غسل الأرجل – الإنباء بخيانة يهوذا – إنكار بطرس
(1) خدمة المحبة وغسل الأرجل (ع 1 – 17):
1- أما يسـوع، قبل عيد الفصح، وهـو عالم أن ساعته قد جاءت، لينتقل من هذا العالم إلى الآب، إذ كان قد أحب خاصته الذين فى العالم، أحبهم إلى المنتهى. 2- فحين كان العشاء، وقد ألقى الشيطان فى قلب يهوذا سِمعان الإسخريوطى أن يسلمه، 3- يسوع، وهو عالم أن الآب قد دفع كل شىء إلى يديه، وأنه من عند الله خرج، وإلى الله يمضى. 4- قام عن العشاء، وخلع ثيابه، وأخذ منشفة وَاتَّزَرَ بها. 5- ثم صب ماءً فى مغسـل، وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ، ويمسحها بالمنشفة التى كان مُتَّزِرًا بها. 6- فجاء إلى سِمعان بطرس، فقال له ذاك: “يا سيد، أنت تغسل رجلىَّ؟” 7- أجاب يسوع وقال له: “لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع، ولكنك ستفهم فيما بعد.” 8- قال له بطرس: “لن تغسل رجلىّ أبدا.” أجابه يسـوع: “إن كنت لا أغسلك، فليس لك معى نصيب.” 9- قال له سِـمعان بطرس: “يا سيد، ليس رجلىّ فقط، بل أيضا يدىَّ ورأسى.” 10- قال له يسوع: “الذى قد اغتسل، ليس له حاجة إلا إلى غسل رجليه، بل هو طاهر كله، وأنتم طاهرون. ولكن، ليس كلكم.” 11- لأنه عرف مسلمه. لذلك قال: لستم كلكم طاهرين. 12- فلما كان قد غسل أرجلهم، وأخذ ثيابه واتكأ أيضا، قال لهم: “أتفهمون ما قد صنعت بكم؟ 13- أنتم تدعوننى معلما وسيدا، وحسنا تقولون، لأنى أنا كذلك. 14- فإن كنت، وأنا السيد والمعلم، قد غسلت أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجـل بعض. 15- لأنى أعطيتكم مثالا، حـتى كما صنعت أنا بكـم، تصنعون أنتم أيضا. 16- الحق الحق أقول لكم، إنه ليس عبد أعظم من سيده، ولا رسول أعظم من مرسله. 17- إن علمتم هذا، فطوباكم إن عملتموه.”
ع1: المقصود مساء الخميس، وهو عالم، بلاهوته، أن وقت تسليمه قد أتى. ويلاحظ هنا المقابلة مع ما ذكره القديس يوحنا سابقا، ومرارا، فى كل مرة كان يحاول اليهود القبض على يسوع، لم ينجحوا، بالرغم من وجوده وسطهم، وذلك لأن ساعته لم تأت بعد. أما هنا، فيعلن لنا معرفة المسيح للوقت المحدد، ويمهدنا نحن للمرحلة الأخيرة فى حياة المسيح على الأرض. واستخدم أيضا كلمة انتقاله بدلا من كلمة موته، كتعبير لاهوتى جديد، يوضح ماهية الموت الجسدى فى مفهوم أبناء الله، أنه انتقال من حياة لحياة أخرى. وهذا ما استخدمته الكنيسة فى صلواتها، إذ تقول: “لا يكون موت لعبيدك، بل هو انتقال.” ويختم القديس يوحنا كلامه بكشف السر وراء ما سوف يُقْدِمُ المسيح عليه من آلام وعذاب وصلب، وهو حبه الأبدى والغير محدود لخليقته المزمع أن يفديها.
ولعلنا نلاحظ أن القديس يوحنا هو أكثر من تكلم عن الحب الإلهى، وكأنه أكثر التلاميذ معرفة بقلب المسيح. وهذا حقيقى، فطبيعته الرقيقة جعلته أكثر التصاقا بالرب يسوع. فكان أكثر إدراكا لحبه، والتعبير عنه.
والدعوة لنا جميعا، لنتمتع بهذا الحب الفائض، والمتاح لكل منا، إذا أراد.
