تكريم مردخاى
(1) قلق الملك وقراءته فى سفر أخباره (ع1-3):
1- في تلك الليلة طار نوم الملك فأمر بان يؤتى بسفر تذكار أخبار الأيام فقرئت أمام الملك.
2- فوجد مكتوبا ما اخبر به مردخاي عن بغثانا و ترش خصيي الملك حارسي الباب اللذين طلبا أن يمدا أيديهما إلى الملك أحشويروش. 3- فقال الملك أية كرامة و عظمة عملت لمردخاي لأجل هذا فقال غلمان الملك الذين يخدمونه لم يعمل معه شيء.
ع1: إن كانت أستير قد طلبت من الملك أن يحضر وليمتها الثانية لتكسب قلبه وتعاطفه معها، فإن الله الذى أرشدها إلى ذلك يتدخل ليعمل عملاً عظيماً يفوق العقل؛ لاستكمال خلاص شعبه. فسمح أن يصاب الملك بقلق، فيعجز عن النوم ويأمر أن يقرأ له فى سفر أخبار الملك، أى الأحداث التى مرت طوال فترة تملكه على فارس. وكان ذلك فى الليلة التى حضر فيها وليمة أستير الأولى وقبل أن يذهب فى اليوم التالى لوليمتها الثانية.
لقد دخلت أستير على الملك ودعته لوليمتها بعد أن صامت وصلت هى ومردخاى وكل اليهود فى شوشن القصر. وإذ رأى الله هذا الإيمان والتضرع إليه، تدخل بقوة لإنقاذ شعبه ونزع النوم من عينى الملك فى هذه الليلة بالتحديد، وطلب أن يقرأ له فى سفر تذكار أخبار الملك، ولم يطلب أى شئ آخر من الرقص، أو اللهو والشهوات التى اعتادها. حقاً إن الله ضابط الكل والقادر على إنقاذ أولاده.
ع2، 3: بتدبير الله كانت القراءة فى سفر أخبار الملك، فى الجزء الخاص بكشف مردخاى لمؤامرة الخصيان المدبرة لقتل الملك. فحرك الله قلب الملك إعجاباً بإخلاص مردخاى وعرفاناً بجميله، إذ أنقذ حياته من الموت. وهنا تساءل الملك أمام معاونيه ومن يقرأون له فى السفر وقال “ماذا قدمنا لهذا الرجل العظيم الذى أنقذ حياتى؟” فقالوا لم يقدم له شئ. وهذا قد حدث فعلاً إذ لم يقدم له سوى بعض الهدايا والشكر وجعل وظيفته كمسئول فى القصر الملكى. وهذه جميعاً كرامات محدودة لم ترضِ الملك، إذ جعله الله يشعر بعظمة صنيع مردخاى معه. كم هو عجيب تدبير الله، إذ فى الليلة التى يريد هامان قتل مردخاى، يجذب الله قلب الملك إلى صنيع مردخاى معه وشعر الملك أنه مدين له بحياته. ورغب أن يكرمه بأقصى ما يستطيع، وهذا ضد ما يوده هامان تماماً.
كن مطمئناً لأن إلهك ساهر على رعايتك وهو يحرك القلوب للعناية بك، وتدابيره تفوق العقل. لذا تمسك بصلواتك وأصوامك وأصنع الخير وثق أنه يرعاك ولن ينساك أبداً.
(2) اقتراحات هامان لإكرام من يسر به الملك (ع4-9):
4- فقال الملك من في الدار و كان هامان قد دخل دار بيت الملك الخارجية لكي يقول للملك أن يصلب مردخاي على الخشبة التي أعدها له. 5- فقال غلمان الملك له هوذا هامان واقف في الدار فقال الملك ليدخل. 6- و لما دخل هامان قال له الملك ماذا يعمل لرجل يسر الملك بان يكرمه فقال هامان في قلبه من يسر الملك بان يكرمه أكثر مني. 7- فقال هامان للملك أن الرجل الذي يسر الملك بان يكرمه. 8- يأتون باللباس السلطاني الذي يلبسه الملك و بالفرس الذي يركبه الملك و بتاج الملك الذي يوضع على رأسه. 9- و يدفع اللباس و الفرس لرجل من رؤساء الملك الأشراف و يلبسون الرجل الذي سر الملك بان يكرمه و يركبونه على الفرس في ساحة المدينة و ينادون قدامه هكذا يصنع بالرجل الذي يسر الملك بان يكرمه.
