أيوب البار يحاكم أمام الله
مقدمة :
لقد يئس أيوب من الحوار مع أصدقائه، إذ شعر أنهم لا يفهمونه. فحول – فى ردوده عليهم – كلامه إلى الله. وفيما هو يتكلم مع الله انتقى بعض ما ذكره أليفاز وردَّ عليه، مثل اتهام أليفاز لأيوب بقوله أن الله بعيد وراء السحاب ولا يرانى (ص22: 14)، فأجاب أيوب فى هذا الأصحاح بأنه على العكس يحب الله ويتمنى أن يتكلم معه، وقد تعود أن يكون قريباً منه (ع6).
(1) أيوب يشتكى لله (ع1-9):
1- فأجاب أيوب و قال. 2- اليوم أيضا شكواي تمرد ضربتي اثقل من تنهدي. 3- من يعطيني أن أجده فأتي إلى كرسيه. 4- احسن الدعوى أمامه و أملا فمي حججا. 5- فاعرف الأقوال التي بها يجيبني و افهم ما يقوله لي. 6- أبكثرة قوة يخاصمني كلا و لكنه كان ينتبه إلي. 7- هنالك كان يحاجه المستقيم و كنت أنجو إلى الأبد من قاضي. 8- هأنذا اذهب شرقا فليس هو هناك و غربا فلا اشعر به. 9- شمالا حيث عمله فلا أنظره يتعطف الجنوب فلا أراه.
ع1، 2: بعد أن شعر أيوب بالتعزية فى علاقته بالله وقال “إن ولىِّ حى” (أى19: 25). عاد أليفاز واستفزه وجرحه باتهاماته فى (ص22). فلم يجد أيوب أمامه إلا أن يرفع شكواه إلى الله.
وعبر أيوب عن صعوبة ضيقته، التى تشمل فقدان أبنائه وممتلكاته، بالإضافة إلى ظلم أصدقائه له بقوله “شكواى تمرد”.
أى أن أصدقائى يرون شكواى تمرداً على الله، مع أن ضيقتى المرة هى سبب شكواى، وتنهدى وهو كل ما أعبر به عن ضيقتى، أقل بكثير من آلامى الداخلية التى أعانيها. فإن ضربتى أثقل بكثير من تنهدى.
ع3، 4: يظهر أيوب مدى أشواقه لله، الذى تعود أن يحيا أمامه. ولكن كثرة الضيقات جعلته لا يشعر بالله، فينادى هنا طالباً مساعدة من الملائكة؛ ليوصلوه إلى الله بشفاعتهم. فهو يتمنى أن يقف أمام الله ليحاكم؛ لأنه سيشجعه، فيحكى له أيوب كل ما فى داخله ويبين حججه وأدلته، فهو يثق فى أبوة الله وعدله فى نفس الوقت. هذا ما شعر به أيوب؛ لأنه رأى ظلم أصدقائه له، فلم يكن أمامه إلا الالتجاء إلى الله الرحيم.
وأيوب هنا يمثل الكنيسة المتألمة، أو النفس المتألمة التى ليس أمامها إلا أحضان الله لتجرى نحوها، فتنقذها من كل أتعابها.
وطلب أيوب المحاكمة أمام الله يبين ثقة أيوب فى سلوكه البار وأنه لم يخضع لتشكيكات أصدقائه. فهو يطلب إنصاف الله له ومساندته بأبوته.
ع5: لأن أيوب ضاق من عدم فهم أصدقائه له، حول حديثه إلى الله، الذى يفهمه، وبالتالى يرضى أيوب بحكم الله عليه. إذ أن أيوب كلما تكلم عن ضيقه من تجاربه، حسبه أصدقاؤه متذمراً، وكلما تكلم عن نجاح الأشرار ظنوه يهاجم عدل الله، رغم أن أيوب لا يقصد هذا. لذا قال أيوب إنه سيكلم الله، فيعرف أقوال الله التى سيجيبه بها ويفهمها.
ع6: يواصل أيوب حديثه عن الله أمام أصدقائه، فيستنكر أن الله سيقف خصماً له بقوة عندما يتحدث أيوب معه. ويقول إنه على العكس سيرى انتباه واهتمام من الله بما يقول. وسيشدده الله ويشجعه على السير فى طريق البر، أى أن الله سيتعاطف معه عندما يسمعه، ولن يكون ضده، أو قاسياً عليه، كما كان أصدقاؤه يعاملونه بقسوة، ويحاولون اصطياد الأخطاء له، ولم يقدروا أنه معذب من التجارب، فيلتمسوا له العذر، إذا تأوه من الآلام.
ع7: يحاجه : يناقشه.
