الله يعلن أنه مدبر الخليقة وراعيها
مقدمة :
- تكلم أصدقاء أيوب الثلاثة معه ووجهوا إليه اتهامات كثيرة، ورد عليها أيوب. وفى النهاية صمتوا وتكلم أيوب فى خطاب طويل، أعلن فيه بره، ثم صمت ليتكلم أليهو.
- تكلم أليهو فى خطاب طويل من (ص32-37)، ثم صمت ليتكلم الله، فهو يرمز ليوحنا المعمدان الذى أعد الطريق للمسيح. لأن أليهو بكلامه الروحى المتزن أعد أيوب لسماع كلام الله، إذ كلم أيوب كثيراً عن عظمة الله ومخافته، وضرورة أن يتضع أيوب أمامه.
- بعد النزاع الذى حدث بين أيوب وأصدقائه الثلاثة، تدخل أليهو وتكلم بأسلوب جديد مع أيوب، ثم تدخل الله أخيراً بنفسه؛ ليحسم الأمر؛ لأنه يحب أيوب ويريد خلاصه، وهو الذى سمح بهذه التجارب لمنفعته. وأمام الله الذى تكلم فى خطاب طويل من (ص38-41) ظل أيوب صامتاً. وأخيراً فى بداية (ص42) أعلن أيوب خضوعه الكامل لله، فنال بركات لا تحصى.
- الله فى حديثه مع أيوب أظهر عنايته بمخلوقاته الجامدة، مثل الرياح والبحر، وكذلك مخلوقاته الحية، مثل الحيوانات. فإن كان الله يحب مخلوقاته، فبالأولى الإنسان الذى خلق له كل هذه المخلوقات، ولذا فقد أتى بنفسه، وهو ذو المجد الذى لا يستقصى؛ ليتكلم مع أيوب، فشعر أيوب بحب الله له وارتمى فى أحضانه وعند قدميه، فنال كل البركة. وبهذا أظهر الله لأيوب أنه قريب منه، ويسمعه، ويعتنى به، وليس بمنشغل عنه، أو مهملاً له كما ظن أيوب (9: 11، 16). ومن ناحية أخرى لم يجاوب الله عن كل تساؤلات أيوب بل رفعه من انحصاره فى مشكلته إلى الاحساس بحضرة الله، الذى يرعى خليقته وبالتالى يرعاه هو بكل الحب. وبهذا تم حل مشكلة أيوب مع الله.
- أطال الله أناته على أصدقاء أيوب فى اتهاماتهم لأيوب، ولكن فى النهاية بعد حديثه مع أيوب دعاهم للتوبة، بل أن يطلبوا من أيوب الصلاة عنهم؛ ليسامحهم الله، وبهذا مجد حبيبه أيوب.
- إن كان الله هنا قد تكلم مع أيوب بأمثلة كثيرة من الطبيعة والمخلوقات، فإنه كرر هذا عندما تجسد فى ملء الزمان، فقد تكلم المسيح بأمثال كثيرة مع سامعيه.
- فى حديث الله مع أيوب أعلن حقائق علمية كثيرة اكتشفها الإنسان فى عصور حديثة بعد زمن أيوب بمئات السنين، مثل حركة الكواكب والجاذبية الأرضية
(ص38: 8-10، 31، 32).
(1) الله يوبخ أيوب (ع1-3):
1- فأجاب الرب أيوب من العاصفة و قال. 2- من هذا الذي يظلم القضاء بكلام بلا معرفة. 3- اشدد الآن حقويك كرجل فإني أسألك فتعلمني.
ع1، 2: هبت عاصفة قوية على أيوب، وبعدها تكلم الله بصوت قوى؛ حتى ينتبه ويخشع أيوب. والله اضطر أن يستخدم هذا الأسلوب من أجل كبرياء أيوب؛ حتى يخضع أمامه. ولكنه إن وجد الإنسان متضعاً، أو فى ظروف نفسية صعبة فإن الله يتكلم بهدوء ووداعة، كما تكلم مع إيليا الهارب من وجه إيزابل فى ضيق ويأس، شاعراً أنه صار وحيداً بعد قتل أنبياء الله
(1مل19: 14).
