أيوب يؤكد على عظمة الله
مقدمة :
بعد كلام بلدد المختصر رد عليه أيوب وعلى كل الأصدقاء، بخطاب طويل، هو أطول خطاب لأيوب، إذ شمل ستة أصحاحات. وهذا هو الخطاب الأخير لأيوب وهو نهاية الجولة الثالثة والأخيرة فى الحوارات بين أيوب وأصدقائه الثلاثة، مع ملاحظة أن صوفر لم يتكلم فى هذه الجولة الأخيرة. وبخطاب أيوب ينتهى كلامه مع أصدقائه الثلاثة. وستجد أيها القارئ جدولاً فى نهاية الكتاب يلخص الجولات الثلاثة فى الحوار بين أيوب وأصدقائه (جدول (1) صـ). وبعد الحوارات الثلاثة يبدأ كلام أليهو الصديق الرابع لأيوب، الصغير فى السن.
فى بداية خطاب أيوب فى هذا الإصحاح يرد على بلدد، الذى تكلم عن عظمة الله، فيقول له إن ما ذكرته عن هذا الموضوع، قد سبق وذكرته أنا (ص13: 2)، ثم أورد أيوب هنا كلاماً تفصيلياً عن عظمة الله.
(1) توبيخ أيوب لبلدد (ع1-4):
1- فأجاب أيوب و قال. 2- كيف اعنت من لا قوة له و خلصت ذراعا لا عز لها. 3- كيف اشرت على من لا حكمة له و اظهرت الفهم بكثرة. 4- لمن أعلنت اقوالا و نسمة من خرجت منك.
ع1-3: يعاتب أيوب بلدد، فيقول له إنك ترانى فى ضعف، إذ فقدت أملاكى وصرت فقيراً. وفقدت صحتى وقوتى وصرت مريضاً، ملقى على الأرض. فما فائدة كلامك الذى تكلمته معى؟ إنه ليس فيه مساندة لضعفى وكلام أيوب يعنى أمرين :
- ظهر فيه اتضاعه بأنه لا قوة له ولا عز لذراعه.
- كلام بلدد لا فائدة منه ولا مساندة لضعفه.
بالإضافة إلى هذا، فإن ما قاله بلدد كلام معروف، قد سبق وقاله أيوب، فما الفائدة من تكراره؟!
ثم يضيف أيوب : ويقول إن كنت يا بلدد تكلم إنساناً جاهلاً، فقد يكون لكلامك فائدة، ولكن إن كلمت إنساناً حكيماً، فأنت لم تضف شيئاً، ولعلك تتباهى بكلامك. أو هل أنت ترانى جاهلاً فتكلمنى هذا الكلام ؟ فهذا عتاب من أيوب لبلدد.
ع4: يواصل أيوب عتابه لبلدد، فيقول له: لمن أعلنت أقوالاً ؟ ألم تلاحظ أنى فى ضعف ومحتاج لكلمات تعزية؛ فكلامك عن عظمة الله سليم ولكنه لا يناسب حالتى، فليتك تكلمنى عن محبة الله ورعايته للبشر.
ثم يسأل أيوب بلدد، أى روح حركك لتكلمنى ؟ بالطبع ليس روح الله؛ لأن الكلام غير معزى ولا مساند. إنه فكرك الخاص.
ليتك عندما تزور إنساناً مريضاً، أو فى تجربة، تصلى أولاً؛ ليرشدك الله، وتتعاطف معه، ثم تحدثه عن الله بالطريقة التى تناسبه؛ لتسانده وتقويه، فيفرح بك الله ومن يسمعك.
(2) سلطان الله (ع5-14):
5- الأخيلة ترتعد من تحت المياه و سكانها. 6- الهاوية عريانة قدامه و الهلاك ليس له غطاء.
