القبض على يسوع ومحاكمته
(1) القبض على يسوع (ع 1-12):
1- قال يسوع هذا، وخرج مع تلاميذه إلى عَبْرِ وادى قدرون، حيث كان بستان دخله هو وتلاميـذه. 2- وكان يهوذا مسلمه يعـرف الموضع، لأن يسوع اجتمع هناك كثيرا مع تلاميـذه. 3- فأخذ يهوذا الجنـد وخداما من عند رؤسـاء الكهنة والفريسـيين، وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسـلاح. 4- فخـرج يسـوع، وهـو عالم بكل ما يأتى عليه، وقـال لهم: “من تطلبون؟” 5- أجابوه: “يسوع الناصرى.” قال لهم يسوع: “أنا هو.” وكان يهوذا مسلمه أيضا واقفا معهم. 6- فلما قال لهم إنى أنا هـو، رجعـوا إلى الوراء، وسـقطوا على الأرض. 7- فسألهم أيضا: “من تطلبون؟” فقالوا: “يسوع الناصرى.” 8- أجاب يسوع: “قد قلت لكم إنى أنا هو. فإن كنتم تطلبوننى، فدعوا هؤلاء يذهبون.” 9- ليتم القول الذى قاله، إن الذين أعطيتنى لم أُهلك منهم أحدا. 10- ثم إن سِمعان بطرس كان معه سيف، فاستله وضرب عبد رئيس الكهنة، فقطع أذنه اليمنى؛ وكان اسم العبد مَلْخُسَ. 11- فقال يسوع لبطرس: “اجعل سيفك فى الغِمْدِ، الكأس التى أعطانى الآب، ألا أشربها؟” 12- ثم إن الجند والقائد وخدام اليهود، قبضوا على يسوع وأوثقوه.
ع1: انتهى الحديث الختامى الفصحى الذى شغل الأصحاحات 14، 15، 16، وكذلك صلاة الرب يسوع إلى الآب فى (ص17)، وبدأت أحداث المشهد الأخير فى حياة الرب يسوع على الأرض، بخروجه إلى بستان جَثْسَيْمَانِى فى وادى قدرون شرق أورشليم ناحية جبل الزيتون، وصحب معه تلاميذه.
ع2-3: نلاحظ أن القديس يوحنا لم يذكر تفاصيل اتفاق يهوذا مع الكهنة، أو ثمن تسليم الرب، مكتفيا بما جاء فى البشائر الثلاث الأخرى، مشيرا إلى معرفة يهوذا للمكان الذى جمع المسيح مع التلاميذ فى خلوات عديدة، ويصور أيضا مشهد خروج الجمع للقبض على الرب يسوع.
ع4-6: “خرج… عالم…”: أى ذهب للموت بنفسه لمواجتهه، ولم يدخلوا هم إليه. وأشار القديس يوحنا لعلم المسيح بإشارة جديدة لتأكيد لاهوته، وسألهم عن مرادهم الذى يعرفه جيدا، فإجابة السيد المسيح “أنا هو”، توضح لنا رد فعل مملكة الظلمة بأكملها أمام الله وكلمته، فهم جنود وخدام وجموع، والمسيح وحده، ومع هذا، تراجعوا وسقطوا، وكأن المسيح يقول ليس لكم أن تقبضوا علىَّ، ما لم أسلِّم أنا لكم ذاتى للموت.
ع7-9: أعاد المسيح السؤال، وأعادوا نفس الإجابة، فقدّم نفسه هذه المرة لِما أتى من أجله، ولم يَفُتْهُ أن يفتدى تلاميذه، بل طلب إطلاقهم. ويشير القديس يوحنا إلى ما سبق وقاله السيد المسيح فى (ص 17: 12) فى صلاته للآب، بألا يهلك منهم أحد.
ع10: راجع (مت 26: 51؛ مر 14: 47؛ لو 22: 50)، ولكن لاحظ أن القديس يوحنا ذكر اسم بطرس واسم العبد، وهما لم يذكرا فى البشائر الثلاث الأخرى.
