السـامرية
(1) زيارة السامرة (ع 1-6):
1- فلما علم الرب أن الفريسيين سمعوا أن يسوع يُصَيِّرُ ويعمّد تلاميذ أكثر من يوحنا. 2- مع أن يسوع نفسه لم يكن يعمد، بل تلاميذه. 3- ترك اليهودية ومضى أيضا إلى الجليل. 4- وكان لابد له أن يجتاز السامرة. 5- فأتى إلى مدينة من السامرة، يقال لها سوخار، بقرب الضيعة التى وهبها يعقوب ليوسف ابنه. 6- وكانت هناك بئر يعقوب. فإذ كان يسوع قد تعب من السفر، جلس هكذا على البئر، وكان نحو الساعة السادسة.
السامرة:
انقسمت مملكة اليهود منذ أيام “رحبعام” بن سليمان إلى جزئين؛ شمالى: ويسمى إسرائيل أو السامرة، وجنوبى: ويسمى يهوذا أو اليهودية. وتقع السامرة شمالَىْ أراضى اليهودية وجنوبَىْ الجليل، فى مساحة ليست بقليلة (47 ميلا طولا و40 ميلا عرضا). وكانت العداوة بين اليهود والسامريين شديدة جدا، لأن يربعام، الذى قسّم المملكة وملك على إسرائيل (القسم الشمالى)، خاف أن يذهب الشعب إلى أورشليم، التى تقع فى المملكة الثانية (الجنوبية)، ولذا أقام تماثيل فى مدينتين من مدن مملكة إسرائيل ليقدموا الذبائح لها، وبهذا جعل شعبه يعبد الأوثان، فاحتقر يهود المملكة الجنوبية اليهود الساكنين فى المملكة الشمالية وقاطعوهم، وبالمثل فعل يهود المملكة الشمالية. وكان كثير من اليهود يتعرضون للقتل عند ذهابهم إلى جليل الأمم مرورا بأراضى السامرة.
تمهيد:
تعتبر الأعداد (1-6) مقدمة للأصحاح كله والذى يتحدث عن لقاء السيد المسيح مع المرأة السامرية… فيهتم القديس يوحنا بأن يوضح لنا ظروف وملابسات هذا اللقاء الهام جدا كما سنرى.
ع1-4: يوضـح لنا أن سـبب تـرك الرب لأراضى اليهودية، هى المشـاكل والمقارنات التى بدأ الفرّيسيّون فى إثارتها بين معمودية وأتباع يوحنا من جهة، ومعمودية وتلاميذ المسيح من جهة أخرى (ص 3).
ويعلمنا السيد المسيح هنا درسا روحيا، أن المناقشات التى لا طائل منها ينبغى على الإنسان أن يتجنبها، بل ويهرب منها، لئلا يضيع وقته وجهده، ويفقد سلامه بلا فائدة…
“لابد له أن يجتاز السامرة”: تحمل هذه العبارة معنيين، الأول بسيط: وهو المعنى الجغرافى أن السامرة فى طريقه إلى الجليل. أما المعنى الأعمق فهو روحى: أى “تعب” الله فى خلاص المرأة السامرية، فلهذا كان لابد أن يجتاز السامرة حتى يتقابل معها ويحدثها.
ما أعجب تدبيرك يا رب من أجل خلاص نفسى!
ع5-6: “سوخار”: بلدة قريبة من شَكِيمَ الأكثر شهرة، وكان بها بئرا حفرها يعقوب ليسقى أغنامه، ويؤكد ملكيته لهذه الأراضى إذ حملت البئر اسمه، وقد وهب يعقوب هذا المكان ليوسف تمييزا عن باقى إخوته (راجع تك 48: 22)، وهذا يؤكد أيضا نسب السامريين إلى أبيهم يعقوب.
“تعب من السفر”: وقف كل آباء الكنيسة المفسرين عند هذه الآية وقفات تأملية، فها هو الإله أخذ جسدنا وعاش حياتنا، وتعب من أجلنا لكى يقدم لنا الخلاص… اختبر الألم والتعب كإنسان، حتى لا يكون لنا عذر فى ألا نتعب نحن أيضا فى خدمة الآخرين، فالمسافة التى قطعها منذ تحركه من اليهودية حتى هذه البلدة 40 ميلا (الميل = 35,1609 مترا)، أى حوالى 64 كيلومترا، محتملا مشقة السير فى الحر من أجل خلاص نفس واحدة!