وكلام الله لأيوب كان توبيخاً إذ قال “من هذا” معلناً لايوب ضعفه وحقارته فى تجاسره أن يتهم الله بالظلم؛ لأن أيوب بكلامه أظهر أن قضاء الله ظالم، أى غير عادل. والحقيقة أن أيوب لا يعرف ولا يفهم حتى يتجاسر ويتكلم هكذا عن الله.
وقول الله “من هذا …” تعنى أن الله يبحث عن أيوب ابنه المحبوب، الذى شهد الله له بالبر والكمال. فكأنه يقول أين هو أيوب ابنى، لأن الذى تكلم ضد الله ليس هو أيوب الحقيقى، فهو توبيخ شديد من الله لأيوب، أنه قد تغير تحت ثقل التجربة، وظهر كبرياؤه الداخلى، فاتهم الله بالظلم. أى أن الله بتوبيخه يدعو أيوب للتوبة والاتضاع؛ ليعود إلى كماله، فيتمتع بأحضان الله. فالله كان مرعباً لأيوب بالعاصفة، ثم بصوته القوى من السماء، وبعد ذلك بتوبيخ أيوب؛ حتى يخضع له. وهذا بالطبع لا يستطيع أحد أن يعمله إلا الله، فرغم حسن كلام أليهو، ولكن كان تمهيداً لظهور الله القوى. ثم بعد أن يرتعب أيوب سيظهر الله له عظمته فى تدبير الخليقة، بل ورعايتها بحب، وبالتالى فهو يحب أيوب جداً، فتحول أيوب إلى الإتضاع والخضوع لله، وتنازل عن كل ما قاله، واعترف بخطيته وأنه تكلم بدون معرفة (ص42: 3)، أى نفس الكلمات التى وصفه بها الله، وثم باركه الله فى الأصحاح الأخير.
ع3: زاد توبيخ الله لأيوب حين قال له تشدد كرجل حرب، وتمنطق لتقف أمامى بكل قوتك حتى أسألك وتعلمنى. وهذا بالطبع سخرية من الله، إذ لا يوجد إنسان يستطيع أن يعلم الله. فهو توبيخ شديد من الله لأيوب، الذى سبق فقال له “أدع فأنا أجيب” (ص13: 22). فالله هنا يقول هأنذا أدعوك فقم وجاوبنى وعلمنى.
لم يستمر الله فى توبيخ أيوب؛ لأنه لن يحتمل، ولكنه بدأ بهذه الآيات؛ ليهز أيوب ويخضعه له. وبعد هذا تكلم الله بحديث طويل عن تدبيره ورعايته للخليقة، وبالتالى فهو يحب ويرعى أيوب، أى الإنسان الذى هو رأس الخليقة.
إن ظهور الله بنفسه رغم أنه كان مرعباً لأيوب، ورغم توبيخه له بشدة هو تكريم عظيم له، وتوبيخ لأصدقائه الذين اتهموه اتهامات باطلة. فلم يرسل الله له ملائكة ليوبخوه، بل ظهر بنفسه وتكلم معه حديثاً طويلاً؛ ليعيده إلى أحضانه، ويباركه ببركات تفوق العقل.
إن الله الذى دافع عن أيوب أمام الشيطان فى (ص1، 2)، كان هذا لإظهار أبوة الله ومحبته. ولكن فى حديث خاص بين الله وأيوب يوبخه؛ ليصلح أخطاءه ويعيده إلى كماله. فهو يدافع عنه؛ لأنه ابنه ولكن فى حب يعاتبه ويوبخه؛ لينقيه من الشر.
كن حكيماً فى تربية أبنائك، أو رعايتك لمن ترعاهم وتخدمهم. إظهر لهم محبتك وشجعهم ودافع عنهم أمام الغرباء، ولكن فى نفس الوقت بحزم وبخهم ليصلحوا أخطاءهم، وذلك بينك وبينهم بعيداً عن أعين الناس، فيشعروا بمحبتك وسترك عليهم. وتذكر أن الله يفعل معك هكذا بحنانه؛ لتفعل هذا مع الآخرين.
