صلاة المسيح الشفاعية عنا
(1) مجد الآب ومجد الابن (ع 1-5):
1- تكلم يسوع بهذا، ورفع عينيه نحو السماء وقال: “أيها الآب، قد أتت الساعة، مجّد ابنك ليمجدك ابنك أيضا. 2- إذ أعطيته سلطانا على كل جسد، ليعطى حياة أبدية لكـل من أعطـيته. 3- وهذه هى الحياة الأبدية، أن يعرفوك أنت الإله الحقيقى وحدك، ويسوع المسـيح الذى أرسلته. 4- أنا مجدتك على الأرض. العمل الذى أعطيتنى لأعمل قد أكملته. 5- والآن، مجدنى أنت أيها الآب عند ذاتك، بالمجد الذى كان لى عندك قبل كون العالم.”
مقدمة:
يعتبر هذا الأصحاح من أقوى الأصحاحات فى الكتاب المقدس، لأنه حديث بين الابن والآب، كما يتكلم الإنسان مع نفسه، فهو مثال لنا فى كيفية الصلاة.
ع1: بعد أن أنهى المسيح حديثه الطويل السابق مع تلاميذه، بدأ حديثا مع الآب، ورفع عينيه نحو السماء ليعلّمنا، عندما نصلى، أن ننظر إلى السماء، فنسمو بأفكارنا عن الأرضيات.
وأعلـن اقتـراب سـاعة إتمامه الفـداء على الصليب، لأنه يعرفها مسبقا، وقد تجسد من أجلها.“مجّد ابنك ليمجدك ابنك أيضا”: مجد الابن هو إتمام الفداء على الصليب، وتمجيد الأب هو إتمام مشيئته التى هى خلاص البشرية بالفداء.
ع2: مجد الابن فى تجسده كان مخفيا، ولهذا يبدأ المسيح هنا فى أعلان بعض أسرار هذا المجد، فهـو صاحب السـلطان الوحـيد على كل الخليقة، وهـو المانـح للحيـاة الأبدية بالفـداء لكل من يؤمن به.
ع3: الحياة الأبدية هى معرفة الله، والوجود الدائم معه، والوصول إليها من خلال الإيمان بالمسيح المخلّص، الذى فدانا على الصليب، وعلمنا كيف نعيش مع الله على الأرض بحياته.
ع4: أكمل المسيح مهمته، ومجّد الآب بأن أتم كل بر الناموس، ودعا الناس إلى ملكوت السماوات بالحديث المستمر عن الله الآب، وكيفية الحياة معه. وأخيرا بطاعة الآب فى تقديم نفسه ذبيحة على عود الصليب لفداء كل البشر.
ع5: مجد اللاهوت كان للابن منذ الأزل، وأُخفى بالتجسد، وظهر بالقيامة والصعود.
ليتنا نتمم وصايا الله، فنذوق عربون الأبدية على الأرض، فيمجدنا الله ويفرّحنا فى الملكوت.
(2) الصلاة من أجل التلاميذ (ع 6-19):
6- “أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتنى من العالم، كانوا لك وأعطيتهم لى، وقد حفظوا كلامك. 7- والآن، علموا أن كل ما أعطيتنى هو من عندك. 8- لأن الكلام الذى أعطيتنى قد أعطيتهم، وهم قبلوا وعلموا يقينا أنى خرجت من عندك، وآمنوا أنك أنت أرسلتنى. 9- من أجلهم أنا أسأل، لست أسأل من أجل العالم، بل من أجل الذين أعطيتنى، لأنهم لك. 10- وكل ما هو لى فهو لك، وما هو لك فهو لى، وأنا ممجد فيهم. 11- ولست أنا بعد فى العالم، وأما هؤلاء فهم فى العالم، وأنا آتى إليك. أيها الآب القدّوس، احفظهم فى اسمك الذين أعطيتنى، ليكونوا واحدا كما نحن. 12- حين كنت معهم فى العالم، كنت أحفظهم فى اسمك، الذين أعطيتنى حفظتهم، ولم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك، ليتم الكتاب. 13- أما الآن، فإنى آتى إليـك، وأتكلم بهـذا فى العالم ليكون لهم فرحى كاملا فيهم. 14- أنا قد أعطيتهم كلامـك، والعالم أبغضهم، لأنهم ليسـوا من العالم كما أنى أنا لست من العالم. 15- لست أسأل أن تأخذهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرير. 16- ليسوا من العالم كما أنى أنا لست من العالم. 17- قدسهم فى حقك، كلامك هو حق. 18- كما أرسلتنى إلى العالم، أرسلتهم أنا إلى العالم. 19- ولأجلهم أقدّس أنا ذاتى، ليكونوا هم أيضا مقدّسين فى الحق.”
ع6: “أظهرت اسمك”: أى بكلامى عنك كآب. فمعرفة اليهود لله كانت قاصرة، ولم تدرك الثالوث.
وبتجسد المسيح عرفوا الله أكثر، وتبع الكثيرون منهم المسيح متمسكين بوصاياه.