ع11: راجع (مت 26: 52 و54)، ولاحظ أن السيد المسيح رفض الأسلوب البشرى الانفعالى الذى قام به بطرس، موضحا أن هناك عملا أعظم يجب على المسيح إنجازه، وهو قبول كأس الألم، أى إتمام الفداء على الصليب.
ع12: “الجند والقائد”: أى الرومان. وبالرغم من أنهم مع خدام اليهود يمثلون جماعة، والمسيح كان وحيدا، إلا أنهم أوثقوه، ربما خوفا من هروبه فى الظلام، أو إمعانا فى وضعه فى شكل المتهم المذنب، إذ كان الحقد أخذ منهم نصيبا. وفى وثق المسيح أيضا تطابق مع قصة إسحاق، الذى أوثقه إبراهيم ليقدمه ذبيحة.
يا جابل الخليقة كلها وفاديها ومحررها، أوثقوك طوعا، وأنت القادر أن تأمر جيوش الملائكة… أىّ حب هذا أن يطلَق المذنب حرا ويؤخذ البرئ موثقا… افهمى يا نفسى، ويا ليتك تفهمين.
(2) مقابلة حنّان وإنكار بطرس (ع 13-27):
13- ومضـوا به إلى حنّـان أولا، لأنه كان حما قَيَافَـا الـذى كان رئيسـا للكهنة فى تلك السنة. 14- وكان قَيَافَا هـو الـذى أشـار عـلى اليهـود، أنه خير أن يموت إنسان واحد عن الشعب. 15- وكان سِمعان بطرس والتلميذ الآخر يتبعان يسوع، وكان ذلك التلميذ معروفا عند رئيس الكهنة، فدخل مع يسوع إلى دار رئيس الكهنة. 16- وأما بطرس، فكان واقفا عند الباب خارجا، فخـرج التلميذ الآخـر الـذى كان معروفـا عند رئيس الكهنة، وكلم البوابة، فأدخـل بطرس. 17- فقالت الجارية البوابة لبطرس: “ألست أنت أيضا من تلاميذ هذا الإنسان؟” قال ذاك: “لست أنا.” 18- وكان العبيد والخدام واقفين، وهم قد أضرموا جمرا لأنه كان برد، وكانوا يصطلون، وكان بطرس واقفا معهم يصطلى. 19- فسأل رئيس الكهنة يسوع عن تلاميذه وعن تعليمه. 20- أجابه يسوع: “أنا كلمت العالم علانية، أنا علمت كل حين فى المجمع وفى الهيكل حيث يجتمع اليهود دائما، وفى الخفاء لم أتكلم بشىء. 21- لماذا تسألنى أنا؟ اسأل الذين قد سمعوا ماذا كلمتهم، هوذا هؤلاء يعرفون ماذا قلت أنا.” 22- ولما قال هذا، لطم يسوع واحد من الخدام كان واقفا، قائلا: “أهكذا تجاوب رئيس الكهنة؟!” 23- أجابه يسوع: “إن كنت قد تكلمت رديًّا، فاشهد على الردىِّ، وإن حسنا، فلماذا تضربنى؟” 24- وكان حنّان قد أرسله موثقا إلى قَيَافَا رئيس الكهنة. 25- وسِمعان بطرس كان واقفا يصطلى، فقالوا له: “ألست أنت أيضا من تلاميذه؟” فأنكر ذاك وقال: “لست أنا.” 26- قال واحد من عبيد رئيس الكهنة، وهو نسيب الذى قطع بطرس أذنه: “أما رأيتك أنا معه فى البستان؟” 27- فأنكر بطرس أيضا؛ وللوقت صاح الديك.
