إشباع الجموع– المشى على الماء–سر التناول من جسد المسيح ودمه
(1) معجزة إشباع الجموع (ع 1 – 15):
1- بعد هذا، مضى يسوع إلى عبر بحر الجليل، وهو بحر طبرية. 2- وتبعه جمع كثير، لأنهم أبصروا آياته التى كان يصنعها فى المرضى. 3- فصعد يسوع إلى جبل، وجلس هـناك مع تلامـيذه. 4- وكان الفصـح عيـد اليهـود قريبا. 5- فرفع يسوع عينيه، ونظر أن جمعا كثيرا مقبل إليه، فقال لفيلبس: “من أين نبتاع خـبزا ليأكل هؤلاء؟” 6- وإنما قال هذا ليمتحنه، لأنه هو علم ما هو مزمع أن يفعل. 7- أجابه فيلبس: “لا يكفيهم خبز بمئتى دينار ليأخذ كل واحد منهم شيئا يسـيرا.” 8- قال له واحد من تلاميذه، وهو أندراوس أخو سِمعان بطرس: 9- “هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان. ولكن، ما هذا لمثل هؤلاء؟” 10- فقال يسوع: “اجعلوا الناس يتكئون.” وكان فى المكان عشب كثير، فاتكأ الرجال، وعددهم نحو خمسة آلاف. 11- وأخذ يسوع الأرغفة, وشكر، ووزع على التلاميذ، والتلاميذ أعطوا المتكئين، وكذلك من السمكتين بقدر ما شاءوا. 12- فلما شبعوا، قال لتلاميذه: “اجمعوا الكسر الفاضلة، لكى لا يضيع شىء.” 13- فجمعوا، وملأوا اثنتى عشرة قفة من الكسر، من خمسة أرغفة الشعير التى فضلت عن الآكلين. 14- فلما رأى الناس الآية التى صنعها يسوع، قالوا: “إن هذا هو بالحقيقة النبى الآتى إلى العالم.” 15- وأما يسوع، فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا، ويختطفوه ليجعلوه ملكا، انصرف أيضا إلى الجبل وحده.
ع1-3: “بعد هذا”: أى بعد ما حدث فى أورشليم، اتجه الرب إلى الجليل، وعبربحيرته من الغرب إلى الشرق.
“طبرية”: مدينة على بحر الجليل، أنشأها هيرودس على اسم إمبراطور الرومان “طيباريوس” سنة 26 ميلادية.
وتبعت الجموع الرب يسوع بسبب كثرة معجزات الشفاء، فصعد إلى تل مرتفع مع الاثنى عشر، وأخذت الجموع فى التزايد حوله.
ع4: لا يمكن إغفال هذه الإشارة العرضية التى ذكرها القديس يوحنا بقرب حلول الفصح، فالحديث فى هذا الأصحاح، سيتناول الحديث عن الإشباع الجسدى للجموع من جهة، والإشباع الروحى الخلاصى للعالم كله من خلال خبز الحياة جسد المسيح من جهة أخرى. فقد أشار القديس يوحنا للفصح عمدا، لتهيئة الذهن لربط جسد المسيح المقدم للعالم بالفصح الخلاصى، “لأن فصحنا أيضا المسيح قد ذبح لأجلنا” (1كو 5: 7).
ع5-7: يمثل فيلبس الشخصية العقلانية، فالمسيح هو الذى ذهب إليه ليدعوه، ولم يتبعه هو من نفسه (ص 1: 43)، وهو الذى قاطع المسيح فى حديثه “أرنا الآب وكفانا” (ص 14: 8). ولهذا، وجّه المسيح الحديث إليه بالذات؛ ليمتحن إيمانه من جهة، وليجعله شاهدا بأن الإيمان يفوق العقل والإمكانيات المادية والعقلية. ولأن فيلبس يمثل العقل المحدود فى حلوله، لم يقدم حلا لسؤال الرب يسوع عن مكان شراء الخبز، بل أضاف تعقيدا آخر وهو بكم؟!… أى حتى لو توفر المكان، فأين النقود؟
إن العقل، فى أحيان كثيرة، يكون عائقا يحد عمل الله فى حياتنا بحساباته القاصرة… فلا تدع عقلك يوما عائقا لحياة الإيمان، بل اجعله متقبلا، شاكرا لأعمال الله فى حياتك، متذكرا لها ومتأملا فيها.
ع8-9: “غلام… شعير”: يلفت القديس يوحنا نظرنا إلى شئ هام، وهو الله العامل بالقليل، فجاء حل المشكلة عن طريق غلام صغير، وليس أحد المسئولين الأغنياء. وكذلك الشعير، فهو خبز العامة الفقراء، وليس كالقمح غذاء الأغنياء.
إذن، علينا ألا نستهين باقل الأمور، ولا نفتخر بأعظمها، بل نفتخر بالرب الذى، بأقل القليل، يفعل أكثر الكثير. فيا ليت يكون لنا هذا الإيمان، الفعّال والعامل، فى تقديم إمكانياتنا الضعيفة لله، فيصنع بها الكثير.
ع10-11: “اجعلوا الرجال يتكئون”: عملية تنظيمية، نظمها التلاميذ. ولهذا، سهل حصر عدد الرجال، وكذلك سهل التوزيع؛ فالنظام من الفضائل المسيحية السلوكية التى ينبهنا لها الله “وليكن كل شئ بلياقة وبحسب ترتيب” (1كو 14: 40).
إلا أن العدد الإجمالى كان أكثر من هذا، كما أشار القديس متى: “ما عدا النساء والأولاد” (مت 14: 21).