(2) الله خالق ومدبر الطبيعة (ع4-38):
4- أين كنت حين أسست الأرض اخبر إن كان عندك فهم. 5- من وضع قياسها لأنك تعلم أو من مد عليها مطمارا. 6- على أي شيء قرت قواعدها أو من وضع حجر زاويتها. 7- عندما ترنمت كواكب الصبح معا و هتف جميع بني الله. 8- و من حجز البحر بمصاريع حين اندفق فخرج من الرحم. 9- إذ جعلت السحاب لباسه و الضباب قماطه. 10- و جزمت عليه حدي و أقمت له مغاليق و مصاريع. 11- و قلت إلى هنا تأتي و لا تتعدى و هنا تتخم كبرياء لججك. 12- هل في أيامك أمرت الصبح هل عرفت الفجر موضعه. 13- ليمسك بأكناف الأرض فينفض الأشرار منها. 14- تتحول كطين الخاتم و تقف كأنها لابسة. 15- و يمنع عن الأشرار نورهم و تنكسر الذراع المرتفعة.16- هل انتهيت إلى ينابيع البحر أو في مقصورة الغمر تمشيت. 17- هل انكشفت لك أبواب الموت أو عاينت أبواب ظل الموت. 18- هل ادركت عرض الأرض اخبر إن عرفته كله.
19- أين الطريق إلى حيث يسكن النور و الظلمة أين مقامها. 20- حتى تأخذها إلى تخومها و تعرف سبل بيتها. 21- تعلم لأنك حينئذ كنت قد ولدت و عدد أيامك كثير. 22- ادخلت إلى خزائن الثلج أم ابصرت مخازن البرد. 23- التي أبقيتها لوقت الضر ليوم القتال و الحرب. 24- في أي طريق يتوزع النور و تتفرق الشرقية على الأرض. 25- من فرع قنوات للهطل و طريقا للصواعق. 26- ليمطر على أرض حيث لا إنسان على قفر لا أحد فيه. 27- ليروي البلقع و الخلاء و ينبت مخرج العشب. 28- هل للمطر اب و من ولد ماجل الطل. 29- من بطن من خرج الجمد صقيع السماء من ولده. 30- كحجر صارت المياه أختبأت و تلكد وجه الغمر. 31- هل تربط أنت عقد الثريا أو تفك ربط الجبار. 32- اتخرج المنازل في أوقاتها و تهدي النعش مع بناته. 33- هل عرفت سنن السماوات أو جعلت تسلطها على الأرض. 34- اترفع صوتك إلى السحب فيغطيك فيض المياه. 35- اترسل البروق فتذهب و تقول لك ها نحن. 36- من وضع في الطخاء حكمة أو من اظهر في الشهب فطنة. 37- من يحصي الغيوم بالحكمة و من يسكب ازقاق السماوات. 38- إذ ينسبك التراب سبكا و يتلاصق المدر.
ع4: أظهر الله أنه خالق الطبيعة بكل ما فيها، بل ومدبرها وراعيها، ولم يشترك معه أحد من البشر فى هذه الأعمال. ويوجه الله عدة أسئلة لأيوب؛ أولها عن الأرض (ع4-7).
وينادى الله أيوب ويعطيه معلومة، وهى أن الله هو مؤسس الأرض، أى خالقها، ثم يسأله:-
- أين كنت موجوداً يا أيوب عندما أسست الأرض ؟ بالطبع لم يكن أيوب قد خلق.
- أخبر يا أيوب بما تعلمه ورأيته عن خلقه الأرض، إن كان عندك فهم، أو معلومات. وبالطبع لا يعرف أيوب شيئاً؛ لأنه خلق بعد الأرض بسنين طويلة.
بهذا يظهر ضعف أيوب وعظمة الله الخالق.
ولعل الله يوجه نظر أيوب إلى أنه إنسان مخلوق من تراب الأرض، ومع هذا لا يعرف كيف خلقت الأرض التى أخذ منها، فكيف يتجاسر ويتكلم عن السماويات وعن الله الساكن فيها؛ فإن كان لا يعرف أسرار الأرض، فكيف يتكلم عن الله والسماء ؟!
ع5، 6: مطمار : خيط فى نهايته ثقل، يستخدم لمعرفة مدى استقامة حائط البناء.
قرت : استقرت.
