أيوب يعاتب الله وأصدقاءه بجرأة
(1) إدانة أصدقاء أيوب (ع1-12) :
1- هذا كله رأته عيني سمعته أذني و فطنت به. 2- ما تعرفونه عرفته أنا أيضا لست دونكم.
3- و لكني أريد أن اكلم القدير و أن أحاكم إلى الله. 4- أما أنتم فملفقو كذب اطباء بطالون كلكم. 5- ليتكم تصمتون صمتا يكون ذلك لكم حكمة. 6- اسمعوا الآن حجتي و أصغوا إلى دعاوي شفتي. 7- أتقولون لأجل الله ظلما و تتكلمون بغش لأجله. 8- أتحابون وجهه أم عن الله تخاصمون. 9- أخير لكم أن يفحصكم أن تخاتلونه كما يخاتل الإنسان. 10- توبيخا يوبخكم إن حابيتم الوجوه خفية. 11- فهلا يرهبكم جلاله و يسقط عليكم رعبه. 12- خطبكم أمثال رماد وحصونكم حصون من طين.
ع1-3: وبخ أيوب أصدقاءه معلناً أن كل الحقائق التى قدموها هو مؤمن بها. ومعرفته لا تقل عنهم، ولكنهم يستخدمون هذه الحقائق فى غير مكانها لإثبات شره، فحكمهم خاطئ. لذا يطلب أيوب أن يحاكم أمام الله وليس أمام أصدقائه الذين ضايقوه جداً، فأراد أن يتكلم مع من يفهمه ويقدر مشاعره، أى الله. ومن أجل اتهامات أصدقائه الباطلة اضطر أيوب أن يدافع عن نفسه، كما اضطر بولس الرسول أن يدافع عن نفسه أمام من شككوا فى رسوليته من أهل كورنثوس (2كو11: 23).
ومن الأسباب التى دعت أيوب للتكلم مع الله أمرين :
- عدم سقوطه فى الكبرياء أثناء حواره مع أصدقائه، فكان فى هدوء داخلى، جعله يشتاق أن يتكلم مع الله، الذى يهتم بالمتضعين والودعاء.
- لأنه قد تعرض لظلم من الناس، فأصبح الباب المفتوح والرجاء هو فى الله العادل، حتى لو تحول كل البشر لظلمه.
ع4، 5: اتهم أيوب أصدقاءه بخطيتين هما :
- ملفقوا كذب : لأنهم استخدموا نظريات سليمة لإثبات أفكار خاطئة عندهم. وهى أن الله يكافئ البار ويعاقب الشرير. وذلك ليثبتوا أن أيوب شرير. ولم يفهموا أن الله يسمح بالتجارب للأبرار لتزكيتهم وتنقيتهم. فاتضح عدم حكمتهم.
- أطباء بطالون : لأنهم أتوا لتعزيته ولكنهم على العكس أساءوا إليه، فزادوا من معاناته.
ولذا فى النهاية طلب أيوب منهم أن يصمتوا. وهذا يعتبر حكمة له، إذ سيخفى حماقتهم وسوء نيتهم نحوه.
ع6: توسل أيوب إلى أصدقائه أن يسمعوه، بل أن ينصتوا إليه باهتمام، فيبدو أنهم لكبريائهم وتمسكهم بآرائهم لم يهتموا بسماع كلامه، بل انتظروا حتى ينتهى، ثم يقولوا آرائهم الباطلة. مع أن من حق أى متهم أن يسمعه حتى من يحاكمه، وليس أصدقائه باهتمام، لعله يجد أدلة لتبرئته، وكما يقول القانون المدنى “المتهم برئ إلى أن تثبت إدانته”.
ع7، 8: عاتب أيوب أصدقاءه أنهم فى دفاعهم عن الله العادل لجأوا إلى اتهام أيوب، ثم قدموا براهين غاشة لإثبات اتهامهم لأيوب. والله غير محتاج لهذا الظلم والغش، بل على العكس يغضب على كل من يستخدم الظلم والغش، خاصة وإن كان يدعى أنه تابع لله ويدافع عنه. لأن دفاعهم المملوء ظلماً وغشاً هو إهانة وإساءة لله العادل. فيقول أيوب لهم إن محاباتكم وتحيزكم لله يغضبه ولا يرضيه، ومخاصماتكم لى لإثبات شرى ليس عدلاً وهذا أيضاً يغضب الله.
ع9-11: تخاتلونه : تخدعونه فى غفلة.
