أيوب وغربة العالم
(1) حياة الإنسان مؤقتة (ع1-6)
1- الإنسان مولود المرأة قليل الأيام و شبعان تعبا. 2- يخرج كالزهر ثم ينحسم و يبرح كالظل و لا يقف. 3- فعلى مثل هذا حدقت عينيك و إياي أحضرت إلى المحاكمة معك. 4- من يخرج الطاهر من النجس لا احد. 5- إن كانت أيامه محدودة و عدد أشهره عندك و قد عينت اجله فلا يتجاوزه. 6- فاقصر عنه ليسترح إلى أن يسر كالأجير بانتهاء يومه.
ع1، 2: ينحسم : يقطع ويستأصل.
هذا هو الأصحاح الثالث فى حديث أيوب ورده على أصدقائه، وفيه يخاطب الله ويقول له أن الإنسان مولود المرأة قليل الأيام، أى أن حياته قصيرة عبارة عن مجموعة أيام، وذلك ليبين صغرها. ومولود المرأة، أى مولود بالخطية، فحياته قصيرة لابد أن تنتهى بالموت، والمقصود بالمرأة حواء أو أى أم.
بالإضافة إلى أنها مملوءة بالأتعاب، فلا يكاد يمر يوم بلا تعب. ويشبع تعباً، أى يمتلئ بآلام كثيرة.
وحياة الإنسان القصيرة يشبهها بزهر العشب، الذى يذبل سريعاً وينتهى جماله. ويشبهها أيضاً بالظل الذى ينتهى بانتهاء النهار، فهى أشياء مؤقتة لا تترك أثراً بعدها. هكذا أيضاً حياة الإنسان.
ع3: حدقت : نظرت بتمعن وتدقيق.
إن كان الإنسان قليل الأيام، فيعاتب أيوب الله ويقول له؛ لماذا نظرت بتدقيق إلىَّ أنا الإنسان الضعيف وقليل الأيام ؟ وكيف تحاكمنى ؟ فأنت تعرف أنى خاطئ ومستوجب العقاب. فأيوب هنا يتكلم باتضاع وتوبة طالباً رحمة الله.
ع4: يتساءل أيوب قائلاً هل يمكن أن يخرج الطاهر من النجس ؟ أى الطفل من بطن أمه التى تنجست بالخطية. هل يمكن أن يكون هذا الطفل طاهراً ؟ بالطبع لا، فهو مولود بالخطية. وبالتالى فإن أيوب يقول لله : أنا أحمل خطاياى ونجاساتى، فكيف تحاكمنى ؟ فإنك ستحكم علىَّ. فهنا أيوب يطلب رحمته.
والاستثناء الوحيد فى البشرية كلها هو المسيح؛ لأن الروح القدس طهر بطن العذراء، فولد المسيح بلا خطية. والروح القدس يلد أولاد الله من جرن المعمودية، الذى هو بطن الكنيسة ولادة ثانية، فيصير طاهراً ويخلص من الخطية الجدية.
ع5، 6: يقول أيوب لله، إن كانت حياة الإنسان قصيرة وأنت تعرف متى تنتهى، فليتك ترحمنى أنا الضعيف، وتقلل الضيقات عنى وتوقفها حتى أستريح منها ولو قليلاً قبل أن أموت، مثل الأجير الذى يتعب طول النهار، ولكنه ينتظر أن يستريح قليلاً فى نهاية اليوم. فأنا أتمنى أن تعاملنى مثل هذا الاجير. وهذا يبين مدى معاناة أيوب وآلامه. ومن ناحية أخرى إيمانه بالله ومراحمه.
ولعل انتظار أيوب أن ينال أجرته مثل الأجير بعد نهاية يومه يشير إلى الحياة الأبدية بعد نهاية هذا العمر، حيث ينال الإنسان بركات وأمجاد سماوية قدر ما احتمل من آلام وسلك بالبر.
إن كانت حياتك قصيرة، فليتك تنتهز فرصة العمل لتقترب إلى الله وتتمتع بعشرته ولا تضيع حياتك فى الخطية، أو انشغالات زائلة، ولكن اذكر الله كل حين، وأعطه وقتاً كافياً، فتستعد لأبديتك كل يوم.