ع13-14: كان قَيَافَا رئيسا للكهنة، وكان حماه حنّان رئيسا أيضا أسبق للكهنة، ويحتفظ كل رئيس كهنة بعد مدة رئاسته بلقبه. والمقابلة مع حنّان لم يذكرها سوى يوحنا، أما باقى البشائر، فاكتفت بذكر اللقاء مع قَيَافَا. ويذهب البعض أن اللقاء بحنّان كان لقاءً عابرا فى الطريق إلى قَيَافَا، ولكن حَرِصَ الخدام على هذا اللقاء السريع بحنّان لكبر سنه، وتقدمه فى الكرامة كرئيس كهنة سابق. أما قَيَافَا، صهره، فقد أراد القديس يوحنا أن يذكّرنا به، فهو صاحب الرأى بأن يموت إنسان عن الشعب (ص 11: 49 و50)؛ وهذه الإشارة لها أهميتها فى توضيح أن المحاكمة اليهودية صورية، وأن القرار بموت الرب يسوع كان مُبَيّتا.
ع15-18: لم يشر يوحنا إلى هروب التلاميذ كما فعل متى (26: 56)، ولكنه اكتفى بأن يذكر أنه، مع بطرس، تبعا يسوع. ولعلاقة يوحنا بالوسط الكهنوتى، استطاع أن يدخل داخل البيت. أما بطرس فوقف خارجا إلى أن أدخله. ولكن، قبل إدخاله، إذ وقف بطرس مع الخدام والحراس يستدفئون خارجا، يذكر القديس يوحنا حادثة إنكار بطرس الأولى أمام الجارية التى سألته، فأنكر بسبب خوفه أمام الجمع.
ع19-21: السائل هنا هو حنّان، والغرض من السؤال أنه ربما يجد شكاية على المسيح يقدمها إلى قَيَافَا والمجلس من بعده. وكان موضوع السؤال عن تعاليم المسيح للجموع، وعن تعاليمه الخاصة لتلاميذه. أما إجابة يسوع، فجاءت مبددة تماما لآمال حنّان، فهو لم يعلّم شيئا سرا أو فى الخفاء، فكل تعاليمه سمعها الجميع، سواء فى الهيكل أو المجامع أو الأماكن الأخرى. ولهذا أيضا، يرد المسيح بسؤال: “لماذا تسألنى أنا؟!”، اسأل بالحرى كل الجموع التى سمعتنى!
ع22-23: احتد أحد الخدام، معتبرا أنها إجابة غير لائقة، فلطمت يد الأثيم وجه البار، وكانت هذه اللطمة تحمل مجاملة لرئيس الكهنة على حساب الحق والعدل. ولهذا، علّق السيد المسيح، مونجا من لطمه، فالمسيح لم يخطئ فى حق رئيس الكهنة بحسب ناموس موسى (خر 22: 28): فلماذا لطمتنى؟! أى أنك صرت أنت أيها العبد الشرير كاسرا للشريعة التى لم أكسرها أنا…
وفى هذا النص دروس مستفادة:
الأول: ماذا احتمل المسيح من أجل خلاصى أنا؟ فها هوذا الإله قد صار مشهدا لكل متشفٍ، ملطوما من يد الخادم. فهل أحتمل أنا إساءة الناس لى؟!
الثانى: أنه لا مانع من أن يوضح المظلوم للظالم بيان ظلمه عليه، حتى يبيّن له أى شئ هو واقع فيه، طالما كان ذلك بحُلم ومحبة.
وفى هذا الصدد، كتب القديس أغسطينوس تأملا رائعا عن هذه اللطمة، إذ يقول: “إن المسيح لم يحوّل خده الآخر فقط للطم، بل سلم جسده كله للصلب، ليتم بذلك أكثر مما علّم به فى (مت 5: 39).
ع24: كانت المحاكمة أمام قَيَافَا، هى المحاكمة الرسمية اليهودية للمسيح. ومع هذا، لم يركز عليها يوحنا، مكتفيا بما أورده كل من متى ومرقس فى تفاصيلها. لكنه ذكر ما لم يذكره الاثنان عن المقابلة الأولى مع حنّان، ثم أشار إلى قَيَافَا، وتعدّاه، عابرا بالمسيح إلى المحاكمة الرومانية الرسمية أمام بيلاطس.
