صوفر يعلن لأيوب عقابه
(1) ضيق صوفر من كلام أيوب (ع1-3):
1- فاجاب صوفر النعماتي و قال. 2- من اجل ذلك هواجسي تجيبني و لهذا هيجاني في.
3- تعيير توبيخي اسمع و روح من فهمي يجيبني.
ع1، 2: هواجسى : أفكارى.
أجاب صوفر أيوب وقال له إن أفكارى تحركت فىَّ رداً على كلامك. وشعرت أنى مغتاظ جداً مما قلته، بل أفكارى هيجتنى عليك. وهذا يعنى عدم تعاطف صوفر مع أيوب نهائياً، بل هو منغمس فى فكرة واحدة، وهى أن أيوب شرير جداً ويأخذ عقاب شروره، أى التجارب التى حلت به، ولم يفكر صوفر، أو يذكر ماذا لو قدم الشرير توبة وكيف يقبله الله ؟ وهذا يبين مدى قسوة صوفر، ويظهر أيضاً عدم معرفة صوفر بأيوب الذى كان مشهوراً ببره.
ع3: أضاف صوفر وقال أنه احتمل كلاماً سيئاً من أيوب، إذ اعتبر أن أيوب عيره هو وصديقيه.
ولعل صوفر شعر أنه من الأفضل ألا يستكمل الكلام مع أيوب الشرير، ولكنه عندما اغتاظ من كلامه، قرر أن يرد عليه بالكلمات المذكورة فى الآيات التالية. وهذا يبين إصرار صوفر أن يكون معادياً ومهاجماً لأيوب، ولا نلمس فى كلامه أى نوع من الصداقة، أو التعاطف. وذلك لأنه متكبر جداً لا يقبل أن ينبهه أحد إلى خطأه فى الكلام، ويثق أنه صاحب الفهم الحسن، فيقول روح الفهم فى داخله تحدثه وينبغى أن يخضع أيوب لروح الفهم هذه التى يظن صوفر أنه يقتنيها.
ومعنى هذا أن صوفر رفض كلام الله الواضح الأخير على لسان أيوب عندما أعلن إيمانه بالمسيح الفادى والحياة الأبدية، وحضر أصدقاءه حتى لا يخطئوا، بل يرجعوا إلى الله (ص19: 25-29).
احترس من الكبرياء؛ لأنها تعمى عينيك، وتفقدك الفهم، وتخدعك بأنك فاهم أكثر ممن حولك، مع أنك ساقط فى الجهل لابتعاد الله عنك. إذ أن الله لا يعمل إلا مع المتضعين. أوقف فى الحال أى حوار تغضب أثناءه، أو تشعر بالكبرياء، والكرامة تتحرك داخلك؛ لأن غضب الإنسان لا يصنع بر الله.
(2) فرح الشرير مؤقت (ع4-9):
4- اما علمت هذا من القديم منذ وضع الانسان على الارض. 5- ان هتاف الاشرار من قريب و فرح الفاجر الى لحظة. 6- و لو بلغ السماوات طوله و مس راسه السحاب. 7- كجلته الى الابد يبيد الذين راوه يقولون اين هو. 8- كالحلم يطير فلا يوجد و يطرد كطيف الليل. 9- عين ابصرته لا تعود تراه و مكانه لن يراه بعد.
ع4، 5: بدأ صوفر هجوماً على أيوب باتهامه بالجهل، إذ قال له أما تعلم ما هو معروف ومستقر بخبرة الأجيال الماضية، أن فرح الأشرار مؤقت وسريع الزوال ؟! أى أن ما تمتعت به يا أيوب من غنى وعظمة فى حياتك الماضية هو فترة مؤقتة. أما نتائج شرورك فهو ما تعانيه الآن من تجارب صعبة.
ع6، 7: كجلته : الجلة هى روث، أو فضلات الحيوانات التى يجمعونها ويصنعون منها أقراصاً كبيرة ويتركونها تجف، ثم يوقد بها الفلاحون أفرانهم.
