المسيح ينبئ تلاميذه بموته، واضطهاد العالم لهم، ومعونة الروح القدس
(1) المسيح ينبئ تلاميذه بموته وبالاضطهاد الآتى عليهم (ع 1-6):
1- “قد كلمتكم بهذا لكى لا تعثروا. 2- سيخرجونكم من المجامع. بل تأتى ساعة، فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقـدم خدمة لله. 3- وسـيفعلون هذا بكم، لأنهم لم يعرفوا الآب، ولا عرفونى. 4- لكنى قد كلمتكم بهذا، حتى إذا جاءت الساعة، تذكرون أنى أنا قلته لكم. ولم أقل لكم من البداية، لأنى كنت معكم. 5- وأما الآن، فأنا ماضٍ إلى الذى أرسلنى، وليس أحد منكم يسألنى أين تمضى؟ 6- لكن، لأنى قلت لكم هذا، قد ملأ الحزن قلوبكم.”
ع1: “كلمتكم بهذا”: أى الحديث السابق كله عن رفض العالم واضطهاده لكم. وسبب حديثى لكم، هو ألا يضعف إيمانكم، بل تتشددوا بتعزية الروح القدس.
ع2-3: الخروج من المجمع هو أشد عقوبة تأتى على اليهودى، وتمثل عارا أدبيا، بل إنهم سيتعرضون أيضا للقتل. ويكون دافع اليهود فى ذلك، هو غيرتهم الخاطئة على الله والناموس، كما فعلوا باستفانوس (أع 7: 54-60). أما السبب الحقيقى لهذا الاضطهاد والقتل، فهو رفضهم للمسيح والآب.
ع4: نفس المعنى فى الآية الأولى. ويضيف أنه لم يخبرهم من البداية، وذلك لسببين:
أولا: عدم استعدادهم المعنوى لسماع هذا الكلام الصعب.
ثانيا: لم يكن هناك احتياج للإشارة لعمل الروح القدس المعزى، طالما أن المسيح بينهم يعلمهم ويقويهم، وهو مصدر تعزيتهم.
ع5-6: “أما الآن”: أى بدأت أحداث وتدابير الفداء بعد أكل الفصح، وذهاب يهوذا للرؤساء والكهنة للاتفاق على القبض على المسيح.
“ماضٍ إلى الذى أرسلنى”: تعنى الصعود إلى الآب، مرورا بالصليب، ثم القيامة وإعلانها.
“ليس أحد منكم يسألنى”: ليس أمرا من المسيح، بل هو أسلوب تعجب، كما جاء فى اليونانية: إن أحدا لم يسأله إلى أين يمضى. وتفسير هذا أن الحزن ملأ قلوب التلاميذ، بسبب حديث المسيح عن الاضطهاد، ومفارقة المسيح لهم، فانشغلوا عن مصير المسيح بما ينتظرهم من بعده!!!
أرجوك يا إلهى… نحن أيضا كثيرا ما نغرق فى همومنا ونحزن ونقلق، غير ناظرين لتدابير خلاصك وما تعده لنا… ارفع قلوبنا وأعيننا نحوك، ليتشدد قلبنا ويَقْوَى عزمنا، ونكمل حياتنا بإيمان فى وعودك.
(2) عمل الروح القدس (ع 7-16):
7- “لكنى أقول لكم الحق، إنه خير لكم أن أنطلق. لأنه إن لم أنطلق، لا يأتيكم المعزى. ولكن، إن ذهبت أرسـله إليكم. 8- ومتى جـاء ذاك، يبكت العالم على خطية، وعلى بـر، وعلى دينونة. 9- أما على خطية، فلأنهم لا يؤمنون بى. 10- وأما على بر، فلأنى ذاهب إلى أبى ولا تروننى أيضا. 11- وأما على دينونة، فلأن رئيس هذا العالم قد دين. 12- إن لى أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. 13- وأما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية. 14- ذاك يمجدنى، لأنه يأخذ مما لى ويخبركم. 15- كل ما للآب هو لى، لهذا قلت إنه يأخذ مما لى ويخبركم. 16- بعد قليل لا تبصروننى، ثم بعد قليل أيضا تروننى، لأنى ذاهب إلى الآب.”