ع4، 5: عند نهاية القراءة فى سفر أخبار الملك وتساؤل أحشويروش عما صنع مع مردخاى كان الليل قد انتهى وأشرقت الشمس. وهنا تساءل الملك يا ترى من فى دار الملك الخارجية، فقال له الساهرون معه – بعد أن سألوا – إن هامان موجود فى الخارج. إذ أن هامان كان قد جاء ليطلب من الملك أن يصلب مردخاى. كل هذا كان فى قلبه، فلما علم الملك بوجود هامان أمر بإدخاله إليه.
ع6: عندما دخل هامان أمام الملك سأله الملك؛ ماذا يفعل للإنسان الذى يحب الملك أن يكرمه ؟ وكان يقصد بالطبع مردخاى، الذى أنقذ حياته من الموت.
أما هامان المتكبر فقال فى نفسه، يا ترى من هو الإنسان الذى يسر به الملك غيرى ! وفى كبرياء قال أنه بالطبع أفضل إنسان يريد الملك أن يكرمه، فأخذ يفكر فى نفسه ما هى التمنيات التى يود أن ينالها من الملك؛ لينال كرامة أفضل مما هو فيه، مع أنه كان الرجل الثانى بعد الملك، لكنه فكر أن يصير مثل الملك فى العظمة.
إن الكبرياء تعمى عينى الإنسان فلا يرى الحقيقة وتسقطه فى الأنانية فلا يرى إلا نفسه، وبالتالى يعرض نفسه لمتاعب كثيرة وقد تؤدى فى النهاية إلى الهلاك.
لقد حضر هامان فى الصباح الباكر بعد ليلة قضاها غالباً فى قلق، ولعله كان يباشر بنفسه إعداد الخشبة التى سيصلب عليها مردخاى، وجاء ليقابل الملك ويقدم له بعض الأمور الخاصة بشئون المملكة؛ ليوافق عليها، ومعها يطلب صلب مردخاى حتى يتخلص من قلقه واضطرابه الشديد. وفى نفس الوقت كان الملك قلقاً طوال الليل، واكتشف أنه لم يكرم مردخاى، الذى أنقذ حياته، فكان يريد وسيلة لإكرام مردخاى؛ حتى يهدأ قلقه ويستطيع أن ينام بعد سهره ليلة كاملة. فعندما أدخلوا إليه هامان الساقط فى القلق، وسأله الملك عما يعمل لمن يريد الملك أن يكرمه، وظن هامان أنه هو المقصود بهذا الإكرام، أخرج قلقه كله فى وسائل يكرمه بها الملك، لعله يهدئ شيئاً من الاضطراب الذى فى داخله، فكان مبالغاً فى الوسائل التى يكرم بها من يسر به الملك؛ لأنه واثق أنها ستقدم له، فكان هذا نتيجة طبيعية للقلق، واستخدم الله كل هذا لإنقاذ ابنه مردخاى البار وتكريمه، وفى نفس الوقت إذلال هامان المتكبر.
إن هامان الذى جعله الملك ثانى رجل بعده، لم يكتفِ بهذا – لكبريائه – وأراد أن يكون مثل الملك يلبس ملابسه ويركب فرسه المميز بوضع تاج الملك على رأسه، إنه يرمز للشيطان، الذى كان كاروباً عظيماً، أى ملاكاً كبيراً من رتبة عالية ولم يكتفِ بهذا وأراد أن يكون مثل الله، فسقط سقوطاً عظيماً.
ع7-9: اقترح هامان أعظم الكرامات لتقدم لمن يسر به الملك وكان يقصد نفسه وقال فيها:
- تعطى له ملابس الملك ليلبسها.
- فرس الملك ليركب عليه.
- تاج رأس الفرس يوضع على رأسه.
- أحد رؤساء الملك يأخذ هذه الثلاثة ويعطيها لهذا الرجل ويسير أمامه فى ساحة مدينة شوشن القصر، منادياً بأن هذا هو الرجل الذى يريد الملك أن يكرمه.