ويتقدم الله كمهندس، بل أعظم مهندس فى العالم، الذى خلق الأرض بكل حكمة تفوق حكمة البشر، فيسأل أيوب من وضع مقاييس الأرض، فهو يشبه الأرض ببناء له قياساته. فمن يا ترى حددها ؟! ومن تمم بناءها بدقة، كمن يبنى مبنى كبير، حوائطه مستقيمة، مستخدماً المطمار؟ وكذلك من ثبت الأرض، مثل بناء استقر على قواعد مدفونة فى الأرض؟ ومن وضع حجر الزاوية وأقام الحوائط وأكمل البناء؛ والمقصود من الكلام هو سؤال أيوب عن معرفته بخلقة الأرض بأبعادها وتثبيتها بكل دقة، وبالطبع فأيوب لا يعرف شيئاً منها والله وحده هو الخالق والعارف بكل شئ.
ع7: عندما خلق الله الأرض فرحت الملائكة، المشار إليهم بكواكب الصباح، لأنهم أنوار قد خلقهم الله النور الحقيقى فى الصبح، أى فى بداية الخلق، وذلك لأن الأرض قد خلقها الله فى اليوم الثالث. فالملائكة قد خلقوا قبل اليوم الثالث، وآباء الكنيسة يعتقدون أن الله خلق الملائكة فى اليوم الأول من النور الذى خلقه الله؛ فالملائكة نورانيين، ويسميهم أيضاً كواكب الصبح.
ويدعو الله الملائكة أيضاً بنى العلى؛ لأنهم خاضعون له، ويحبونه ويمجدونه، فهم أول خليقته، خلقهم قبل الإنسان. كل هؤلاء الملائكة رنموا وهتفوا وسبحوا الله الخالق. وهكذا حدث احتفال فى السماء بخلقة الأرض التى سيعيش عليها الإنسان، كما يحتفل الإنسان مع أصدقائه بكل شئ عظيم يعمله، هكذا احتفل الله وملائكته بخلقة الأرض.
ع8-11: مصاريع : أبواب.
اندفق : تدفق، أى جرى باندفاع.
قماطه : قطع القماش التى يلف بها الطفل الرضيع.
حزمت عليه : فرضت عليه.
حدى : جمعها حدود وهى الحواجز المانعة.
مغاليق : أبواب وحواجز.
تتخم : توضع لها تخوم، أى حدود.
لججك : مياهك الكثيرة.
السؤال الثانى الذى وجهه الله لأيوب هو عن البحر. فيقول الله لأيوب من خلق البحر، ويشبهه بجنين فى بطن أمه يخرج من رحمها. فقد كان الماء محجوزاً عند الله، شكل منه البحار والمحيطات فى اليوم الثالث للخليقة (تك1: 9).
ويستكمل الله وصفه لخلقة البحر وتشبيهه له بالطفل الصغير، الخارج من بطن أمه، بأن ألبسه الله السحاب والضباب؛ لأنهما يمثلان قبة السماء التى تتلاقى أطرافها مع البحر أمام نظر الإنسان، وقد جعل الله لباس وقماط هذا الطفل المولود – أى البحر – من نفس مادة تكوينه، وهى الماء، فالبحر ماء فى صورة سائلة، أما السحاب والضباب فهما ماء بشكل بخار.
تتجلى قوة الله فى وضعه حدود للبحر لا يتعداها، يشبهها هنا بمغاليق ومصاريع، ويأمر الله البحر أن يقف عند هذه الحدود، مهما كانت قوة وكمية مياهه. هذه الحدود هى حبات صغيرة من الرمل، ولكن بقوة الله يخاف البحر، ولا يستطيع تعدى الرمال التى على الشاطئ، فقد وضع الله للبحر خاصية المد والجزر، فهو يمد مياهه قليلاً نحو الشاطئ، ويعود فيسحبها سريعاً إلى داخله. وهكذا يظهر البحر كطفل صغير أمام الله خالقه وخالق كل الكائنات.
ع12-15: أكناف : أطراف.
السؤال الثالث الذى سأله الله لأيوب هو عن النور. فقال له هل كنت موجوداً عندما خلق الصبح، أى الفجر وظهر النور؟ هذا بالطبع سؤال استنكارى وسخرية من الله؛ ليظهر لأيوب ضعفه؛ لأنه لم يكن قد خلق الإنسان. فالله وحده خالق النور؛ سواء النور الذى فى اليوم الأول؛ أو النور الذى فى اليوم الرابع؛ الذى غطى الأرض عن طريق الشمس، وفى الليل عن طريق القمر والنجوم.