نلاحظ أن عبارة “قدر ما شاءوا” تشير إلى كمال العمل الإلهى فى الإشباع حتى الفيض. وهكذا عمل الله دائما تجاه كل خليقة، وخاصة أبنائه المتكلين عليه، فإن “بركة الرب هى تغنى ولا يزيد معها تعبا” (أم 10: 22).
ع12-13: جمع الكسر… لكى لا يضيع شئ:
أولا، المعنى المباشر: أراد الرب أن يجعل من هذه المعجزة تذكارا لا ينساه التلاميذ، فكان عدد القفف بعددهم، فحمل كل واحد منهم واحدة كشهادة لا ينساها، لأنه شارك فيها.
وأراد الرب أيضا أن يعلمنا أن نرشّد استهلاكنا فى الطعام، فنحتفظ بما تبقى لنعود ونأكله، فلا نقع فى خطية الإسراف، أو الاستهتار بنعم الله التى أعطاها لنا.
ثانيا: أما المعنى الرمزى فى جمع الكسر، فهو أن هذا الخبز إشارة لجسده. فأولا قد شكر، وبارك، ووزع؛ وهى نفس الخطوات التى صنعها عندما أسس سر الأفخارستيا (الشكر). ولهذا، لم يكن من المقبول أن تُترك كسر الخبز لتدوسها الأقدام. بل طلب من التلاميذ – الذين يمثلون كهنوت العهد الجديد – جمع بقايا ما يرمز لجسده الذى باركه ووزعه.
لاحظ أيها الحبيب أنه فى طقس القداس القبطى، لا يستبقى شئ من جسد المسيح، بل يقوم الكاهن بما فعله التلاميذ فى جمع كل بقايا جسد الرب، وعدم ترك شئ منه…
ليتنا نتعلم من المسيح أن نصلى قبل أن نأكل طعامنا، ونشكره، ونبارك برشم علامة الصليب، ثم نوزع الطعام على الحاضرين. وبعد ما نفرغ من الأكل، نجمع المتبقى لنأكله، أو نعطيه للمحتاجين، فهذا يشعرنا بنعمة الله التى يهبها لنا ولا يجدها الكثيرون.
ع14-15: أما رد فعل المعجزة على النفوس فقد كان قاصرا، إذ اعتبروا المسيح هو النبى الذى تحدث موسى عنه فى (تث 18: 15-18)، وانصرف ذهنهم إلى تنصيب المسيح ملكا أرضيا عليهم، وهو ما لم يقبله الرب منهم، فانصرف وحده، رافضا مجد العالم الذى لم يأت من أجله.
إلهى الحبيب… اجعل من جسدك شبعى الحقيقى، واجعل من ضعفى وإمكانياتى المحدودة قوة، فأنا أقل من رغيف الشعير، ولكن فى يدك أنت، أشتاق أن أكون مصدر إشباع للآخرين، أحدثهم عنك، وأدعوهم إليك فيأتون كنيستك، ويكون لهم الشبع الحقيقى عوضا عن زيف وفراغ العالم.
(2) معجزة السير على الماء (ع 16 – 24):
16- ولما كان المساء، نزل تلاميذه إلى البحر. 17- فدخلوا السفينة، وكانوا يذهبون إلى عبر البحر، إلى كَفْرَنَاحُومَ. وكان الظلام قد أقبل، ولم يكن يسوع قد أتى إليهم. 18- وهاج البحر من ريح عظيمة تهب. 19- فلما كانوا قد جذفوا نحو خمس وعشرين أو ثلاثين غلوة، نظروا يسوع ماشيا على البحر مقتربا من السفينة، فخافوا. 20- فقال لهم: “أنا هو، لا تخافوا.” 21- فرضوا أن يقبلوه فى السفينة. وللوقت، صارت السفينة إلى الأرض التى كانوا ذاهبين إليها. 22- وفى الغد، لما رأى الجمع الذين كانوا واقفين فى عبر البحر إنه لم تكن هناك سفينة أخرى سوى واحدة، وهى تلك التى دخلها تلاميذه، وأن يسوع لم يدخل السفينة مع تلاميذه، بل مضى تلاميذه وحدهم. 23- غير أنه جاءت سفن من طبرية إلى قرب الموضع الذى أكلوا فيه الخبز إذ شكر الرب. 24- فلما رأى الجمع أن يسوع ليس هو هناك ولا تلاميذه، دخلوا هم أيضا السفن، وجاءوا إلى كَفْرَنَاحُومَ يطلبون يسوع.
ع16-21: فى نفس يوم إشباع الجموع، وعند مسائه، أخذ التلاميذ – دون السيد – سفينة للعبور خلال بحر الجليل إلى كَفْرَنَاحُومَ.
ولنلاحظ التعابير التى أوردها القديس يوحنا بدقة: (الظلام – لم يكن يسوع – هاج البحر). وكأن القديس يرسم لوحة بدقة بالغة، إذ يقول إن لحظات الضعف الحقيقى (الظلام) فى حياة الإنسان، هى اختفاء المسيح عن حياته، مما جعل الشيطان والتجارب (الريح العظيمة) تعصف بهذا الإنسان، فتتعذب نفسه، ويقع فريسة للخوف، بدلا من الاطمئنان والأمان. ولما أجهدهم التعب، مما هم عليه من صراع وجهد فى التجديف من (3 إلى 4 أميال)، أى عندما يفرغ الإنسان من كل حيلة وكل مجهود، يأتى المسيح معلنا ذاته بقوة “أنا هو، لا تخافوا”… فيحل السلام مكان القلق، والطمأنينة مكان التوتر، إذ استراحت النفس فى مخلصها.