لثقة أيوب بمحبة الله له يقول أنه إذا تكلم مع الله سيتشجع ويناقش الله؛ لأن أيوب يسلك بالاستقامة، لذا يطلق على نفسه “المستقيم”. وبهذا النقاش أمام الله العادل والمحب له سيتخلص أيوب من القاضى الذى يحكم بعقابه، فهو يثق فى أبوة الله واهتمامه بسماع شكواه، فيعطف عليه، ويصدر أمر براءته إلى الأبد، أى أنه يعطيه راحة وسلام على الأرض، ثم حياة سعيدة فى الأبدية.
هناك تفسير آخر جميل لهذه الآية وهو أن أيوب يقصد بالمستقيم المسيح. فهو يرى بروح النبوة المسيح الفادى والشفيع الكفارى، الذى سيقف بينه وبين الله ويدافع عنه، ثم يعطيه البراءة بدمه المسفوك على الصليب. فأيوب يرى نفسه، بل والكنيسة كلها تتبرر أمام الله بالمسيح الفادى، الذى يهبها سلاماً، ثم فرحاً لا يعبر عنه فى الحياة الأبدية.
ع8، 9: يتعطف : يلبس معطف، إذ كانوا يظنون أن الله يختفى فى الجنوب، فكأنه يلبس معطفاً تعبيراً عن اختفائه.
شعر أيوب أنه لا يرى الله ولا يشعر به وهذا أمر أساسى فى حياته، لا يستطيع أن يحيا بدونه، فإن كانت التجارب التى حلت به صعبة، لكن الأصعب منها عدم شعوره بالله معه. ويعبر أيوب عن فقدانه لله بأنه ذهب فى كل الاتجاهات ليبحث عنه فلم يجده، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً. ففقدان أيوب أبنائه وممتلكاته وصحته ومهاجمة أقرب الناس له – وهم زوجته وأصدقائه – كل هذا كان يمكن أن يحتمله أيوب لو شعر أن الله معه وأحس بمساندته.
ولعل ضغوط التجارب على أيوب جعلته متوتراً حتى أنه لم يستطع أن يتكلم بطبيعته التى تعودها طوال حياته مع الله ولم يشعر به. فالضيقات أحياناً تعطل صلاة الإنسان وانطلاقه فى الإحساس بالله.
وعندما يقول أيوب ذهب شمالاً حيث أعمال الله، فلم يجده، لعله يقصد أنه نظر إلى المخلوقات وكل حركاتها على الأرض، فلم يستطع بحواسه المادية أن يدرك وجود الله. وذلك لأنه كان محتاجاً أن يهدأ ويصلى ويطلب معونة الله وأخيراً سيشعر به.
لا تضطرب عندما ينشغل الناس عنك، حتى أقرب المقربين؛ لأنه يوجد من ينتظرك ويشعر بك وأحضائه مفتوحة لك، وهو الله. فاقترب إليه فهو يسمعك ويتعاطف معك، وحينئذ تختبر أنه أقرب صديق ويستريح قلبك.
(2) ثقة أيوب فى بره (ع10-12):
10- لأنه يعرف طريقي إذا جربني اخرج كالذهب. 11- بخطواته استمسكت رجلي حفظت طريقه و لم احد. 12- من وصية شفتيه لم ابرح اكثر من فريضتي ذخرت كلام فيه.
ع10: يظهر إيمان أيوب بالله وبعدله فى تسليم حياته لله ليفحصه؛ لأنه يعرف أن الله فاحص القلوب والكلى وأن الله يعرف طريق أيوب، أى حياته الأولى واهتمامه بالسلوك فى البر، ولذا سمح له بالتجارب؛ لينقيه ويقويه، وهذا معناه أنه فى داخله يقبل التجارب من يد الله؛ لأنها تنميه روحياً. وأن الله يسمح بالتجارب للأبرار؛ لتنقيتهم وليست مجرد عقاب للأشرار.
وتظهر ثقة أيوب فى أنه سيخرج من الضيقة بقوله أن الله بعد أن يمتحنه بالتجارب سيخرج مثل الذهب، أى يتخلص من الشوائب وكل خطية وكل ضعف ويلمع بضياء فى حياة نورانية، التى يشبهها بالذهب. فالذهب يرمز إلى السماء الروحانية.
ع11، 12: أبرح : أترك.
أحد : أميل، أو انحرف.
فريضتى : طعامى الضرورى اليومى.
ذخرت : أدخرت.
فيه : فمه.
يؤكد أيوب أنه يسير فى طريق الله، ويتمسك بخطواته، أى ما يعرفه عن الله هو مثال يقتدى به ويسير وراءه، ولم ينحرف عنه.
وتمسك أيوب بكلام الله، ولم يتركه، بل اهتم به قبل طعامه واحتياجاته الضرورية، وحفظ كلام الله؛ ليتأمل فيه وينفذه فى حياته.