ومن المقابلات الرائعة بين ما تشير إليه هذه القصة وببين أحداث الصليب، هو ما نراه من العطش والتعب والساعة السادسة، والهدف هو الخلاص، سواء للسامرية أو للعالم أجمع، وفى كلتا القصتين تركه التلاميذ وحده (ع8).
فيا تَرَى، هل هى مصادفة، أم إشارة نبوية واضحة، كمقدمة لأحداث الصليب؟ ولا نغفل أيضا أن الساعة السادسة هنا تشير إلى حال المرأة السامرية، إذ أنها، بسبب خطيئتها وسوء سمعتها، خرجت لتستقى فى وقت يندر فيه وجود غيرها من النساء معها، حتى تتجنب تعييراتهن ونظراتهن إليها… أما المسيح فيحبها ويسعى إليها!
(2) اللقاء بالمرأة السامرية (ع 7-15):
7- فجاءت امرأة من السامرة لتستقى ماءً، فقال لها يسوع: “أعطينى لأشرب.” 8- لأن تلاميذه كانوا قد مضوا إلى المدينة ليبتاعوا طعاما. 9- فقالت له المرأة السامرية: “كيف تطلب منى لتشرب، وأنت يهودى وأنا امرأة سامرية؟” لأن اليهود لا يعاملون السامريين. 10- أجاب يسوع وقال لها: “لو كنت تعلمين عطية الله، ومن هو الذى يقول لك أعطينى لأشرب، لطلبت أنت منه فأعطاك ماءً حيا.” 11- قالت له المرأة: “يا سيد، لا دلو لك والبئر عميقة، فمن أين لك الماء الحى. 12- ألعلك أعظم من أبينا يعقوب الذى أعطانا البئر، وشرب منها هو وبنوه ومواشيه؟” 13- أجاب يسوع وقال لها: “كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضا. 14- ولكن من يشرب من الماء الذى أعطيه أنا، فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذى أعطيه يَصِيرُ فيه ينبوع مـاء ينبع إلى حـياة أبدية.” 15- قالت له المرأة: “يا سيد، أعطنى هذا الماء لكى لا أعطش، ولا آتى إلى هنا لاستقى.”
ع7-9: إذ كان فى ترتيب الله السابق ومعرفته لقاؤه بالمرأة السامرية، فقد أرسل تلاميذه كلهم ليبتاعوا طعاما، حتى يتسنى له لقاء المرأة السامرية منفردا، ليعلّمنا أنه، بجانب خدمة التعليم والوعظ للجموع، فالاهتمام بالعمل الفردى والنفس الواحدة لا يقل فى الأهمية عن العمل الجماهيرى، وحتى لا يخجلها عند اعترافها بخطاياها، كما يحدث الآن فى سر الاعتراف.
طلب المسيح من السامرية ماء ليشرب رغم أنه “ينبوع المياه الحية” (إر 2: 13، 17: 13)، وهو “ينبوع ماء الحياة” (رؤ 21: 6)، وكان جالسا عند البئر كأنه محتاج للماء؛ كل هذا ليدخل بالاتضاع إلى قلبها.
الاتضاع يسهّل لك كسب قلوب الآخرينٍ وتوصيل كلمة الله لهم.
أما إجابة المرأة السامرية فتذكرنا بحديث السيد مع نيقوديموس (ص 3)، فالإنسان يتحدث عن الماديات الملموسـة، والمسيح يتحدث عن بعد روحى أعمق… فما قالته المرأة السامرية كان محصورا فى العداوة القائمة بين اليهود والسامريين، وكان رفضها بأسلوب استنكارى لتخفى أو تتناسى خطيتها.
ع10-14: “لو كنت تعلمين عطية الله”: يخاطب المسيح هنا السامرية وكل نفس، فهو الذى يريد، ويبدأ الحديث معها فى حوار.
