ضيق أيوب من أصدقائه وتمجيد الله
(1) إساءة أصدقاء أيوب إليه (ع1-6):
1- فأجاب أيوب و قال. 2- صحيح إنكم أنتم شعب و معكم تموت الحكمة. 3- غير أنه لي فهم مثلكم لست أنا دونكم و من ليس عنده مثل هذه. 4- رجلا سخرة لصاحبه صرت دعا الله فاستجابه سخرة هو الصديق الكامل. 5- للمبتلي هوان في أفكار المطمئن مهيأ لمن زلت قدمه.
6- خيام المخربين مستريحة و الذين يغيظون الله مطمئنون الذين يأتون بإلههم في يدهم.
ع1-3: أجاب أيوب على صوفر، الذى وبخه بعنف فى الإصحاح السابق، ولكن كلامه كان موجهاً للثلاثة أصدقاء، فقال لهم إنكم تدعون الحكمة الحقيقية مع أن كلامكم بعيد عن الحكمة؛ لأنكم لم تشعروا بى. وقال لهم أيضاً إن كان عندكم حكمة فأنا أيضاً، ولست أقل حكمة منكم. وما قلتموه من حكمة معروف لكل الناس؛ أى أنكم لم تضيفوا شيئاً. ثم أن ما قلتموه غير مفيد، ولن يبقى للأجيال القادمة، بل سينتهى بموتكم.
لقد خاطب الأصدقاء فقال لهم “أنتم شعب” أى أنكم كلكم متفقون على إدانتى والإساءة إلىَّ وعدم الإحساس بمتاعبى.
ع4: وبخ أيوب أصدقاءه فى الآيات السابقة من هذا الأصحاح على كبريائهم وغرورهم بحكمتهم. وفى هذه الآية يوبخهم على أمر ثانٍ وهو احتقارهم له، إذ سخروا بكلامه مع أنه يتكلم بحكمة من الله.
ولكن أيوب لم يهتز من سخريتهم، بل صلى ودعا الله فاستجاب له، وثبت إيمانه، وأعلمه أن الكاملين والصديقين فى العالم لابد أن يواجهوا سخرية واحتقار أهل العالم.
وهنا تظهر قوة أيوب فيما يلى :
- إيمانه بالله الذى يصلى إليه.
- معونة الله له فى استجابته له وتثبيت إيمانه.
- أفهمه الله بأن الصديقين لابد أن يقابلوا سخرية واحتقار من أهل العالم، فعليه ألا يهتز، بل يسانده ليحتمل كلامهم الشرير.
ع5: وبخ أيوب أصدقاءه الذين لا يشعرون بآلامه وقال لهم، إن من يمر بتجربة مثلى، يتطاول عليه ويهينه الشخص الذى يحيا فى استقرار وراحة وطمأنينة، فالمطمئن والمستريح مستعد ومهيأ لإهانة واحتقار من يمر فى تجربة، غير عالم أنه (هذا المطمئن) معرض للسقوط فى تجربة. وبهذا يدعو أيوب أصدقاءه للكف عن إساءاتهم ومحاولة الإحساس بما يعانيه.
ع6: على الجانب الآخر يوضح أيوب أن الراحة والاستقرار ليست دليلاً على نقاوة القلب. فقد يكون الأشرار ومن يخربون غيرهم ويسرقونهم مستريحون ومطمئنون فى حياتهم.
هؤلاء الأشرار يغيظون الله بشرورهم ومع هذا هم فى طمأنينة؛ لأن الله يطيل أناته عليهم ويعطيهم فرصة للتوبة؛ مع أنهم يستحقون الهلاك بسبب كثرة خطاياهم.
وهؤلاء المخربون آلهتهم فى يدهم، أى يشعرون بأن الله راضياً عنهم وهذا عكس الحقيقة، فيتمادون فى شرورهم. كل هذا بالطبع سيجازيهم الله عنه فى الحياة الأخرى، خاصة أن كثيراً منهم يشعرون أن آلهتهم فى يدهم، أى قوتهم هى مصدر طمأنينتهم ويتناسون وجود الله. ولعل أيوب يشير إلى السبئيين والكلدانيين الذين اغتصبوا أملاكه ويعيشون مطمئنين، مفتخرين بقوتهم، متناسين آخرتهم فى الهلاك والعذاب الأبدى.