ع7-8: “كل ما أعطيتنى”: أى كمال الحكمة، والتعليم بالوصايا، وكل المعجزات التى رأوها، فأيقنوا بها أن المسيح مرسل من الآب، وكلامه هو كلام الله، فثبت إيمانهم أكثر.
ع9: ليس معنى هذا أن المسيح لا يصلى من أجل العالم، لأنه، فى (ع20، 21)، يصلى من أجل العالم الذى سيؤمن به. وكذلك على عود الصليب، يصلى من أجل صالبيه (راجع لو 23: 34). ولكنه خصّ بالصلاة هنا تلاميذه، بسبب ما سوف يتعرضون له، دون غيرهم، من اضطهاد ومتاعب نتيجة وقوع مسئولية الكرازة عليهم، واحتياجهم لمستوى أعلى من المساندة.
ع10: يعلن مساواة الابن للآب فى ملكية كل الخليقة، أى أن المسيح هو الله. المسيح ممجد فى تلاميذه بحفظهم وصاياه، ثم فى كرازتهم باسمه.
أخى الحبيب، إن تمجيد اسم المسيح وإعلانه، لم يصر مسئولية التلاميذ وحدهم، بل مسئولية كل أولاد الله. فعلينا إذن مهمة عظيمة، وهى تمجيد اسم المسيح أمام كل من حولنا. ولن يتأتّى هذا إلا بعملنا بوصيته، وتوبتنا الدائمة، وجهادنا ضد شهواتنا، فيختفى إنساننا العتيق (راجع رو 6: 6؛ أف 4: 22؛ كو 3: 9)، ويظهر عوضا عنه مسيحنا الساكن فينا.
ع11: أى انتهى وقت وزمن رسالتى وعملى على الأرض، أما هم فلا زالوا باقين، وسوف يقابلون الكثير، وعليهم أيضا إبراز وتمجيد اسمى، وإكمال ما بدأت من كرازة. ولهذا، أسأل أنا أيضا من أجلهم أن تحفظهم من الشر، ومن العالم الذى سوف يواجهونه، ومن كل ما ينتظرهم.
“فى اسمك”: كناية عن قوة الله وعنايته، كما يقول الحكيم: “اسم الرب برج حصين، يركض إليه الصّدّيق ويتمنَّع” (أم 18: 10).
“ليكونوا واحدا”: أى اتحاد على مستوى المحبة القلبية والفكر والهدف، بلا خصومة أو فرقة.
وما أحوج الرعاة والخدام لهذه الطِلْبَة الآن، فسلام الكنيسة والمخدومين أساسه محبة الخدام ووحدة فكرهم. وما أحوج الكنيسة أن تصلى من أجل رعاتها، حتى يحفظهم الله من حروب الفرقة والتحزب.
“كما نحن”: رغبة المسيح فى أن يكون كمال الاتحاد بين التلاميذ، كما هو بين الآب والابن.
ع12-13: “حين كنت معهم… فإنى آتى إليك”: ترتبط الآيتان وتكملان المعنى الواحد. أى أثناء وجودى، كان التلاميذ فى عهدتى، ولهذا حفظهم تعليمى وإرشادى ومتابعتى لهم. أما وقد أتى الوقت الذى سأترك فيه العالم، فإننى أعيد مسئولية الحفاظ عليهم لاسمك أيها الآب. وها أنا أصلى بهذا أمامهم، ليكون لهم الفرح والثقة فى استمرار الرعاية الإلهية لهم، أمام ما سوف يأتى به العالم عليهم من ضيق واضطهاد.
“ابن الهلاك”: إشارة واضحة ليهوذا. وأسماه الرب بهذا الاسم، لتوضيح إرادة يهوذا الشريرة، أنه هو من استحق الهلاك، ولم يستفد من رعاية المسيح الحافظة لباقى التلاميذ.
“ليتم الكتاب”: كما ذَكَرَتْ النبوات فى الكتاب المقدس (مز 41: 9؛ 109: 8) عن خيانة يهوذا، ورفض الله له.
ع14: علّم المسيح تلاميذه وكنيسته كلام الله السامى عن أفكار العالم، والذى يكشف أخطاءه. لذلك يبغض العالم كل أولاد الله المتمسكين بالحياة الطاهرة النقية، كما أبغض أيضا المسيح من قبلهم.
وما يعزينا هنا، هو ما ذكره القديس بولس: “وجميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى فى المسيح يسوع يُضطهدون” (2 تى 3: 12).
ع15-16: حيث أن العالم يبغض أولاد الله، فليس الحل أن يرفعهم المسيح معه إلى السماء، بل أن يحفظهم ويقوّيهم فى مواجهة الشر والشرير. ويعطى المسيح تشجيعا لأولاد الله، إذ يؤكد نَسَبَهم الروحى لله، وليس للعالم.
ع17-19: يسأل المسيح فى صلاته أن يثبت التلاميذ فى كل كلامه – الحق – الذى سمعوه منه. وكما أن المسيح خصص – قدّس – نفسه لتعليمهم وفدائهم، يأتى الدور عليهم أيضا ليخصَّصوا، كسيدهم، فى الإرسال إلى العالم، والكرازة بالفداء وملكوت السماوات.