إلهى الحبيب… لا تتركنى أبدا، بل لا تجعلنى بجهالة أتركك، فالرياح قاسية، والعاصف مغرق، وليس لى نجاة سوى صوتك الهادئ القوى: “أنا هو، لا تخافوا”؛ اجعل هذه الكلمات سندا لى فى كل حياتى، واجعلنى أصلى مع كنيستك دوما: “يا ملك السلام… أعطنا سلامك.”
ملاحظة: الترجمة العربية: “فرضوا أن يقبلوه”، ترجمة ضعيفة جدا. أما اليونانية والإنجليزية، فجاءت فيها بمعنى: “تلهفوا”، وهى أقوى فى المعنى والتصوير، وتعبير عن الحالة التى كان عليها التلاميذ عندما عرفوا صوته.
ع22-24: فى هذه الأعداد الثلاثة إعلان للمعجزة، وإدراكها عند الجموع، فهم يعلمون أن المسيح كان عند الجليل وحده، والتلاميذ أخذوا السفينة الوحيدة. فكيف إذن وصل يسوع إليهم؟ فإنهم كانوا وقوف فى انتظاره آتيا من الجبل، وإذا به مع تلاميذه فى كَفْرَنَاحُومَ. ولهذا، ذهبت الجموع أيضا إلى كَفْرَنَاحُومَ، طالبين يسوع.
(3) الطعام البائد والطعام الباقى (ع 25 – 34):
25- ولما وجدوه فى عبر البحر، قالوا له: “يا معلم متى صرت هنا؟” 26- أجابهم يسوع وقال: “الحق الحق اقول لكم، أنتم تطلبوننى، ليس لأنكم رأيتم آيات، بل لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم. 27- اعملوا، لا للطعام البائد، بل للطعام الباقى للحياة الأبدية الذى يعطيكم ابن الإنسان، لأن هذا الله الآب قد ختمه.” 28- فقالوا له: “ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله؟” 29- أجاب يسوع وقال لهم: “هذا هو عمل الله، أن تؤمنوا بالذى هو أرسله.” 30- فقالوا له: “فأية آية تصنع، لنرى ونؤمن بك ماذا تعمل؟ 31- آباؤنا أكلوا المن فى البرية، كما هو مكتوب أنه أعطاهم خبزا من السماء ليأكلوا.” 32- فقال لهم يسوع: “الحق الحق اقول لكم، ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء، بل أبى يعطيكم الخبز الحقيقى من السماء. 33- لأن خبز الله، هو النازل من السماء، الواهب حياة للعالم.” 34- فقالوا له: “يا سيد أعطنا فى كل حين هذا الخبز.”
ع25-27: يبدأ اليهود، وهم يطلبون يسوع، بسؤال تعجبى عن كيفية وصوله إلى كَفْرَنَاحُومَ. ولكن المسيح يجيب عليهم كعارف بدواخلهم، فهم يطلبوه، ليس بسبب الإيمان بما صنع من معجزات، ولكن من أجل العطية المادية فقط، وهى الأكل المجانى، والشبع دون تعب، فاستحقوا تبكيت المسيح لهم، ونصحه إياهم بأن هناك نوع آخر من الطعام لا يعرفه هؤلاء، ولا يعطيه آخر سوى المسيح لكل من يتبعه، وهو طعاما روحيا يقدم كعربون للحياة الأبدية.
والحديث هنا، مقدمة لما سوف يأخذنا إليه المسيح فى باقى الأصحاح، فى أنه هو نفسه الطعام الروحى الحى. أما تعبير “الآب قد ختمه”، فهو عائد على المسيح وليس الطعام، فالمسيح هو المعيّن منذ الأزل من الآب ليعطى الحياة الأبدية. وقد شهد له الآب منذ معموديته بصوت مسموع، وكانت هذه الشهادة بمثابة إعلان وختم، أى تثبيتا من الآب لعمل الابن.
إلهى الحبيب… لا زلت أجد فى نفسى اهتمامى بالطعام البائد، فأطلب الخيرات المادية والنجاح الأرضى، ناسيا أن كل هذا إلى زوال. فارفع قلبى يا إلهى إلى فوق، فأطلبك أنت، وتصير كل اشتياقاتى روحية، محورها أنت أيها الطعام الباقى، يا خبز الحياة.
ع28-29: قال السيد المسيح فى (ع 27): “اعملوا”، فجاء استفسار اليهود فى هذه الآية: “ماذا نفعل؟”، وكأن قلبهم قد بدأ يميل، للحظة، إلى التعليم الروحى للسيد المسيح فى إتمام أعمال الله، من أجل نوال هذا الطعام الباقى. أما إجابة المسيح لهم، فكانت أن كل هذه الأعمال تتلخص فى الإيمان به. والكنيسة تُعلّم أن الإيمان بالرب يسوع، هو الشرط الأول للخلاص، فالجهاد الروحى والأعمال الصالحة لا يُقبَلوا إلا على أساس الإيمان بالابن الفادى الذى أرسله الآب.