يصف صوفر فرح الشرير ونجاحه وشهرته أنها لو كانت عظيمة جداً وتصل إلى السماء والسحاب – وهذا بالطبع غير معقول ولكنه تشبيه لعظمة النجاح الذى يفوق العقل – فإنها تزول وتفنى تماماً كما تفنى أقراص الجلة التى يوقد بها الفرن للخبيز وتحترق وتنتهى. هكذا أيضاً الشرير يزول نجاحه وينساه الناس حتى أن من يأتى بعده ويسمع اسمه لا يعرفه ويتساءل من هذا الإنسان.
وتشبيه صوفر نجاح الأشرار بفضلات البهائم، يقصد منه أنه نجاح ظاهرى كريه الرائحة ومخزى، ثم سرعان ما يبدد إذا احترق فى الأفران.
ع8، 9: طيف : خيالات يراها الإنسان أثناء الحلم فى الليل.
ويعود صوفر فيشبه نجاح الأشرار بالحلم وطيف الليل الذى هو مجرد صور يراها الإنسان أثناء نومه، وعندما يستيقظ لا يجد شيئاً منها، أى أن هذا النجاح غير حقيقى ويزول سريعاً، ولا يعود يراه أحد كما أن الحلم لا يراه الإنسان مرة أخرى، ومهما كان الحلم يبدو عظيماً لكنه لا يتعدى أن يكون حلماً. هكذا أيضاً مهما كانت شهرة الشرير تنتهى تماماً ولا يراها أحد بعد.
لا تنشغل بما حققته من نجاح مادى فهو مؤقت فى هذه الحياة، ولكن انشغل بالأكثر بنجاحك الروحى فى توبتك وعلاقتك بالله التى تدوم معك إلى الأبد وتفرحك فى الأبدية.
(3) نصيب الأشرار (ع10-29):
10- بنوه يترضون الفقراء و يداه تردان ثروته. 11- عظامه ملآنة شبيبة و معه في التراب تضطجع. 12- إن حلا في فمه الشر و أخفاه تحت لسانه. 13- أشفق عليه و لم يتركه بل حبسه وسط حنكه. 14- فخبزه في أمعائه يتحول مرارة اصلال في بطنه. 15- قد بلع ثروة فيتقياها الله يطردها من بطنه. 16- سم الاصلال يرضع يقتله لسان الأفعى. 17- لا يرى الجداول انهار سواقي عسل و لبن. 18- يرد تعبه و لا يبلعه كمال تحت رجع و لا يفرح. 19- لأنه رضض المساكين وتركهم و اغتصب بيتا و لم يبنه.20- لأنه لم يعرف في بطنه قناعة لا ينجو بمشتهاه. 21- ليست من أكله بقية لأجل ذلك لا يدوم خيره. 22- مع ملء رغده يتضايق تأتي عليه يد كل شقي.
23- يكون عندما يملا بطنه إن الله يرسل عليه حمو غضبه و يمطره عليه عند طعامه. 24- يفر من سلاح حديد تخرقه قوس نحاس. 25- جذبه فخرج من بطنه و البارق من مرارته مرق عليه رعوب. 26- كل ظلمة مختبأة لذخائره تأكله نار لم تنفخ ترعى البقية في خيمته. 27- السماوات تعلن إثمه والأرض تنهض عليه. 28- تزول غلة بيته تهراق في يوم غضبه. 29- هذا نصيب الإنسان الشرير من عند الله و ميراث أمره من القدير
ع10: يذكر هنا صوفر العقوبات الإلهية التى تأتى على الأشرار بعدما يخربون وينكسرون وهى :
- الخوف من الفقراء : فيخاف من الفقراء الذين ظلمهم عندما كان قوياً وغنياً، فيرسل بنيه ليطلبوا رضاهم، ويحاول أن يقيم علاقة طيبة معهم، إذ أنه يعرف ضيقهم الشديد منه، بل يحاول إعادة بعض حقوقهم مما تبقى من ثروته.