وهكذا نرى أن أيوب بينما يعترف بضعفه وخطاياه واحتياجه لمراحم الله، لكنه يؤكد فى نفس الوقت سلوكه المستقيم وتمسكه بكلمات الله، فهو مختلف عن أهل العالم، ولا يعيش بمبادئهم لكن بكلام الله. وبهذا يحيا أيوب بروح العهد كما قال المسيح أنه “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (مت4: 4) فهو يهتم بكلام الله قبل طعامه الضرورى.
وفى النهاية نرى محبة أيوب القوية لله، فهو يعتبر جداً كل كلمة تخرج من فم الله، وهى غالية عنده، يتمسك بها؛ لأنها منه، فهو منجذب لله، ولا يستطيع أن يحيا بدونه.
إن كلام الله إذا لروحك، فلا تهمله، بل تغذى به كل يوم، فتشبع نفسك. ردده أثناء طريقك وخاصة، عندما تهاجمك أفكار ردية، فهو يحفظك من كل شئ.
(3) شكوى أيوب من تسلط الله (ع13-17) :
13- أما هو فوحده فمن يرده و نفسه تشتهي فيفعل. 14- لأنه يتمم المفروض علي و كثير مثل هذه عنده. 15- من اجل ذلك ارتاع قدامه أتأمل فأرتعب منه. 16- لان الله قد اضعف قلبي والقدير روعني. 17- لأني لم اقطع قبل الظلام و من وجهي لم يغط الدجى
ع13: يتكلم هنا أيوب عن الله، فيقول أنه هو وحده الله، وليس له شريك من الآلهة الوثنية، فهو وحده مستحق العبادة؛ لأن له السلطان الكامل على كل الخليقة.
وكل ما يريده الله هو قادر أن يفعله ولا يستطيع أحد أن يقاومه. وما يشتهيه الله هو لصالح الإنسان؛ لأن طبيعة الله هى الصلاح وليس فيه أى شر، فهو يشتهى خلاص الإنسان وسلامه وفرحه.
ع14: والله بسلطانه يقرر ما ينبغى أن يفعل معى، أى “المفروض علىَّ “. ويعنى أيوب بالمفروض التجارب التى تؤدبنى وتصلحنى وتنقينى.
كذلك أيضاً “المفروض علىَّ” يشمل كل عطية وكل بركة يهبها لى الله. فالله يعتنى بى بالعطايا، أو بالضيقات.
والله عنده الكثير من الطرق التى يستخدمها لخلاص نفسى، سواء الوسائل الصعبة، أو السهلة علىَّ، فهو بكل طريقة يحاول جذبى إليه؛ لأنه يحبنى.
ع15، 16: ولأن الله قادر أن يجربنى بتجارب مختلفة لإصلاح نفسى، فرغم ثقتى فى أبوته وصلاحه ولكن التجارب شديدة وصعبة علىَّ وتخيفنى، بل ترعبنى، خاصة وأنى خاطئ واستحق العقاب والهلاك. ولكن تمسكى بكلام الله وطلبى معونته يسندنى أمام عظمته وقدرته المخوفة.
والخلاصة أن أيوب يثق فى عناية الله ومن منطلق عنايته يجرب أيوب؛ لينقيه، فيخاف أيوب ولكنه يتمسك ويلتصق بالله، الذى يطمئنه ويسنده وينقيه، ثم يعطيه حياة سعيدة إلى الأبد.
ع17: الدجى : ظلام الليل.
ويؤكد أيوب هنا أنه لم يمت ويقطع قبل أن يحل عليه الظلام ويقصد به التجارب الشديدة التى أتت عليه.
ومن ناحية أخرى لم يغطِ الدجى، أى ظلام الليل وجهه. ويعنى بهذا أنه لما حلت به التجارب، لم يمت بسببها، ولكنه ظل حياً يحتمل آثارها الصعبة عليه. وهذا أظهر فضائله وهى إيمانه وتمسكه بالله وصبره وطول أناته على أصدقائه .. وبهذا يظهر أن الظلام، أو الدجى لم يبعد أيوب عن إيمانه، بل زاده صلاحاً ولم يقطعه من علاقته بالله، أو يفقده مكانه السعيد فى الأبدية.
وقد يرمز الدجى والظلام إلى الجحيم والعذاب الأبدى، فهذا لن يغطى أيوب، بل احتفظ أيوب بمكانه فى أحضان الله، ليس فقط فى الأرض، بل أيضاً فى الحياة الأخرى. إن كان الله وحده له السلطان الكامل على العالم، فلا تخف من تهديدات الأشرار، ولا تجرى فى طرقهم، أى شهوات العالم، بل خف الله واحفظ وصاياه، واطلب معونته فى كل ضيقة، فهو قادر أن ينجيك.