ع2: أى عند وقت عشاء الفصح اليهودى، وقبل إتمامه.
“ألقى الشيطان”: توضح لنا دور الشيطان فى الإثارة، والتحريض على إتمام الشر؛ ولكنه اختار النفس الضعيفة التى ستستجيب لمشورته. فهو يحاول مع الجميع، ولكن الإرادة الإنسانية مسئولة عن السقوط، أو المقاومة. ولعل القديس يوحنا يصور لنا أن المائدة الواحدة احتوت قلب الله المحب إلى المنتهى، وقلب الإنسان الشرير المزمع أن يسلمه.
ع3: يكرر القديس يوحنا كلمة “عالم” فى إشارات واضحة وقوية عن لاهوت المسيح. وتعبير “دفع كل شئ إلى يديه”: فيه معنيان:
الأول: هو السلطان الكامل للمسيح، والمساوى تماما لسلطان الآب.
الثانى: تمهيد لما سوف يقوم به الإله.
فبنفس هاتين اليدين، المدفوع لها كل سلطان الآب، سوف ينحنى السيد، ويغسل بهما أرجل التلاميذ.
“من عند الله خرج”: أى بتجسده الذى أخلى فيه ذاته، وأخفى مجده. ولكن خروجه ليس معناه أنه تركه، فهو متحد فيه باللاهوت.
“وإلى الله يمضى”: أى العودة إلى مجده فى حضن الآب. ولكنه أيضا لن يتركنا بعمله ورعايته لنا، وإن كان سيختفى عن عيوننا بجسده.
ع4-5: قام بعد إعداد العشاء، وقبل الشروع فى أكله، أخذ صورة العبد المتأهب لعمل متدنٍ، فيخلع ثيابه باتضاع ويربط وسطه بمنشفة، ليُقْدِمَ على عمل ليس لإنسان أن يفهمه أو العقل أن يستوعبه… أى البدء فى غسل أرجل تلاميذه، وهو عمل ترفضه النفس الإنسانية العادية.
التراب الذى فى الأرجل يرمز للخطايا، وغسلها بالماء يشير للمعمودية والتوبة، وذلك بيد المسيح التى ستصلب على الصليب وتفدى الإنسان.
ع6-7: قد يكون المسيح بدأ يغسل أرجل التلاميذ، الذين أخذتهم الدهشة دون تعليق منهم، إلى أن أتى إلى بطرس، أو قد يكون بدأ ببطرس – كرأى القديس اغسطينوس – الذى أبدى تعجبه ورفضه للفكرة، وعبّر عن ذلك بسؤال استنكارى: هل أنت، يا سيدى البار، تغسل أرجل خاطئ مثلى؟! وهذا يذكرنا بموقف المعمدان، عندما تمنّع عن عماد المخلّص عند ذهابه إليه. ولكن إجابة المسيح، فى الحالتين، كان فيها إصرار وحسم، لا يخلوان من رقة، لإتمام قصده. لأن ما أراده المسيح بغسل الأرجل، لم يفهمه بطرس فى وقته… ولكن، ما هذا الذى لم يكن يفهمه؟
الدرس الأول: هو الاتضاع. فإذا كان سيد العالم كله ومعلمه وخالقه وفاديه، انحنى ليغسل أوساخ الآخرين فى اتضاع حقيقى، يصحح مفهوم الرئاسة فى أذهان كل الناس، فكم بالحرى ينبغى أن نفعل نحن هكذا أيضا مع الآخرين.
الدرس الثانى: فهو عدم الإدانة. فإزالة الأوساخ معناها مساعدة الإنسان فى التخلص من الخطية، بأن يكون لنا عمل إيجابى معه، وليس الاكتفاء بالإشارة نحو اتساخه، كما فعل اليهود بالمرأة الممسكة فى زناها (ص 8: 1-11).