(2) حتمية الموت للإنسان (ع7-12)
7- لان للشجرة رجاء إن قطعت تخلف أيضا و لا تعدم خراعيبها. 8- و لو قدم في الأرض اصلها و مات في التراب جذعها. 9- فمن رائحة الماء تفرخ و تنبت فروعا كالغرس. 10- أما الرجل فيموت و يبلى الإنسان يسلم الروح فأين هو. 11- قد تنفد المياه من البحرة و النهر ينشف و يجف. 12- و الإنسان يضطجع و لا يقوم لا يستيقظون حتى لا تبقى السماوات و لا ينتبهون من نومهم.
ع7-9: خراعيبها : أغصانها.
جذعها : ساقها.
أصلها : جذرها.
بعد أن استعرض أيوب كلامه عن حياة الإنسان، ينتقل هنا للكلام عن الموت. ويبدأ بالكلام عن موت الأشرار، فيقول أن الشجرة إذا قطعت من الأرض ينبت من أصلها الباقى أغصاناً جديدة ناعمة. حتى لو كان أصل الشجرة قديم جداً، أو ماتت أجزاء من ساق الشجرة بسبب جفافها، فعندما يصل إليها، ولو ماء قليل، تنبت هذه الفروع الجديدة.
والشجرة ترمز للمسيح الغصن الجديد (اش11: 1)، الذى نبت من البشرية الساقطة المحكوم عليها بالموت. وبالروح القدس؛ أى الماء الحى نبت ونما بلا خطية، وتمم فداءنا على الصليب. والمؤمنون فى العهد الجديد يتخلصون من موت الخطية التى ولدوا بها بولادتهم مرة أخرى بالروح القدس من خلال ماء المعمودية. فالماء يرمز للروح القدس، والأغصان الجديدة هى المؤمنون الذين ولدوا من المعمودية. وكما تفرخ أغصان جديدة من جذع الشجرة الميت بواسطة الماء، هكذا المولودون وهم موتى بالخطية يحيون بمياه المعمودية التى هى ولادة جديدة.
ع10-12: البحرة : البحيرة، أو البركة.
يعقد أيوب مقارنة بين الشجرة والإنسان، فإن كانت الشجرة بعد قطعها وموت الباقى من جذعها تستطيع أن تنبت فروعاً ثانية. إلا أن الإنسان يضعف تدريجياً كلما تقدم فى الأيام حتى يموت.
وكما تجف البحرة، أو النهر الصغير ولا يبقى بعدها إلا التراب، هكذا تنتهى حياة الإنسان ويصير فى تراب القبر.
وعندما يموت الإنسان لا يقوم ثانية ويعود للحياة على الأرض، ما دامت السماء موجودة. ولكن عند تغير السماء والأرض إلى سماء وأرض جديدتين فى المجئ الثانى للمسيح، يقوم البشر ويدانوا أمام الله. وهذا يبين إيمان أيوب بالقيامة التى أشار إليها بقوله “لا يستيقظون” واعتبر الموت نوماً.
إن كان الموت سيأتى حتماً، فينبغى يا أخى أن نستعد له كل يوم؛ لأننا لا نعرف متى سيأتى. وننظر إلى جمال الحياة الأبدية، ونترك عنا خطايانا وانشغالاتنا الزائدة.
(3) ضيق أيوب من غضب الله (ع13-17)
13- ليتك تواريني في الهاوية و تخفيني إلى أن ينصرف غضبك و تعين لي أجلا فتذكرني.
14- إن مات رجل أفيحيا كل أيام جهادي اصبر إلى أن يأتي بدلي. 15- تدعو فانا أجيبك تشتاق إلى عمل يدك. 16- إما الآن فتحصي خطواتي إلا تحافظ على خطيتي. 17- معصيتي مختوم عليها في صرة و تلفق علي فوق إثمي.