ع25-27: يذكـر القديس يوحنا هنا الإنكارين الثانى والثالث لبطرس، وحادثة صيـاح الديـك، وقد كان عرضـه أكثر تفصيـلا، فقد أبرز الإنكار الأول عند حنّان، والثانى والثالث عند قَيَافَا. أما كل من متى (26: 69-73) ومرقس (14: 66-71) ولوقا (22: 55-62)، فقـد أجملـوا الإنكارات الثلاثة بعـد المحاكمة، حتى لا يقطعوا الكلام، ويظل حوار المحاكمة متصلا.
ويلاحظ أيضا أن القديس يوحنا لم يذكر هنا أقسام بطرس بالنفى، أو نظر المسيح إليه، أو بكائه المر وتوبته كما جاء فى البشائر الثلاث الأخرى.
يتعجب الكثيرون كيف أنكرك بطرس بعد هذه السنوات، وما رآه وسمعه فيها…؟!
ولكن، لعل كان لبطرس عذرا أمام خوفه، وعدم استعلان لاهوتك بقيامتك، أو حلول الروح القدس عليه. فما عذر الكثيرون اليوم، الذين يعلنون بألسنتهم إيمانهم وتبعيتهم. أما بقلوبهم وأعمالهم، ينكرونك، ويصيروا سببا لتجديف الآخرين على اسمك؟! نعم يا إلهى… سامحنا وارحمنا؛ فما أحوجنا لدموع بطرس المُرّة.
(3) بدء المحاكمة أمام بيلاطس (ع 28-40):
28- ثم جاءوا بيسوع من عند قَيَافَا إلى دار الولاية، وكان صبح، ولم يدخلوا هم إلى دار الولاية، لكى لا يتنجسوا فيأكلون الفصح. 29- فخرج بيلاطس إليهم، وقال: “أية شكاية تقدمون على هذا الإنسان؟” 30- أجابوا وقالوا له: “لو لم يكن فاعل شـر، لما كـنا قد سلمـناه إليك.” 31- فقال لهم بيلاطس: “خذوه أنتم واحكموا عليه حسب ناموسكم.” فقال له اليهود: “لا يجوز لنا أن نقتل أحدا.” 32- ليتم قول يسوع الذى قاله مشيرا إلى أية ميتة كان مزمعا أن يموت. 33- ثم دخل بيلاطس أيضـا إلى دار الولاية، ودعا يسـوع وقال له: “أنت ملك اليهود؟” 34- أجابه يسوع: “أمن ذاتك تقول هذا، أم آخرون قالوا لك عنى؟” 35- أجابه بيلاطس: “أَلَعَلِّى أنا يهودى؟! أمّتك ورؤسـاء الكهنة أسـلموك إلىَّ. ماذا فعلت؟” 36- أجاب يسـوع: “مملكتى ليسـت من هـذا العالم، لو كانت مملكتى من هذا العالم، لكان خدامى يجاهدون لكى لا أسلَّم إلى اليهود. ولكن الآن، ليست مملكتى من هنا.” 37- فقال له بيلاطس: “أفأنت إذًا ملك؟” أجاب يسوع: “أنت تقول إنى ملك. لهذا قد ولدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم، لأشهد للحق، كل مَن هو مِن الحق يسمع صوتى.” 38- قال له بيلاطس: “ما هو الحق؟” ولما قـال هـذا، خـرج أيضـا إلى اليهـود وقـال لهم: “أنا لست أجـد فيه علة واحـدة. 39- ولكم عـادة أن أطلق لكم واحـدا فى الفصح؛ أفتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود؟” 40- فصرخوا أيضا جميعهم قائلين: “ليس هذا، بل باراباس.” وكان باراباس لصا.
