أتضاع أيوب وقوة الله
(1) اتضاع أيوب (ع1-5):
1- فأجاب الرب أيوب فقال. 2- هل يخاصم القدير موبخه أم المحاج الله يجاوبه.3- فأجاب أيوب الرب و قال. 4- ها أنا حقير فماذا أجاوبك وضعت يدي على فمي. 5- مرة تكلمت فلا أجيب و مرتين فلا أزيد.
ع1، 2: المحاج : هو من يحاجج، أى يناقش.
أعطى الله فرصة لأيوب فى الأصحاحات الأولى من هذا السفر أن يتكلم، فسقط أيوب فى معاتبة الله ولومه واتهامه بالظلم. واحتمله الله؛ متعاطفاً معه؛ لأنه فى ضيقة شديدة سمح بها الله له؛ ليعالج البر الذاتى الذى فى داخله. ولكن الله يحب أيوب جداً. فيوجه الكلام له هنا ويقول له هل الله يخاصم الإنسان الذى يوبخه ويقصد أيوب ؟ بالطبع لا لأن الله أب حنون وطويل الأناة، يحتمل أولاده، حتى لو سقطوا فى التذمر، أو عاتبوا الله.
ويسأل الله أيضاً : هل يجاوب الله من يتكبر ويحاججه ؟ بالطبع لا؛ لأن الله إن تكلم فكلامه قوى وغضبه شديد، فيظهر خطأ أيوب الشنيع فى كلامه مع الله بهذه الطريقة.
والله هنا يتكلم بمحبة ولطف، ولكن فى عتاب أبوى. ونلاحظ أن الله لم يقل هذه الكلمات فى بداية كلامه مع أيوب عندما هبت العاصفة (ص38: 1) لأنه يعرف أن أيوب لن يحتمل عتاب الله، وحتى الآن عندما عاتبه أجاب أيوب باتضاع شديد.
ع3-5: أمام عظمة الله وقدرته، ومحبته فى نفس الوقت خجل أيوب من نفسه وانسحق أمام الله، متخلصاً من البر الذاتى الذى كان يعانى منه، فقال لله ها أنا حقير، وفى الأصل العبرى تعنى كلمة “حقير” “تافه وبلا وزن”، وبالتالى لا أستطيع أن أجيبك يا الله على أى شئ. وقال أيضاً لقد أخطأت قديماً فى حواراتى مع أصدقائى الثلاثة وتكلمت مرة، أو مرتين
(ص23: 3؛ 31: 37). وكان كلامى خطأ؛ لأنه بكبرياء. أما الآن أمام عظمتك يا الله التى تظهر فى رعايتك لكل خلائقك، ومحبتك لى أخجل وأصمت؛ لأتعلم منك.
إن أيوب فى كلامه مع أصدقائه الثلاثة كان يناقش نقاشاً حاداً؛ لأنهم كانوا يتكلمون بفلسفة، أما الله فكلامه قوى؛ لأنه قادر ويفعل، ويرعى بالفعل خلائقه، فصمت أيوب عن الجدل؛ لأنه أمام حقائق تظهر فيها قوة الله ومحبته.
إن أيوب مازال مريضاً ومطروحاً على الأرض، فقيراً بعد فقدان كل أملاكه، لكن ظهور الله له بقوته ولطفه شفى أتعابه النفسية، ووهبه سلاماً داخلياً، وأكسبه الاتضاع أمام اتضاع الله القوى الذى نزل ليكلمه ويقنعه.
ليتنا نتعلم من حوار الله مع أيوب أن نصمت أمام عظمته، ونتأمل أعماله وحبه؛ لتهدأ نفوسنا ونتخلص من كل كبرياء واضطراب، ونكتشف حقيقة الأمور، وهى محبة الله فى كل تدابيره فى حياتنا، فنطمئن ونسبحه.
(2) الله يوبخ أيوب (ع6-14):
6- فأجاب الرب أيوب من العاصفة فقال. 7- الآن شد حقويك كرجل أسألك فتعلمني.
8- لعلك تناقض حكمي تستذنبني لكي تتبرر انت. 9- هل لك ذراع كما لله و بصوت مثل صوته ترعد. 10- تزين الآن بالجلال و العز و ألبس المجد و البهاء. 11- فرق فيض غضبك و انظر كل متعظم و أخفضه. 12- انظر إلى كل متعظم و ذلله و دس الأشرار في مكانهم. 13- أطمرهم في التراب معا و أحبس وجوههم في الظلام. 14- فأنا أيضا احمدك لأن يمينك تخلصك.
ع6، 7: حقويك : الحقوين هما أعلى عظمتى الفخذتين.
رغم أن أيوب قد بدأ التوبة وأعلن أنه حقير، ولكن يبدو أنه كان محتاجاً إلى استكمال توبته، وتنقية قلبه تماماً من البر الذاتى. فنطق الشفتين حسن، ولكن يلزم تنقية القلب تماماً؛ لذا هبت عاصفة؛ لتظهر قوة الله، ثم تكلم الله من العاصفة. وهنا تكلم الله بشدة مع أيوب، فقال له شد حقويك، أى استعد وقف أمامى لكيما تواجهنى بكل ما عندك من قوة، بل استهزأ الله به وقال له عندما تقف أمامى سأسألك؛ لأتعلم منك. وهذا ما قاله الله؛ ليزيل أى آثار للبر الذاتى داخل قلب أيوب، وحتى يملأ قلبه بالمخافة، ويكمل اتضاعه.