ع7: إذ لمس الرب يسوع تأثير كلامه على التلاميذ، وكيف حزنوا، أراد أن ينقلهم نقلة تحمل تعزية، وترتفع بهم فوق الحزن. فعاد ليكشف لهم سرا من أسرار التدبير وعمل الروح القدس، فجعل السيد المسيح من انطلاقه مصدرا للفرح، عابرا بهم من الرؤية الحسية الجسدية إلى الرؤية السمائية، فقد يفقدوه بالرؤية العينية، ولكن المسيح يقدم الروح المعزى والمفرح، على أنه وضع أفضل للتلاميذ والكنيسة، فتجسد الابن له مهمة زمنية محددة تنتهى بإتمام الفداء. أما الروح القدس، فيتعهد ويرعى الكرازة والكنيسة إلى انقضاء الدهر. واستخدم المسيح هنا صفة المعزى كأحد صفات الروح القدس، لأن التلاميذ كانوا فى أشد الحاجة للتعزية.
ع8: هذا العدد إجمال قبل تفصيل، فيعرض المسيح لعمل الروح القدس، ثم يفصله فى الثلاث آيات التالية، بما يوضح أهمية إرسال الروح القدس، وعمله المتنوع اللازم لخلاص البشر.
ع9: “يبكت على خطية”: أحد أعمال الروح القدس، هو التوبيخ بقصد الدفع للتوبة. ومهما تعددت الخطايا، فالروح القدس عمله فى حياة أبناء الله، هو كشف الخطية بداخلهم، ثم حثهم على التوبة. والخطية العظمى، هى خطية عدم الإيمان بالمسيح، وبدون الروح القدس لا يمكن الإيمان بالمسيح، راجع نبوة زكريا: “وأفيض على بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات، فينظرون إلى الذى طعنوه وينوحون عليه…” (12: 10)، أى لولا حلول الروح القدس وعمله يوم الخمسين، ما كان الكثير من اليهود “نخسوا فى قلوبهم، وقالوا لبطرس ولسائر الرسل ماذا نصنع؟” (أع 2: 37).
ع10: “يبكت على بر”: المعنى المباشر والمقصود هنا، أن الروح القدس يبكت اليهود على البر الذى رفضوه، وهو المسيح ذاته. فعندما جاء المسيح، وهو أملهم الوحيد فى الخلاص والبراءة من الموت، صلبوه!!! والمعنى الغير مباشر، ويستفيد منه جميع المؤمنين، أن الروح القدس العامل فيهم‘ لا يبكتهم فقط على الخطية التى صنعوها، بل يبكتهم أيضا على التقصير فى النمو فى الفضائل، والبر الذى يجب أن يتحلوا به وينتصروا به على كبريائهم.
ع11: “يبكت على دينونة”: أى أن الروح القدس يشهد ويدين العالم ورئيسه (الشيطان) على محاكمة المسيح. فما بدا فى ظاهره نصرة للشيطان وأعوانه فى التخلص من المسيح، صار دينونة للشيطان والعالم الشرير.
ع12-13: بسبب التعب النفسى الذى يمر به التلاميذ الآن، لم يخبرهم المسيح بكل شيئ، بل أعطاهم بقدر احتمالهم. ولكن فى المستقبل القريب، وبعد حلول الروح القدس فى يوم الخمسين، ستنفتح أعينهم عند امتلائهم بالروح القدس، وتزداد معرفتهم بالأمور الروحية، ويتولى الروح القدس القيادة والإرشاد واستكمال التعليم. ويشير السيد المسيح إلى أقنومية الروح القدس وعلاقته بالآب، فهو روح الله الذى يأخذ منه ويخبر التلاميذ بالأمور الآتية، أى كل ما يتعلق بملكوت الله.
ع14: “يمجدنى”: أى إظهار مجد اسم المسيح فى الكنيسة وفى قلوب التلاميذ وكل المؤمنين، بعد أن أخفى المسيح مجده بتجسده وخضوعه واحتماله للهوان.
“يأخذ مما لى”: أى حتى بعد صعودى واختفائى الجسدى عنكم، فهو وسيلة إبلاغ قصدى وفكرى وتعليمى وإرشادى لكم.
ع15: “كل ما للآب هو لى”: كلمة “كل” هنا، تعنى المساواة الكاملة بين الآب والابن. ولأن الآب والابن والروح القدس جوهر واحد، فسوف يقوم الروح القدس بأخذ ما يريد المسيح إيصاله لنا، ويقوم هو بتسليمه لكنيسته.
ويلاحظ هنا عدة وظائف يقوم بها الروح القدس، ويبرزها هذا الأصحاح:
(1) يبكت العالم (ع8).
(2) يرشد إلى جميع الحق (ع13).
(3) يمجد الابن (ع14).
(4) يبلغ الكنيسة قصد الآب والابن (ع14).