ع30-31: عندما طلب المسيح من اليهود الإيمان به، سألوه سؤالا مباشرا: “إذا كانت العلامة التى أعطاها الله لموسى النبى فى زمن آبائنا، هى نزول المن من السماء، وهى أعظم معجزة وعطية، لأنها أعالت الشعب كله لمدة 40 سنة، فأية معجزة أعظم تصنعها أنت، حتى نؤمن بك، كما آمن أباؤنا بموسى؟”
ع32-33: مرة أخرى، وكالمعتاد، يحاول السيد الارتفاع باليهود لما هو أعلى وأعمق، للدخول بهم للأسرار الإلهية، والخفية عليهم، فصحح الخطأ بأن المن لم يكن عطية موسى لشعبه، بل هبة الله الآب. والآب ذاته، يعطيهم الآن الخبز الأعظم والحقيقى، فالمن كان رمزا للخبز الحقيقى؛ فالمسيح نفسه، الذى نزل من السماء متجسدا، والواهب الحياة للعالم، هو خبز الحياة الحقيقى.
ع34: لم يدرك اليهود بالضبط قصد المسيح، ولكنهم شعروا بعظم العطية فطلبوها، متمثلين بالمرأة السامرية التى طلبت الماء الحى، دون أن تفهم المعنى الأعمق الذى قصده المسيح.
ولهذا، بدأ المسيح، من (ع 35)، الشرح التفصيلى لخبز الحياة، الذى هو فوق العطايا المادية.
لا زلنا يا إلهى نطلب الماديات وننشغل بها، وأنت الداعى لنا بأن نهتم بملكوت السموات أولا، فتفيض علينا بكل أنواع العطايا. ولكننا لا زلنا نتعثر، ونحتاج ذراعك القوية لتقيمنا وتنتشلنا مما نحن عليه، فنهتم بما هو فوق حيث أنت يا إلهى، فتشبع النفس بحق من الوجود الدائم معك، ولا تعد وتطلب ما هو أرضى.
(4) خبز الحياة (ع 35 – 40):
35- فقال لهم يسـوع: “أنا هو خبز الحياة، من يقبل إلىّ فلا يجوع، ومن يؤمن بى فلا يعطش أبـدا. 36- ولكنى قلت لكم إنكم قد رأيتمونى ولستم تؤمنون. 37- كل ما يعطينى الآب فإلىّ يُقبل، ومن يقبل إلىّ لا أخرجه خارجا. 38- لأنى قد نزلت من السماء، ليس لأعمل مشيئتى، بل مشيئة الذى أرسلنى. 39- وهذه مشيئة الآب الذى أرسلنى، أن كل ما أعطانى لا اتلف منه شيئا، بل أقيمه فى اليوم الأخير. 40- لأن هذه هى مشيئة الذى أرسلنى، أن كل من يرى الابن ويؤمن به، تكون له حياة أبدية، وأنا أقيمه فى اليوم الأخير.”
ع35: يقدم السيد المسيح نفسه كما قدم نفسه للمرأة السامرية، فهو ماء حى وخبز حياة، أى فيه كل احتياجات الإنسان للحياة، وبدونه، لا يبقى سوى الجوع والعطش اللذين لا يستطيع العالم بكل ما فيه تعويضهما. وعبارة “أنا هو”، استخدمها المسيح مرارا: “أنا هو نور العالم “، “أنا هو الباب”، “أنا هو الطريق “، “أنا هو الحق”، “أنا هو الراعى الصالح”، “أنا هو الكرمة”، “أنا هو القيامة”، “أنا هو الحياة”. وكذلك فى تأكيد أنه الوحيد الذى يسد كل احتياجات النفس الإنسانية، مهما اختلفت مطالبها أو حاجتها. كذلك تعبير “أبدا”، يقابل تعبير “إلى الأبد” فى حديثه مع السامرية. فالمسيح إشباعه ليس قاصرا على تنوع احتياجات الإنسان، ومطالبه الجسدية والنفسية والروحية، بل هو إشباع مستمر أبدى، أى إشباع لا نهاية له.
أما مسئولية الإنسان فى حصوله على هذا الإشباع، فقد حددها السيد المسيح نفسه بقوله: “من يقبل إلىّ”. فالمسيح إذن يقدم ويعرض على الإنسان عطاياه، دون أن يفرض نفسه، فهو يقف ويقرع الباب، دون أن يفتحه عنوة، حتى يكون للإنسان الإرادة فى الاختيار، وهى مسئولية جسيمة، لأن من لا يقبل إلى المسيح، يهلك جوعا وعطشا، ويبقى فى عذاب الاحتياج للإشباع دون الحصول عليه…
ع36-37: “رأيتمونى ولستم تؤمنون”: أى أنه، بالرغم من استمرار إعلان المسيح عن نفسه بطرق شتى، لا زالت عيون اليهود فى حالة من العمى الروحى، وذلك لأنهم لا يطلبون شخص المسيح لذاته، بل لسبب أكلهم من الخبز، والشبع الجسدى (ع 26). وهكذا الإنسان فى كل أحواله، إذا كان أساس علاقته بالله هو النفع المادى فقط، لا يعتبره الله مؤمنا، حتى وإن ادعى هو ذلك.
“كل ما يعطينى الآب”: نسب السيد المسيح فعل العطاء والإرسال للآب، والقبول وعدم الرفض للابن، فالابن يقبل كل من يجئ إليه، لينال الفداء من خلال الإيمان به أولا. والآية أيضا تحتمل معنى قبول الأمم فى هذا الفداء المجانى، فاليهود رأوه ولم يؤمنوا. أما من أقبل إليه فلا يرفضه، ولا يخرجه خارجا. وكيف هذا، وهو محب البشر، الحانى، الذى يقبل فى حبه كل العالم، وهو المتجسد والمصلوب لأجلنا جميعا. يا له من رجاء يُعطَى لكل الخطاة فى حضنه المفتوح دائما.