إن كنت تريد أن تعرف مشيئة الله، بل وتدخل إلى أعماق الله وتكتشف أسرار روحية لا يعبر عنها، فطريقك إلى ذلك هو الاتضاع؛ لأن الله لا يعطى مجده لآخر، أى المتكبرين، بل للمتضعين الذين يشكرونه ويرجعون الفضل له فى كل شئ.
(3) إذلال هامان أمام مردخاى (ع10-14):
10- فقال الملك لهامان أسرع و خذ اللباس و الفرس كما تكلمت و افعل هكذا لمردخاي اليهودي الجالس في باب الملك لا يسقط شيء من جميع ما قلته. 11- فاخذ هامان اللباس و الفرس والبس مردخاي و اركبه في ساحة المدينة و نادى قدامه هكذا يصنع للرجل الذي يسر الملك بان يكرمه. 12- و رجع مردخاي إلى باب الملك و أما هامان فأسرع إلى بيته نائحا و مغطى الرأس.
13- و قص هامان على زرش زوجته و جميع أحبائه كل ما أصابه فقال له حكماؤه و زرش زوجته إذا كان مردخاي الذي ابتدأت تسقط قدامه من نسل اليهود فلا تقدر عليه بل تسقط قدامه سقوطا. 14- و فيما هم يكلمونه وصل خصيان الملك و أسرعوا للإتيان بهامان إلى الوليمة التي عملتها أستير
ع10، 11: أمر الملك فى الحال – بعد كلام هامان – بأن يأخذ هامان اللباس الملكى والفرس والتاج الخاص بالفرس ويعطيه لمردخاى المسئول عن حراسة باب الملك، ويسير أمامه فى ساحة المدينة، وينادى بأن هذا هو الرجل الذى يريد الملك إكرامه لأنه قد سر به. فأطاع هامان فى الحال كلام الملك وفعل بالتدقيق كل شئ، ولكن كان مغتماً فى قلبه جداً، إذ أن الرجل الذى يكرهه وهو مردخاى ويريد قتله، ليس فقط يريد الملك أن يكرمه أكثر من باقى الناس فى المملكة، بل إن هامان نفسه هو الذى يقوم بهذا التكريم. فمردخاى يركب الفرس، أما هامان، فيسير فى ذل منادياً بإكرام وعظمة مردخاى، فكان هامان لا يطيق نفسه ولكنه لا يستطيع أن يخالف كلام الملك. فسقط هامان فى نظر نفسه وشعر بذل لم يشعره طوال حياته.
إن الله قادر أن يرفع البائس من المزبلة ويجلسه مع رؤساء شعبه، كما قال داود
(مز113: 7) وأيضاً كما قالت أمنا العذراء إن الله ينزل الأعزاء عن الكراسى (أى هامان) ويرفع المتضعين (لو1: 52).
يتجلى عمل الله فى أن يذكر الملك اسم مردخاى ويلقبه باليهودى، مع أن الملك نفسه قد أمر بإبادة اليهود، ولكن الله ضابط الكل يحرك الملك لإكرام اليهودى؛ لأنه أنقذ حياته. وفى نفس الوقت إن كان هامان يكره اليهود وخاصة مردخاى، فالله يقول له على لسان الملك أن يكرم مردخاى اليهودى، فإن كان جنسيته اليهودية سبباً لإبادته يحولها الله فتكون سبباً لإكرامه.
إن مردخاى يرمز للمسيح الذى عانى الآلام على الصليب من أجلنا وصرخ صرخة عظيمة وأسلم الروح. فمردخاى يصرخ فى ساحة المدينة، متوجعاً من أجل أمر الملك بإبادة اليهود (ص4: 1). وكما تمجد المسيح بقيامته من الأموات، هكذا أيضاً تمجد مردخاى بلبس ثياب الملك والتاج والركوب على فرس الملك ومناداة هامان أمامه لتكريمه. وأيضاً مردخاى يرمز للمسيح الداخل إلى أورشليم راكباً على آتان وجحش ابن آتان والجموع تصرخ أمامه أوصنا لابن داود. وهامان نادى أمام مردخاى بأن هذا هو الرجل الذى يسر الملك به، كما قال الآب عن المسيح أن “هذا هو ابنى الحبيب الذى به سررت” (مت3: 17) عندما تعمد فى نهر الأردن.