يسأل أيوب أصدقاءه سؤالاً جريئاً؛ ليكشف شرهم. فيقول لهم هل تقبلون أن يفحصكم الله ويكشف نواياكم الشريرة الداخلية ؟
بالطبع لن يقبلوا؛ لأن الشرير يخاف أن يفحص الله قلبه؛ لأنه سيجازيه إن وجد شراً.
ثم يسألهم سؤالاً ثانياً : هل تخادعون الله ؟ وتظنون أنه إنسان يمكن خداعه فى الخفاء؛ بالطبع لا يمكن. فأنتم قد نسيتم أن الله يعرف خفايا القلوب ولا يمكن لأحد أن يخدعه. فأيوب يدعوهم للتوبة وإيقاف أفكارهم ونواياهم الشريرة، وإلا سيوبخهم الله ويعاقبهم.
وبعد هذا يسأل أصدقاءه سؤالاً ثالثاً – هو سؤال تعجبى – وهو كيف لا تخافوا الله وترهبوه. لأنكم لو اعتبرتم عظمته وجلاله ستبتعدون عن شروركم وتسلكون باستقامة.
ع12: يقرر أيوب فى النهاية ويصف كلام أصدقائه بأنه كالرماد، أى بلا قيمة ويداس بالأقدام.
وكذلك نظرياتهم بتفاسيرها الخاطئة، هى تشبه حصون مصنوعة من الطين، يسهل جداً هدمها، فالاختفاء وراءها بلا قيمة، فسرعان ما تنهدم ويظهر خزيهم.
لا تكثر من الكلام والتباهى بمعرفتك ونظرياتك؛ لئلا ينفضح شرك وكبريائك. كن على العكس متضعاً واظهر محبتك لمن حولك، فتكسبهم وتحيا فى سلام معهم؛ لأنهم فى حاجة إلى تعاطفك وليس لتكبرك عليهم.
(2) دفاع أيوب عن نفسه (ع11-21) :
13- اسكتوا عني فأتكلم أنا و ليصيبني مهما أصاب. 14- لماذا اخذ لحمي بأسناني و أضع نفسي في كفي. 15- هوذا يقتلني لا انتظر شيئا فقط ازكي طريقي قدامه. 16- فهذا يعود إلى خلاصي أن الفاجر لا يأتي قدامه. 17- سمعا اسمعوا أقوالي و تصريحي بمسامعكم. 18- هأنذا قد أحسنت الدعوى اعلم إني أتبرر. 19- من هو الذي يخاصمني حتى اصمت الآن و اسلم الروح.
ع13، 14: لقد ضاق أيوب جداً وقال لأصدقائه اسكتوا وسأتكلم بصراحة، مهما تعرضت لمتاعب؛ سواء من الله الذى أدبنى بهذه الضيقات، أو بمواجهة المزيد من المتاعب منكم باتهاماتكم المستفزة.
وإنى آخذ لحمى بأسنانى، أى أن الغيظ فى داخلى يأكلنى، فلن أستطيع أن أكتم الكلام فى داخلى.
وإنى أضع نفسى فى كفى، أى أنى مستعد لاحتمال أى آلام، حتى لو أدت إلى إنهاء حياتى.
ع15، 16: أزكى : أظهر صلاح واستقامة.
فى جرأة يقول أيوب أنه لو تعرضت للموت، أى قتلنى الله بسبب كلامى الصريح، فإنى لن أسكت ومستعد لقبول الموت، ولكنى سأتكلم وأزكى نفسى وأبرر تصرفاتى وحياتى السابقة. وهذا يظهر مدى ضيق أيوب من اتهامات أصدقائه الباطلة. وفى نفس الوقت يظهر إيمانه ورجاءه بالله، وثقته أنه قد سلك حسناً أمامه. فهو لم يتشكك فى نفسه رغم قسوة اتهامات أصدقائه.
ثم يؤكد أيوب تمسكه بالبر والسلوك فيه باعتماده على حقيقة، وهى أن الفاجر المتمادى فى خطيته لا يستطيع أن يقف أمام الله. أما أيوب، فيقف بإيمان أمام الله، وله رجاء ثابت فيه أن يخلصه ويعطيه مكاناً معه فى الحياة الأخرى؛ لتمسكه بالبر.
هذه الآيات تظهر قوة إيمان أيوب، وبالتالى لا نتشكك فى رجائه، بسبب الآيات التى ذكرت فى الأصحاحات السابقة والتى تعبر عن ضيقه ويأسه، فهى مجرد تعبير عن آلامه الشديدة ولكنه لم يفقد رجاءه.
ع16-19: طالب أيوب أصدقاءه أن يصغوا باهتمام لكلامه وهذا يبين أنه سيتكلم كلاماً هاماً، ولأنه شعر بضعف إنصاتهم له فى المرات السابقة، إذ هم متمسكون بما فى ذهنهم لدرجة رفض سماع كلامه.