ع11: العقوبة الثانية التى تأتى على الشرير هى :
- يموت صغيراً : أى أن الله يقصر عمره، فيموت وهو بعد شاب ويدفن فى القبر، أى لا يعيش ليتمتع بالحياة؛ لأنه لم يكن أميناً فى استغلال فرصة العمر التى أتيحت له، بل قضاها فى الشر.
وقد يقصد بعظامه الملآنة شبيبة أنها ملآنة بالشهوات الشبابية التى انساق فيها، ونسى الله، فتخلى عنه ومات سريعاً؛ لأنه استغل عمره بطريقة سيئة.
ع12-14: الأصلال : جمع صل وهو الحية. والصل نوع سام جداً من الثعابين.
- مرارة الحياة : إن الشرير يحب الشر ويشعر بحلاوته، كمن يضع طعاماً لذيذاً فى فمه ولا يريد أن يبلعه؛ ليتمتع أكبر وقت بلذته. هذه الحلاوة تتحول إلى مرارة عندما تصل إلى أمعائه وتكون مرارة شديدة، مثل مرارة سم الثعابين.
ع15-19: جداول : أنهار صغيرة.
كمال تحت رجع : مثل مال يودع بدون فائدة، أى يرجع إلى صاحبه دون أية استفادة.
رضض : كسر وهشم وفتت.
- فقدان شهيته : يفقد بعد هذا كل ما اقتناه من ثروات بالظلم، كمن أكل طعاماً، ثم تقيأه، أى يعانى المرارة ويفقد كل ما ظن أنه اكتسب.
ونرى هنا أن من تعلق بمحبة المال سيفقد كل أمواله، إذ يقول “قد بلغ ثروة فيتقيأها”. بالإضافة إلى أنه يعانى معاناة شديدة عند فقده أمواله، كمن يعانى عندما يتقيأ.
هذا الشرير قد بدأ محبة الشر منذ أن كان طفلاً، فهو يرضع السم من فم الثعبان، وبالطبع فم الثعبان ولسانه يقتلانه. هذه هى نتيجة الشر أن يفقد الشرير كل ماله، بل وحياته كلها.
والشرير يظن أن الحياة الأخرى هى استمرار لانغماسه فى الشهوات المادية، وأنه سيجد فيها أنهار من العسل واللبن، ولكنه لن يحصل عليها لا فى الأرض ولا فى الحياة الأخرى، لأن الحياة الأبدية حياة روحية، فيها يتمتع الإنسان بعشرة الله ولا يصل إلى هناك إلا أرواح القديسين، الذين أحبوا الصلاة وعشرة الله على الأرض.
والشرير يتعب حتى يحصل على مقتنيات، أو مال كثير ولكنه لا يبتلعه، أى لا يتلذذ به، ولكن يرده ويرجعه إلى آخرين، فلا يحتفظ بشئ لنفسه؛ لأن كل ما حصل عليه كان بالظلم والشر. وذلك مثل إنسان وضع أمواله فى أحد البنوك، أو المصارف فى حساب بدون فائدة، هكذا لا يفرح ولا يستفيد شيئاً، فهو لا يحصل ولا تصل إليه مشتهياته، ولا يتلذذ، أو يشبع بها.
هذه العقوبة وما قبلها تأتى على الشرير بسبب إساءات نحو المساكين، إذ هشمهم وحطمهم وأهمل احتياجاتهم، فلم يعد يساعدهم، ولا حتى من أجل إظهار كبريائه وفضائله أمام الناس. ولم يتعب فى بناء بيته، بل اغتصبه من المساكين وأقام فيه.
ع20، 21:
- انقطاع خيراته : العقوبة الخامسة التى تقع على الشرير هى توقف الخيرات المادية التى سعى إليها، أى أنه إذا حصل على خيرات لا تدوم معه. وذلك لأنه حصل على هذه الخيرات بالظلم، فلا تشبعه وليس عنده قناعة، ومهما أخذ من هذه المشهيات لا يشبع، فلا يفضل عنه شئ، ويظل فى إحساس بالحاجة، ثم فى النهاية ينقطع خيره ويؤخذ منه. ويقصد صوفر بكل هذا أيوب الذى فقد خيراته وصحته.
