أليهو الوسيط
مقدمة
هذا الأصحاح من أروع ما كتب فى العهد القديم عن المسيح الوسيط بين الله والناس، أى المسيح الفادى؛ الذى بفدائه صالح السمائيين مع الأرضيين.
وإن كان أليهو مقتنعاً ببر أيوب، وبأن أصدقاءه ظلموه باتهامات زور، ولكنه يجد بعض الأخطاء فى أيوب فحدثه عنها بشجاعة؛ ليتخلص منها.
(1) أليهو وسيط بين الله وأيوب (ع1-7):
1- و لكن اسمع الآن يا أيوب أقوالي و اصغ إلى كل كلامي. 2- هأنذا قد فتحت فمي لساني نطق في حنكي. 3- استقامة قلبي كلامي و معرفة شفتي هما تنطقان بها خالصة. 4- روح الله صنعني ونسمة القدير احيتني. 5- ان استطعت فاجبني احسن الدعوى أمامي انتصب. 6- هأنذا حسب قولك عوضا عن الله انا ايضا من الطين تقرصت. 7- هوذا هيبتي لا ترهبك و جلالي لا يثقل عليك.
ع1-4: بدأ أليهو حديثه مع أيوب، فأوضح له أن ما سيقوله له ناتج من قلب مستقيم وشفتان تنطقان بمعرفة الله بكل إخلاص؛ لأن روح الله التى فيه هى التى تتكلم، وليس له اعتماد على نظريات قديمة، أو أحلام ورؤى، أو خبرات خاصة، كما فعل الأصدقاء الثلاثة. فهو هنا يبين أمرين :
- أن كلامه هو الحق الإلهى.
- لا يستهن أيوب بحداثة أليهو؛ لأن الله هو المتكلم على فمه.
ع5-7: تقرصت : خلقت من أقراص الطين.
قال أليهو لأيوب أنت طلبت أن تتحاور مع الله، ولكنك خفت من عظمته أن ترعبك. فأنا إنسان مصنوع من الطين مثلك، وأشعر بالتالى بآلامك، إذ أنت ملقى الآن على التراب وجسدك مملوء أمراض، فتكلم معى فأنا وسيط بينك وبين الله، سأعلن لك كلامه، وإن كان لك جواب فقم وانتصب وأجبنى. فأليهو يمثل الله وهكذا يمكن لأيوب أن يتكلم مع الله دون انزعاج، أو رعب؛ لأن أيوب كان قد طلب من الله أن يتحدث معه كما يتحدث إنسان لإنسان آخر (ص13: 20-22). والآن أرسل الله لأيوب أليهو؛ ليتكلم معه.
إن أليهو هنا يرمز للمسيح الذى بتجسده صار إنساناً مثلنا، واستطاع البشر أن يقتربوا إليه، وشعروا بمحبته ورعايته، فآمنوا بأبوة الله لهم.
إنك تستطيع أن توصل الله للناس عن طريق محبتك وكلماتك الطيبة. وإذ يشعروا بخدمتك ومساعدتك لهم يروا الله فيك، ويحبوه، ويثبتوا فى إيمانهم به.
(2) أخطاء أيوب فى حق الله (ع8-11):
8- أنك قد قلت في مسامعي و صوت أقوالك سمعت. 9- قلت أنا بريء بلا ذنب زكي أنا ولا إثم لي. 10- هوذا يطلب علي علل عداوة يحسبني عدوا له. 11- وضع رجلي في المقطرة يراقب كل طرقي.
ع8، 9: قال أليهو لأيوب لقد تابعت أقوالك فى الجولات الثلاثة من الحوار. وأنا سمعتك بأذنى؛ لذا سأقدم لك الأدلة على خطئك من نحو الله. وهذا يبين :
- متابعة أليهو بدقة حوارات أيوب مع أصدقائه الثلاثة.
- قدرة أليهو على تمييز الأخطاء، فقالها لأيوب ليدعوه للتوبة.
الخطأ الأول الذى سقط فيه أيوب هو البر الذاتى؛ إذ أعلن أنه برئ وزكَّى نفسه، وأعلن أنه بلا خطية. فهو إن كان يدافع عن نفسه ضد اتهامات أصدقائه الثلاثة؛ لكنه بالغ فى تبرير نفسه (ص9: 21، 23: 10).
ع10، 11: علل : أسباب.
المقطرة : قطعة خشبية تثبت فيها يدى ورجلى المسجون، فلا يستطيع الحركة نهائياً، لأنه راقد على ظهره.