أشكرك يا إلهى على كلماتك المشجعة لنفوسنا الضعيفة… فكلما أتينا مقرين ومعترفين بخطايانا، وقرأ الكاهن لنا صلاة التحليل، تذكرنا وعدك الصادق بأن كل من يقبل إليك لا ترده خارجا، بل تثبته فى محبتك، وتنقيه ليأتى بثمر أكثر.
ع38-39: الكلام هنا استمرار لمعنى الآيات السابقة، فالمسيح يؤكد أن سبب نزوله من السماء، أى تجسده، هو إتمام الإرادة الواحدة لله، فالآب مشيئته خلاص الجميع، والابن هو متمم هذه المشيئة بموته وفدائه. فكل ما أعطاه الآب للابن لا يضيع منه شئ، بل يحفظ فى اسم المسيح ليوم مجيئه الثانى، والقيامة من الأموات.
ع40: يستمر المسيح فى شرح وتوضيح إرادة الآب ومشيئته، وهما، ببساطة، الإيمان بابنه الوحيد، الذى ليس باسم آخر سواه يمكن أن نخلص (أع 4: 12). ويمكن استخلاص الحقائق الإيمانية التالية:
(1) أن الخلاص أساسه الإيمان بالمسيح، وهذا الشرط كرره المسيح بنفسه، وكذلك الرسل، مرارا دون تنازل. ولهذا، فالكنيسة تؤمن أن الخلاص متاح للعالم كله، ولكن شرطه الأول الإيمان بالمسيح. ولهذا الوضوح فى اقوال المسيح، ترفض الكنيسة بدعة عمومية الخلاص (أى خلاص الناس، حتى بدون إيمانهم بالمسيح).
(2) أن الإيمان، وإن كان هو الشرط الأول، إلا أن هناك أمورا أخرى بدونها يبطل الإيمان، وسوف تتناول الأعداد القادمة من نفس الأصحاح شرطا آخر للخلاص. ولهذا، فالكنيسة عندما تفسر الكتاب المقدس، لا تعمد على آية واحدة، بل تأخذ معنى الآيات ككل.
(5) عدم فهم اليهود (ع 41 – 51):
41- فكان اليهـود يتذمـرون عليه، لأنه قـال: أنا هـو الخبز الذى نزل من السـماء. 42- وقالوا: “أليس هذا هو يسوع بن يوسف، الذى نحن عارفون بأبيه وأمه، فكيف يقول هذا أنى نزلت من السماء؟” 43- فأجاب يسوع وقال لهم: “لا تتذمروا فيما بينكم. 44- لا يقدر أحد أن يقبل إلىّ إن لم يجتذبه الآب الذى أرسلنى، وأنا أقيمه فى اليوم الأخير. 45- إنه مكتوب فى الأنبياء: ويكون الجميع متعلمين من الله. فكل من سمع من الآب وتعلم يقبل إلىّ. 46- ليس أن أحدا رأى الآب إلا الذى من الله، هذا قد رأى الآب. 47- الحق الحق اقول لكم، من يؤمن بى فله حياة أبدية. 48- أنا هو خبز الحياة. 49- آباؤكم أكلوا المن فى البرية وماتوا. 50- هذا هو الخبز النازل من السماء، لكى يأكل منه الإنسان ولا يموت. 51- أنا هو الخبز الحى الذى نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز، يحيا إلى الأبد. والخبز الذى أنا أعطى، هو جسدى الذى أبذله من أجل حياة العالم.”
ع41-42: وقف وضع المسيح الجسدى – بحسب النسب – عثرة أمام اليهود فى قبول لاهوته، ولم يقبلوا ما كرره السيد فى 3 آيات سابقة، وهو أنه الخبز النازل من السماء (ع 33، 35، 38). فكان رد فعلهم، التذمر عليه، والاستخفاف بكلامه، وعدم تقبلهم لفكرة التجسد.
“يسوع ابن يوسف”: هذا ما كان يعرفه اليهود، بإدراكهم الجسدى، عن شخص المسيح. وقد كان القديس لوقا دقيقا عندما أشار لهذا النسب فى إنجيله قائلا: “وهو على ما كان يظن” (لو 3: 23)، أى الشائع وليس الحقيقى.
ع43-45: يشرح السيد المسيح هنا قصور العقل البشرى وحده على الإيمان وتبعيته للمسيح، فلابد أن يجتذب الآب الإنسان بفعل هبة الإيمان الإلهية، وبتعليم الإنسان من خلال الوحى الإلهى. والتعبير الذى استخدمه السيد هنا: “الجميع متعلمين من الله”، هو ما جاء على لسان النبيين (إش 54: 13؛ إر 31: 33-34)، فى إشارات واضحة إلى الدور الإلهى فى تعليم الإنسان لأسرار الإيمان، والذى بدونه، لا يستطيع الإنسان أن يُقبل إلى المسيح.
ع46-47: لم ولا ولن يستطيع إنسان أن يرى الله، كما قال الله ذاته: “لأن الإنسان لا يرانى ويعيش” (خر 33: 20). أما المسيح، فلكونه “فى حضن الآب” (ص 1: 18)، وواحد مع الآب (ص 10: 30)، فهو الوحيد الأزلى الذى رأى الآب، والذى يستطيع أن يعلنه لنا.
“الحق الحق أقول لكم”: تعبير استخدمه السيد كثيرا للتدليل على صدق ما يُعلّم به، وهو أنه لا حياة أبدية، ولا خلاص، لكل من لا يؤمن بالمسيح، الواحد مع الآب فى الجوهر.