7- يمد الشمال على الخلاء و يعلق الأرض على لا شيء. 8- يصر المياه في سحبه فلا يتمزق الغيم تحتها. 9- يحجب وجه كرسيه باسطا عليه سحابه. 10- رسم حدا على وجه المياه عند أتصال النور بالظلمة. 11- أعمدة السماوات ترتعد و ترتاع من زجره. 12- بقوته يزعج البحر و بفهمه يسحق رهب. 13- بنفخته السماوات مسفرة و يداه ابدأتا الحية الهاربة. 14- ها هذه أطراف طرقه و ما اخفض الكلام الذي نسمعه منه و أما رعد جبروته فمن يفهم
ع5: الأخيلة : جمع خيال.
يتقدم أيوب ليتكلم عن عظمة الله وسلطانه بالتفصيل أكثر من كلام بلدد. ويقدم أدلة كثيرة على سلطان الله وخضوع كل المخلوقات له.
وفى هذه الآية يقول أن الأخيلة تحت الماء ترتعد أمام وجه الله. والمقصود بالأخيلة أرواح البشر الذين انتقلوا. إذ كانوا يظنون قديماً أن الهاوية توجد تحت أعماق البحار.
ويرى بعض المفسرين أن المقصود بالأخيلة هى الحيوانات البحرية القوية، مثل الحيتان وأسماك القرش. وهذه تسير فى نظامها الذى دبره الله لها، وترتعد أمام الهزات الأرضية التى يسمح بها الله.
وقد يكون المقصود بالأخيلة؛ العظماء والعمالقة الذين غرقوا بماء الطوفان أيام نوح، وكانوا يرتعدون من غضب الله وهم يغرقون.
ع6: يضيف أيوب أن الهاوية، أو الجحيم، أو مكان الهلاك، الذى توجد فيه جميع أرواح البشر، الذين رقدوا فى العهد القديم، سواء الأشرار، أو الأبرار الموجودين مؤقتاً إلى أن يتمم المسيح فداءهم، كل هذا المكان مكشوف وعريان أمام عينى الله. فهو يقصد أن البشر فى حياتهم على الأرض، أو بعد موتهم هم تحت رقابة الله وسلطانه. فما لا يتمكن البشر من رؤيته، الله يراه بكل دقة.
ع7: الشمال : المقصود مجموعة كواكب تسمى كواكب الشمال.
الخلاء : هو الفراغ الكونى الذى يوجد بعد الغلاف الجوى المحيط بالأرض.
تظهر عظمة الله فى تثبيت الكواكب فى الفراغ الكونى، فلا تصطدم بعضها ببعض، أو تتساقط، ولكنها تدور فى مداراتها بكل دقة، كما دبر لها الله.
وكذلك كوكب الأرض ثبته الله ليدور فى مداره دون أن يستند على شئ سوى أعمدة، أو أى شئ آخر.
ع8: يصر : يحفظها فى صرة، وهى إناء من الجلد كانت تحفظ فيه المياه، أو السوائل قديماً وتسمى زقاق (قربة).
يبين أيوب عظمة الله فى حفظه المياه فى السماء على شكل بخار ماء، وهو ما يسمى بالسحب، أو الغمام، أو الضباب. وكأن الله وضع المياه فى صرة لا تمزق، فينهمر منها الماء، ولكن يحفظها. وإذا أراد يجعل جزءاً صغيراً منها يبرد، فيتساقط على الأرض بشكل قطرات ماء وهو المطر. إنها قدرة إلهية عجيبة تحفظ العالم وتظهر سلطان الله العجيب على كل الخليقة. ويعلن أيوب قدرة الله على حفظ الماء فى السماء فلا يسقط كله دفعة واحدة. ويشبه الماء المحفوظ فى السحاب؛ كأنه فى صرة قوية لا يمكن أن تتمزق، فيسقط كل ما فيها.
ع9: ويظهر أيوب مجد الله العظيم فى أنه لا يستطيع إنسان، أو أى مخلوق أن يعاينه؛ لأنه أسمى من أن يعاين. ويعبر عن عظمته بأن عرشه، أو كرسيه يغطيه بسحابة، أى لا يستطيع أحد أن يرى الله، كما قال الرب لموسى “لأن الإنسان لا يرانى ويعيش” (خر33: 20).