ولعظمة ما صنع السيد المسيح مع البشرية كلها فى شخص تلاميذه، رتبت الكنيسة فى صلواتها طقس لقان خميس العهد، الذى تعيد به لأذهاننا كل هذه الدروس، فيقف الكاهن أو الأسقف أو الأب البطريرك، ويأتزر – متشبها بسيده – بمنشفة، ويبدأ بغسل أرجل الشمامسة والشعب، ويساعده باقى الكهنة فى نفس العمل. فنتذكر ما عمله لنا السيد، ونفهم أيضا أن الله أقام الأساقفة والكهنة كرعاة وخدام، من أجل خدمة شعبه وتوبته فى المقام الأول.
ع8: ورغم ظهور فضيلة اتضاع بطرس وخجله فى هذا الرفض، ولكنها كانت فى غير محلها، لأنه لم يدرك المعنى الروحى. ولهذا، أوضح المسيح لبطرس أن ما يقوم به، ليس عملا اختياريا يحق لبطرس فيه أن يقبل أو يرفض، بل يتوقف عليه كل شئ. فهذا الغسيل يرمز للتطهير الآتى بدم المسيح، ومن يرفض ليس له نصيب مع المسيح نفسه، أى لا خلاص خارج دم المسيح.
ع9: فوجئ بطرس بإجابة المسيح، فما كان منه سوى أن طلب بالأكثر، أن يشمل الاغتسال جسده كله، معلنا أنه لا يريد أن يكون هناك شيئا واحدا يفصله عن المسيح.
ع10-11: “الذى قد اغتسل”: تعنى اغتسال المعمودية، المبنى على الإيمان بقدرة دم المسيح على التطهير من كل الخطايا. فمن اغتسل، لا يحتاج للاغتسال ثانية – أى إعادة المعمودية- ولكنه يحتاج لغسل رجليه فقط… وهذا ما تعلّمه أيضا الكنيسة لأولادها، فإن سر المعمودية لا يعاد، حتى لو ترك الإنسان الإيمان وعاد إليه مرة أخرى… أما عملية غسل الأرجل – أى سر التوبة والاعتراف- فالإنسان يحتاجها دوما، فالأرجل ترمز للنفس التى تحيا فى العالم وتتجول فيه، فتتسخ بكثير من الخطايا، وهى دائما فى حاجة لاغتسال التوبة.
ويضيف السيد المسيح، بعلمه السابق، إشارة خفية ليهوذا مسلمه، إذ أعلن طهارة التلاميذ كلهم دون واحد.
ع12: “أتفهمون”: مما لا شك فيه أن ما صنعه الرب، كان أبعد ما يكون عن تصور التلاميذ؟ ولولا حديث الرب الحاسم مع بطرس، ما كانوا سمحوا له بغسل أقدامهم، فاستخدم المسيح الأسلوب الاستفهامى كمقدمة لحديث تعليمى.
ع13: هى استكمال لهذه المقدمة فى تثبيت حقيقة، وهى أنه السيد المعلم الحقيقى، الواجب الاحترام والتقدير.
ع14-15: هنا يأتى جوهر التعليم لما قام به الرب يسوع. فإذا كان السيد والمعلم صنع هكذا، فكم بالحرى يصنع العبد مع أخيه… فإذا صنع العبد مع أخيه هكذا، لا يحسب له فخرا، إنما هو اقتداء بالمعلم الأعظم. ومن حسب نفسه فينا سيدا ومعلما وليس عبدا، فعليه أيضا أن ينحنى مغلوبا من حب المسيح له، واتضاعه العجيب فى غسل أرجل الجميع. والغسل هنا ليس حرفيا، بل يحمل فى مضمونه كل فضائل المسيحية من احتمال وبذل وإنكار للذات. وعندما يقول المسيح: “أنتم يجب عليكم”، صار هذا إلزاما لنا وليس اختيارا أو فضلا منا، أى أنها وصية واجبة التنفيذ، ولكنها تحتاج منا جميعا إلى إخلاء للذات وانسحاق حقيقى.
ع16-17: يؤكد الرب مرة أخرى أنه ما دام العبد ليس أفضل من سيده، فعليه ألا يخجل أو يستنكف من أن يقوم بما قام به السيد. ويعلن السيد المسيح أيضا تميّز المُرسِل عن الرسول، فى إشارة واضحة لعمل الخدمة فى كنيسته، فهو الراسل والداعى الخادم لخدمته، فصار على الخادم أن يتشبه باتضاع من أرسله فى خدمته، مع احتمال مخدوميه والصبر عليهم.
