أيوب يعلن خطايا الأشرار وهلاكهم
(1) أعمال الشرير (ع1-17):
1- لماذا إذ لم تختبئ الأزمنة من القدير لا يرى عارفوه يومه. 2- ينقلون التخوم يغتصبون قطيعا و يرعونه. 3- يستاقون حمار اليتامى و يرتهنون ثور الأرملة. 4- يصدون الفقراء عن الطريق مساكين الأرض يختبئون جميعا. 5- ها هم كالفراء في القفر يخرجون إلى عملهم يبكرون للطعام البادية لهم خبز لأولادهم. 6- في الحقل يحصدون علفهم و يعللون كرم الشرير. 7- يبيتون عراة بلا لبس و ليس لهم كسوة في البرد. 8- يبتلون من مطر الجبال و لعدم الملجأ يعتنقون الصخر. 9- يخطفون اليتيم عن الثدي و من المساكين يرتهنون. 10- عراة يذهبون بلا لبس و جائعين يحملون حزما. 11- يعصرون الزيت داخل أسوارهم يدوسون المعاصر و يعطشون. 12- من الوجع أناس يئنون و نفس الجرحى تستغيث و الله لا ينتبه إلى الظلم.13- أولئك يكونون بين المتمردين على النور لا يعرفون طرقه و لا يلبثون في سبله. 14- مع النور يقوم القاتل يقتل المسكين و الفقير و في الليل يكون كاللص.
15- و عين الزاني تلاحظ العشاء يقول لا تراقبني عين فيجعل سترا على وجهه. 16- ينقبون البيوت في الظلام في النهار يغلقون على أنفسهم لا يعرفون النور. 17- لأنه سواء عليهم الصباح وظل الموت لأنهم يعلمون أهوال ظل الموت.
ع1: ظن أصدقاء أيوب أن الشرير لابد أن يعاقب سريعاً فى هذه الحياة، أما أيوب فيواصل هنا حديثه عن أن الشرير رغم كثرة شروره يمكن ألا يعاقبه الله سريعاً، وذلك لطول أناة الله ولكن لابد أن يعاقب ويهلك فى النهاية.
ويتساءل أيوب إن كانت أزمنة هذه الحياة وما يحدث فيها ليس مخفياً عن الله، أى أن الله فاحص القلوب والكلى ويعرف بالتدقيق خطايا الأشرار، فلماذا ينسى عارفوا الله، أى الأتقياء يومه، الذى هو يوم الدينونة ؟ فيضطربون لنجاح الأشرار المؤقت فى هذه الحياة، وينسون أن الأشرار سيدانون فى اليوم الأخير.
ع2: التخوم : الحدود بين الأراضى، فكانوا يضعون صف من الحجارة؛ لتحديد ملكية كل واحد.
بدأ أيوب من هذه الآية يعدد خطايا الأشرار، وهى :
1- الغش والاحتيال :
أول خطية هى سرقة أراضى الجيران عن طريق تغيير مكان الحدود بينهم وبين جيرانهم فى الأراضى، وبهذا يورثون أولادهم ميراثاً ليس من حقهم، ويغتصبون من نسل جيرانهم جزءاً من الأرض على مدى الأجيال. وهذا مخالف للشريعة (تث19: 14). فنقل التخم يعتبر تحدى لله ويستحق اللعنة (تث27: 17).
2- اغتصاب أملاك الآخرين :
الخطية الثانية هى اغتصاب أملاك الآخرين، مثل قطعان الماشية ويضمونها إلى قطعـانهم، ويرعونها كأنها ملك لهم. وهذا الأمر يستوجب الموت كما قال داود النبى
(2صم12: 4).
ع3: يستكمل أيوب سرد خطايا الأشرار، فيقول :
3- سلب ممتلكات اليتيم والأرملة :
يتقدم الأشرار بقسوة نحو أملاك الأيتام، فيغتصبونها، فإن وجدوا حماراً يسوقونه إلى أرضهم. ولا يستطيع الأيتام لضعفهم أن يقاوموهم، فهو سرقة بالإكراه، أى ظلم واضح للضعفاء. وهذا الظلم يثير غضب الله؛ لأن الله أعلن أنه أبو اليتامى (مز68: 5). وهم بهذا يقفون ضد الله لإغاظته.
تمادياً من الأشرار فى ظلمهم للضعفاء، يستغلون ضعف الأرملة، إذ ليس لها رجل يدافع عنها. فعندما يجدونها فى ضيقة مالية، حتى لو بمبلغ صغير، يأخذون ثورها الذى تمتلكه رهناً لهذا المبلغ الذى اقترضته منهم، مع أن هذا الثور ضرورى جداً لتدبير احتياجاتها، ولا تستطيع الأرملة أن تقاومهم، أو تقول لهم إن المبلغ الذى اقترضته صغير ولا يستحق ارتهان الثور. وهذا أيضاً تحدى لله الذى قال عن نفسه أنه “قاضى الأرامل” (مز68: 5).