لا تتمادى فى خطيتك إذا لم يقاومك أحد، فالله طويل الأناة يعطيك فرصة للتوبة. فلا تنسى الله الذى سيحاسبك على كل ما تعمله.
(2) سلطان الله وحكمته (ع7-25):
7- فأسأل البهائم فتعلمك و طيور السماء فتخبرك. 8- أو كلم الأرض فتعلمك و يحدثك سمك البحر. 9- من لا يعلم من كل هؤلاء أن يد الرب صنعت هذا. 10- الذي بيده نفس كل حي و روح كل البشر. 11- أفليست الأذن تمتحن الأقوال كما أن الحنك يستطعم طعامه. 12- عند الشيب حكمة و طول الأيام فهم.13- عنده الحكمة و القدرة له المشورة و الفطنة. 14- هوذا يهدم فلا يبنى يغلق على إنسان فلا يفتح. 15- يمنع المياه فتيبس يطلقها فتقلب الأرض. 16- عنده العز والفهم له المضل و المضل. 17- يذهب بالمشيرين أسرى و يحمق القضاة. 18- يحل مناطق الملوك ويشد أحقاءهم بوثاق. 19- يذهب بالكهنة أسرى و يقلب الأقوياء. 20- يقطع كلام الأمناء وينزع ذوق الشيوخ. 21- يلقي هوانا على الشرفاء و يرخي منطقة الأشداء. 22- يكشف العمائق من الظلام و يخرج ظل الموت إلى النور. 23- يكثر الأمم ثم يبيدها يوسع للأمم ثم يجليها. 24- ينزع عقول رؤساء شعب الأرض و يضلهم في تيه بلا طريق. 25- يتلمسون في الظلام و ليس نور ويرنحهم مثل السكران
ع7-10: يؤكد أيوب لأصدقائه أن الله له سلطان كامل على كل الخليقة. وإذا سألت البهائم، أو الطيور، أو الأرض، أو الأسماك؛ فأنها تخبرك بهذا. أى أن الله هو المدبر لكل الخلائق التى خلقها.
ومن ناحية أخرى هذه الخلائق تعلن الحقيقة المذكورة فى الآيات السابقة؛ أن المطمئنين يظلمون الضعفاء، فالحيوان القوى يفترس الأضعف منه. فبيته قوى ومطئمن فيه، مع أنه مخرب بيوت غيره.
وإذا دققت ستجد أن الحيوان الذى أمامك مسروق من مكان آخر. والطائر الذى تم طهيه وموجود على المائدة قد يكون مأخوذ ومغتصب من مكان آخر. بهذا يؤكد أيوب أنه مظلوم عندما سلبه جيرانه، وعندما حلت به هذه الضيقات والأمراض. فهذه هى طبيعة الحياة ورغم سلطان الله على كل شئ، فهو يترك كل إنسان بحريته وسيحاسب الجميع فى النهاية.
ع11، 12: يعاتب أيوب أصدقاءه على النظريات التى طبقوها عليه، فإن كانت المبادئ معروفة والنظريات سليمة – وهى أن البار يكافأ والشرير يعاقب – إلا أنها لا تصلح فى كل وقت ولها استثناءات. فالحكيم قادر على التمييز ويعرف متى يطبق المبدأ على الحالة التى أمامه، كما أن الأذن تسمع وتميز الأقوال الصحيحة والغير صحيحة، والفم يميز الطعام الجيد والطعام غير الجيد، خاصة وإن كان هذا الحكيم شيخاً متقدماً فى الأيام، فيكون له خبرة وقدرة أكبر على التمييز.
ع13: الفطنة : الحكمة والقدرة على التفكير والتمييز.
إن كان الإنسان له بعض القدرة على الحكمة والتمييز ولكن الله كامل فى فهمه وأيضاً فى قدرته وقوته، وهو غير محتاج أن يستشير أحداً؛ لأن كمال المشورة عنده. ولأن له الحكمة فهو قادر أن يفكر ويخطط، ثم ينفذ ما يريده؛ لأن له كل القدرة.
ع14، 15: يستكمل أيوب كلامه عن قدرة الله، فيقول أنه عندما يأمر بهدم شئ لا يمكن أن يبنى مرة ثانية، كما حدث مع سدوم وعمورة (تك19: 24).