وفى العهد القديم كان يعبر عن عظمة الله وحضوره عن طريق السحاب والضباب الذى يغطى خيمة الاجتماع (خر33: 9)، أو هيكل سليمان (1مل8: 10، 11)، كما ظهر فى أوقات كثيرة عن طريق السحاب، وكذلك فى حادثة تجلى المسيح مع موسى وإيليا ظللته سحابة (مت17: 5).
ع10: والله يظهر سلطانه فى وضع حدود للبحر، لا يتعداه مهما كانت قوة أمواجه، فتمتد مياه البحر مسافة صغيرة جداً، ثم تنحسر وتعود إلى مكانها، وهذا ما يسمى بخاصية المد والجزر.
واتصال النور بالظلمة هو نور النهار عندما يلتقى بسطح البحر، الذى هو ظلمة فى داخله، فعندما تنظر بعيداً ترى الأفق المنير يلتقى بسطح البحر، أى يلتقى النور مع الظلمة.
ع11: زجره : انتهاره.
كانوا يعتقدون قديماً أن أعلى ما فى الأرض، وهى الجبال، ترتكز عليها السماء، لذلك دعوها أعمدة السماء. فيقول أيوب إن أعمدة السماء ترتعد وترتاع أمام غضب الله عندما يسمح للزلازل والبراكين، فالله له السلطان على كل الخليقة.
ع12: رهب : أى مرهب وتطلق على وحش بحرى خرافى، أو على مصر من أجل عظمتها وقوتها فى هذا الوقت.
يوضح أيوب أن الله له سلطان على البحر العظيم، فيزعجه بالرياح القوية، التى تهيج أمواجه. وكذلك بحكمة الله يسحق الوحش العظيم المسمى رهب.
وقد يكون المقصود برهب مصر، فيعلن أن الله قادر أن يسحق أقوى الدول وقتذاك وهى مصر، أى قادر أن يسحق كل كبرياء وعجرفة الإنسان. وقد حدث هذا فعلاً فيما بعد، عندما شق موسى البحر الأحمر وغرق فرعون وكل جيشه فيه.
ع13: مسفرة : واضحة ومكشوفة وصافية.
يعلن أيوب سلطان الله على السماء، فبنفخة فمه، أى بعمل بسيط جداً، يجعلها صافية من كل الغيوم، ويظهر جمالها وأنها مزينة بالنجوم، فتبدو جميلة حتى أنها تجذب نظر الإنسان، فهو المخلوق الوحيد الذى ينظر إلى فوق، أى إلى السماء، أما الحيوانات فتنظر إلى الأرض. فالله يجعل السماء جميلة، حتى يتعلق بها قلب الإنسان ويحبها، فيحب الله الساكن فيها وملائكته وقديسيه.
وكذلك الله هو خالق الحية الهاربة، ويقصد بها مجموعة من النجوم تسمى درب التبانة، وهى مجموعة جميلة من النجوم تزين السماء، وقد يقصد بها الحية الأولى التى دخل فيها الشيطان، فالله هو خالق الملائكة الذين تحولوا إلى شياطين، وانفصلوا وهربوا منه، وهو خالق كل الموجودات.
ع14: فى الختام يقول أيوب أن كل ما ذكره هو شئ قليل جداً عن سلطان الله وعظمته، فيدعوه أطراف طرقه، ويدعوه أيضاً الصوت المنخفض. فكم تكون طرقه العظيمة وصوته العالى ؟ كم يكون رعد جبروته، أى أعماق حكمته، وأعماله العظيمة التى يستحيل حصرها؟ فأيوب يدعو سامعيه لتمجيد الله العظيم القدوس. تأمل الطبيعة لترى فيها قوة الله وعظمته. إنها تحدثك. كما قال داود النبى كثيراً عن الله. فالسموات والفلك والشمس والليالى والأيام كلها تتحدث عن عظمته (مز19). إن هذا التأمل يرفعك من الأرضيات الزائلة، ويرفع قلبك إلى محبة الله ومخافته.