ع28-29: كما قلنا، لم يذكر القديس يوحنا تفاصيل محاكمة المسيح أمام قَيَافَا، والتى أعلن فيها بوضوح أنه المسيح ابن الله، والذى اعتبره اليهود تجديفا (مت 26: 65؛ مر 14: 64؛ لو 22: 71). ولم يذكر أيضا اجتماع الرؤساء صباحا – مجلس اليهود – وأخْذ القرار، بل نقلنا مباشرة إلى المحاكمة أمام بيلاطس.
“دار الولاية”: مبنى بناه هيرودس الكبير، مخصص لنزول وإقامة الوالى الرومانى أثناء زياراته لأورشليم. واعتُبرت عند اليهود نجسة، لأنها من ديار الأمم، ولهذا لم يدخلوها، بل خرج بيلاطس إليهم فى الساحة التى أمام الدار، وسألهم عن سبب تجمهرهم، وسبب شكواهم على الرب يسوع.
“فيأكلون الفصح”: أى استمرارية احتفالات الفصح. ولكن، ما نتعجب له حقا، هو تمسك قادة اليهود بالطهارة الجسدية الشكلية، بينما قلوبهم أضمرت تسليم دما طاهرا بريئا؟!
ع30-31: لم يقدم رؤساء اليهود اتهاما على الرب يسوع، بل أرادوا قرارا بموته فحسب، ولهذا قالوا لبيلاطس: “لو لم يكن فاعل شر.”
أى أننا حققنا وتأكدنا من وجوب موته، وما عليك سوى القرار، أى الأمر بصلبه، وهو ما ليس لنا سلطان عليه كيهود، بل من سلطانك أنت وحدك (كان الصلب من سلطان الحاكم الرومانى). ولكن، يلاحظ تمهل بيلاطس، وعدم الاندفاع وراء رأيهم.
ع32: “ليتم”: أى ما تنبأ به المسيح، له المجد، بأن موته سيكون بواسطة الصليب كما جاء صراحة فى (مت 20: 19)، وضمنا فى (مر10: 21؛ لو 9: 23، 14: 27)، وذلك لأنه لو حكم اليهود على المسيح دون بيلاطس، لكان موته رجما بالحجارة. ولكن، كل ما تنبأ به المسيح، كان ينبغى أن يتم بالحرف الواحد. ولهذا، سعى اليهود بحقدهم إلى بيلاطس ليصلبه، وهم لا يعلمون أنهم بهذا يتممون المشيئة الإلهية العليا.
ع33-34: انفرد بيلاطس بالمسيح، وسأله عما أثير من الكهنة وخدامهم، فى ادعاء المسيح عن نفسه أنه ملك اليهود، عالمين أن مثل هذا الاتهام وحده كافٍ لصلب المسيح، فالمُلك لقيصر وحده، وأية محاولة لنسب المُلك لغيره، تعتبر تمردا وانقلابا. إلا أن المسيح لم يُجِبْ، بل رد بسؤال جديد، يعتبر تحذيرا وإيقاظا لضمير بيلاطس. ومعنى سؤال المسيح: هل هذا رأيك، أم أنك تردد الوشايات التى أبلغك بها هؤلاء عنى، حتى تجد سببا تحاكمنى عليه؟
ع35: “أَلَعَلِّى أنا يهودى؟!”: سؤال استنكارى، يوضح فيه بيلاطس موقفه بأنه لا يعتبر المسيح ملكا، فهو ليس بيهـودى؛ وكأنه يقول: لا شأن لى بكل هذا، فهذه أقوال اليهود. ويرى البعض أن القـول: “أَلَعَلِّى أنا يهودى؟!” تعنى استنكارا واستنفارا من الكبرياء الرومانى نحو أمة اليهود فى أن يكون له ملكا سوى قيصر، ملك العالم القديم كله. ويستكمل بيلاطس استفساره من المسيح بخبرته كمحقق: “ماذا فعلت؟”، خاصة وأن كل الأمة اليهودية – أى الجماهير الكثيرة خارج دار الولاية – قد أسلمتك مشتكية عليك؟!