الخطأ الثانى فى حق الله هو أن أيوب يتهم الله بمعاداته، بل يبحث عن أسباب تؤكد هذه العداوة (ص13: 24؛ 14: 16-17). وكذلك قيد أيوب مثلما يقيد المسجون فى المقطرة؛ حتى يعجز عن عمل أى شئ. ويقصد أيوب أن الله أفقده ممتلكاته وقيده بالأمراض، فصار كأنه مقيد فى سجن. وقد استند على أقوال أيوب التى سبق وقالها (ص13: 27).
عندما تدافع عن نفسك لا تتهم غيرك بالخطأ؛ لئلا تسقط فى الإدانة. دافع عن نفسك فقط واحتفظ بمحبتك لكل من حولك.
(3) كيف يتكلم الله مع الإنسان ؟ (ع12-22):
12- ها أنك في هذا لم تصب أنا اجيبك لأن الله اعظم من الإنسان. 13- لماذا تخاصمه لأن كل أموره لا يجاوب عنها. 14- لكن الله يتكلم مرة و باثنتين لا يلاحظ الإنسان. 15- في حلم في رؤيا الليل عند سقوط سبات على الناس في النعاس على المضجع. 16- حينئذ يكشف آذان الناس ويختم على تأديبهم. 17- ليحول الإنسان عن عمله و يكتم الكبرياء عن الرجل. 18- ليمنع نفسه عن الحفرة و حياته من الزوال بحربة الموت.19- أيضا يؤدب بالوجع على مضجعه و مخاصمة عظامه دائمة. 20- فتكره حياته خبزا و نفسه الطعام الشهي. 21- فيبلى لحمه عن العيان و تنبري عظامه فلا ترى. 22- و تقرب نفسه إلى القبر و حياته إلى المميتين.
ع12، 13: لم تصب : أخطأت.
أعلن أليهو لأيوب أن أخطاءه التى ذكرها له أليهو فى (ع9-11) أخطاء واضحة، أخطأ فيها أيوب، وأعلن له أيضاً أن الله أعظم من الإنسان فيما يلى :
- أن تدابيره تفوق عقل الإنسان فى الفهم، ويمكن أن يفهمها بعد سنوات، أو يفهمها فى الحياة الأخرى.
- أن الإنسان ضعيف ويحتاج إلى ضيقات؛ لتزيد فهمه وتكمل نقصه، ليس لأن الإنسان أخطأ، ولا لأن الله قاسى عندما يسمح بالتجربة، ولكن لأن الإنسان ضعيف ويحتاج من الله أن يكمل له نقصه.
ويدعو أليهو أيوب ألا يغضب من الله ويخاصمه؛ لأنه لم يفهم أسباب سقوطه فى تجارب، بل يقبل من الله وينتظر، فقد يفسر له الله حكمته بعد فترة.
ع14-16: اعترض أيوب على الله أنه لا يتكلم معه ولا يجيبه (أى9: 3)، فقال له أليهو: أن الله يتكلم مرة ومرتين ولكن أنت الذى لا تلاحظ كلمات الله ولا تفهم أنها رسالة منه. فالله يحب الإنسان ويقول “لذاتى مع بنى آدم” (أم8: 31) وهو يحب الكلام معه. ثم أورد أليهو بعض الطرق التى يتكلم بها الله؛ وهى الأحلام التى يراها الإنسان وهو نائم نوماً عميقاً (سبات)، أو فى رؤى، أى يراها الإنسان وهو مستيقظ، أو يكون قد دخل فى نوم خفيف (نعاس) ولكنه يدرك بالأدلة الملموسة أنه كان مستيقظاً ومنتبهاً. وقد كلم الله كثيرين بالأحلام، مثل يوسف النجار؛ ليحتفظ بالعذارء ويرعاها، ثم ليهرب إلى مصر (مت2: 13)، وكلم فرعون مصر أيام ابراهيم (تك20: 3) وكذلك نبوخذنصر أيام دانيال (دا2: 28؛ 4: 5). وبرؤى كلم كثيرين مثل إبراهيم (تك13: 16) واسحق (تك26: 2) ويعقوب (تك32: 22-30) وموسى (خر3: 2). ولكن ليس كل حلم يحلمه الإنسان هو من الله؛ لأن معظم الأحلام تخيلات من حياة الإنسان الحاضرة والماضية، أى صور من العقل الباطن.
بطرق الله المتنوعة يعلن الله نفسه للإنسان، ويكشف عن آذان الناس التى سدتها وأغلقتها الإنشغالات العالمية.