ع4-8: الفراء : الحمار الوحشى.
البادية : الصحراء.
يعللون : يجمعون حبات العنب المنسية بعد جمع العنب.
علفهم : طعام الحيوان.
يعتنقون : يعانقون.
يواصل أيوب كلامه عن خطايا الأشرار، فيقول :
4- سلب حقوق الفقراء :
يظلم أيضاً هؤلاء الأشرار فقراء الأرض، وإذا حاول هؤلاء الفقراء أن يشتكوا من هذا الظلم إلى القضاة، يصدهم الأشرار ويمنعونهم من الوصول إلى المحاكم، بل إن ظلم وعنف الأشرار يخيف الفقراء لدرجة أن يختفى الفقراء خوفاً على حياتهم من هؤلاء الأشرار.
ويخرج الفقراء للعمل مبكراً جداً، ليعملوا أعمالاً شاقة مثل الحمار (الفراء)، ورغم عملهم الشاق لا يحصلون إلا على الكفاف، الذى بالكاد يسد جوعهم، كأنهم يعملون فى الصحراء التى لا يجدون فيها طعاماً لأولادهم.
بعد العمل الشاق للفقراء لا يحصدون، أو يجمعون لأنفسهم إلا الطعام الضرورى الذى يسميه هنا علفهم، أى يكونون مثل الحيوانات، يأكلون طعاماً رخيصاً، بالكاد يشبعهم.
ولشدة جوعهم يمرون بعد جمع العنب ليلتقطوا الحبات المتساقطة الباقية، التى أهملها من يجمعون العنب.
ولشدة فقرهم لا يجدون ما يكسون به أجسادهم، فيضطروا إلى النوم بدون غطاء، أو ملابس تدفئهم فى الشتاء، أى يبيتون عراة، وإذ ليس للفقراء مسكن يأويهم، يضطرون للنوم فى الجبال والصحارى، فتبتل أجسادهم من قطرات الندى، التى تتساقط أثناء الليل. وإذ لا يجدون مكاناً يأويهم يحتضنون الصخور، لعلها تهبهم بعض الدفء.
كل هذا يحدث أمام أعين الأشرار، الظالمين، قساة القلوب ولا يهتمون بما يعانيه الفقراء، منشغلين بتحقيق شهواتهم ولذاتهم وزيادة ممتلكاتهم.
ع9: ويضيف أيوب خطية جديدة للأشرار وهى :
5- القسوة على الضعفاء :
فبعدما يقتل الأشرار الآباء، يخطفون أطفالهم الأيتام وهم يرضعون من أمهاتهم، غير مبالين بصراخهم، إذ يحرمونهم من طعامهم الضرورى، ومن أمهاتهم، وهذا منتهى القسوة، فتضطر أمهاتهم أن تعطى هؤلاء الأشرار كل ما عندها، بل تستدين؛ لتعطيهم أموالاً، وتسترجع الأطفال.
ويتمادى الأشرار فى استغلالهم للفقراء، فيأخذون المساكين رهائن ويستعبدونهم.
والخلاصة أنهم يغتصبون الفقراء ويجعلونهم عبيداً عندهم ويذلونهم.
ع10-12:
6- حرمان الفقير من أجرته
ثم يعود أيوب فيحدثنا عما يقاسيه الفقراء، إذ يتحركون كعراة لشدة فقرهم؛ لأنهم مضطرون للعمل الشاق، وحمل حزم القمح والشعير وغيرها من المحاصيل، مع أنهم جائعين لا يستطيعون أن يأكلوا من هذه السنابل.
ويتمادى الأشرار فى استغلال الفقراء، فيجعلونهم يعصرون الزيت داخل أسوار مدن الأشرار ولكنهم لا يأخذون أجرتهم. ويعبر عن ذلك بأن الفقراء يظلون فى عطش، أى لا يجدون قوتهم الضرورى.
وقد يكون المقصود أيضاً أن الأشرار يقتحمون مدن الفقراء ويأخذون زيتونهم ويجعلونهم يعصرونه ولا يأخذون زيتاً، أى لا ينالون أجرتهم. أى أنهم يسخرون الفقراء ويستغلونهم إلى أقصى درجة. وهذا بالطبع ظلم شديد، أن لا يجد الفقير قوته من القمح، أو الزيت، أى الطعام الضرورى.