ع48: “أنا هو خبز الحياة”: يكرر المسيح ما أعلنه فى (ع 35)، وهو ما لم يفهمه اليهود، وتذمروا عليه. وهذه الآية، تعتبر مقدمة لما سوف يعلنه السيد من أسرار إلهية تتعلق بهذا الخبز.
أخى الحبيب… فلنتعلم من السيد المسيح هنا ضرورة التمسك بالإيمان السليم، فالسيد المسيح أطال أناته، وأخذ يشرح، وسوف يكمل شرحه، ولكنه لم يتنازل أبدا، تحت وطأة الضغوط أو التذمر، عن التعليم السليم. وهكذا كانت كنيستك على مدار العصور، من أيام الرسل الأطهار، ومرورا باثناسيوس وكيرلس، وغيرهم من الذين حافظوا على الإيمان نقيا سليما، كما سلمه المسيح تماما، بلا تفريط ولا تبديل…
ع49: إذا كان المن هو أعظم العطايا الإلهية التى كان يفتخر بها إسرائيل، يوضح المسيح هنا أنه لم يكن سوى طعاما لإحياء الجسد، الذى نهايته الموت على كل الأحوال. وهذه الآية تعتبرمقارنة، ومقدمة لحديث طويل آت عن الخبز الحى الحقيقى…
ع50-51: يكشف لنا السيد المسيح هنا أعظم أسرار وعطايا العهد الجديد أنه هو الخبز النازل من السماء، فى إشارة واضحة لتجسده، وفى كونه مصدر حياة، فلا موت لكل من يأكله. فالمن إذن فى العهد القديم، كان رمزا يعطى الحياة للجسد. أما المسيح – خبز الحياة – فمن يأكله يحيا إلى الأبد، لأنه غذاء الروح، بعكس ما أراد أو فهم اليهود. وعبارة “يحيا إلى الأبد”، معناها أن الموت الجسدى لا يقدر أن يؤذيه. وملخص هذا، أن المسيح هو الإله الحى، ومانح الحياة، ويقدم جسده ودمه كخبز الحياة، فكل من أكل من هذا الجسد وشرب من هذا الدم، اتحد بمعطى الحياة وواهبها. فكيف يموت إذن؟ بل الموت الذى فينا، يصيرحياة باتحادنا بهذا الخبز السماوى.
فهل فهمت الآن، أيها العزيـز، مـدى اهتمام الكنيسـة بسـر التنـاول الأقـدس، ودعوتها المستمرة لكل أبنائها بالاشـتراك فيه، لأنه هو الحياة الأبدية… هو الاتحاد بالمسيح… هو مغفرة الخطايا.
(6) فاعلية جسد ودم المسيح (ع 52 – 59):
52- فخاصم اليهود بعضهم بعضا قائلين: “كيف يقدر هذا أن يعطـينا جسـده لنأكل؟!” 53- فقال لهم يسوع: “الحق الحق اقول لكم، إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم. 54- من يأكل جسدى ويشرب دمى فله حياة أبدية، وأنا أقيمه فى اليوم الأخير. 55- لأن جسـدى مأكل حق ودمى مشرب حق. 56- من يأكل جسـدى ويشرب دمى يثبت فىّ وأنا فيه. 57- كما أرسلنى الآب الحى، وأنا حى بالآب، فمن يأكلنى فهو يحيا بى. 58- هذا هو الخبز الذى نـزل من السـماء، ليس كما أكل آباؤكم المن وماتوا. من يأكل هذا الـخبز، فإنه يحيا إلى الأبد.” 59- قال هذا فى المجمع وهو يعلم فى كَفْرَنَاحُومَ.
ع52: “خاصم اليهود”: أى انقسم اليهود بين مؤيد ومعارض لما أعلنه المسيح من أنه خبز الحياة، وجسده المبذول من أجل خلاص العالم. وعدم الفهم هذا، يذكرنا بكل من نيقوديمـوس (ص 3) والسامرية (ص 4)، فى عدم إدراكهم للأسرار الإلهية. وتعبير “كيف يقدر؟!”، يحمل أيضا شيئا من التهكم على ما قاله المسيح.
ع53: إلا أن المسيح يجيبهم بما هو أكثر صعوبة، فليس أكل الجسد فقط، بل شرب الدم أيضا، واستخدام المسيح تعبير “ابن الإنسان”، هو إشارة لتجسده وموته؛ وبموته كذبيحة يبذل جسده من أجل حياة العالم. وكما كان خروف الفصح ذبيحة ارتبطت بالأكل منها بخلاص ونجاة كل شعب إسرائيل، فهكذا جسد المسيح المبذول يعطى النجاة والخلاص. أما الممتنع والرافض لهذه الذبيحة الحية، فهو ميت روحيا فى هذه الحياة، وكذلك فى الدهر الآتى.
فتعال أيها الحبيب وتمتع بأعظم العطايا الإلهية، ولا تحرم نفسك من الحياة فى المسيح وبالمسيح، فأنت شهوة قلبه، وموضوع حبه؛ فلا تحرم نفسك منه، ولا تدعه ينتظرك.
ع54: ذبيحـة المسيح، جسـده ودمه وخلاصه، مُنِحَ لكل العالم. ولكن، لن يتمتع بالحياة الأبدية، إلا من أكل من هذه الذبيحة. إذن؛ فالتناول من جسد الرب ودمه، صار شرطا لهذا الخلاص والميراث الأبدى.