ومن طرق الله فى إعلان صوته أن يسمح بتأديب الإنسان بضيقات متنوعة؛ لينتبه ويرجع إليه. ولعل هذا ما قصده أليهو؛ أن الله أعلن نفسه لك يا أيوب من خلال الضيقات؛ لأنه سبق وكلمك أيام غناك ورخائك ولكنك لم تنتبه. وكلام الله عن طريق التأديبات يكون قوياً وواضحاً، كالختم الذى يضعه الإنسان؛ ليعلن به عن نفسه.
إن الإنسان عندما يدخل إلى سريره وينام؛ فيبتعد عن ضوضاء الحياة، فى الهدوء يراجع نفسه عن كل ما حدث فى هذا اليوم، فيكتشف صوت الله ورسائله إليه.
ع17، 18: يبين هنا أليهو الأسباب التى تدعو الله لتأديب الإنسان وهى :
- تحويل الإنسان عن الشرور التى يعملها، أى يعيده إلى نقاوته كما خلقه الله.
- إيقاف وكتمان كبريائه حتى لا يتمادى فيه ويهلك نفسه.
- إنقاذ الإنسان من الهلاك بالخطية، وهو الهلاك الحقيقى، وليس مجرد موت الجسد، فينزل إلى الحفرة، أى القبر ويهلك بالموت، الذى يشبهه بحربة تهلك الإنسان، فيموت وخطيته على رأسه، وهذا هو الهلاك الحقيقى.
ع19: مضجعه : سريره.
الله فى محبته يفتقد الإنسان الذى ينشغل عنه ببعض الآلام، مثل آلام المرض، كتأديب له، فيشعر كأن عظامه تقف خصماً له، أى تؤلمه. كل هذا يسمح به الله؛ ليعيد الإنسان إليه ويتوب عن خطاياه.
ع20: إن كان الإنسان فى فترات رخائه اشتهى الأطعمة الكثيرة اللذيذة وانشغل بها، فكتأديب من الله، إذا مرض، لا يعود يشتهى الأطعمة والخبز.
ع21: تنبرى : تتآكل.
كذلك المؤدب من الله بالأمراض يضعف ويصير نحيفاً لقلة لحمه، بل أيضاً عظامه فى داخله تتآكل، فيصير ضعيفاً جداً.
ع22: بشدة المرض يشعر المؤدب من الله أنه يقترب من الموت والقبر والملائكة الذين سيأخذون روحه، أى “المميتين”.
إذا أصبت بمرض فراجع نفسك وتذكر الموت لتقدم توبة، فتتنقى، وتعبر الموت الأول وهو موت الخطية، ولا تعود تخشى الموت الثانى وهو موت الجسد.
(4) الفداء (ع23-30):
23- إن وجد عنده مرسل وسيط واحد من ألف ليعلن للإنسان أستقامته. 24- يترءاف عليه و يقول اطلقه عن الهبوط إلى الحفرة قد وجدت فدية. 25- يصير لحمه أغض من لحم الصبي و يعود إلى أيام شبابه. 26- يصلي إلى الله فيرضى عنه و يعاين وجهه بهتاف فيرد على الإنسان بره.
27- يغني بين الناس فيقول قد أخطأت و عوجت المستقيم و لم أجاز عليه. 28- فدى نفسي من العبور إلى الحفرة فترى حياتي النور. 29- هوذا كل هذه يفعلها الله مرتين و ثلاثا بالإنسان.
30- ليرد نفسه من الحفرة ليستنير بنور الأحياء.
ع23: الله فى اهتمامه بخلاص أولاده، مثل أيوب، يرسل لهم وسيطاً؛ ليشرح لهم حكمته من الآلام والضيقات التى تمر بهم. وأن المقصود بالآلام ليس انتقاماً منهم؛ لأنهم أشرار، بل تنقيتهم وإظهار استقامة حياتهم. فالله هو الذى يبرر أيوب، أما أيوب فليس قادراً على تبرير نفسه، أى أن أيوب بتأديب الله يصير باراً؛ لأنه ثبت فى الإيمان، وظل متمسكاً بكلام الله، ومتقبلاً الآلام، معترفاً بخطاياه فصار باراً.
والوسيط هو :
- أليهو؛ لأن الله عنده كثيرون يمكن أن يرسلهم لأيوب، يعبر عنهم فى الكثرة بألف. واختار الله أليهو؛ ليعلن صوت الله لأيوب.
- المسيح الذى هو نائب عن البشرية كلها، المعبر عنها بألف، فتجسد فى ملء الزمان، وقدم بموته على الصليب خلاصاً لأيوب وكل من يؤمن بالله.
- رقم ألف يرمز للسماء، فواحد من ألف معناه واحد من السماء وهذا ينطبق على المسيح، الذى نزل من السماء.