ع36: يدفع المسيح عن نفسه ما ألصقه به رؤساء الكهنة من اتهام.
ولكن هذا الدفاع ليس الغرض منه إبعاد الصليب الذى أتى وتجسد من أجله، بل ليعلّمنا جميعا قانونا ودستورا روحيا. فإذا كان المسيح ملكنا يعلن لنا أنه لا ينتمى إلى هذا العالم، بل له ملكوتا آخر سمائيا أبديا، فكيف يكون إذن حال رعاياه، سوى ارتفاعهم أيضا عن هذا العالم بكل شهواته، بل يقولون، كما قال المسيح قبلا: “نحن من فوق، ولسنا من هذا العالم” (راجع ص 8: 23)، ولا يسود علينا العالم فى شئ، بل نبغى ملكوت إلهنا السمائى.
ويضيف المسـيح قرينـة لكلامه، أنه لو كان ملكا أرضيا، لاهتـم أن يـكون له خـداما – حراسا – يدافعون عنه، فلا يمسكه اليهود، بل على العكس تماما، طلب أن يسلم نفسه بوداعة فى مقابل إطلاق التلاميذ.
ع37: “أفا أنت إذًا ملك؟”: سؤال يعبر عن الحيرة والتعجب. فالمسيح يعلن أنه ملك، وينكر الملكوت الأرضى الذى يفهمه بيلاطس. أما إجابته، فجاءت مؤكدة للمعنى الروحى لملكوته، فهو لم ينكر كونه ملكا، بل يضيف أنه تجسد ليفدى البشرية، ويملك على قلبها.
“كل من هو من الحق”: أى كل من قبل كلامى، وعمل الروح القدس بداخله، أو كل من هو خاضع لله الذى هو الحق، وعرف المسيح كما تعرف الخراف صوت الراعى وتتبعه (ص 10: 4).
ع38: “ما هو الحق؟”: لم يفهم بيلاطس الكلام الذى قاله المسيح. ولهذا، سأل سؤلا، ولم ينتظر حتى يسمع إجابته، وكأنه فى الحقيقة غير مهتم بأن يفهم… ولكنه كان مجرد سؤال. ومما لا شك فيه، لم يجد بيلاطس فى المسيح علة تستوجب الموت. ولهذا، خرج ثانية لليهود المنتظرين بالخارج، معلنا حكم البراءة الأولى بأنه ليس فيه علة واحدة. ولعل الله جعل بيلاطس بنطق بهذه الجملة بالذات لبيان شئ واحد، فالمسيح هو الفصح الحقيقى الذى بلا عيب واحد، وهو ذبيحة الإتم التى افتضت أيضا أن تكون بلا عيب… فما نطق به بيلاطس، ما هو إلا تأكيد لكمال ذبيحة المسيح المقدمة.
ع39-40: أخطأ بيلاطس عندما تخلى عن مهام منصبه، كقاضٍ للحق، فى إطلاق من رآه بريئا، بل تنازل عن سلطانه فى القضاء، وأعطى الحق فى الاختيار للشعب، وهو ما لم يُسمع عنه، واعتقد أن إعلانه براءة المسيح، يعفيه من المسئولية التى تركها للشعب. ولعله اعتقد أنه يفتح باب الاختيار، سيطلبون إطلاق من ليس علة فيه، ولكن المفاجأة كانت فى طلبهم إطلاق من هو معلوم عنه أنه لص وصاحب فتنة.
عجبا لشعب أطلق لصا وصلب بارا!!
إن خطأ بيلاطس الفاحش، يعطى لنا جميعا درسا فى الشهادة للحق. فقد يساوم السياسيون، أو يعقدوا الصفقات، وتصير حدود الحق واسعة جدا. أما أبناء الله فليسوا كذلك، بل الحق هو الحق، فإن “مُبَرِّئُ المذنب ومذنِّب البرئ، كلاهما مكرهة الرب” (أم 17: 15).