ونحن للأسف لا ندرك أبعاد هذه العطية العظيمة، وإلا ما كان هذا حالنا. فنحن لا زلنا نبحث عن ماء العالم ومادياته وشهواته، بالرغم من إدراكنا بأنه لا شبع ولا ارتواء منه، متناسين مصدر الغنى الحقيقى الذى يسد كل عطش واحتياج مادى ونفسى وروحى، إنه الله الحقيقى الذى يريد أن يعطيك كل شيئ… ومن يقبل عطية الله يرتفع فوق كل العالم، ولن يعطش إلى الأبد.
إن عطية الله لا تجعل الإنسان مكتفيا به فقط، بل يصير نبعا يروى احتياجات الآخرين، كقناة تحمل تيار ماء نهر عظيم، فترتـوى هى أولا، ويستقى منها كل عطشـان… وهذا هو مصدر غنى الإنسان الروجى الذى رأيناه فى كل القديسين الأوّلين والمعاصرين… والأعجب أن هذا التيار الإلهى الذى يعطيه الله – وهو سكنى الروح القدسى فى الإنسان – لا يفارقه أبدا حتى الحياة الأبدية.
أما المرأة السامرية، فما زالت لا تستوعب حديث السيد، فتارة تتعجب من أين له هذا الماء وهو لا يملك دلوا (ع11)، وتارة أخرى تريد هذا الماء بصورته المادية، حتى لا تعود وتأتى لهذا البئر متحملة عناء الطريق، بل وصلت بها الحال إلى أن تستهزئ به، لأنه ليس بالطبع أفضل من يعقوب وبنيه الذين شربوا منها، فكيف يحصل على ماء أفضل من هذه البئر؟!
ع15: وهى بهذا تعود بنا مرة أخرى إلى ما بدأنا به، وهو طبيعة الإنسان البشرى الذى لا يدرك عطية الله بسكنى وفيض الروح القدس.
(3) المسيح يعلن عن ذاته للمرأة السامرية (ع 16-26):
16- قال لها يسوع: “اذهبى وادعى زوجك، وتعالى إلى ههنا.” 17- أجابت المرأة وقالت: “ليس لى زوج.” قال لها يسوع: “حسنا قلت ليس لى زوج. 18- لأنه كان لك خمسة أزواج، والذى لك الآن ليس هو زوجك، هذا قلت بالصدق.” 19- قالت له المـرأة: “يا سـيد، أرى أنك نبى. 20- آباؤنا سجدوا فى هـذا الجبل، وأنتم تقولون إن فى أورشليم الموضع الذى ينبغى أن يُسجد فيه.” 21- قال لها يسـوع: “يا امرأة، صدقينى إنه تأتى سـاعة، لا فى هـذا الجبل ولا فى أورشليم تسجدون للآب. 22- أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لمـا نعلـم، لأن الخـلاص هـو من اليهود. 23- ولكن تأتى ساعة، وهى الآن، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق، لأن الآب طَالِبٌ مثل هؤلاء الساجدين له. 24- الله روح، والذين يسجدون له، فبالروح والحق ينبغى أن يسجدوا.” 25- قالت له المرأة: “أنا أعلم أن مَسِيَّا، الذى يقال له المسيح، يأتى. فمتى جاء ذاك، يخبرنا بكل شىء.” 26- قال لها يسوع: “أنا الذى أكلمك هو.”