ويختم المسيح تعليمه هنا، بتوضيح الفرق بين أن يفهم الإنسان شيئا ويدركه، وبين أن ينفذه فى حياته، فالمكافأة والإكليل هنا يُحسبان، ليس لمن يعرف الوصية منذ حداثته (مت 19: 20)، بل لمن يجاهد ضد نفسه ليحيا بها.
(2) الإنباء بخيانة يهوذا (ع 18- 30):
18- لست أقول عن جميعكم، أنا أعلم الذين اخترتهم. لكن ليتم الكتاب، الذى يأكل معى الخبز رفع علىّ عَقِبَهُ. 19- أقول لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كـان، تؤمنـون أنى أنا هو. 20- الحق الحق أقول لكم، الذى يقبل من أُرْسِلُهُ يقبلنى، والذى يقبلنى يقبل الذى أرسلنى.” 21- لما قال يسوع هذا، اضطرب بالروح وشهد وقال: “الحق الحق أقول لكم، إن واحدا منكم سيسلمنى.” 22- فكان التلاميذ ينظرون بعضهم إلى بعض، وهم محتارون فى من قال عنه. 23- وكان متكئا فى حضن يسوع واحد من تلاميذه، كان يسوع يحبه. 24- فأوما إليه سِمعان بطرس أن يسأل من عسـى أن يكون الذى قال عنه. 25- فاتكأ ذاك على صدر يسوع وقال له: “يا سيد، من هـو؟” 26- أجاب يسوع: “هـو ذاك الـذى أغمس أنا اللقمة وأعطيه.” فغمس اللقمـة وأعطاها ليهوذا سِمعان الإسخريوطى. 27- فبعد اللقمة دخله الشيطان. فقال له يسوع: “ما أنت تعمله، فاعمله بأكثر سرعة.” 28- وأما هذا، فلم يفهم أحد من المتكئين لماذا كلمه به. 29- لأن قوما، إذ كان الصندوق مع يهوذا، ظنوا أن يسوع قال له: اشتر ما نحتاج إليه للعيد، أو أن يعطى شيئا للفقـراء. 30- فذاك لما أخذ اللقمة، خرج للوقت، وكان ليلا.
ع18: لا يوجـد أى اسـتثناء ليهوذا من الإرسـالية، ومن انطباق الكلام السـابق كله عليه (ع10). ويضيف أنه بالرغم من اختيار الرب ليهوذا – فالدعوة للجميع – لكن يهوذا اختار الخيانة بإرادته. ويشير المسيح لشاهد كتابى وهو ما جاء بالمزمور (41: 9) “الذى وثقت به، آكل خبزى، رفع علىّ عَقِبَهُ” فى أن ما قاله داود عن خيانة أخيتوفل له، هو أيضا نبوة عن خيانة يهوذا للمسيح. والمعنى أن من اشترك معى فى أكلى وشربى، كان يعد العدة للغدر والايقاع بى… والمعنى المباشر لـ”رفع علىّ عَقِبَهُ” هو: رفسنى بقدمه.
ع19: “أقول لكم الآن”: أى حتى لا تعثروا فىّ عندما تبدأ آلام الصليب بتسليم يهوذا لى، حيث سأبدو كإنسان لا حول له ولا قوة. بل عندئذ، تتذكرون ما سبق وكلمتكم به، فى أنى أنا هو المسيح من جهة… وأن هذا قد تنبأت به أن يحدث، من جهة أخرى.
ع20: الكلام هنا عن إرسالية التلاميذ. فالمسيح هنا، جعل كرامة الخادم من كرامته نفسه، فالذى يقبل خادم المسيح، كأنه قبل الآب والابن معا. والذى يرفض الخادم المرسَل، يرفض الذى أرسله وهو الله عينه (راجع مت 10: 14؛ مر 6: 11؛ لو 9: 5).