ع13-15: من كثرة ضيق أيوب طلب من الله أن يرفع غضبه عنه، أى هذه الآلام التى يعانيها، ولم يكن له أمل فى الشفاء منها. ولكنه تخيل نفسه قريباً من الموت، فطلب من الله أن ينهى حياته؛ لأنه لا يمكن أن ينتحر ويرفض احتمال الآلام. ولكنه يعبر عن مدى معاناته، فاشتاق أن يوارى الله جسده فى التراب بالموت.
وأيوب يؤمن أن مواراته واختفاءه فى الهاوية هو لفترة مؤقتة، كما قال “عين لى آجلاً”، أى ميعاداً بعدها ينقله الله إلى حياة أفضل. وهذا يبين إيمانه بالفداء الذى سيتم فى ملء الزمان، فينتقل الأبرار من الهاوية، أى الجحيم، إلى فردوس النعيم.
من كلام أيوب يبدو أنه كان يؤمن بوجود راحة للأبرار فى الهاوية. وهذا معناه أن الأبرار يحيون فى الهاوية بعيداً عن الأشرار الذين فى الهاوية. وراحة الأبرار مبنية على إيمانهم أن وجودهم فى الهاوية مؤقت، وينتظرون فرحاً فى الفردوس، ومجازاة لبرهم وإيمانهم بالله. أما الأشرار فيعلمون أنهم سيعذبون إلى الأبد فى النار، ووجودهم المؤقت فى الهاوية، ينتقلون بعده إلى عذاب لا يحتمل إلى الأبد.
يتساءل أيوب هل إن مات رجل يعود فيحيا، بالطبع لن يكون هذا على الأرض، ولكنه يؤمن بتبديل سيحدث بعدالموت، وهو انتقال الأبرار من الهاوية إلى فردوس النعيم، حيث السعادة والتمتع برؤية الله. وهذا هو عزاء ورجاء أيوب الذى يجعله يحتمل آلامه، فهو لا يأمل شفاء أمراضه على الأرض، أو عزاء من أصدقائه، بل راحة وسعادة فى السماء.
وعندما يصل أيوب إلى فردوس النعيم يقول لله تدعونى بحبك فأستجيب لك حالاً، وأصلى إليك بفرح، وتظهر يا الله أشواقك نحوى وبالتالى أشواقى نحوك.
ع16، 17: تحصى : تعد مع ترقيم كل ما تعده.
صره : منديل كبير توضع فيه الأشياء، ثم تجمع أطرافه باليد، أو تربط بحبل.
تلفق : تخيط.
بعد أن أكد أيوب رجاءه فى السعادة الأبدية، يعود فيتكلم عن الله العادل الذى يعرف كل أخطائه، بل يحصيها، ويعرف كل جرمها، ويحفظها عنده، ويضعها فى صرة، أى لا يفلت منها شئ، ويخيط عليها ويضعها فوق رأس أيوب، أى أن الله العادل قاسى، ولا يترك أية خطية فعلها الإنسان. وهذا بالطبع مزعج لأى إنسان؛ لأنه لن يتبرر أحد أمام الله الديان العادل.
ولكن كلام أيوب فى هاتين الآيتين يعتبر ناقصاً إن فصلناه عن الثلاثة آيات السابقة، وتظهر فيه قسوة الله. والحقيقة أن الله رحوم ويسامح من يتوب ويشجع الأبرار، ويكافئهم بعد هذه الحياة فى الفردوس والملكوت.
فى هاتين الآيتين يظهر اتضاع أيوب وتوبته، فهو يعترف بأنه خاطئ، وبالتالى ينال غفراناً من الله الرحيم.
ليتك يا أخى تنظر إلى أفراح الأبدية، فتهون عليك آلام الأرض وضيقاتها، فهذه الآلام مؤقتة ومحدودة بالقياس بالأمجاد العظيمة التى تنتظرك فى السماء عندما تكمل جهادك.