ع16-19: بعد أن تكلم السيد المسيح عن الروحيات بأسلوب خفى أعدها فيه لطلب الماء الحى، أفصح عن نفسه بصورة مباشرة، ولكن بالقدر الذى تتحمله، فطلب منها إحضار زوجها إن كانت ترغب فعلا فى هذا الماء الحى، فأجابت المرأة بنصف الحقيقة أن ليس لها زوج شرعى، خافية بذلك خطيتها فى معاشرتها لرجل بدون زواج. إلا أن المفاجأة التى أذهلها بها المسيح، فى إعلانه عن معرفة كل ماضيها، بل والحاضر الذى تعيشه أيضا، هز وجدانها، فجاء ردها الذى يمثل شرارة إيمانها الأولى، ناطقة: “يا سيد”، بعد أن كانت ترفض التحدث معه أولا لأنه يهودى، ثم شهدت أيضا أنه “نبى”، بعد أن كانت تسخر وتقول: “ألعلك أعظم من أبينا يعقوب؟”
أيها العزيز… فى الحديث فى السابق نرى لمحة لعلنا نتعلمها من شخص إلهنا الحبيب، وهى رقته العجيبة فى اقتحام هذه النفس الخاطئة، فهو العالم بحالها وخطيئتها، ولكن انظر إليه وهو يمدحها مرتين، مرة قبل أن يعلن معرفته بخطيتها، ومرة أخرى بعد أن أعلن هذه المعرفة، فيبدأ كلامه بعبارة: “حسنا قلت”، وينهى كلامه بعبارة: “هذا قلت بالصدق”. ومع هذه الرقة، لم يتهاون فى إعلان الحق حتى تتوب هذه المرأة عن خطيتها… ليتنا نتعلم جميعا هذا الأسلوب، فالله لم يدنها وهو الديّان، بل كشف عن الخطأ من أجل توبتها وليس هلاكها.
فهل نتعامل مع الخطاة بهذه الرقة، مع الفارق أننا خطاة وتحت الحكم؟ فلنأخذ هذا التدريب لحياتنا: أن نمدح شعاع النور الباهت فى كل إنسان قبل توجيهه.
ع20-24: عندما أدركت السامرية أن الرب ليس شخصا عاديا – نبيا – تحول حديثها لوجهة أخرى، إذ شغلها الخلاف الدينى بين اليهود والسامريين، وادعاء كل طرف صحة إيمانه، وكأنها، بعد إدراكها لشخصه المميز، نست قصة المياه والبئر واهتمت بخلاص نفسها. ولما وجد الرب أن المرأة صارت مهيأة، بدأ يحدثها عن السجود الحقيقى ومفهومه الذى لا يرتبط بالمكان بل بالطريقة، فالله لا يقبل سجود الجسد دون الروح.
“بالروح والحق ينبغى أن يسجدوا”: تعنى السجود بالانسحاق والإحساس بحضرة الله. أما السجود الجسدى والعددى فقط لا يقبله الله، بل ينخدع به الإنسان فى ممارساته الروحية. وبالرغم من هذا الإفصاح الروحى عن السجود لله فى كل مكان، لم يغفل السيد أن يوضح أن الإيمان اليهودى فى جوهره هو الإيمان السليم وليس إيمان السامريين، وأن الخلاص المنتظر مصدره اليهود (ع22).
“تأتى ساعة، وهى الآن”: إشارة واضحة إلى ظهور المسيا المنتظر، وانتهاء العبادتين اليهودية والسامرية، والانتقال للسجود الروحى الحقيقى.
يلاحظ أيضا أن السيد المسيح صحح شكل وأسلوب السجود دون أن يلغيه، فالسجود واجب لله، فهو تقدمة حب واحترام وانسحاق وشعور قلبى يعكس إحساس الإنسان بالوجود فى حضرة الله الحقيقية. والكنيسة تعلم أبناءها السجود، سواء فى العبادات الجماهيرية كالقداس الإلهى، أو على المستوى الشخصى والفردى للإنسان فى صلواته اليومية.
ع25-26: استمرت المرأة فى حديثها الروحى، وأشارت إلى المسيح الآتى والعالِم بكل الأمور. وإذ وصلـت إلى هـذه المرحلة التى تحمل فيها رجاءها بانتظار المخلّص – رجاء اليهود والسامريين – أجابها المسيح معلنا عن ذاته، وكاشفا عن نفسه: “أنا… هو”.
إن شخص المسيح هو الوحيد الذى يستطيع أن يذيب الفوارق والنزاعات والعداوة، ويصير فيه الجميع واحدا… فكثير من المشاكل والخلافات، وخاصة الزوجية، لا نجد لها حلا لإصرار الطرفين على إبعاد المسيح عن حياتهما. أما إذا دخل، فلن تكون هناك سامرة أو يهودية، بل اتضاع وانسحاق وإحساس بحضرة الرب وطاعة وصيته… ليتك أيها الرب الحبيب تكون داخل كل بيت.