وكذلك يغلق الله فلا يستطيع أحد أن يفتح ما أغلقه، كما أغلق الله على امرأة لوط، فتحولت إلى عمود ملح (تك19: 26). وكما أدخل لوط إلى داخل بيته وأغلق الباب، فعجز أهل سدوم الذين هجموا على بيت لوط أن يجدوا الباب ويفتحوه؛ لأن الله ضربهم بالعمى.
ويستطيع الله أن يمنع المياه الجارية، فتيبس الأرض، كما شق البحر الأحمر، فظهر قاع البحر يابساً (خر14: 16). ويستطيع الله أيضاً أن يطلق المياه فتقلب الأرض كما حدث فى الطوفان أيام نوح (تك7: 10).
بعد أن أعلن أيوب قدرة الله قدم أدلة عليها من الطبيعة (ع15) وفى الآيات التالية سيقدم أدلة من نماذج بشرية مختلفة.
ع16: العز : القدرة.
الله له القدرة الكاملة والحكمة الكاملة فى نفس الوقت، ويستطيع بحكمته أن يستخدم الإنسان الشرير، الذى يضل غيره، ويستخدم أيضاً من يُضل بواسطة الآخرين، ليتمم مقاصده الإلهية التى يدعو بها البشر للتوبة والحياة معه.
ع17: يقدم هنا أمثلة من البشر تأكيداً على قدرة الله على تدبير العالم كله.
- يذهب بالمشيرين أسرى : كل من يشعر بتفوقه فى الحكمة والمشورة هو معرض أن يفقد حريته ويتم أسره، كما حدث مع منسى الملك، فأسره وسجنه ملك بابل
(2أى33: 11). - يحمق القضاة : ومن تفاخر بحكمته يظهر له الله عجزه وحماقته، كما حدث مع أخيتوفل الشرير الذى ساعد أبشالوم وحاول قتل داود (2صم17: 14).
ع18: مناطق الملوك : قطعة من القماش مطرزة، أو مصنوعة من قماش ملوكى ثمين وقد تكون مرصعة بالذهب والفضة واللآلئ تدل على أن من يلبسها من الملوك.
وثاق : قيد.
ويضيف أيوب هنا أمثلة أخرى على قدرة الله وعظمته وهى :
- يحل مناطق الملوك ويشد أحقاءهم بوثاق : الله هو ملك الملوك ورب الأرباب، الذى تخضع له جميع ملوك الأرض؛ لأنه بقدرته يستطيع أن ينزع مناطق الملوك ويربطهم ويقيدهم ويضعهم فى السجون، كما فعل بصدقيا ملك يهوذا، الذى قبض عليه نبوخذنصر وفقأ عينيه، ثم سجنه فى بابل (2مل25: 7).
ع19: ثم يدلل أيضاً على سلطان الله :
- يذهب بالكهنة أسرى : فالكهنة الذين ينحرفون عن خدمتهم يتسلطون ويفتخرون بقوتهم، هؤلاء يسمح لهم الله بالأسر والقيود؛ حتى يخضعوا لله ويتوبوا. وهذه نبوة الكهنة الأشرار الذين انحرفوا عن خدمتهم فعاقبهم الله، مثل عالى الكاهن وأبنائه حفنى وفينحاس (1صم4: 17، 18).
- يقلب الأقوياء : والأقوياء الذين يتكبرون بقدرتهم يقلبهم فيفقدوا قوتهم، كما قتل الفتى داود جليات الجبار بقوة الله (1صم17: 45-49).
ع20: يستكمل أيوب أيضاً أدلته على قدرة الله :
- يقطع كلام الأمناء : أى كل من نالوا مراكز ومسئوليات وأمانة كبيرة وتفاخروا فى غرور بمسئولياتهم يقطع الله كلامهم، أى يسكتهم ويفقدهم قدرتهم وسلطانهم، كما فعل بهامان الذى حاول إبادة شعب الله أيام أستير، وكذلك قَتْل مردخاى، فأهلكه الله
(اس7: 10). - ينزع ذوق الشيوخ : يقصد بذوق الشيوخ حكمتهم، فكل الشيوخ المتكبرين يفقدهم الله حكمتهم؛ لأجل شرهم، فيتصرفون فى غباء وسفاهة، كما أهلك الله الشيخين اللذين فقدا حكمتهما لأجل شهوتهما لسوسنة العفيفة.
