دعوة أيوب للتوبة من خطاياه الكثيرة
مقدمة :
بانتهاء الأصحاح الحادى والعشرين تنتهى الجولة الثانية فى الحوار بين أيوب وأصدقائه الثلاثة، والتى بدأت فى الأصحاح الخامس عشر، والتى فيها تم الآتى :
- أليفاز : أعلن أن أيوب متكبر والله يبيد الأشرار (ص15).
- أيوب : أجاب بأنه متألم رغم أنه طاهر وبرئ (ص16، 17).
- بلدد : أضاف بأن الله يبيد الأشرار (ص18).
- أيوب : أجاب بأنه يحتمل آلام كثيرة ولكن رجاءه فى السماء (ص19).
- صوفر : قرر أن تنعم الأشرار يزول سريعاً (ص20).
- أيوب : أجاب بأن بعض الأشرار يتنعمون حتى نهاية حياتهم (ص21).
ومن هذا الأصحاح تبدأ الجولة الثالثة والأخيرة فى الحوار بين أيوب وأصدقائه، والتى تمتد حتى الأصحاح الحادى والثلاثين، أى تشمل إحدى عشر إصحاحاً، ويلاحظ انسحاب صوفر من هذه الجولة. وبعد هذه الجولات الثلاثة فى الحوار يظهر الصديق الرابع لأيوب، الصغير السن وهو أليهو.
(1) اتهام أيوب بخطايا كثيرة (ع1-14):
1- فأجاب أليفاز التيماني و قال. 2- هل ينفع الإنسان الله بل ينفع نفسه الفطن. 3- هل من مسرة للقدير إذا تبررت أو من فائدة إذا قومت طرقك. 4- هل على تقواك يوبخك أو يدخل معك في المحاكمة. 5- أليس شرك عظيما و آثامك لا نهاية لها. 6- لأنك ارتهنت اخاك بلا سبب و سلبت ثياب العراة. 7- ماء لم تسق العطشان و عن الجوعان منعت خبزا. 8- أما صاحب القوة فله الارض و المترفع الوجه ساكن فيها. 9- الأرامل أرسلت خاليات و ذراع اليتامى انسحقت. 10- لأجل ذلك حواليك فخاخ و يريعك رعب بغتة. 11- أو ظلمة فلا ترى و فيض المياه يغطيك.12- هوذا الله في علو السماوات و انظر راس الكواكب ما أعلاه. 13- فقلت كيف يعلم الله هل من وراء الضباب يقضي. 14- السحاب ستر له فلا يرى و على دائرة السماوات يتمشى.
ع1-5: الفطن : الحكيم والفهيم.
يوبخ أليفاز أيوب؛ لأنه قال أنا بار، بقوله هذا يعير الله، فيقول له أليفاز هل لأنك بار تنفع الله؟ إن الله غير محتاج لبرك، ولن تضيف إليه شئ ببرك، فلن تستطيع أن تدخل السرور إلى قلبه؛ لأنه مصدر السرور والفرح، ولكن الإنسان الفطن ينفع نفسه ببره. مع أن أيوب لم يدعى أنه ينفع الله عند قوله أنا بار، بل هو يدافع عن نفسه أمام الاتهامات الزور التى اتهم بها من أصدقائه بأنه أخطأ خطايا كثيرة.
ويضيف أليفاز بأن الله لا يستفيد من برك، أو تقواك؛ لأنه كامل وغير محتاج لشئ من الإنسان. ويسأل أيوب؛ هل الله يوبخك على تقواك؛ أو يحاكمك على تقصيرك فى البر؟ إنه غير محتاج لتقواك، بل الله هو مصدر البر والكمال.
ثم يتهم أيوب صراحة بأنه شرير وآثامه كثيرة، من أجل هذا يوبخه الله. فنلاحظ أن أليفاز وباقى الأصدقاء كانوا يلمحون فى الجولة الأولى والثانية إلى خطايا أيوب، أما هنا ففى قسوة يوبخه أليفاز. وإن كان فى الجولات الأولى يتهمه بالرياء، أى إظهار بره الخارجى مع وجود شر خفى فى حياته، ولكن هنا – وفى الآيات التالية – يوبخه على خطايا كثيرة محددة، رغم عجز أليفاز أن يقدم اسماً واحداً ممن أدعى أن أيوب أخطأ فى حقهم.
ع6: بدأ أليفاز اتهاماته الباطلة لأيوب وهى :
- أخذ الأخ رهينة : أى أن أخ من أخوته، أو أقاربه وأحبائه استدان منه ولم يستطع تسديد ما عليه، فقبض عليه أيوب ووضعه فى السجن، أو أخذه عبداً عنده إلى أن يسدد ما عليه. وهذه الأمور لم تحدث إطلاقاً فى حياة أيوب، بدليل شهادة الله له أنه بار (ص1: 8).