ع21: “اضطرب”: تفيد بوضوح علامات عدم الارتياح على وجه المسيح، نتيجة تأمله فى خيانة أحد أحبائه له، وهو يهوذا، وَعِظَمَ بشاعة هذه الخطية، التى جعلت طبيعة المسيح المقدسة تقشعر، من مجرد ذكرها وإنباء التلاميذ بها… وأكد المسيح نبوته بقوله: “الحق الحق”، لأنه يعلم تماما صعوبة تصديق التلاميذ لما ينبئ به من خيانة أحدهم له.
ولعلنا نتأمل هنا فيما تفعله خطايانا اليومية فى شخص الرب يسوع، أو فى الروح القدس الساكن فينا… كم من مرة نحزنه كل يوم؟! وكم مرة نرضيه فى حياتنا كلنا بالتوبة الحقيقية والإقلاع عن الخطية؟
ع22-24: أخذت الدهشة والتعجب والحيرة التلاميذ جميعا، بل كاد أن يكون كلام السيد المسيح كالصاعقة الغير قابلة للتصديق، فحتى وإن أتت الخيانة، فكان بعيدا عن أذهانهم تصور أن يكون أحدهم مصدرها. وهذا يوضح لنا مدى دهاء ورياء يهوذا، الذى خدع به الجميع. ولما اشتدت الحيرة بلا جواب، أشار بطرس إلى يوحنا، القريب من حضن المسيح، ليسأله من يكون هذا؟!
“كان يسوع يحبه”: عبارة استخدمها القديس يوحنا للإشارة عن نفسه، وأخفى اسمه اتضاعا، على أن يفهم القارئ قصده. وعلينا أن نوضح أن حب المسيح لم يكن فيه محاباه أو تمييز لتلميذ عن آخر، بل بقدر ما يسعى الإنسان للأخذ، يعطى المسيح من حبه، فلقد كان يوحنا أكثر التصاقا من غيره بالمسيح، فصار أكثر تمتعا أيضا بهذا الحب من غيره.
حقا، إن من معجزات حب المسيح للإنسان، أن كل من يحب المسيح حبا حقيقيا، يشعر أن السيد المسيح كله ملكا خاصا له… حقا، ما أجملك يا رب.
ع25-26: استجاب القديس يوحنا لإشارة بطرس الرسول، وسأل المسيح، الذى بدلا من أن يجيب باسم يهوذا، استخدم إشارة، حرصا منه على عدم إحراجه وسط التلاميذ. والأعجب، أن الإشارة التى استخدمها المسيح، وهى غمس لقمة فى طبق به مزيج من عصائر الفواكه والممزوجة بالنبيذ أو الخل، وإعطائها ليهوذا، كانت لا تُستخدم إلا كرمز لإكرام الضيف العزيز، أو الابن الأكبر المقرب للأب… وكأن المسيح يقدم ليهوذا فرصة أخيرة، باعتباره عزيزا عليه ومقربا منه، وكأنه يقول له: ليتك لا تخطئ هذا الخطأ الكبير. ولكن، دون أن يتدخل فى إرادته.
ع27: “دخله الشيطان”: كانت المؤامرة والاتفاق مع رؤساء الكهنة قد تمت (راجع ع2)، ولكن معنى دخله الشيطان، أن الشيطان أحكم القبض على إرادة يهوذا، ولم يعد لديه أى تردد فى تسليم شخص الرب. وهذا ما علمه الرب، فاحص القلوب ومحدد الأزمان، فأعطى الإذن بتسليم نفسه عن طريق الخائن، ليؤكد أنه صاحب السلطان الوحيد فى أن يضع نفسه وأن يقيمها.
ع28-29: ولما كان يهوذا حاملا للصندوق، فأقصى ما وصل إليه فهم التلاميذ فى ذلك الوقت من حديث المسيح له، هو تكليفه بأن يبادر بشراء احتياجات العيد قبل الازدحام، أو أن يقدم نصيبا من المال لخدمة الفقراء.
وهذا يعلمنا نحن ألا ننسى خدمة الفقراء واحتياجاتهم من أموالنا، التى هى عطية الله، والمودعة لدينا بصفة الأمانة. فلا تغلق قلبك أيها الحبيب عن احتياجات أخ لك فى المسيح، كان محتملا أن تكون أنت مكانه.