ع21: بالإضافة لما سبق يسرد أيوب أدلة على سلطان الله وهى :
- يلقى هواناً على الشرفاء : الشرفاء هم ذوى المركز والمعروفين بين الناس ولهم مكانة عالية فى المجتمع، مما يعرضهم للغرور. هؤلاء يسمح لهم الله أن ينحط مركزهم ويلاقوا هواناً وذلاً؛ حتى يتضعوا أمام الله، كما حدث مع نبوخذنصر ملك بابل العظيم، الذى انحط وصار مثل الحيوان وعاش سبع سنوات يأكل الحشائش وهو مطرود من مملكته (دا4: 33).
- ويرخى منطقة الأشداء : إن المنطقة هى قطعة من القماش، أو الجلد يلبسها الإنسان على وسط فما أسفل، ليتشدد بها ويكون مستعداً للعمل والجهاد والحرب. ولكن الأشداء، أى الأقوياء الذين يعتمدون على قوتهم، يرخى ويضعف الله مناطقهم، أى يصيروا ضعفاء؛ لأنهم نسوا الله ولم يتكلوا عليه، بل على قوتهم، مثل أنطيوخوس الملك وجيوش اليونانيين التابعة له، التى كانت تنهزم أمام يهوذا المكابى وإخوته (سفرى المكابيين).
ع22: يواصل أيوب تقديم أدلته فيقول :
- يكشف العمائق من الظلام : العمائق هى الأمور المخفية عن البشر، مثل المكائد التى تدبر فى الخفاء، يكشفها الله وينفضح الأشرار ويخزون، مثل مؤامرات الآراميين ضد مملكة إسرائيل، والتى كان أليشع النبى يكشفها لملك إسرائيل فلا يستطيع آرام أن ينتصر على إسرائيل (2مل6: 12).
- يخرج ظل الموت إلى النور : ويقصد بظل الموت الخطية، فيفضحها حتى يتوب من أخطأ، كما فعل داود عندما سقط فى الزنا وأرسل إليه ناثان النبى، فاعترف داود بخطيته وغفر له الله (2صم12: 1-23).
ع23: يجليها : يسمح لها بالجلاء والسبى.
ثم ساق أيوب دليلاً جديداً هو :
- يكثر الأمم ثم يبيدها يوسع للأمم ثم يجليها : الله يريد أن يبارك كل الشعوب؛ لينموا ويكثروا كما وعد آدم وحواء بعد خلقتهما (تك1: 28). ولكن عندما تزداد خطايا هذه الشعوب تكون نتيجتها سبيهم، بل قتل وإهلاك الكثيرين منهم، كما حدث مع الإمبراطوريات التى حكمت العالم، ثم زالت مثل آشور وبابل.
ع24، 25: يرنحهم : يجعلهم يتمايلون فى عدم اتزان.
يختم أيوب أدلته على سلطان الله وقوته فيقول :
- ينزع عقول رؤساء شعب الأرض : رؤساء شعب الأرض هم الملوك وقادة الجيش والذين فى أيديهم قيادة الشعوب لحكمتهم وشجاعتهم. هؤلاء بسبب خطاياهم يفقدون عقولهم، أى يخافون وينشغلون بشهواتهم؛ فيفقدوا قدرتهم على اتخاذ القرارات ويتخبطون، فيعجزون عن التقدم، أو إحراز أى نجاح، مع أنهم كانوا فى سلطان وقوة لا تقاوم، لكنهم تكبروا فسقطوا وصاروا مترددين وتائهين مثل السكارى، مثل أليفانا رئيس جيوش الأشوريين أيام يهوديت، الذى اشتعل بشهوته نحوها وشرب من الخمر كثيراً؛ حتى سقط فاقداً الوعى. وبقوة الله قتلته يهوديت الضعيفة فى الجسد والقوية فى الإيمان (يهوديت 13: 8-10).
إن كان إلهك له سلطان على كل شئ، فلماذا تقلق من تقلبات العالم، أو تهديدات الأشرار الذين يعتمدون على قوتهم، فهم لا شئ أمام قوة الله. اطمئن وتمسك بصلاتك وحياة التوبة، فتعيش بسلام.