ويرى أيوب أنه قد تكلم كلاماً سليماً أمام الله يثبت بره وبالتالى يتوقع أن يعلن الله خلاصه وبره قريباً.
بشجاعة وثقة فى رضا الله عنه، قال أيوب لأصدقائه إن وجد فيكم أحد يستطيع أن يقف خصماً لى ويثبت أنى شرير ولم أسلك فى البر، فليتقدم وأنا مستعد أن أصمت، بل أن أتنازل عن حياتى كلها وأموت. وهذا يبين ثقة أيوب الكاملة فى سلوكه المستقيم.
ليتك تدقق فى سلوكك وتحاسب نفسك كل يوم وتحيا فى البر حينئذ تكون قوياً. فلا تنزعج من حروب إبليس ولا تخاف من الناس وأطلب معونة الله، فيسندك فى كل خطواتك.
(3) عتاب أيوب لله (ع22-31) :
20- إنما أمرين لا تفعل بي فحينئذ لا اختفي من حضرتك. 21- ابعد يديك عني و لا تدع هيبتك ترعبني. 22- ثم ادع فأنا أجيب أو أتكلم فتجاوبني. 23- كم لي من الآثام و الخطايا أعلمني ذنبي و خطيتي. 24- لماذا تحجب وجهك و تحسبني عدوا لك. 25- أترعب ورقة مندفعة و تطارد قشا يابسا. 26- لأنك كتبت علي أمورا مرة و ورثتني آثام صباي. 27- فجعلت رجلي في المقطرة و لاحظت جميع مسالكي و على أصول رجلي نبشت. 28- و أنا كمتسوس يبلى كثوب أكله العث
ع20-22: أخيراً وجه أيوب كلامه لله مباشرة، وترك عنه أصدقاءه لعدم حكمتهم وكلامهم السئ.
طلب أيوب من الله أمرين حتى يستطيع أن يتحاور معه. وهذين الأمرين هما :
- أبعد يديك عنى : أى أرفع الضيقات والأمراض حتى أستطيع أن أتكلم بدون ألم، أو وجع.
- لا تدع هيبتك ترعبنى : لا تظهر مجدك وقوتك ولاهوتك الذى لا أحتمله كإنسان ضعيف، فأخاف ولا أستطيع الكلام معك، ومظاهر مجده مثل التى أعلنها الله على جبل سيناء أمام الشعب، عندما أعطى موسى الوصايا والشريعة. وهذه المظاهر كانت على هيئة ضباب ونار ورعود وبروق ودخان وزلزلة (خر19: 18).
وقال أيوب إذا راعيت يا الله هذين الأمرين، أتشجع أن أصلى إليك وأدعوك وأتفاهم معك، وأستطيع أن أسمعك، ثم أجاوبك بما فى قلبى.
حقق الله ما طلبه أيوب بتجسده، فقد رفع المسيح الآلام عنا وحملها على الصليب وظهر بشكل وديع ومتواضع، حتى لا يرعبنا بهيبته.
ع23: بدأ أيوب يطلب من الله طلبات أولها أن يعلن له عدد خطاياه “كم لى من الآثام” أو تفاصيلها “اعلمنى ذنبى”؛ لأن أصدقاءه قالوا له أنك قد فعلت آثام كثيرة، لذا أتت عليك كل هذه الضيقات. وقد اعترض أيوب على ذلك بأنه سلك فى البر، ولذا يحتكم إلى الله الحق وهو يرضى بحكمه، لأن الأخطاء التى سيعلنها ستكون حقيقية بخلاف كلام أصدقائه السئ.
ع24: الطلب الثانى الذى طلبه أيوب من الله هو تفسير سبب ابتعاده عنه، لأن أهم شئ فى حياة أيوب هو أن يرى الله، وإذا شعر أن الله ابتعد عنه ولم يعد يسمع صوته يتضايق جداً. فأيوب مستعد أن يحتمل أية ضيقات ولكن بشرط استمرار تمتعه بصحبة الله.
ويسأل أيوب من الله أن يظل ابناً له ولا يحسبه عدواً ويعامله كخصم؛ لأن أيوب محتاج أن يتكلم مع الله كأب وصديق.
إن أيوب هنا يرمز للمسيح الذى وهو على الصليب شعر باحتجاب وجه الآب عنه؛ لأنه يحمل خطايا العالم كله وقال له “إلهى إلهى لماذا تركتنى” (مت27: 46).