ع55: أى ليس رمزا ولا صورة، بل حقيقة. وهذه الآية، هى أبلغ الآيات التى ترد على كل من ادعى أن ذبيحة المسيح، فى سر التناول الأقدس، ليست إلا رمزا أو ذكرى، متجاهلين تأكيد المسيح بأن جسده مأكل حق ودمه مشرب حق. ولا نعرف ماذا يطلبون أن يقول المسيح أكثر من هذا حتى يؤمنوا؟!
ع56: هبة جديدة يعطيها التناول من جسد المسيح ودمه، وهى هبة وعطية الثبات، فالغصن المقطوع لا قيمة له ولا حياة فيه. ولكن، إن ثبت الغصن فى الأصل كان الثمر، والمسيح نفسه القائل: “بدونى لا تقدرون أن تفعلوا شيئا” (ص 15: 5)، فكما تسرى عصارة الحياة إلى أغصان الشجرة، هكذا دم المسيح فى اجسادنا يعطينا ثباتا واتصالا ونموا…
ع57: أبى مصدر الحياة وأنا الحياة ذاتها (كأن نقول: الآب هو العقل، والابن هو التفكير.) وأنا أعطى الحياة الروحية الأبدية لكل من يأكل ذبيحة جسدى.
ع58: يختم السـيد المسيح حديثه هنا عن جسده ودمه، بالعودة إلى بداية الحديث (ع 32، 33) فى المقارنة بين عطية طعـام الجسـد “المن”، وبين العطية الأعظم، أى جسده المبذول من أجل حياة العالم. وهذه الآية تأتى كملخص لكل ما قيل، وتأكيد لما سبق فى الأعداد (33، 50، 51، 54، 57).
إلهى الحبيب… نسجد لك شكرا على عظم غنى عطاياك التى هى فوق عقولنا وإدراكنا، ولا يفهمها إلا من ولد من الروح القدس بالمعمودية، هذا الذى ترنم به القديس أغريغوريوس فى القداس الإلهى: “أنت الذى أعطيتنى هذه الخدمة المملؤة سرا… أعطيتنى إصعاد جسدك بخبز وخمر.”
نشكرك يا إلهنا، لأن فى جسدك الحياة الأبدية (ع51)، والقيامة الثانية (ع54)، الثبات فيك (ع56)، والاتحاد بك مع الآب من جهة الحياة (ع57).
أعطنا ألا نفارق مائدة الحياة – مذبحك المقدس – حيث عطية جسدك الأقدس.
ع59: حرص القديس يوحنا أن يذكر أن هذا الحديث كله كان فى المجمع، وقصد بتحديد المكان فى نهاية الحديث، أن يعلن إنه لم يكن حديثا خاصا للتلاميذ، بل هو إعلان لحقائق إيمانية على الملأ، أمام الكهنة وكل الشعب.
(7) عثرة تابعيه (ع 60 – 63):
60- فقال كثيرون من تلاميذه إذ سمعوا أن هذا الكلام صعـب: “من يقـدر أن يسمعه؟” 61- فعلم يسوع فى نفسه أن تلاميذه يتذمرون على هذا، فقال لهم: “أهذا يعثركم؟ 62- فإن رأيتم ابن الإنسان صاعدا إلى حيث كان أولا؟ 63- الروح هو الذى يحيى، أما الجسد فلا يفيد شيئا، الكلام الذى أكلمكم به هو روح وحياة.”
ع60-61: التلاميـذ هنـا لم يُقصـد بهم الاثنى عشـر والسبعين رسـولا الآخـرين، ولكن المقصـود كثيرين من الذين كانوا يتبعونه من مكان لمكان، معتبرين أنفسهم تلاميذَ له… وأما ما أعثرهم فيه، هو أمرين: قوله بأنه خبز الحياة النازل من فوق، والتأكيد على ضرورة أكل جسده وشرب دمه، إذ فهموا كلامه بصورة حرفية. فعلم يسوع بلاهوته أن كلامه يعثرهم، وأخبرهم بهذا.
ع62: إذا كنتم لا تقبلوا ما قلته الآن، فكيف يكون حالكم إذن وأنتم تروننى صاعدا إلى السماء، حيث مكانى أولا؟ فالمسيح، حتى الآن، لم يحل لهؤلاء مشكلتهم الأولى فى أكل جسده وشرب دمه، بل زاد عليها مشكلة جديدة، إذ يتحدث عن أزليته، مشيرا إلى صعوده لحضن أبيه، حيث كان أولا قبل تجسده (مر 16: 19؛ لو 24 :51؛ أع 1: 9).
ع63: المعنى المبسط لهذه الآية، هو أن المسيح يقدم لمن أعثروا فى كلامه الحل، وهو أنه لابد من الإيمان بكلامه روحيا، بعيدا عن الفهم العقلى والمادى المحدود، كلامى “هو روح وحياة”. ومعنى “أما الجسد فلا يفيد شيئا”، فقد أجمع كل من اغسطينوس والقديس كيرلس الكبير على أن المعنى الذى قصده المسيح هو: إذا كان تصوركم هو أكل جسدى بالفهم المادى، كأنكم تأكلون لحما ماديا، فهو لا يفيد شيئا فى الحياة الأبدية. ولكن الذى يفيد، أن تأكلوا جسدى الحقيقى متحدا بلاهوتى. وهو ما شرحه لتلاميذه بعد هذا لاحقا فى العشاء الربانى يوم خميس العهد، فأعطاهم جسده ودمه تحت أغراض الخبز والخمر. وهذا هو الإيمان الروحى المعطى للحياة الأبدية. راجع تاسيس السر فى (مت 26: 26، مر 14: 22، لو 22: 17، 19).
