صلاة أيوب المتألم
(1) عتاب أيوب لأصدقائه (ع1-5):
1- فأجاب أيوب و قال. 2- قد سمعت كثيرا مثل هذا معزون متعبون كلكم. 3- هل من نهاية لكلام فارغ أو ماذا يهيجك حتى تجاوب. 4- أنا أيضا أستطيع أن أتكلم مثلكم لو كانت أنفسكم مكان نفسي و إن اسرد عليكم أقوالا و انغض رأسي إليكم. 5- بل كنت أشددكم بفمي وتعزية شفتي تمسككم.
ع1-3: احتمل أيوب كثرة كلام أصدقائه فى الجولة الأولى من الحوار، ثم تكلم أليفاز بقسوة أكبر فى بداية الجولة الثانية. وهنا شعر أيوب، رغم صبره الكبير، بأن كلامهم القاسى قد زاد عن كل الحدود، ففى بداية رده على أليفاز حكم على كلام أصدقائه بما يلى :
- كلامهم القاسى مكرر، فليتهم يكتفون بما قالوه من قبل.
- قد أتى أصدقاؤه لتعزيته، لكنهم أتعبوه ولم يريحوه، فقرر أنهم معزون متعبون.
- أن كلامهم غير صحيح وفارغ لا يفيد.
- أنهم يقفون كخصوم هائجين عليه بلا داعٍ.
فى هذه الحوارات نرى أيوب مريض ملقى على الأرض فى فقر، بعد أن ضاعت أملاكه، وحتى امرأته لم تعد تسانده، ومن جانب آخر اجتمع عليه ثلاثة أصدقاء فى صحة جيدة وغنى ومركز، وانهال كل واحد منهم عليه باللوم والتوبيخ، وهو واحد وهم ثلاثة، فهذا يبين مدى صبره وثبات إيمانه.
إن أيوب فى صبره يرمز لصبر المسيح على آلام الفداء وصبر الكنيسة على الاضطهادات على مدى الأجيال.
ع4: انغض : تحريك الرأس تعبيراً عن احتقار الآخر.
إذ شعر أيوب بقسوة أصدقائه وعدم إحساسهم به، قال لهم لو تخيلتم أنفسكم مكانى، بمعنى أن تكونوا قد فقدتم كل أملاككم، وأصبتم بأمراض كثيرة تلقيكم على الأرض، أستطيع أنا أيضاً أن أقول كلاماً قاسياً، مثلما تكلمتم، وأحرك رأسى احتقاراً لكم، فهل كنتم تحتملون؟..
ولعل أيوب كان يقصد بهذه الآية أن يقدم صلاة، حتى تحل ضيقات بأصدقائه ويكلمهم كلاماً شديداً لتأديبهم، وليس لإهلاكهم أو انتقاماً منهم. وهو بهذا يرمز للكنيسة التى تتمنى تأديب الأشرار؛ ليتوبوا ولكن تريد خلاصهم وليس إهلاكهم.
ع5: وبعد أن حاول أيوب أن يوقظ أصدقاءه، بأن يضعوا أنفسهم مكانه ويسمعوا كلاماً قاسياً، عاد بسرعة ليعلن ما الذى كان سيعمله معهم لو رآهم فى ضيقة شديدة، فيقول كنت سأساندكم بكلمات تعزية، وأقويكم، وأثبت إيمانكم بالله؛ حتى تستطيعوا أن تجتازوا التجربة التى وقعتم فيها. وهذا ما كان ينبغى أن يفعله أصدقاء أيوب معه.
ليتك تضع نفسك مكان من تتكلم معه، خاصة من كان فى ضيقة؛ حتى تستطيع أن تشعر به وتتكلم بما يناسبه. واعلم أن إلهك قد وضع نفسه مكانك بتجسده؛ ليشعرك بقربه إليك وإحساسه بك.
(2) آلام أيوب (ع6-17):
6- إن تكلمت لم تمتنع كآبتي و إن سكت فماذا يذهب عني. 7- إنه الآن ضجرني خربت كل جماعتي. 8- قبضت علي وجد شاهد قام علي هزالي يجاوب في وجهي. 9- غضبه افترسني واضطهدني حرق علي أسنانه عدوي يحدد عينيه علي. 10- فغروا علي أفواههم لطموني على فكي تعييرا تعاونوا علي جميعا. 11- دفعني الله إلى الظالم و في أيدي الأشرار طرحني. 12- كنت مستريحا فزعزعني و امسك بقفاي فحطمني و نصبني له غرضا. 13- أحاطت بي رماته شق كليتي و لم يشفق سفك مرارتي على الأرض. 14- يقتحمني اقتحاما على اقتحام يعدو علي كجبار. 15- خطت مسحا على جلدي و دسست في التراب قرني. 16- احمر وجهي من البكاء و على هدبي ظل الموت. 17- مع انه لا ظلم في يدي و صلاتي خالصة.