ع16: أى إشارة إلى موته ودفنه، ثم رؤيته بالعيان عند قيامته، فصعوده إلى الآب.
(3) حزن وفرح التلاميذ (ع 17-24):
17- فقال قوم من تلاميذه بعضهم لبعض: “ما هو هذا الذى يقوله لنا، بعد قليل لا تبصروننى، ثم بعد قليل أيضا تروننى، ولأنى ذاهب إلى الآب؟” 18- فقالوا: “ما هو هذا القليل الذى يقول عنه؟ لسنا نعلم بماذا يتكلم.” 19- فعلم يسوع أنهم كانوا يريدون أن يسألوه، فقال لهم: “أعن هذا تتساءلون فيما بينكم، لأنى قلت بعد قليل لا تبصروننى، ثم بعد قليل أيضا تروننى؟ 20- الحق الحق أقول لكم، إنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح. أنتم ستحزنون، ولكن حزنكم يتحول إلى فرح. 21- المرأة وهى تلد تحزن، لأن ساعتها قد جاءت. ولكن، متى ولدت الطفل، لا تعود تذكر الشدة لسبب الفرح، لأنه قد ولد إنسان فى العالم. 22- فأنتم كذلك، عندكم الآن حزن، ولكنى سأراكم أيضا فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم. 23- وفى ذلك اليوم لا تسألوننى شيئا. الحق الحق أقول لكم، إن كل ما طلبتم من الآب باسمى يعطيكم. 24- إلى الآن لم تطلبوا شيئا باسمى، اطلبوا تأخذوا، ليكون فرحكم كاملا.”
ع17-19: صَعُبَ على التلاميذ فهم ما قاله السيد المسيح، فتهامسوا سويا، معلنين عدم فهمهم لقصده. وعلم الرب ما يحيرهم، وأعاد ما قاله سابقا عن عدم إبصاره ثم رؤيته، وذلك كتمهيد لما سوف يعلنه ويشرحه يعد ذلك.
ع20: “ستبكون وتنوحون”: أى مع بدء آلامى وصلبى وموتى، و”العالم”، أى اليهود ورؤساؤهم، سيفرحون، لأنهم يعتقدون أنهم تخلصوا من المسيح إلى الأبد. ولكن ثقوا أنه بعد قليل – إعلان القيامة – ستتحول أحزانكم إلى أفراح وأمجاد لا يفهمها العالم.
ع21-22: يضرب المسيح مثلا تشبيهيا يؤكد به ما سبق وقاله، فيستخدم، للتقريب، مثل المرأة الوالدة، وآلام مخاضها التى لابد أن تجتازها، قبل أن تتحول هذه الآلام لأفراح بقدوم الحياة الجديدة، ففرحة الأم بوليدها تنسيها كل الآلام السابقة. وهكذا سيكون فرح التلاميذ الروحى، والذى يمتاز عن كل أفراح العالم الوقتية، بأنه لا يستطيع أحد أن يأخذه من أولاد الله. وقد رأينا هذه الصورة عينها، ليس فقط فى حياة التلاميذ الأطهار، بل فى حياة كل الشهداء، الذين قدموا ذواتهم للموت فى فرح لا يفهمه العالم.
ع23: “فى ذلك اليوم”: أى عند حلول الروح القدس، لن تكون هناك حاجة إلى أن تسألوننى كعادتكم الآن، فالمعرفة التى يقدمها الروح القدس هى معرفة كاملة، ويكفيكم فى ذلك الوقت أن تسألوا وتطلبوا من الآب باسمى، فيعطيكم الروح القدس كل ما تحتاجونه.
ع24: كان كل فخر الإنسان اليهودى أن يُشَفِّعَ صلاته بأسماء إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فصار لنا نحن، فى مجد العهد الجديد، أن نقدم صلواتنا باسم المسيح نفسه، كما علّمنا هو هنا. فهذه هى مسرة الآب، أن تقدَّم كل الطِلْبات من خلال ابنه الذى فدا كل البشر؛ وعند الطلب باسم المسيح، تكون الاستجابة، ومن ثم الفرح الكامل.