(3) الصلاة من أجل الكنيسة (ع 20-26):
20- “ولست أسأل من أجل هؤلاء فقط، بل أيضا من أجـل الذين يؤمنـون بى بكلامهم. 21- ليكون الجميع واحـدا، كما أنـك أنت أيها الآب فىَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضا واحـدا فينا، ليؤمن العالم أنك أرسـلتنى. 22- وأنا قد أعطيتهم المجد الذى أعطيتنى، ليكونوا واحـدا كما أننـا نحن واحد. 23- أنا فيهم وأنت فىَّ ليكونوا مُكَمَّلِينَ إلى واحد، وليعلم العالم أنك أرسلتنى، وأحببتهم كما أحببتنى. 24- أيها الآب، أريد أن هؤلاء الذين أعطيتنى يكونون معى حيث أكون أنا، لينظروا مجدى الذى أعطيتنى، لأنك أحببتنى قبل إنشاء العالم. 25- أيها الآب البار، إن العالم لم يعرفك، أما أنا فعرفتك، وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتنى. 26- وعرّفتهم اسمك، وسأعرّفهم، ليكون فيهم الحب الذى أحببتنى به، وأكون أنا فيهم.”
ع20: فى صلاته هنا، يتجاوز السيد المسيح التلاميذ إلى الكنيسة كلها فى كل عصورها.
ع21: “ليكون الجميع واحدا”: أليس دم الفداء واحد؟ أليس المعلم واحد؟ أليس ماء المعمودية واحد؟ فالطبيعى إذن أن نكون واحـدا، ليس فى الشـكل أو الظاهـر، لكن فى الفكر والمحبة القلبية، عـلى مثـال الوحـدانية بين الابن والآب، ليس فى الجوهـر، ولكن فى المحبة قـدر ما نستطيع بحسب طبيعتنا البشرية.
ع22: “أعطيتهم المجد”: المجد هنا، يشرحه القديس ذهبى الفم بأنه السلطان والمواهب، ومشاركة المسيح فى العمل الخلاصى بالكرازة. والهدف من إعطاء هذا المجد، هو الوحدانية أيضا.
وكما أن مجد الآب والابن واحد لأنهما واحد، أعطانا المسيح هذا المجد للغرض نفسه، أى وحدانية أعضاء وبناء الكنيسة.
ع23: يرتفع المسيح لأعلى مستويات الوحدانية، مقدما حقيقة لاهوتية روحية رائعة، شارحا إياها هكذا: أنا فيهم ببشريتى وتجسدى وذبحى عنهم، وأنت فىّ بملء لاهوتك وأنا فيك. فالمسيح جمع وصالح الآب بالبشرية فى شخصه المبارك، ففى المسيح اتحدت البشرية بالله، والسماء بالأرض، وصار المسيح شفيعا ووسيطا كفاريا، مما جعل حب الآب للبشر امتدادا لحبه لابنه الوحيد.
بخضوعنا لوصايا الله نصير واحدا فيه.
تعقيب:
تُظهر الأعداد (20-23) اهتمام الله بالوحدانية فى كنيسته. ولكن إبليس استطاع أن يقسّم الكنيسة عن طريق الكبرياء. والحل هو الاتضاع للوصول إلى الوحدانية، مع التمسك بالإيمان المسلَّم من المسيح والرسل.
ع24: كانت الطِلْبَة الأولى هى تقديسهم، والثانية هى وحدتهم سويا واتحادهم به. أما هذه الطِلْبَة الثالثة فهى دوام الوجود معه، وهى أعلى أشواق حب المسيح التى يعلنها. ولهذا، استخدم السيد هنا لفظ “أريد”، وليس “أسأل”؛ فالسؤال هو طلب. لكن “أريد”، تضيف بُعد المشاعر، والارتباط، والرعاية الحقيقية فى وجود أولاده جميعا معه فى حضنه. وكما اشتركوا فى حمل صليب الاضطهاد وتعب الكرازة، يكون لهم أيضا شركة المجد الذى للابن (1 كو 12: 26).
“قبل إنشاء العالم”: توضح أزلية الابن (راجع ص 1: 1).
ع25-26: “العالم لم يعرفك”: فى العالم كله، كانت الوثنية هى السائدة. وفى إسرائيل، كانت المعرفة نظرية وحرفية، دون الدخول إلى عمق معرفة الله. أما معرفة المسيح بالآب، فهى أزلية كيانية. وصارت معرفة الآب متاحة لنا جميعا من خلال ابنه الوحيد. وأشار المسيح هنا إلى إيمان التلاميذ، بقبولهم الابن الذى هو الخطوة الأولى فى معرفة الآب التى بدأت، وسيكملها المسيح بعد القيامة، بشرحه الأمور الخاصة بالملكوت. والروح القدس يكمل تعريفنا بالآب غير المحدود، فتنمو محبتنا له؛ وبهذا يثبت المسيح فى قلوبنا.
أشكرك يا إلهى على محبتك العظيمة، التى لم أدرك منها إلا القليل، فأعطنى أن أتجاوب مع حبك، فينعكس حبا لكل من حولى.