- سلب الفقراء : الاتهام الثانى هو سلب أيوب لثياب الفقراء الذين من قلة ثيابهم يعتبرون عراة. وهذا بالطبع اتهام لأيوب بأنه قاسى جداً، يسلب أفقر الناس، وذلك لأنهم اقترضوا منه ولم يستطيعوا السداد، أو قصروا فى حقه، فأخذ ثيابهم الضرورية وتركهم عراة، مع أن الله قد شهد عن أيوب أنه يحيد عن الشر، فكيف يتهمه أليفاز هذا الاتهام؟ فأليفاز يتهم أيوب بعدم الرحمة على الفقراء، بل وأيضاً سلب ممتلكاتهم، وهذا عكس الحقيقة.
ع7:
- تعطيل عمل الرحمة : وذلك لعدم إحساسه بالآخرين وقسوته، فرغم أن الماء متاح للناس يمنعه عن العطاش، إذا احتاجه هو. وإذا وجد إنساناً يعطى خبزاً، أى طعاماً لفقير يمنعه. وهذه مبالغة كبيرة جداً من أليفاز، وهى اتهامات كاذبة ليس لها أساس من الصحة.
ع8: المترفع الوجه : العظيم.
- المحاباة : إنه أيضاً يحابى الأقوياء والعظماء، فيسمح لهم بتملك الأراضى والمبانى والسكن فيها، ويمنع الفقراء ويطردهم منها، رغم حقهم فيها. فهو يحابى لأجل مصلحته الشخصية.
ع9:
- ظلم الأرامل والأيتام : تتعاظم اتهامات أليفاز لأيوب، فيتهمه بعدم مساعدة الأرامل، ثم تحطيم قوة الأيتام الذين ليس لهم أب يدافع عنهم، فهو يستغل ضعف الأرملة واليتيم؛ ليقسو عليهم. وهذا تحدٍ لله؛ لأن الله أبو الأيتام وقاضى الأرامل. فهو ليس فقط يمنع عنهم المساعدة، بل أيضاً يحطم أذرع اليتامى، أى يجعلهم عاجزين عن مساعدة أنفسهم.
ع10، 11: من أجل كثرة خطايا أيوب التى اتهمه بها أليفاز، يتوعده أليفاز بعقوبات إلهية هى :
- فقدان سلامه ووقوعه فى خوف ورعب.
- فقدان الرؤية والتمييز للأمور، كمن يسير فى الظلام.
- ضيقه الشديد، كأن مياه فاضت عليه وكاد يختنق ويغرق.
وبهذا يعلن أليفاز لأيوب أن ما حل به من نكبات ليس ظلماً من الله، بل نتيجة طبيعية لخطاياه الكثيرة.
ع12-14:
- الكفر :
اتهم فى النهاية أليفاز أيوب بالتطاول على الله فيما يلى :
أ – الله بعيد عن الشر والأرض ولا يدرى ماذا يحدث فيها؛ لأنه فى علو السماء.
ب – الله لا يشعر بالبشر؛ لأنه مشغول بسكان السماء من الملائكة ومهتم بالكواكب الأخرى وما فيها.
ج – عجز الله عن رؤية ما يحدث على الأرض، إذ يتهمه أيوب بأن له أعين كالبشر ضعيفة لا تستطيع أن ترى عن بعد، ويحجزه الضباب عن رؤية ما فى الأرض.
د – إهمال الله لمن على الأرض؛ لأنه مكتفٍ بالتنزه والتمشى على دائرة السماء.
لا تتسرع فى الحكم على الناس بحسب أفكارك، أو ما يبدو أمامك من مظهر الآخرين؛ لئلا تكون مخطئاً وتتهمهم اتهاماً زوراً. كن رحيماً والتمس لهم الأعذار، وقل أن الله وحده هو العالم بخفايا القلوب، فتحفظ نفسك من الإدانة، وتنال مراحم الله.
(2) أمثلة لهلاك الأشرار (ع15-20):
15- هل تحفظ طريق القدم الذي داسه رجال الإثم. 16- الذين قبض عليهم قبل الوقت الغمر انصب على أساسهم. 17- القائلين لله ابعد عنا و ماذا يفعل القدير لهم. 18- و هو قد ملا بيوتهم خيرا لتبعد عني مشورة الأشرار. 19- الأبرار ينظرون و يفرحون و البريء يستهزئ بهم قائلين. 20- الم يبد مقاومونا و بقيتهم قد أكلها النار.
ع15: يذكر أليفاز أيوب بأحداث الماضى التى فيها عاقب الله الأشرار، ويقدم كلامه بشكل سؤال لأيوب؛ قائلاً له “هل تحفظ” بمعنى لماذا لا تتذكر طريق القدم الذى سلك فيه الأشرار قديماً، ويقصد هنا الناس الذين عاشوا أيام نوح وأهلكهم الطوفان.