(4) السامرية تبشر بالمسيح (ع 27-30):
27- وعند ذلك جاء تلاميذه، وكانوا يتعجبون أنه يتكلم مع امرأة. ولكن لم يقل أحد ماذا تطلب، أو لماذا تتكلم معها. 28- فتركت المرأة جرتها ومضت إلى المدينة، وقالت للناس: 29- “هلموا، انظروا إنسانا قال لى كل ما فعلت؛ ألعل هذا هو المسيح؟” 30- فخرجوا من المدينة وأتوا إليه.
ع27: لماذا تعجب التلاميذ؟ لأن التعليم اليهودى كان يمنع أن يتحدث الرجل مع امرأة فى مكان عام، حتى ولو كانت زوجته، ولم يفهموا اهتمام المسيح بالتبشير والخلاص.
“لم يقل أحد”: دلالة واضحة على احترام التلاميذ لمعلمهم، وهى من الآداب المسيحية التى ذكرها السيد: “ليس التلميذ أفضل من المعلم” (مت 10: 24)؛ “ليس التلميذ أفضل من معلمه، بل كل من صار كاملا يكون مثل معلمه” (لو 6: 40).
وهذه الروح تسلمتها كنيستنا فيما يسمى بحياة التلمذة… وهى تتطلب اتضاعا قلبيا حقيقيا أمام معلمى الكنيسة من كهنة وخدام…
ع28-30: آمنت السامرية، وعبّرت عن إيمانها إيجابيا بالانطلاق إلى قريتها لتكرز به، وكلمة “ألعل” هنا لا تحمل شكا فى إيمانها، بل تحفيزا للناس أن يخرجوا ويتأكدوا بأنفسهم.
“تركت المرأة جرتها”: لها معنى روحى جميل، وهو أن النفس التى تحب المسيح لا تملك إلا إبلاغ الآخرين عنه، حتى لو تركت اهتماماتها المختلفة التى تعيق مسيرتها عن خدمة الله، مثل محبة المال والمنصب…
(5) أهمية الخدمة (ع 31-38):
31- وفى أثناء ذلك، سأله تلاميذه قائلين: “يا معلم، كُلْ.” 32- فقال لهم: “أنا لى طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم.” 33- فقال التلاميذ بعضهم لبعض: “ألعل أحدا أتاه بشىء ليأكل.” 34- قال لهم يسوع: “طعامى أن أعمل مشيئة الذى أرسلنى، وأتمم عمله. 35- أما تقولون إنه يكون أربعة أشهر ثم يأتى الحصـاد؟ ها أنا أقـول لكم: ارفعـوا أعينكم وانظـروا الحقـول، إنها قد ابيضت للحصاد. 36- والحاصد يأخذ أجرة، ويجمع ثمرا للحياة الأبدية، لكى يفرح الزارع والحاصد معا. 37- لأنه فى هذا يصدق القول أن واحدا يزرع وآخر يحصد. 38- أنا أرسلتكم لتحصدوا ما لم تتعبوا فيه، آخرون تعبوا وأنتم قد دخلتم على تعبهم.”
ع31-33: حوار حول الطعام، أخذ فيه التلاميذ موقف المرأة السامرية السابق، فالسيد المسيح يتكلم عن طعام روحى “لستم تعرفونه”، أما هم، فاعتقدوا أنه أكل بصورة ما… وهذا ليس معناه أن المسيح لم يكن محتاجا لطعام وهو إنسان كامل مثلنا، بل هو اختلاف فى الأولويات، فالجوع والعطش لخلاص النفس البشرية له الأولوية.
ع34-35: بالرغم من الإعياء بعد طول السفر، واحتياجه الجسدى للماء والطعام، إلا أن إتمام مشيئة أبيه فى دعوة الإنسان للخلاص، وإكمال عمله بالفداء على عود الصليب، اعتبره السيد المسيح هو طعامه الحقيقى، بل هو شهوة قلبه، مقدما دليلا جديدا على حبه واشتياقه لخلاص النفس البشرية.