(4) اقتراب الموت وتأثيره (ع18-22)
18- إن الجبل الساقط ينتثر و الصخر يزحزح من مكانه. 19- الحجارة تبليها المياه و تجرف سيولها تراب الأرض و كذلك أنت تبيد رجاء الإنسان. 20- تتجبر عليه أبدا فيذهب تغير وجهه وتطرده. 21- يكرم بنوه و لا يعلم أو يصغرون و لا يفهم بهم. 22- إنما على ذاته يتوجع لحمه وعلى ذاتها تنوح نفسه
ع18، 19: يثبت أيوب أن كل ما فى العالم قابل للتغير والزوال، ويأتى بأمثلة قوية وضخمة فى نظر الإنسان وهى :
- الجبل الساقط ينتثر : والجبل أضخم الموجودات فى العالم، فهذا إن سقط جزء منه يتحول إلى أجزاء صغيرة، تتشتت وتنتشر فى كل مكان، ويتغير شكل الجبل إلى أحجار صغيرة.
- الصخر يزحزح من مكانه : والصخر يمثل القوة والصلابة والثبات، ولكنه يتزحزح من مكانه بفعل عوامل الطبيعة، مثل الزلازل والعواصف والسيول، وهو أيضاً غير ثابت.
- الحجارة تبليها المياه : والحجر يمثل التماسك والقوة، ولكن عندما تسقط المياه عليه بصفة مستديمة يتفتت إلى ذرات صغيرة تذهب مع المياه؛ كما يحدث فى جبال الحبشة عند منابع النيل، حيث تسقط المياه، وتجرف معها ذرات صغيرة من الجبال، هى الطمى الذى يحمله ماء النيل.
- تجرف سيولها تراب الأرض : التراب هو الأرض الثابتة التى نمشى عليها، وهذه تجرفها السيول، فحتى الأرض لم تعد ثابتة أمام تغيرات الطبيعة.
فبإتضاع يترجى أيوب الله أن يشفق عليه؛ لأنه ليس قوياً مثل الجبل، أو الصخر، أو الحجارة، بل هو ضعيف يحتاج مراحم الله. فلماذا يبيد الله رجاءه بموت أولاده وزوال ثروته وباستمرار الآلام التى يعانيها ؟ فيرجو أن يرفعها الله عنه؛ لأنه قد تعب جداً منها.
ع20: يواصل أيوب كلامه مع الله مظهراً سلطانه وقوته، فيقول له أنت تتجبر على الإنسان بقدرتك وسلطانك، ولا يستطيع أن يقاومك لضعفه. وتجبرك هذا يدوم إلى الأبد، أى طوال حياتى لا أستطيع أن أعارضك.
ويقول أيوب أيضاً لله أنك تغير وجه الإنسان، وهذا ما حدث مع أيوب عندما أصابته الأمراض وأتى أصدقاؤه ليزوروه، فلم يعرفوه، ثم عندما يقترب الإنسان من الموت بتغير وجهه. وبعد هذا يطرده الله من الحياة، أى يموت ولا يستطيع أن يقف أمام الله، أو يعارضه.
وأيوب هنا عندما يظهر سلطان الله الكامل وضعفه أمام الله، يترجى الله أن يشفق عليه.
ع21، 22: يبين أيوب مدى معاناته وسط آلام المرض، فيقول لله أن الإنسان عندما تضربه بالأمراض، ثم تكرم بنيه، أو تذلهم لا يتأثر؛ لأنه مشغول بآلامه ومعاناته منها، فلا يستطيع أن يفرح بإكرام بنيه لكثرة غمه، ولا يتأثر، أو يفهم مدى ذل أبنائه؛ لأن غمه كبير ليست له إضافة. فهو يئن لكثرة آلام جسده، ونفسه مرَّة، فيبكى على حالته الصعبة؛ لأن آلامه شديدة ويقترب من الموت؛ لأن لحظة الموت رهيبة، فتئن نفسه على جسدها عندما تفارقه، رغم أنها تعلم بحلاوة الأبدية.
إن الأموات الذين انغمسوا فى العالم لا يشعرون بعد موتهم بآلام بنيهم أو هوانهم. ولكن أولاد الله الأتقياء، هم فقط الذين بمعونة الله يشعرون بأحبائهم بعد موتهم.
إعلن ضعفك لله واسأله أن يتحنن عليك، فهو أب عطوف، مستعد أن يغفر لك جميع خطاياك، مهما كانت صعبة ويعيد إليك نقاوتك، ويرفع عنك كل آلامك.