ع6: كان أيوب فى حيرة، هل يتكلم عن آلامه أم يصمت ؟ فإن تكلم فهو لا يتوقع تعاطف من أصدقائه، وبالتالى سيظل مكتئباً. وإن سكت فلن تتحسن حالته. إنه يظهر مدى الضيق الذى يعانيه، وسيعدد فى الآيات التالية آلامه التى يشعر بها؛ لعله ينبه أصدقاءه، فيشفقوا عليه. وبكلامه عن آلامه يرمز للمسيح الذى احتمل آلاماً كثيرة من أجلنا.
ع7: ضجرنى : ضربنى بالملل والتذمر.
يتكلم أيوب عن التجارب التى حلت به بسماح من الله، وهى هجوم من الشيطان، فيظهر هنا كيف أن الشيطان ضربه بضربات كثيرة أصابته بمتاعب أولها : الملل. ولعله يقصد أيضاً كلام أصدقائه، الذى استفزه وأساء إليه، وأصبح متضايقاً، غير قادر على احتمال كلامهم.
والشيطان أيضاً ضربه ضربة ثانية وهى تخريب جماعته، إذ مات أبناؤه، وضاعت أملاكه، ومات وتشتت عبيده، وتفرق عنه أصدقاؤه، وحتى أصدقاءه الثلاثة الذين زاروه صاروا مقاومين له.
ع8: الضربة الثالثة التى ضرب الشيطان بها أيوب هى قول أيوب قبضت على. وحدث هذا من خلال الأمراض التى أصابت أيوب وأصبح مقيداً ملقى على الأرض، غير قادر على الحركة من قسوة الآلام. وأصبح الشاهد على معاناة أيوب هى آثار الأمراض عليه، مثل القروح وبروز عظمه.
ويؤكد أيضاً تقييد أيوب فى الأمراض أنه أصبح هزيلاً من كثرتها، بمعنى أنه كان نحيفاً وفاقد لحيويته وقوته.
وأيوب فى هذه الضربات التى وردت والتى ستأتى يرمز للمسيح فى آلامه.
ع9: حرق على أسنانه : صرَّ بأسنانه إعلاناً لغيظه، واستعداداً للافتراس.
يحدد عينيه علىّ : نظر إلىَّ بحدة.
الضربة الرابعة من الشيطان هى إخافة أيوب والتى ظهرت فى قوله “غضبه افترسنى واضطهدنى“. أى أن ما ضربنى به الشيطان فى غضبه يشبه افتراس وحش لإنسان، فأصابه بإصابات عنيفة وتركه بين حى وميت فى خوف شديد. ثم يضيف “حرق علىّ أسنانه” أى يهددنى بأن يفترسنى مرة أخرى ويضربنى بضربات جديدة. ويستكمل فيقول “عدوى يحدد عينيه علىّ” أى أن عدوى ينظر إلىّ بعنف ليخيفنى.
ع10: فغروا على أفواههم : فتحوا أفواههم؛ أى استهزأوا به.
الضربة الخامسة التى ضرب بها الشيطان أيوب هى تعييره والاستهزاء به. ولم يقف التعيير عند حد الكلام فقط، بل صاحبه الإيذاء الجسدى وهو اللطم على الخد. والمقصود أن أصدقاء أيوب استهزأوا به وأساءوا إليه بكلمات قاسية. وقد سبقت وأظهرت زوجته نفس الشعور. ولعل جيرانه وبعض أحبائه القريبين منه شتموه واستهزأوا به أيضاً.
هذه الآية تمت بتفاصيلها مع المسيح، فكان أيوب رمزاً للمسيح (مت26: 67) كما تكلمت النبوات (مز22: 13 ؛ مى5: 1).
ع11: مما زاد قسوة الضربات على أيوب أنه لم يشعر بمعونة الله ومساندته، بل على العكس شعر أن الله موافق على هذه الضربات، بل ومشجع عليها، إذ يقول أن الله دفعنى وطرحنى إلى الظالم ويقصد الشياطين وكل من يسير فى طريقهم.
ع12: نصبنى : أقامنى.