ثم انتقل المسيح إلى مشهد حقيقى عندما قال: “ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول”… فبالرغم من أن موسم الحصاد بعد أربعة أشهر، فهناك حصاد من نوع آخر، إذ خرج كل أهالى السامرة من قرية سوخار بملابسهم البيضاء فى جماعات كبيرة بعد بشارة المرأة، فامتلأت الحقول بهم، فاعتبرهم السيد المسيح حصادا روحيا جاهزا للحصاد بمنجل الإيمان.
ع36-38: الله ليس بظالم حتى ينسى تعب إنسان، فكل من يجمع نفوسا لملكوت الله، يأخذ أجرا أرضيا وسمائيا بالفرح، ومشاركة كل من سبقوه. والمسيح، فى أمانته، يذكر تعب كل من سبق فى إعداد هذا الزرع للحصاد، وإن كان هو الزارع الحقيقى المنمى لكلمته.
إلا أنه يشير هنا إلى أنبياء العهد القديم فى تعبهم وإعدادهم للشعب طوال أربعة آلاف عام، وهو درس للتلاميذ أيضا، بحفظ لهم اتضاعهم فى أن ما سوف يجنوه من ثمر فى الكرازة، هو نتيجة لتعب آخرين، والحق يقال هنا أنه فى حقل الخدمة، لا يمكن الفصل بين الزارع والحاصد، فمن يحصد الآن لتعب من سـبقه فى الزرع، هو أيضـا يزرع لحاصد آخـر بعده، وهذا ما قصده السيد فى (ع37) مستخدما أحد الأمثلة اليهودية المعروفة، أنه ليس بالضرورة للخادم أن يرى ثمار خدمته، فالمسيح نفسه، بالرغم من كمال تعبه وفدائه، إلا أن ثمار المسيحية أتت بعد صعوده إلى السماء.
أيها الحبيب… ألا يغريك هذا على أن تشترك فى هذه الأفـراح… أفـراح تعب الخدمـة… أفراح الحصاد… أفراح دعوة الآخرين لملكوت الله، فتكون زارعا وحاصدا لك أجرة سمائية؟ طوباك إن فعلت.
(6) إيمان أهل السامرة (ع 39-42):
39- فآمـن به من تلك المدينة كثيرون من السامريين، بسبب كلام المرأة التى كانت تشهد أنه قال لى كل ما فعلـت. 40- فلما جـاء إليه السامريون، سألوه أن يمكث عندهم، فمكث هناك يومين. 41- فآمن به أكثر جدا بسبب كلامه. 42- وقالوا للمرأة: “إننا لسنا بعد بسبب كلامك نؤمن، لأننا نحن قد سمعنا، ونعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلّص العالم.
توضح هذه الأعداد كيف آمن السامريون كنموذج لكل من يؤمن. فأولا يحتاج الإنسان لمن يحدثه ويشهد له عن المسيح، وهو عمل الخادم الذى تمثله المرأة السامرية، ثم يكون الاتصال المباشر بين الإنسان والمسيح فى كنيسته، فيأخذ بنفسه وينمو إيمانه، ليس من خلال شهادة الآخرين أو اختباراتهم، بل من خلال حياته وخبراته السرية وممارساته الروحية والسرائرية (الكنيسة).
يلاحظ هنا أن المسيح لم يرفض دعوة السامريين فى أن يمكث عندهم، مهما كان سوء حالهم الروحى أو انحراف عبادتهم، وبالتالى، فهو لا يرفض بالأولى دعوة أى ابن من أبنائه، إذ ينتظر على الباب قارعا…
فهيا أيها الحبيب… قم وافتح فلبك لكلامه، وفمك لجسده ودمه، وسيأتى ويمكث ولن يتركك ما لم تتركه أنت.
ونرى أن الإيمان نشأ وقوى خلال يومين فقط، فعمق الإيمان لا يحتاج مدة، بل رغبة وجهاد.