ع30: “أخذ اللقمة”: وهى لقمة من عشاء الفصح، وليس من العشاء الربانى والأفخارستيا. وهذا ما تعلم به كنيستنا، من أن يهوذا، الذى اشتعل الشر فى قلبه، قام مسرعا ليتمم مؤامرته، ولم يحضر مع باقى التلاميذ مائدة العشاء الربانى. ولهذا، فصورة العشاء الربانى الطقسية بالكنيسة، تصور أحد عشر تلميذا، وليس اثنا عشر.
(3) وصية المحبة (ع 31-35):
31- فلما خرج، قال يسوع: “الآن تمجد ابن الإنسان، وتمجد الله فيه. 32- إن كان الله قد تمجد فيه، فإن الله سيمجده فى ذاته، ويمجده سريعا. 33- يا أولادى، أنا معكم زمانا قليلا بعد. ستطلبوننى، وكما قلت لليهود، حيث أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا، أقول لكـم أنتـم الآن. 34- وصية جديدة أنا أعطيكم، أن تحبوا بعضكم بعضا. كما أحببتكم أنا، تحبون أنتم أيضا بعضكم بعضا. 35- بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذى، إن كان لكم حب بعضا لبعض.”
ع31-32: يبدأ المسيح هنا حديثا طويلا، يمتد حتى نهاية الأصحاح السابع عشر.
“الآن”: أى منذ خروج يهوذا، بدأت قصة تمجيد الابن. والمقصود بالمجد هنا، هو مجد اتضاعه وحبه للبشر الذى بذل نفسه فيه حتى الموت. وهو مجد طاعة الابن للآب فى إخلاء ذاته بالكامل. وأيضا مجد الصليب الذى لا يفهمه العالم، وهو مجد يسبق مجد القيامة والصعود، والعودة لمجده الحقيقى بجلوسه على عرشه السمائى، والمُخْفَى مؤقتا بتجسده.
“تمجد الله فيه”: تعنى أن مجد الابن مرتبط بمجد الآب. فالآب يتمجد بالابن، لأن قصد الآب وإرادته تَمَّا بفداء الابن. ولما كان مجد الآب قد تم بواسطة الابن، الذى ظل يعلن مجد الآب طوال تجسده، وأعلنه بالأكثر وقت فدائه، فأيضا سيعلن الآب كل مجد الابن الذى له والمُخْفَى عن أعين الجميع؛ ويبدأ هذا الإعلان سريعا مع أحداث الصليب:
أولا: بتحقيق كل النبوات فيه، والتى كان هو موضوعها ورجائها.
ثانيا: بالأحداث المعجزية، مثل: ظلمة السماء وقت الصلب، وانشقاق حجاب الهيكل، وخروج الكثير من الأموات من قبورهم. وهى كلها إعلانات لمجد الابن، أكثر منها أحداث إعجازية.
ع33: “يا أولادى”: إذ جاء الوقت الصعب على التلاميذ، يعلن المسيح عن قلبه الأبوى الحانى نحو تلاميذه، فيخاطبهم ب”أولادى”، لما فى هذا النداء من إحساس بطمأنينة الابن لوجود ورعاية أبيه. ثم يبدأ فى الإشارة لما هو آت، وإلى اقتراب فراقه عنهم، وأن ما هو قادم عليه يجب أن يجوز فيه وحده، ولا يستطيع أحد أن يشاركه أو يتبعه فيه.