ع22-26: رغده : خيره الكثير.
الشقى : الشرير.
البارق : السيف اللامع.
مرق : نفذ وخرج من الجانب الآخر.
رعوب : رعب.
ذخائره : كنوزه.
- هلاك إلهى : يعلن صوفر أن الله سيهلك الشرير بالتأكيد ولا يكتفى بتأديبه.
ورغم أن الشرير يحصل على خيرات كثيرة، ولكن كما مد يده وظلم غيره، كذلك تأتى عليه أيدى الأشرار وتسلب منه ممتلكاته. وهو هنا يشير إلى السبئيين والكلدانيين الذين استولوا على قطعان الحيوانات التى لأيوب. بالإضافة إلى أن الشرير عندما تكثر بين يديه الخيرات لا يكون سعيداً، بل يتضايق بسبب القلق والهم وكيف يتصرف فى ممتلكاته عندما تتسع، كما فعل الغنى الغبى (لو12: 20)، فهو يفقد راحة البال، حتى لو كثر خيره.
وعندما ينغمس الشرير فى شهواته ويملأ بطنه ويتمتع بكثرة خيراته؛ فإن الله يتدخل ويعاقبه، فيمطر عليه من السماء ويلات ومصائب، كما نزلت النار من السماء على أغنام أيوب وعبيده (ص1: 16). وإهلاك الله للشرير هو بسبب ظلمه لغيره وكثرة شروره.
وعندما تأتى المصائب على الشرير يحاول الهرب منها، ولكنه يفاجأ بعقوبة إلهية أقوى وأصعب، كمن يهرب من عدو ويمسك سلاحاً حديدياً، فيقابل عدو آخر معه سلاحاً أقوى من النحاس. والمعنى أنه بالتأكيد لابد أن يهلك.
ويصور صوفر قسوة العقاب الإلهى بسيف لامع يخترق جسد الشرير ويخرج من ناحية أخرى، أى أنه يمزق أعضاءه الداخلية – مثل الكبد والمرارة – ويهلك، ومن شدة الألم يرتعب الشرير.
بالإضافة إلى هذا إن كل ما كنزه الشرير تتسلط عليه الظلمة، أى الفساد وتضيع منه، فتجهم عليه المصائب مثل النار التى لم ينفخها أحد عليه، بل تنزل من السماء لتحرقه وتحرق كل ما تبقى فى خيمته، أو مسكنه، أى أنه يهلك هو وكل ماله. فالنار غير معروف مصدرها، ولكن الله ينزلها عليه كعقاب، ولا يستطيع أحد أن يحتمى منها، أو يبعد سببها. وهذه النار ترمز للنار الأبدية التى يتعذب فيها الإنسان الشرير.
ع27-29: تهراق : تسكب وتصب.
- مرفوض من الكل : فى النهاية يعلن أن العقوبة السابعة هى أن السموات تظهر شروره؛ حتى لو كان قد عملها فى الخفاء. وكذلك الأرض، أى البشر الساكنين فى الأرض يكونون ضده. بل إن الأرض نفسها لا تعطى غذاء للنباتات التى زرعها؛ حتى لو كانت قوته الضرورى وهى الغلة، أى القمح الذى يعمل منه الخبز. وعموماً كل ما يزرعه لا يعطى ثماراً إلا القليل جداً، أى يصير فى فقر وحرمان.
وفى النهاية يقرر صوفر أن كل العقوبات السبعة السابقة هى نصيب وميراث الشرير من الله. وإن كلام صوفر سليمٌ من جهة أن كل هذه عقوبات للأشرار، ولكنه قصد بالشرير أيوب وهذا خطأ كبير، لأن أيوب كان باراً ويحتمل تجارب من الله؛ ليتنقى ويتزكى. لا تستهن بالخطية ولو كانت صغيرة؛ لأنها تبعدك عن الله ولا تهمل طول أناة الله، بل أسرع إلى التوبة؛ لأن الله فى نفس الوقت عادل مع من يصر على الخطية ويرفض التوبة.