(7) بداية خدمة المسيح فى الجليل (ع 43-54):
43- وبعد اليومين، خرج من هناك ومضى إلى الجليل. 44- لأن يسوع نفسه شهد أنْ ليس لنبى كرامة فى وطنه. 45- فلما جاء إلى الجليل، قَبِلَهُ الجليليون، إذ كانوا قد عاينوا كل ما فعل فى أورشليم فى العيد، لأنهم هم أيضا جاءوا إلى العيد. 46- فجاء يسوع أيضا إلى قانا الجليل، حيث صنع الماء خمرا. وكان خادم للملك ابنه مريض فى كَفَرَنَاحُومَ. 47- هذا، إذ سمع أن يسوع قد جاء من اليهودية إلى الجليـل، انطلق إليـه وسـأله أن ينزل ويشفى ابنه لأنه كان مشـرفا على الموت. 48- فقال له يسوع: “لا تؤمنون إن لم تروا آيات وعجائب.” 49- قال له خادم الملك: “يا سيد، انزل قبل أن يموت ابنى.” 50- قال له يسوع: “اذهب، ابنك حى.” فآمن الرجل بالكلمة التى قالها له يسـوع، وذهب. 51- وفيما هـو نازل، اسـتقبله عبيـده وأخـبروه قائـلين: “إن ابنك حى.” 52- فاستخبرهم عن الساعة التى فيها أخذ يتعافى. فقالوا له: “أمس فى الساعة السابعة، تركته الحمى.” 53- ففهم الأب أنه فى تلك الساعة التى قال له فيها يسوع إن ابنك حى، فآمن هو وبيته كله. 54- هذه أيضا آية ثانية صنعها يسوع لما جاء من اليهودية إلى الجليل.
ع43-45: فى استكماله الرحلة إلى الجليل – بعد توقفه فى السامرة – لم يمكث الرب فى الناصرة، مكان نشأته الأولى، التى لم تؤمن به ولم تقبل كرازته. ولأن هذا التصرف من الرب قد يثير التساؤل، أشار القديس يوحنا لسبب عدم دخول المسيح إليها بقوله نفسه عنها: “أنْ ليس لنبى كرامة فى وطنه”. أما الجليليون، فقد قبلوا المسيح ورحبوا به، إذ قد رأوه أثناء زيارتهم لأورشليم وقت العيد، وتناقلوا الأحاديث عنه…
ع46-49: “خادم للملك”: الملك هنا هو هيرودس أنتيباس، وهو الحاكم المسئول عن هذه المنطقة (الجليل)، وكان اليهود يدعونه ملكا. والمسافة التى قطعها هذا الخادم من كَفْرَنَاحُومَ حتى الجليل حوالى 25 كيلومترا، وهذا يوضح شدة تعلقه بشفاء ابنه وطَرْقِ كل الأبواب الممكنة…
أما إجابة السيد المسيح (ع48) فتستحق منا التفكير والتأمل‘ فهو يوجه فكرنا إلى الإيمان الحقيقى الذى لا يتطلب معجـزات لإثباته، إذ هو راسـخ وأعمق من عمـل المعجـزات أو العجائب، ولا يحتاج لأدلة مادية لبرهنته.
ع50: ومع هـذا، لم يخيّب المسيح رجـاء الرجل، فهو القائـل: “من يُقبل إلىّ لا أخرجه خارجا” (ص 6: 37)، فجاءت إجابته تحمل كل السلطان الإلهى فى الشفاء، وحتى الإقامة من الموت، وأمن الرجل بقوة كلمة المسيح، ولم يصر على اصطحابه إلى كَفْرَنَاحُومَ.
ع51-54: يعلن هنا أتمـام المعجـزة، وإبراز أن سـاعة شفاء الابن تقابل ساعة حديث الرجل مع المسيح.
“آية ثانية”: إشارة إلى أن الآية الأولى كانت فى عُرس قانا الجليل.
لعلنا أيها القارئ العزيز نجد أن الإيمان هو محور المعجزة السابقة، فإيمان الرجل ورجاؤه هما اللذان دفعاه أولا إلى السير 25 كيلومترا لمفابلة المسيح، وطلبه من السيد شفاء ابنه، واثقا فى قدرته على ذلك، فحصل على شفاء غلامه.