ويستكمل أيوب كلامه، فيقول أن الله لم يتركنى مستريحاً فى الخيرات التى وهبها لى، بل هز استقرارى وكل حياتى، بفقدانى أبنائى وأموالى وصحتى وكل راحتى.
واستخدم الله قوته التى لا تقاوم ضدى. وشبه الله برجل قوى أمسك طفلاً صغيراً من قفاه وضربه بعنف؛ حتى حطمه. وهذا يظهر غيط الله وقسوته علىّ. وكذلك الإمساك بالقفا يبين أن أيوب ضرب من حيث لا يتوقع من الخلف وليس من الأمام، بالإضافة إلى أن الإمساك بالقفا هو تحكم شديد بالإنسان، أى أن الله أفقده كل قدرة على المقاومة.
وأقامنى الله هدفاً له ليلقى عليه السهام؛ حتى يهلكنى. فأنا ضعيف أمام قوى متسلح بكل الأسلحة، وهو الله، ولا أستطيع أن أقاومه. وهذا يبين أن الله ضدى ويضربنى بضربات شديدة؛ كأنه لا يوجد غيرى فى العالم ليسئ إلىّ.
وأيوب هنا كان رمزاً للمسيح، فى أن المسيح حمل وحده خطايا العالم كله على الصليب (اش53: 6).
ع13: يضيف أيوب أن الله بعد أن أقامه غرضاً، جمع أناس مدربين على رمى السهام؛ ليصوبوا السهام نحوه. ويقصد هنا أصدقاءه الذين صوبوا نحوه كلماتهم القاسية، وكذلك السبئيين والكلدانيين والنار والريح هم رماة الله. فهو يشعر أن الله وراء كل ما يحدث، فهو هنا يعاتب الله حبيبه كيف تركه، بل وقف ضده وعامله بهذه القسوة.
وضربنى الله فى أعضائى الداخلية، فشق كليتى، فهذا مؤلم جداً. بالإضافة إلى إخراج مرارتى وسفكها فى الخارج، كما كان يفعل الصيادون قديماً؛ عندما يصطادون وحشاً، فيقطعوه ويخرجوا مرارته ويسفكوها شماتة به. وهذا يؤكد قسوة الله الذى يريد إهلاك أيوب. وأن أيوب شعر بأنه يكاد يموت أمام هذه الضربات العنيفة.
ع14: يعدو : يجرى.
يشبه أيوب نفسه بأنه مستقر داخل حصن وأن الله هجم عليه واقتحم هذا الحصن وضربه. وهذا يبين قوة الله وضعف أيوب. وهذا الحصن هو الخيرات التى وهبها الله لأيوب. فلذا كان أيوب متعجباً لماذا وهبه الله كل هذه الخيرات وحصنه بها، ثم عاد ليحطمه ؟ ولذا فهو يعاتبه.
والأسوأ أن هذا الاقتحام توالى باقتحام يلى الآخر، أى أن الضربات كانت متوالية، فيصل عبد إلى أيوب ويخبره بمصيبة، ثم يصل عبد آخر وبعده عبد ثالث؛ الكل يخبر بمصائب متوالية.
وتظهر قسوة الله فى أنه يجرى فوق أيوب كجبار؛ لأن الجبابرة الظالمين قديماً كانوا يدوسون بأرجلهم من يظلمونهم. وأحياناً كانوا يضعون الأعداء على الأرض ويجرون فوقهم بالخيل، أو بالنوارج كما فعل داود (2صم12: 31).
ع15: خطت : من يخيط بالأبرة.
مسحاً : ملابس خشنة ترمز للحزن والذل.
من أجل كل هذه الضربات يقول أيوب أنى لست فقط لبست ملابس خشنة على لحمى، بل خطت المسح على الجلد، أى ثبت هذه الملابس الخشنة فى جلدى. ومعناه استقرار ودوام حالة الحزن التى يعيش فيها أيوب.
وأظهر أيوب مدى ذله بقوله “دسست فى التراب قرنى” والقرن يرمز للقوة والعزة، أى أنه لم يعد له كرامة ووضع عظمته فى التراب، أى أنه فى ذل شديد. وبالحق كان أيوب ملقى، مريضاً فى تراب الأرض بذل شديد.
وأيوب هنا يرمز للمسيح الذى كانت نفسه حزينة حتى الموت (مر14: 34) واحتمل الذل والمهانة فى آلامه وعلى الصليب.
ع16: هدبى : رموش عينى.