ع8: عندما قام أصدقاء أيوب عليه، واتهموه اتهامات باطلة، دافع أيوب عن نفسه، وفى دفاعه تطاول، فاتهم الله بالظلم، وطالب الله أن يواجهه لكيما يثبت أيوب بره. فأصدقاء أيوب كانوا مخطئين فى حق أيوب، ولكن لم يكن من الصواب أن يتطاول أيوب على الله. فهنا يوبخه الله، ويقول له : عندما تقف أمامى تكلم لعلك تستطيع أن تظهر أن أحكامى خاطئة؛ حتى تبرر نفسك! وبالطبع لن يستطيع أيوب أن يمسك خطأ على الله. فهذا الكلام دعوة من الله لأيوب؛ حتى يكمل توبته عن كل ما قاله، وليتحرر من البر الذاتى طوال حياته. ويظهر هنا الفرق بين أيوب الذى برر ذاته، وبين داود المتضع، الذى قال لله “لكى تتبرر فى أقوالك وتغلب إذا حوكمت” (مز51: 4). وكذلك دانيال المتضع الذى قال “لك يا سيد البر أما لنا فخزى الوجوه” (دا9: 7).
ع9: يواصل الله توبيخه لأيوب، فيسأله هل لك ذراع مثل الله، أى ذراع قوية قادرة على كل شئ ؟ بالطبع لا؛ لأنك إنسان محدود، وبالتالى كيف تقف أمام الله نداً له، وتوجه إليه الاتهامات. ومن ناحية أخرى فالله بقوته الغير محدودة يخضع جميع المخلوقات، أما أنت فإنسان محدود وضعيف.
ويسأله أيضاً : هل لك صوت يرعب مثل الله ؟ بالطبع لا؛ لأن أيوب كان فى خوف أمام صوت الله الذى فى العاصفة، بالإضافة إلى أن كلام الله كان مقنعاً، فخضع له أيوب وتاب.
ع10: إن الإنسان عندما يلبس ملابس عظيمة وثمينة، يظهر بمظهر الجلال والقوة، فيهابه الناس؛ لذا يسأل الله أيوب ويقول له : إلبس أفضل الملابس التى تعطيك بهاء وعظمة؛ لنرى من سيرتعب منك ؟ أو هل تستطيع بهذا أن تخضع العالم وكل المخلوقات لك ؟ بالطبع لا؛ كل هذا يقصد به الله إظهار ضعف أيوب أمام نفسه، فيتوب، ولا يفكر أن يتطاول على الله بكبرياء فى أى وقت.
ع11-14: اطمرهم : ادفنهم وغطيهم.
ثم يسخر الله من أيوب، فيقول له أظهر غضبك الشديد حتى توقف كل متكبر عن كبريائه، بل تذللـه ليرجع عن شره. وعاقبه إما بالحبس فى السجن، أو تبتلعه الأرض فيهلك، كما فعلت مع قورح وداثان وأبيرام الذين ابتلعتهم الأرض (عد16: 32)، أو كما حدث مع عخان بن كرمى وعائلته الذين رجمهم يشوع فماتوا وتغطوا بالحجارة (يش7: 25). وإن استطعت فاحبسهم ليس فى ظلام السجن، بل فى الظلام الأبدى، أى الجحيم.
إن استطعت أن تفعل هذا، فأقر أمامك بقوتك التى لا تقاوم، وأمجدك لأن يدك قوية لا يقاومها أحد، وتستحق الحمد والبركة.
تأمل عظمة الله فى خلائقه؛ لتتضع أمامه وتسبحه فى كل حين. وعندما تتضع أمامه تستطيع أيضاً ان تتضع أمام أولاده البشر، فتنال بركات الله ومعونته.
(3) قوة بهيموث (ع15-24):
15- هوذا بهيموث الذي صنعته معك يأكل العشب مثل البقر. 16- ها هي قوته في متنيه وشدته في عضل بطنه. 17- يخفض ذنبه كارزة عروق فخذيه مضفورة. 18- عظامه أنابيب نحاس جرمها حديد ممطول. 19- هو أول اعمال الله الذي صنعه أعطاه سيفه. 20- لأن الجبال تخرج له مرعى و جميع وحوش البر تلعب هناك. 21- تحت السدرات يضطجع في ستر القصب و الغمقة.
22- تظلله السدرات بظلها يحيط به صفصاف السواقي. 23- هوذا النهر يفيض فلا يفر هو يطمئن و لو اندفق الأردن في فمه. 24- هل يؤخذ من أمامه هل يثقب أنفه بخزامة.