ع34-35: جعل المسيح المحبة هى السمة التى تميز تلاميذه، وكل من يتبعه من رعاياه، أمام العالم كله، حتى دون السؤال عن اسم أو هوية. فيرى الناس محبة المسيحين، فيعلموا مَنْ هُمْ ولمن ينتسبون. ولكن، ما القصد بأنها وصية جديدة، بالرغم من أن الله أوصى أيضا بالمحبة فى العهد القديم؟ الجديد فى وصية المحبة، هى بُعدها وعمقها، فهى لم تعد وصية أو فرض، بل هى حياة تسلمها كل المسيحين من إله أحب حتى الموت، وبذل ذاته، الذى انحنى يوما وغسل أقداما، ولم تكن له راحة فى جسده من أجل راحة من حوله، فهى نموذج جديد وفريد، تعدّت مستوى المحبة للقريب، إلى مستوى محبة العدو والمبغض (مت5: 44). وهى محبة لا يستطيع الإنسان الطبيعى العادى أن يصل إليها، بل المسيحى الثابت فى إلهه فقط، ومن له شركة كنسية حية من خلال أسرار الكنيسة، وخاصة التناول من جسد الرب ودمه الأكرمين.
(4) الإنباء بإنكار بطرس (ع 36 – 38):
36- قال له سِمعان بطرس: “يا سيد، إلى أين تذهب؟” أجابه يسوع: “حيث أذهب، لا تقدر الآن أن تتبعنى، ولكنك ستتبعنى أخيرا.” 37- قال له بطرس: “يا سيد، لماذا لا أقدر أن أتبعك الآن؟ إنى أضع نفسى عنك.” 38- أجابه يسوع: “أتضع نفسك عنى؟! الحق الحق أقول لك، لا يصيح الديك، حتى تنكرنى ثلاث مرات.”
ع36: سـؤال بطرس عن مكان ذهـاب المسيح، هو اسـتفسار عما قاله المسيح نفسه، فى (ع33)، عن ذهابه إلى مكان لا يستطيع أحد أن يأتى إليه. فأكد المسيح نفس القول مرة أخرى، مبينا أن الجزء الأول، والمتعلق بالفداء وطريق الآلام، سيجوزه المسيح وحده، ولا يستطيع بطرس، بالرغم من محبته، أن يشارك أو يتبع المسيح فيه. ولكن بعد القيامة وحلول الروح القدس، سيتبع بطرس وباقى التلاميذ المسيح فى طريق طويل من الكرازة والتبشير والاحتمال، والآلام حتى الاستشهاد أيضا. وأخيرا، تبعية المسيح للسماء وكل أمجادها.
ع37: غلبت العاطفة والحماس البشرى بطرس، فتحدث عما لا يفهم، وادعى ما لا يستطيع أن يفعله ويقدمه.
فهو لا يفهم أن الفداء فى قصد الله الأزلى، لا يستطيع إتمامه سوى المسيح وحده، وأيضا أنه لا يستطيع أن يكون بمستوى الشجاعة، التى كان يتوقعها فى نفسه، وأعلنها بشئ من الكبرياء: “وإن شك الجميع، فأنا لا أشك” (مر 14: 29).
وهذا يعلمنا ألا ندعى فى أنفسنا ما لا نملكه، ونقدم أنفسنا للرب المسيح فى اتضاع، وبدون افتخار أو ثقة كاذبة فى النفس. فالمسيح يعمل بالضعيف والصغير، ويقاوم المستكبرين والعظماء فى أعين أنفسهم. ويا ليتنا يا أخى الحبيب نضع نصب أعيننا، قول الوحى الإلهى على لسان بولس الرسول: “تكفيك نعمتى، لأن قوتى فى الضعف تكمل، فبكل سرور أفتخر بالحرى فى ضعفاتى، لكى تحل علىّ قوة المسيح” (2كو 12: 9).
ع38: بدأ المسيح فى إجابته على بطرس بسؤال استنكارى: “أتضع نفسك عنى ؟!” وكأنه يسأله: أتعْلَم بما تتحدث؟! وليوضح له الفرق الكبير بين ما تحدث به وبين ما سوف يصدر منه.
ويكمل المسيح حديثه بنبوة إنكار بطرس له، ووضع علامة ليتذكر بها بطرس إنكاره للمسيح، وهى صياح الديك.
ولعلنا نتعلم يا صديقى أننا، بدون الله، لا نستطيع أن نفعل أو نقدم شيئا. ولكن، بالاعتماد عليه، وعلى الروح القدس الساكن فينا، نستطيع أن نصير بطرس، الذى قدم حياته بفرح بعد ذلك من أجل المسيح.