الغريب أن الله يسمع صراخ وتأوهات المظلومين، المتألمين والجرحى ويظل صامتاً، لا يرفع عنهم الألم ولا يعاقب الأشرار.
وهذا سببه بالطبع طول أناة الله؛ ليعطى فرصة لتوبة الأشرار، ومن ناحية أخرى يتزكى كل من يحمل الألم بشكر، فينال فى النهاية بركات من الله.
ع13-17: لا يلبثون : لا يستمرون.
العِشاء : هو الوقت بعد الغروب ويبدأ فيه الظلام.
ينقبون : يحفرون ويثقبون.
7- عمل الشر فى الخفاء :
الأشرار يشعرون أن أعمالهم خاطئة، فيعملونها فى الظلام، فهم متمردون على النور ويخافون منه. وليس فقط نور النهار، بل نور الله ووصاياه ونور ضمائرهم كما يوضح هذا بولس ويوحنا الرسولان (اف5: 11؛ رو1: 21-28؛ يو3: 20، 21).
ولأجل انغماس الأشرار فى الخطية وابتعادهم عن الله لا يعرفون بالتالى طرق الله المستقيمة. إذ مع الوقت يقتنعون ويتعودون على طرقهم الشريرة، كأنها الطرق الطبيعية التى ينبغى أن يسلك فيها كل إنسان.
إن حاولوا السلوك فى طرق الله، ولو بشكل سطحى لا يستمرون ولا يلبثون فى هذه الطرق المستقيمة. لأنهم لا يحبون الله من قلوبهم، بل يحبون الخطية.
يستغل الأشرار خروج الفقراء فى الصباح الباكر؛ ليذهبوا إلى الأسواق؛ حتى يبيعوا القليل من البضاعة التى معهم، أو يشترون بأموال قليلة احتياجاتهم، فيهجم هؤلاء الأشرار قطاع الطرق على الفقراء ويقتلونهم؛ ليستولوا على القليل الذى معهم. وهذا يبين سهولة القتل فى نظر الأشرار، فيتممونه لأجل مكاسب ولو قليلة.
أما أثناء الليل حين ينام الناس، فيتسلل الأشرار؛ ليسرقوا فى الخفاء ما يستطيعون أن يسلبوه.
الزناة فئة من الأشرار يتممون خطاياهم عندما يبدأ الظلام؛ حتى لا يراهم أحد، أو يقاومهم. وتمادياً فى إخفاء أنفسهم يسترون وجوههم حتى لا يراهم أحد من أقارب، أو معارف من يخطئون معه. فالزناة يخططون ويدبرون كيفية إتمام زناهم، فهم مصرون على الخطية. وهذا معناه أن الأشرار يعرفون أن ما يعملونه خطية يرفضها المجتمع، وبالطبع الله قبل الكل يرفضها، ومع هذا يندفعون نحو الخطية كالحيوانات التى بلا فهم.
وهكذا نرى أن الأشرار يفعلون الخطية فى النهار وعندما يقترب الليل، أى فى العشاء وأثناء الليل، فقد تاهت عقولهم وأصبحوا يتممون الخطية فى كل وقت، متناسين أن الله يراهم.
إن الأشرار غالباً يتممون أفعالهم تحت ستار سواد الليل، ثم يختبئون أثناء النهار خوفاً ممن أخطأوا فى حقه، فهم عبيد للخطية، وفى نفس الوقت يعانون من القلق والاضطراب، إذ يشعرون أن النور يفضح خطاياهم. أما الصديقون فيفرحون بالنور؛ لأن أعمالهم بارة، بل هم يحبون الله، النور الحقيقى.
فى النهاية يعلن أيوب أن الأشرار يفعلون الخطية فى كل وقت، سواء فى الصباح، أو فى الليل. وهم فى قلق وخوف من الموت، الذى ينتظرهم فى أية لحظة، انتقاماً منهم لما فعلوه، مثل قايين الذى تمم شره بقتل أخيه وبعد هذا ظل فى قلق مستمر وخوف من أن يقتله من يصادفه (تك4: 14).
عندما تختفى بعيداً عن أعين الناس لتفعل الشر ثق أن الله يراك؛ حتى تخشاه وتبتعد عن الخطية، وعندما تقتنى مخافة الله تصير قوياً وتسلك فى النور.
(2) عقاب الشرير (ع18-25):
18- خفيف هو على وجه المياه ملعون نصيبهم في الأرض لا يتوجه إلى طريق الكروم.