ع16: ويضيف أليفاز أن هؤلاء الأشرار قبض عليهم الرب قبل الوقت، أى ماتوا غرقاً بالطوفان فجأة وهم منغمسون فى شرورهم، فغطتهم مياه الطوفان وهلكوا، مع أنهم لو كانوا قد عاشوا مع الله وسلكوا فى البر، لكانوا قد نجوا من هذا الطوفان، كما حدث مع نوح وعائلته. ولأن الأشرار قد أسسوا حياتهم على الأرض والماديات، فقد غطت المياه الأرض وكل خيراتها وأهلكت الأشرار الذين تعلقوا بشهوات الأرض.
ع17، 18: وقال أليفاز أيضاً أن الأشرار أيام نوح قالوا لله إبعد عنا؛ أى لا نريد أن نعمل علاقة معك. لأنهم علموا أن الله سيحكم عليهم بالعقاب لكثرة خطاياهم، فهم لا يريدون سماع صوت الله.
وتمادى هؤلاء الأشرار، فقالوا عن الله القدير أنه عاجز أن يصنع معهم شيئاً ولا يستطيع أن يفيدهم، أو يضرهم … يكافئهم، أو يعاقبهم، إذ رأوا أن الأرض والسموات ثابتة على مر السنين، ولانغماسهم فى الشر لم يشعروا بوجود الله. أما الأتقياء أمثال أخنوخ، فقد ساروا مع الله وشعروا به، فرفعهم الله إليه ليتمتعوا بعشرته (تك5: 24).
وقول أليفاز “ماذا يفعل القدير لهم” قد يعنى أن الله عندما يسمع رفضهم له وإصرارهم على الشر، فماذا يفعل لهم إلا أن يهلكهم بالطوفان.
ورغم تذمر ورفض الأشرار لله، فإنه يحبهم، والدليل أنه قد ملأ بيوتهم بالخيرات؛ لعلهم يؤمنون به ويرجعون عن خطاياهم. ويقصد بالأشرار البشر الذين عاشوا أيام الطوفان، وكذلك أهل سدوم وعمورة.
وأمام جحود الأشرار ورفضهم لله يطلب أليفاز من الله أن يبعد عنه أفكار وكلام ومشورة هؤلاء الأشرار. وهذه الطلبة عينها طلبها أيضاً أيوب (ص21: 16).
وبهذا يظهر مدى جرم الأشرار وهو أنهم :
- رفضوا الله وأبعدوه عنهم.
- لم يشكروه على الخيرات التى وهبها لهم؛ إذ لم يعترفوا أنه واهبها لهم.
ع19، 20: لقد عانى الأبرار من شر الأشرار المحيطين بهم، سواء أيام الطوفان، أى نوح وعائلته، أو فى سدوم، والمقصود لوط وأسرته. فعندما يرى الأبرار إبادة الأشرار بالطوفان، أو بحرق سدوم وعمورة وكل دائرتها، يثبتون فى إيمانهم ويفرحون بإنقاذ الله لهم، ويستهزئون بالشر الذى نهايته الهلاك، فهم لا يشمتون بالأشرار، لكنهم يفرحون بالرب مخلصهم.
أنظر إلى عقاب الشرير لكى تحترس من الخطية التى تهلك الإنسان. ولكيما تبتعد عن أى مصدر يؤدى إليها. إثبت فى إيمانك، واثقاً من عناية الله بك؛ لأنه يطيل أناته على الأشرار، وفى النهاية لابد أن يمجدك.
(3) بركات التوبة (ع21-30):
21- تعرف به و اسلم بذلك يأتيك خير. 22- اقبل الشريعة من فيه و ضع كلامه في قلبك. 23- إن رجعت إلى القدير تبنى إن أبعدت ظلما من خيمتك. 24- و ألقيت التبر على التراب وذهب اوفير بين حصى الأودية. 25- يكون القدير تبرك و فضة أتعاب لك. 26- لأنك حينئذ تتلذذ بالقدير و ترفع إلى الله وجهك. 27- تصلي له فيستمع لك و نذورك توفيها. 28- و تجزم أمرا فيثبت لك و على طرقك يضيء نور. 29- إذا وضعوا تقول رفع و يخلص المنخفض العينين.
30- ينجي غير البريء و ينجي بطهارة يديك
ع21، 22: فيه : فمه.
بعد أن استعرض أليفاز لأيوب خطاياه الكثيرة وحذره ليبتعد عن الشر وإلا هلك، مثلما هلك الأشرار بالطوفان، أو النار فى سدوم، فإنه هنا يدعوه للتوبة ويبين له أهميتها وهى :
1- السلامة والخير :
فيطلب منه أن يتعرف على الله؛ حتى ينال السلامة فى قلبه ويستعيد خيراته ويكون له الخير من كل جانب.