أمام هذه الضربات وعندما انغمس أيوب فى الحزن سالت دموعه غزيرة واحمر وجهه من كثرة انفعاله وبكائه. وشعر أن الموت يقترب منه جداً، مثل اقتراب رموش عينيه منه. إنه يصور مدى حزنه وكآبته.
ع17: والذى يطمئن أيوب وفى نفس الوقت يوجع قلبه أنه لم يظلم أحداً، ويصلى بنقاوة ومحبة للكل. وأنه لم يجمع ثروته من ظلم الناس، بل كان نقياً فى كلامه وتصرفاته. ولذا فهو يعاتب الله أنه ضربه بكل هذه الضربات، وهو يعلم أنه يسلك بكل هذه النقاوة مع الناس.
وبالطبع أيوب كان رمزاً للمسيح فى نقاوته؛ إذ لم يمسك عليه أحد أى خطأ (يو8: 46).
إن وقعت فى ضيقة، فالتجئ إلى الله، وإن أردت أن تعاتبه، فقل كل ما تشعر به. وهو فى حنانه سيسمعك، بل ويسندك وينقذك ويخرجك من الضيقة بسلام.
(3) تضرع أيوب لله (ع18-22):
18- يا أرض لا تغطي دمي و لا يكن مكان لصراخي. 19- أيضا الآن هوذا في السماوات شهيدي و شاهدي في الأعالي. 20- المستهزئون بي هم أصحابي لله تقطر عيني. 21- لكي يحاكم الإنسان عند الله كابن ادم لدى صاحبه. 22- إذا مضت سنون قليلة اسلك في طريق لا أعود منها
ع18: يبين أيوب لله مدى آلامه، فينادى الأرض ألا تغطى دمه، أى أن الإساءات والضربات التى حلت به، كأنها سفكت دمه. وتشهد الأرض على آلامه العنيفة التى احتملها بدون ذنب، مثلما شهدت قديماً الأرض دم هابيل البرئ يسفك عليها (تك4: 10-11). وكما سترى دم المسيح يسفك على الصليب ولا تغطيه الأرض، أى يراه الكل. وكذلك الآن فإن دم المسيح يقدم كل يوم على المذبح، ويراه كل المؤمنين، ويتناولون منه غفراناً لخطاياهم.
ويطالب الأرض ألا تحد صراخه فى مكان معين، بل تتركه يصرخ فى كل اتجاه، تعبيراً عن مدى آلامه، وحتى يصل صراخه إلى السماء.
ع19: شهيدى : كلمة عبرية بمعنى إنسان يشهد للحق بسفك دمه.
شاهدى : كلمة آرامية بمعنى شاهد على الحق.
أى أن الكلمتين بمعنى واحد.
إذ شعر أيوب أنه مظلوم من الناس التجأ إلى الله الذى لا يحابى أحداً، لأنه غير محتاج لأحد، وطلب شهادته على الاتهامات الكثيرة التى وجهها إليه أصحابه.
ع20، 21: ما أصعب أن يتلقى الإنسان التعيير والاستهزاء ممن لا يتوقع منهم ذلك. هذا ما حدث مع أيوب عندما عيره أصحابه. فمن ضيقه لم يجد أمامه منفذا إلا الله، فبكى أمامهم بدموع كثيرة. وهكذا يقدم أيوب بدموعه شكواه إلى الله ويطلب منه حكمه العادل. فمحاكمة الإنسان البار أمام الله تشبه محاكمة إنسان على الأرض أمام صديقه الوفى. وهذا الصديق الوفى هو المسيح؛ الذى سيتجسد فى ملء الزمان؛ ليدافع عنا بدمه المسفوك على الصليب، ويشفع فينا عندما نلتجئ إليه بإيمان وتوبة ودموع.
ع22: فى النهاية يختم أيوب كلامه فى هذا الأصحاح، بعدما قدم شكواه لله العادل، الذى يحبه، فيقول إنه بعد سنوات قليلة تنتهى حياته بالموت. وهذا يريحه من جميع أتعابه.
وبعد الموت يمضى أيوب إلى حياة أخرى؛ ليتمتع بالوجود مع الله. وقوله أسلك طريقاً يؤكد إيمانه بالحياة الأبدية وطمأنينته إلى الحياة الأخرى الأفضل. تذكر جمال الحياة الأبدية يجعل الإنسان يحتمل آلام الحياة الحاضرة، ولا يتعلق بالشهوات الزائلة، وينشغل بمحبة الله، الذى سيمضى إليه، فيحيا سعيداً على الأرض.