ع24: إذا وجد الوسيط أحد المؤمنين متجاوباً مع الله، ومتقبلاً تأديباته، مثل أيوب، يشفق عليه ويرحمه ويخلصه من الموت والدفن فى القبر، أى الحفرة، ويقول قد وجدت فدية، ويعنى وجدت من يفديه ويموت عنه، ويقصد المسيح الفادى. فالمتكلم هنا هو المسيح، الذى يتراءف على أيوب ويقدم فداءً لنفسه لخلاصه وخلاص كل المؤمنين به.
ع25: أغض : أطرى وأنعم من لحم الطفل.
وينعم الوسيط الفادى، أى المسيح، على المؤمن، الذى قبل التأديب بالشفاء من مرضه، كما حدث مع نعمان السريانى وتخلص من مرض البرص، ويصير لحمه أطرى وأنعم من لحم الطفل ويمتلئ حيوية كالشباب. ولكن ليس ضرورياً أن يحدث هذا مع كل إنسان مؤمن تعرض لأمراض، أن يشفيه الله، ولكن فى جميع الأحوال ينال حيوية روحية، ويمتلئ حماساً للحياة مع الله. وهذا يدلل على زوال آثار الخطية وقبول الله لتوبته.
ع26: بقبول المؤمن التائب وشفاء مرضه يستعيد علاقته مع الله، فيصلى وتصير صلاته مقبولة؛ لأن الله راضٍ عنه، بل يتمتع هذا المؤمن بمعاينة الله، ويشعر به فى حياته، فيفرح ويهتف لله، أى يسبحه، ويتمتع بالبر، الذى أعاده له الله، لأنه تائب عن خطاياه، أى يحيا فى نقاوة وكأنه لم يخطئ.
ع27، 28: إن المؤمن التائب الذى تمتع بالغفران من الفادى يسوع المسيح يغنى فرحاً. ويعترف أنه قد أخطأ وكسر كلام الله، وسلك باعوجاج، بعيداً عن الاستقامة. ولكن الله لم يجازه بحسب أفعاله الشريرة، فلم يمت ويذهب إلى القبر، بل غفر له الله خطاياه، ومنحه حياة جديدة مستنيرة بنور الله. وهكذا انتقل هذا المؤمن من الصراخ لشدة آلام المرض ومعاناة الخطية، إلى تسبيح الله بفرح من أجل نعمته التى لا يعبر عنها.
ع29، 30: يختم أليهو كلامه فى هذه الآيات بأن الله الحنون يطلب أولاده الذين أخطأوا، ويدعوهم للتوبة مرات كثيرة، يعبر عنها هنا بمرتين وثلاثاً، مستخدماً التأديب بالأمراض، أو أية وسيلة أخرى؛ حتى ينقذ أولاده من الموت، المعبر عنه بالحفرة، ويعطيهم حياة جديدة فيه، المعبر عنها بنور الأحياء، أى نور الحياة فى الله.
ليتك تشكر الله كل يوم على غفرانه خطاياك، سواء الحالية، أو القديمة وعلى الحياة الجديدة التى تنالها فى الكنيسة، فتتمتع بأسراره المقدسة؛ حتى يفرح قلبك كل يوم.
(5) دعوة أيوب للإنصات (ع31-33):
31- فاصغ يا أيوب و استمع لي أنصت فأنا اتكلم. 32- إن كان عندك كلام فأجبني تكلم فاني أريد تبريرك. 33- و إلا فاستمع أنت لي انصت فأعلمك الحكمة.
ع31-33: بعد المقدمة التى قالها أليهو فى هذا الأصحاح لأيوب، مبيناً محبة الله له، طلب أليهو من أيوب أن يستمع ويصغى باهتمام لكل ما سيقوله له؛ لأن أليهو يريد بمحبة تبرير أيوب وليس اتهامه، كما حاول الأصدقاء الثلاثة.
وفى رفق وحنو أعطى أليهو فرصة لأيوب أن يتكلم ويضيف ويعلق على المقدمة التى سمعها من أليهو. ولكن أيوب صمت، وهذا يبين إعجاب أيوب وقبوله لكلام أليهو. وهذا شجع أليهو بقوة الله أن يواصل حديثه مع أيوب؛ ليعلن له الحق الإلهى ويعلمه الحكمة الإلهية من تأديب الله والتجارب التى مرت به. اهتم أن تعرف مدى تجاوب سامعك لما تقوله؛ حتى تضمن إنصاته لك مهما كنت تقول كلاماً قوياً، أو آيات من الكتاب المقدس، ولكن من المهم إعداد الإنسان السامع ليقبل الكلام، فيتأثر به.