ع25: يعاتب أيوب الله فى أمر ثالث وهو تأديبه ومقاومته بآلام واضطهادات كثيرة. فيعلن أيوب باتضاع أنه أضعف من كل هذا، ويشبه نفسه :
- ورقة مندفعة : أى ورقة شجر جافة تطير مع الهواء وتسقط على الأرض، ثم تداس بالأرجل. فهى بلا قيمة وضعيفة ومهانة، فلماذا يقف أمامها الله ؟ فهى لا تستحق شيئاً.
- قشاً يابساً : وهو أيضاً شئ ضعيف يداس بالأقدام وينكسر إلى قطع صغيرة، فلماذا يطارده الله ؟
والخلاصة هى أنه يترجى من الله حنانه وإشفاقه عليه؛ لأنه ضعيف ويكف عن ضربه بالضيقات الشديدة.
ع26: العتاب الرابع الذى يقوله أيوب لله هو تسجيل الله لخطاياه وكتابتها عليه؛ حتى أصبحت ميراثاً له لا يفارقه. فمع أن أيوب أخطأ منذ زمن، ولكن الله مازال يذكره بخطاياه القديمة، وهى أمور تتعب نفسية أيوب. وبهذا يعترف أيوب أنه كان له أخطاء فى صباه ولكن الآن أصبح مدققاً وانتفع من حكمة الشيوخ، فابتعد عن الخطية.
والحقيقة أن الله لا يصطاد لأولاده الخطايا ويمسكها عليهم، ولكنه يسامح أولاده إن تابوا عن خطاياهم. ولكنه أحياناً يذكر أولاده بخطاياهم القديمة، ليحيوا دائماً فى التوبة والاتضاع.
ع27: المقطرة : قطعة من الخشب فيها مكانين لتثبيت الرجلين ومكانين لتثبيت اليدين وأحياناً يثبت الرأس أيضاً، ويكون الشخص نائماً على ظهره فلا يستطيع الحركة نهائياً. ويعانى من آلام فى ظهره، الذى غالباً ما يكون قد تم جلده ويكون مجروحاً.
أصول رجلى : بطن وكعب الرجل.
نبشت : ينبش أى يحفر فى التراب ليبحث عن شئ صغير، والمقصود هنا أنه وضع علامة على أصول رجلى.
العتاب الخامس من أيوب لله يتضمن :
- جعلت رجلى فى المقطرة : ويقصد بهذا أن المرض الذى سمح الله به له قد قيده ولا يستطيع الحركة، كمن هو مربوط فى المقطرة بيديه ورجليه.
- لاحظت جميع مسالكى : أى أن الله يراقب عن قرب كل أعمال أيوب ويحاسبه عليها، فهو أيضاً نوع من التقييد؛ لأنه تحت عين الله الديان.
- على أصول رجلىَّ نبشت : ويقصد أيوب أن الله قد ضربه بالمرض من أعلى رأسه إلى باطن قدميه، أى أن كل جسمه أصبح فيه علامات المرض. بالإضافة إلى أن الله ينبش ويبحث عن أصغر خطية عملها أيوب؛ ليحاسبه عليها.
وهنا عتاب أيوب خطأ؛ لأن :
- تقييد الله للإنسان، هو ليمنعه عن خطايا ويحميه من شرور كثيرة.
- مراقبة الله لأعمال الإنسان تضع مخافة الله فى قلبه، فيبتعد عن الخطية ويسلك فى البر. والحقيقة أن أيوب كان يخاف الله ويسلك فى البر. ولكن أيوب من كثرة توجعه وآلامه شعر بضغط الله عليه، فقال هذا الكلام. وفى باقى المواضع كان أيوب يشكر الله على عنايته.
- الله رحيم فإن كان يلاحظ كل خطية لكنه يسامح ويغفر للإنسان عندما يتوب. وقد غفر لأيوب من أجل توبته واتضاعه. بالإضافة لأن الله لا يتصيد الخطايا للبشر وإلا أهلك الجميع. ولكنه مستعد أن يسامح كل من يتوب.
ع28: العتاب السادس من أيوب لله يعلن فيه أيوب ضعفه بإتضاع وأن السوس يسرى فيه، فهو ماض إلى الموت. وشبه نفسه أيضاً بثوب تأكله حشرات العث، مشيراً لجسده، الذى يضعف تدريجياً حتى ينحل بالموت. وبالتالى يطالب الله أن يوقف ضرباته عليه؛ لأنه يكاد يموت، فهو يطلب رحمة الله. تكلم مع الله بكل ما فى قلبك. وحتى لو عاتبته فهو بأبوته يسمعك. ولكن لا تبتعد عنه بالخطية، أو توقف صلاتك، فهو يحبك ومستعد أن يغفر لك جميع خطاياك إن تبت عنها.