وإن كان ظاهر كلام أليفاز هو خير أيوب ولكن كلامه يعنى أن أيوب بعيد عن الله ويحتاج أن يتعرف عليه ليرفض الخطية.
ويضيف أليفاز فى كيفية تعرف أيوب على الله أن يقبل شريعة الله، ثم يطبقها ويلهج فيها بلسانه ويشعر بها فى قلبه. ويقصد بالشريعة وكلام الله التعاليم المتوارثة من آدم وهابيل وشيث وأخنوخ، أى رجال الله المعروفين، الذين اختبروا علاقة عميقة مع الله؛ لأنه لم تكن هناك شريعة مكتوبة حتى هذا الوقت، فأول شريعة مكتوبة كانت أيام موسى النبى.
ع23-25: التبر : الذهب.
أوفير : منطقة فى شبه الجزيرة العربية تميزت بإنتاج أنقى أنواع الذهب.
2- البنيان :
البركة الثانية التى يقدمها أليفاز لأيوب هى بنيان حياته، أى استعادة مادياته وشبعه الروحى، إذا ترك خطية الظلم التى سقط فيها ورجع عن أفكاره الخاطئة والتصق بالله؛ لأنه كان يتهم أيوب بجمع ثروته بالظلم.
وعندما يصير غنياً جداً يصبح الذهب عنده بكثرة، فلا يضعه فى مخازن أو خزائن، لكن يلقيه على التراب وبين حصى الأودية، ولا يسرقه أحد، لأن الله يحميه.
بالإضافة إلى هذا يصير الله غناه وتنعمه، أى ذهبه الحقيقى الذى اقتناه فى قلبه، وتصبح كلمة الله هى فضته، فيحيا فى شبع روحى وأيضاً غنى مادى.
كذلك من يشبع بالله يكتفى به ويوزع الذهب والفضة التى عنده على المحتاجين، أى يلقى الذهب عنه ويعطيه للمساكين الجالسين فى التراب.
ويوضح أليفاز هنا أن التوبة ليست فقط ترك الخطية، ولكن تشمل عملاً إيجابياً وهو رد الظلم والالتصاق بالله والشبع به، ثم العطاء للمحتاجين.
ع26:
3- التلذذ بالله :
من يتوب عن خطاياه يتشجع ويرفع وجهه إلى الله، فيتمتع بعشرته ويتلذذ بها. ويعيش فى علاقة دائمة مع الله حبيبه، ولذا فإن الكاهن ينادى فى القداس قائلاً “ارفعوا قلوبكم”. وهذا معناه أن أليفاز يتهم أيوب بعدم الصلاة، مع أن أيوب كان يصلى عن نفسه وعن أبنائه ويقدم ذبائح عنهم (ص1: 5). فنصيحة أليفاز بالصلاة سليمة إذا قدمت للأشرار البعيدين عن الله ولكنها هنا اتهام خاطئ؛ لأنها وجهت لأيوب البار الذى يصلى دائماً.
ع27:
4- قبول الصلاة والنذور :
التوبة تنقى القلب، وبالتالى تصبح صلاة التائب مقبولة من الله، بل ومفرحة لقلبه، وكذلك كل عمل محبة يقدمه لله، مثل النذور، يقبله الله ويبارك حياة التائب.
ع28: تجزم : تقرر.
5- النجـاح :
أيضاً التائب إذا حدد عملاً إيجابياً يريد تنفيذه، فالله يباركه وينجحه ويثبته فى هذا العمل، كما يمتدح داود النبى الصديق فى المزمور الأول بأن “كل ما يصنعه ينجح” (مز1: 3).
6- الإرشاد :
إذا سار التائب فى طريق، فالله يضئ له؛ ليسلك حسناً فيه، أى يرشده للخير والصلاح، ويحميه من الانحراف فى الشر.
ع29، 30:
7- بركة لمن حوله :
ينهى أليفاز بركات التائب بقوله أن التائب يصبح بركة لمن حوله، فيتشفع فى المحيطين به إن سقطوا فى ضيقة، فيرفعهم الله منها. وإن كانوا قد أخطأوا وتابوا، يسمع الله صلواته عنهم؛ لأن أعماله طاهرة، فمن أجل صلواته يرحم المحيطين به. ما أعظم التوبة، فإن بركاتها لا تحصى؛ لذا أسرع إليها مهما بدت خطيتك لذيذة فى فمك ومبهرة لعينيك. إن التوبة تنقلك إلى الطريق المستقيم وتنير عينيك وتعطى فرحاً لقلبك، بدلاً من اللذة المؤقتة للخطية.