ع12: بعد تكريم مردخاى عاد إلى مكان عمله فى باب الملك وهو يشكر الله وقلبه ممتلئ سلاماً؛ لأنه شعر ان الله هو الذى يكرمه، فقد تضرع إلى الله بصلواته وأصوامه، فأنعم عليه الله بهذا التكريم واسمه مرتبط بأنه يهودى إعلاناً لقوة الله فى أولاده المؤمنين. ومازال مردخاى يحتفظ باتضاعه فلم يتكبر على من حوله وعلى هامان، إذ عاد بعد التكريم ليعمل فى مكانه كحارس لباب الملك.
أما هامان الحزين المملوء قلبه غماً واضطراباً، فقد أسرع إلى بيته بعد إذلاله بالمشى أمام مردخاى والمناداة أمامه وتكريمه. عاد إلى بيته باكياً ونائحاً وغطى رأسه دليل الحزن والعار، كما غطى داود رأسه هو ورجاله عند هروبهم من وجه أبشالوم (2صم15: 30).
إن مردخاى يرمز لكل نفس مؤمنة تعود إلى مكانها فى بيت الله وسترجع إلى الفردوس مكرمة، أما هامان فيرمز للنفس الشريرة التى تنوح وتكون فى خزى وهى تذهب إلى الجحيم.
ع13: حكى هامان كل ما حدث له منذ خرج فى الصباح الباكر حتى وقت عودته إلى بيته، وغالباً كان قرب الظهيرة، وكيف كان ذليلاً أمام مردخاى الذى تعاظم جداً فى وسط ساحة المدينة. فقالت له زوجته وكل أحبائه أنك لا تقدر على مردخاى، بل تسقط أمامه سقوطاً، أى أنهم أكدوا لهامان ضعفه وذله، وكذلك أكدوا مجد مردخاى وعظمته. إنه الله الذى ينطق بكلامه حتى على لسان الأشرار، لعلهم يتوبون ويعظم أولاده، خاصة فى وقت الضيقة وينقذهم من أيدى أعدائهم.
أمام قوة الله التى مجدت مردخاى شعر أحباء هامان أنهم أمام قوة عظيمة خفية، عملت عكس ما خططوا له. فتصاغروا جداً فى أعين أنفسهم ولم يستطيعوا أن يشجعوا هامان، بل على العكس، قادوه لليأس والحزن أكثر مما كان فيه. إنهم معزون متعبون لم يقودوه للتوبة عن كبريائه وشره، بل قادوه لليأس.
إن الله قد وجه إنذارين واضحين لهامان حتى يتوب هما :
- عندما أمره الملك بإكرام مردخاى، فبدلاً من أن يطلب صلبه، اضطر أن يكرمه إكراماً يفوق العقل، فلعل هذا يشعره بقوة الله التى تساند مردخاى، فيتراجع عن شره نحوه ومحاولته إبادة اليهود، فيعتذر للملك عن شكواه ضدهم.
- كلام أحباء هامان له بأنه لا يقدر على مردخاى اليهودى وأنه سيسقط أمامه، ولعل هذا كان نبوة على فم أحبائه بهلاكه. وهذا يعنى أنه كان لابد أن يتراجع عن فكرة الإساءة إلى مردخاى وأيضاً إبادة اليهود، فيتوب فى قلبه عن كبريائه وشره. ولكن للأسف لم يتب هامان عن شره وامتلأ قلبه يأساً. إنه يشبه يهوذا الإسخريوطى الذى لم يتب عندما كشف الله له أنه قد قدم دماً بريئاً ببيعه المسيح ولم يتب، بل مضى إلى الهلاك بشنق نفسه. هكذا أيضاً ذهب هامان إلى وليمة أستير الثانية لينال هلاكه.
ع14: ظل هامان فى حزنه ونحيبه حتى أنه تأخر عن وليمة أستير الثانية، فأرسل له الملك خصيانه ليأتوا به سريعاً مما زاد اضطراب هامان، فأسرعوا بهامان إلى الوليمة وهو فى غاية الاضطراب والحزن، ولكنه كان لابد أن يرسم على وجهه الابتسامة، لئلا يغضب عليه الملك.إن سلامك أفضل من أى شئ فى العالم فلا تبعه بسبب خطية تسقط فيها، أو أمجاد عالمية تسعى وراءها. فأنت متميز بنعمة إلهية أكثر من كل من حولك وهى السلام الداخلى، فاحتفظ به بتمسكك بالله.