ع15-19: لكيما يظهر الله قوته لأيوب؛ حتى يشعر أيوب بضعفه، فيتضع تماماً، حدثه الله هنا عن أحد مخلوقاته، وهو بهيموث. هذا الحيوان انقرض، والمعلومات التى نعرفها عنه أنه حيوان ضخم، يصل طوله إلى حوالى خمسة أمتار وارتفاعه حوالى مترين. وهو يشبه فرس النهر الذى يطلق عليه “سيد قشطة” ولكنه أكبر منه. وكلمة “بهيموث” كلمة عبرية تعنى بهيمة.
هذا الحيوان يعيش فى الماء ويخرج إلى الأرض، فهو حيوان برمائى، ويأكل العشب، مثل البقر وباقى الماشية.
فالله يقول لأيوب أنا الذى صنعت بهيموث معك، أى أنك واحد من المخلوقات التى خلقتها أنا، وهناك من المخلوقات ما هو أقوى منك بكثير، مثل بهيموث، فلماذا تتكبر ؟
ع16: متنيه : حقويه، أى عظام الفخذ.
وهو حيوان قوى، وقوته تظهر فى متنيه وبطنه، فعضلاتها قوية جداً.
ع17: ذنبه : ذيله.
ذيل هذا الحيوان قوى جداً يشبه شجرة الأرز، التى تنمو فى لبنان وتتميز بقوة أخشابها. وعندما يحرك هذا الحيوان ذنبه ويخفضه إلى الأرض، فكأنه يحرك شجرة أرز قوية، ويخفضها إلى الأرض، فتكسر كل ما تصطدم به.
وعروق هذا الحيوان قوية ومضفورة، فالضفيرة أقوى من الحبل المنفرد، وبالتالى إذا داس هذا الحيوان إنساناً، أو حيواناً آخر يسحقه بقدميه.
ع18: جرمها : يشمل بدنها وأقدامها، أى جسمها.
ممطول : هو الحديد إذا تم طرقه وهو ساخن لكى يطول.
إن جسم هذا الحيوان وعضلاته قوية جداً كأنها مصنوعة من النحاس والحديد.
ع19: إن هذا الحيوان هو من أول الحيوانات التى خلقها الله عندما خلق الحيوانات فى اليوم السادس. وهو قوى جداً؛ لذا يمثل قوة الله، أى سيفه.
ع20: إنه يأكل الأعشاب التى تنمو على الجبال، فهو يأكل هذه الأعشاب من الأرض ومن على الجبال. وفى نفس الوقت ينزل إلى الماء؛ ليبرد جسمه الضخم، فهو حيوان برمائى يستطيع السباحة ويستطيع المشى على الأرض. وهذا يبين خطورته وقوته. ولأنه يأكل العشب لا تخاف منه الحيوانات، بل تلعب حوله مطمئنة.
ع21، 22: السدرات : شجر ينبت على مجارى المياه.
الغمقة : المستنقع.
الصفصاف : أشجار تنمو فى الأرض الرطبة، أى بجوار المياه، وظلها كثيف، ويزرعها الفلاحون بجوار السواقى.
هذا الحيوان الضخم يستريح تحت أشجار السدرة والصفصاف؛ لأن ظلها كبير، أو يرقد بجوار القصب، الذى ينمو متجاوراً بكثافة، فيكون له ظل كبير. ويرقد أيضاً ويستريح فى المستنقعات؛ ليرطب جسده الضخم.
ع23: اندفق : جرى بسرعة.
إذا زادت مياه النهر وجرت بسرعة فلا ينزعج بهيموث ولا يهرب، بل يظل فى مكانه بالنهر؛ لأنه أقوى من سرعة جريان المياه. ولكنه على العكس يشرب من ماء النهر بفرح؛ حتى يظن الإنسان الذى ينظره كأنه سيشرب كل مياه النهر.
ع24: خزامة : حلقة معدنية توضع فى أنف الحيوان، مثل البقر، بعد ثقب أنفه؛ إعلاناً عن تبعية وملكية هذا الحيوان لصاحبه.
الخلاصة يقولها الله لأيوب أنه لا يمكن لإنسان أن يأخذ، أو يخطف شيئاً من أمام بهيموث؛ لأنه سيخاف أن يسحقه.
ثم يسخر الله من أيوب فى سؤال يسأله له، فيقول هل تستطيع يا أيوب أن تخضع بهيموث لك وتضع خزامة فى أنفه ؟
إن بهيموث يرمز للشهوات الشريرة التى يثيرها الشيطان على الإنسان، فيصبح الإنسان كالبهائم، ويتعلق بالأرض، ويأكل عشبها، ويجلس فى البحر، الذى يرمز للعالم بحجمه الضخم، وقوته الكبيرة، ولكن الله خالق الأشياء يسيطر عليه، ويستطيع أن يجعل الإنسان منتصراً على كل شهوة. فالله هنا يعلم أيوب ولا يوبخه، أى يحذره من الشهوات العالمية؛ ليبتعد عنها. احترس من الشهوات الشريرة مهما كانت قوية، ومنتشرة، ويسقط فيها الكثيرون. إنتبه لئلا تنحط للتراب إن خضعت للشهوات، وثق أن الله قادر أن يحررك منها مهما سيطرت عليك.