(8) إيمان التلاميذ (ع 64 – 71):
64- “ولكن منكم قوم لا يؤمنون.” لأن يسـوع من البدء علـم من هم الذيـن لا يؤمنون، ومن هو الذى يسلمه. 65- فقال: “لهذا قلت لكم إنه لا يقدر أحد أن يأتى إلىّ إن لم يعط من أبى.” 66- من هذا الوقت، رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء، ولم يعودوا يمشون معه. 67- فقال يسوع للاثنى عشر: “ألعلكم أنتم أيضا تريدون أن تمضوا.” 68- فأجابه سِمعان بطرس: “يا رب، إلى من نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك. 69- ونحن قد آمنا وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله الحى.” 70- أجابهم يسوع: “أليس أنى أنا اخترتكم الاثنى عشر وواحد منكم شيطان؟” 71- قال عن يهوذا سِمعان الإسخريوطى، لأن هذا كان مزمعا أن يسلمه، وهو واحد من الاثنى عشر.
ع64: إشارة قوية للاهوت الابن، من حيث المعرفة السابقة والقاصرة على الله، فهو يعرف أن من بين الذين يسمعونه قوم لا يؤمنون بكلامه. ولكى نعلم إنه ليس استنتاجا للمسيح نتيجة قراءة وجوه الجمع، يضيف القديس يوحنا كلمتا “من البدء”، لتأكيد هذا الجانب اللاهوتى فى المعرفة السابقة للمسيح، مشيرا أيضا إلى أن معرفة المسيح، ليست فقط لمن لا يقبل كلامه، بل للتلميذ المزمع أن يسلمه أيضا.
ع65: يذكرهم المسيح بما قاله سابقا فى ع 44، 45 إنه لا يستطيع الإنسان أن يأتى أو يُقبل إلى المسيح، ما لم يكن الإيمان الذى وضعه الآب فى قلبه، هو الدافع الحقيقى والوحيد. أما من يأتى لدافع نفعى، أو ذاتى، أو سياسى كتحرير اليهود، فسيكون المسيح له حجر عثرة؛ وهو ما قاله سِمعان الشيخ فى نبوته إنه “وضع لسقوط وقيام كثيرين فى إسرائيل” (لو 2: 34).
ع66: أى الناس الذين رفضوا قوله بأن جسده مأكل حق ودمه مشرب حق.
إلهى الحبيب، نرفع لك صلاة موضوعها هؤلاء الذين يتركونك كل يوم إلى الوراء، ولم يعودوا معك يسيرون… يتركون ينبوع الحياة الحى، ويتركون أحضان حبك، إلى ماذا يا إلهى… إلى ماديات ومشاغل، لا يجنى منها الإنسان سوى تعبا دون راحة… إلهى… لا تسمح لنا، نحن الضعفاء، أن يشغلنا شئ عنك، بل نظل معك فى كنيستك، نأخذ من حبك وعطائك، خادمين لاسمك القدوس طوال أيام عمرنا… آمين.
ع67-68: ليس المقصود أن المسيح يريد أن يعرف قصدهم، وهو العارف منذ البدء، من الذى يتركه ومن الذى يتبعه، ولكن هذا السؤال، كان الغرض منه امتحان إيمانهم وإقرارهم به. ولهذا، جاءت إجابة بطرس موافقة تماما لسؤال المسيح، وكانت تعبيرا أيضا عما بداخل باقى التلاميذ، وتحمل إيمانا قويا. وعبارة “إلى من نذهب؟” تعنى أنه ليس لنا سواك، ولا نستطيع أن نرتد إلى الوراء كما فعل الآخرين. وعبارة “الحياة الأبدية عندك”، هى تصديق لكل ما قاله المسيح فى الأعداد السابقة عن الحياة الأبدية، وأنه مصدرها ومانحها من خلال أنه خبز الحياة وعطية جسده ودمه الأقدسين.
ع69: يكمل بطرس حديثه، فى إعلانه عن موقف التلاميذ معه، فى أن أساس تبعيتهم للمسيح هى الإيمان المعطى من الآب لهم، وهى تبعية سوف تستمر، بصرف النظر عمن تركوه: فإيماننا بك أنك أنت هو المسيح المخلص، وأنك أنت ابن الله الحى، لن يدع لنا مجالا آخر لتركك، وإلا صرنا كأننا نترك الحياة إلى الموت، والأبدية إلى الهلاك.
ع70-71: يستكمل السيد المسيح استعلان معرفته الإلهية بتصحيح كلام بطرس، فيقول له: لقد تكلمت يا بطرس عن سائر إخوتك التلاميذ بكلام الإيمان الحسن، ولكن ليس هذا إقرار الجميع كما قلت، لأن بينكم من لا يؤمن، بل ملأ الشيطان قلبه، وهو الذى يسلمنى ويخوننى…
ولنلاحظ هنا قول السيد: إنه بالرغم من اختيارى وتلمذتى لكم، فوسطكم شيطان. وهذا معناه أن الله يختار الإنسان ويدعوه، ولكن الإنسان قد يثبت أو يترك الله بإرادته الحرة. وبالتالى، فإن التعليم بأن المؤمن لا يهلك أبدا هو تعليم غريب، فالله أيضا اختار يهوذا، ولكن يهوذا لم يثبت فى هذا الاختيار، فكان هلاكه.