصدهم فى رجمه.
وهكذا يذكرنا المسيح ثانية أنه، فى كثير من الأحيان، يكون من الحكمة الهروب من الغضب، وليس مواجهته…