(4) كمال إيمان التلاميذ (ع 25-33 ):
25- “قد كلمتكم بهذا بأمثال. ولكن تأتى ساعة حين لا أكلمكم أيضا بأمثال، بل أخبركم عن الآب علانية. 26- فى ذلك اليوم تطلبون باسمى، ولست أقول لكم إنى أنا أسأل الآب من أجلكم. 27- لأن الآب نفسه يحبكم، لأنكم قد أحببتمونى، وآمنتم أنى من عند الله خرجت. 28- خرجت من عند الآب، وقد أتيت إلى العالم، وأيضا أترك العالم وأذهب إلى الآب.” 29- قال له تلاميذه: “هوذا الآن تتكلم علانية، ولست تقول مثلا واحدا. 30- الآن، نعلم أنك عالم بكل شىء، ولست تحتـاج أن يسألك أحد. لهذا، نؤمـن أنـك من الله خرجت.” 31- أجابهم يسوع: “ألآن تؤمنون؟ 32- هوذا تأتى ساعة، وقد أتت الآن، تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته، وتتركوننى وحدى. وأنا لست وحدى، لأن الآب معى. 33- قد كلمتكم بهذا، ليكون لكم فىَّ سلام. فى العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا، أنا قد غلبت العالم.”
ع25: “كلمتكم… بأمثال”: اعتدت أن أتكلم معكم يأمثال، لتقريب المعانى الصعبة لأذهانكم. ولكن، عندما يأتى الروح القدس، ويعرّفكم حقائق الصلب والفداء والقيامة، لا حاجة للأمثال، بل سيكون تعليم الروح القدس مباشرا ومفهوما. واعتبر المسيح أن ما سوف يخبره الروح القدس ويعلنه للتلاميذ والكنيسة، هو إعلان المسيح ذاته لهم، لأن الروح القدس والمسيح جوهر واحد.
ع26-27: “فى ذلك اليوم”: أى بعد حلول الروح القدس وميلاد الكنيسة، تطلبون باسمى كما أخبرتكم (ع23)، وستكون استجابة مباشرة من الآب، وذلك لأن كل من أحب الابن وآمن به، دخل من خلال الابن إلى حضرة الآب نفسه، فيعطيه الآب كل شيئ.
ع28: استكمال للآية السابقة، وشرح لاهوتى كامل ومختصر لمرحلة التجسد والفداء، ثم القيامة والصعود والجلوس عن يمين أبيه.
ع29-30: فى (ع 17، 18)، أعلن التلاميذ حيرتهم فيما كان يتكلم عنه المسيح. وبعد الشرح الذى أورده المسيح فى الأعداد (19-26)، لخص المسيح الحقيقة اللاهوتية فى (ع28) فى بساطة وكلمات قليلة بأنه من الآب خرج وتجسد، ثم يترك العالم ويعود إلى الآب… فعبّر التلاميذ عن جلاء الأمر ووضوحه ويقينهم الإيمانى بكل ما قاله المسيح، وأقروا أيضا بفهمهم أنه من الآب خرج وجاء إلى العالم.
ع31-32: “ألآن تؤمنون؟”: يشير السيد المسيح إلى أن إيمان التلاميذ كان موجودا، ولكنه كان من الضعف بحيث لا يستطيع مواجهة الساعات القادمة، والتى تبدأ بالقبض عليه ومحاكمته، ثم أحداث الصلب. ولهذا، تنبأ المسيح لهم بما سيكون عليه حالهم من خوف، يجعلهم يتفرقون كل واحد إلى أهله، ويتركونه يجتاز المعصرة وحده. ويختم المسيح نبوته لهم بأنه، حتى وإن تركوه، فهو ليس وحده، لأن الآب معه. وما صرح به المسيح هنا، يعتبر ترجمة لحب الآب لابنه المتجسد من جهة، ولكل أولاده من جهة أخرى.
أخى الحبيب… إن أصابتنا كل صور الاضطهاد، وتركنا الناس، بل وإن اتهمَنا أيضا الأقربون، فلنا عزاء ورجاء وإيمان فى الله الذى لا يتركنا ابدا‘ وهذا الإيمان هو ما استمد من خلاله كل الآباء الشهداء القديسين قوتهم وقت عذاباتهم.
ع33: “كلمتكم”: تعود على الحديث فى الأصحاحات الثلاثة السابقة، ويوضج السيد المسيح هنا سر كلامه بكل ما سبق، وهو أن العالم الذى فى قبضة الشيطان، سيكون مصدرا للألم والضيق والاضطهاد… ولكنى أنا هو مصدر السلام، فمهما كان ما سوف يقابلكم، فعليكم دائما الإيمان والثقة بأننى “قد غلبت العالم”، وأعطيتكم أيضا أن تغلبوا بى… فكما سحق المسيح الشيطان على الصليب، وأبطل سلطان الموت وانتصر عليه، هكذا أيضا أعطى التلاميذ، وكل من يؤمن إيمانا حقيقيا باسمه، هذه الغلبة على العالم وكل مملكة الظلمة.