19- القحط و القيظ يذهبان بمياه الثلج كذا الهاوية بالذين اخطأوا. 20- تنساه الرحم يستحليه الدود لا يذكر بعد و ينكسر الأثيم كشجرة. 21- يسيء إلى العاقر التي لم تلد و لا يحسن إلى الأرملة. 22- يمسك الأعزاء بقوته يقوم فلا يأمن أحد بحياته. 23- يعطيه طمأنينة فيتوكل و لكن عيناه على طرقهم. 24- يترفعون قليلا ثم لا يكونون و يحطون كالكل يجمعون و كراس السنبلة يقطعون. 25- و إن لم يكن كذا فمن يكذبني و يجعل كلامي لا شيئا.
ع18: يصف أيوب الشرير بالضعف الشديد، فيشبهه بالزبد، أو الرغاوى، أى فقاقيع الماء التى تنتج من تكسر الأمواج وسرعان ما تختفى.
وكل ما يمتلكون، أو يغتصبون هو ملعون من الله بلا بركة، فلا يتمتعون به.
ولا يتمتع الأشرار براحة – يشير إليها هنا بالجلوس تحت أشجار الكروم. فلا يتوجهون إلى الكروم، بل يسيرون فى طرق متفرقة مشتتين، فاقدين راحتهم وسلامهم.
والخلاصة أن الأشرار يتميزون بما يلى :
- سريعى الزوال والهلاك.
- لا بركة فى حياتهم.
- لا راحة ولا سلام لهم.
ع19: القحط : الجفاف ويؤدى إلى المجاعة فى الأرض.
القيظ : شدة الحر.
عندما يحل الجفاف بالأرض ويأتى عليها أيضاً الحر الشديد، تصير يابسة تماماً، فإذا سقط عليها الثلج سرعان ما يذوب. كذلك الأشرار سرعان ما يهلكون وتبتلعهم الهاوية.
ع20: ويواصل أيوب كلامه عن سرعة زوال الشرير، فيقول أن الرحم ينساه، أى تنساه أمه؛ لأنه مات. والدود يلتهمه ويتمتع بأكله فى القبر، فلا يوجد فيما بعد. ويشبه الشرير بشجرة تكسر فتفقد فروعها وأوراقها وثمارها، أى تموت الشجرة.
ع21: يضيف أيوب إلى خطايا الأشرار أنهم يسيئون إلى العاقر ويعيرونها بأنها لم تلد، فإساءتهم ليست فقط مادية، بل نفسية فتجرح مشاعر الآخرين.
والأرملة والضعيفة بسبب موت زوجها، يهملها الشرير ولا يحاول مساعدتها على الحياة؛ لأنه قاسى القلب.
ع22: بجبروت يمد الشرير يده على العظماء والأغنياء، فيسيطر عليهم ويتسلط بقوته ويتحكم فيهم. وعندما يتحرك الشرير، المتجبر على من حوله يخاف الكل على حياته؛ لأنه قاسى القلب ويبطش بأى إنسان، فهو مثال للقسوة والأنانية والتسلط والكبرياء.
ع23: يتعجب أيوب أن الله يترك هذا الشرير فى شره، فيطمئن ويتمادى فى الإساءة لغيره. ويتكل هذا الشرير على قوته وينسى وجود الله؛ لأنه لا يعاقب على الشر، مع أن الله فاحص القلوب والكلى ويعرف طرق الشرير أنها خاطئة ولكنه يصمت ولا يعاقبه. إنها طول أناة الله التى يتعجب منها أيوب، فهو يعطى الفرصة تلو الفرصة لكل إنسان مهما كان شره لعله يتوب.
ع24: يعود أيوب، فيقول إن الشرير لا يدوم فى مجده وكرامته وقوته، بل تتلاشى وتزول كل عظمته.
وهكذا تنتهى حياة الشرير مثل باقى البشر، فيجمع إلى القبر وتنتهى حياته، مثلما تجمع سنابل القمح من الحقل بعدما تنضج، ولذا يتوهم البعض أن الشرير ناجح، وأن له عظمة، ويموت بلا عقاب، وينسى أن الشرير تنتظره نهاية محزنة جداً وهى العذاب الأبدى. ومازال أيوب متعجباً أن الشرير لم يعاقب على الأرض عقاباً واضحاً، ليرى الناس فيثبت الأبرار ويخاف الأشرار.
ع25: فى ثقة يسأل أيوب أصدقاءه قائلاً إن لم تكونوا مؤمنين بكل ما قلته، فمن منكم يستطيع أن يظهر كذباً فى كلامى، أو يعلن حقيقة ضد كل ما قلته لكم؟ هذا هو ختام حديث أيوب رداً على أليفاز فى الجولة الثالثة من الحوار. تمسك البر ووصايا الله، مهما نجح الأشرار حولك، فنجاحهم مؤقت وعذابهم مؤكد. ثق فى كلام الله فتحيا متنعماً بعشرة الله والسلام القلبى، ثم تنتظرك أمجاد السماء.