هذا النور الذى غطى الأرض من أقصائها إلى أقصائها، أى غطى كل جوانبها، هو ضد الأشرار؛ الذين يفعلون الإثم فى الظلام، والنور يكشفهم، فيهربون ويختبئون لئلا يمسك بهم أحد، أو تنفضح أخطاؤهم. وكأن النور قد حول الأرض إلى ملاءة نفضت الأشرار، فاختفوا من على الأرض واختبأوا فى أى مكان، وتوقفت أعمالهم الشريرة، وكل خططهم الردية.
والأرض يقول عنها الله أنها كالطين الأسود عندما كانت فى الظلمة، قبل إشراق النور، وعندما أشرق عليها النور ظهر جمالها فى الجبال، والتلال، والبحار، والأنهار، والخضرة، والأشجار؛ كأن طين قد وضع فيه خاتم، فأظهر فى الطين نقوشاً جميلة، هى نتاج طبع الخاتم وملامحه فى الطين. وتظهر الأرض حينئذ لابسة النور وجمالها ظاهر أمام كل أحد.
بهذا النور الإلهى تنكسر قوة الأشرار، وتقف أعمالهم الردية، المشار إليها بالذراع المرتفعة. ويمنع الأشرار من نورهم، الذى هو الظلام؛ لأنه إن كان النور فرصة للأبرار حتى يعملوا ويفرحوا، ولكن حياة الأشرار، وفرحهم هى فى الظلمة التى يمارسون فيها أعمالهم الأثيمة.
والمسيح بفدائه لنا على الصليب كسر ذراع الشيطان المرتفعة، وأعاد لنا الطبيعة النورانية وأظهر جمال خليقته – أى البشر – بل وحل فينا بروحه القدوس، عندما ختمنا بختم سر الميرون، فانطبعت فينا صورته بالمعمودية، وثبتت بالروح القدس فى سر الميرون.
ع16: مقصورة الغمر : المقصورة هى مكان خاص لا يدخله إلا صاحبه. والمقصود هنا مصادر وينابيع الغمر.
يسأل الله السؤال الرابع وهو أيضاً عن البحر. فيسأل أيوب هل تعرف مصادر وينابيع البحر والغمر؟ وبالطبع لا يعرف؛ لأنه لم يستطع أن يعرف أسرار البحر، فكيف يعرف أعماقه ومصادره ؟!
ع17: والسؤال الخامس الذى قاله الله لأيوب هو عن الموت. فسأله هل تعرف أبواب الموت، أى متى ستموت وكيف ؟ وهل تعرف متى وكيف يموت باقى البشر ؟ ماذا تعرف عن مكان الأرواح التى ماتت ؟ أين توجد ؟ هل ذهبت إليهم وعرفت ما يعملون ؟
هل يا أيوب رأيت أبواب ظل الموت ؟ ولعل المقصود هو كيفية خروج الروح من الجسد، ومشاعر الإنسان وقتذاك. بالطبع لا يعلم أيوب شيئاً عنها؛ لأنها لم تمر به.
كان القدماء يتصورون أن أبواب الموت وظل الموت فى أعماق البحار، ولم يصل أحد إلى هناك؛ ليخبر بما رآه. فالله يسأل أيوب أموراً تفوق إدراكه ويعجز عن معرفتها.
ع18: أما السؤال السادس الذى سأله الله لأيوب، فكان عن الأرض. لأن الله يعلم أن أيوب لا يعرف ولا يفهم شيئاً عما سأله له. فعاد ليسأله عما هو أسهل وهى الأرض التى يحيا عليها. فقال له هل درت حول الأرض وعرفت عرضها ؟ أخبرنى إن كنت تعرف. وبالطبع لم يعرف أيوب شيئاً؛ لأن فى زمن أيوب لم يكن هناك إنسان قد دار حول الأرض. كل هذا تأكيد لأيوب أنه ضعيف أمام عظمة الله المتناهية.
ع19-21: ثم يسأل الله أيوب السؤال السابع وهو عن النور والظلمة. فيقول له إنك ترى النور وترى الظلام، ولكن هل تعرف إلى أين يذهب النور عندما يأتى الظلام ؟ وأين يذهب الظلام عندما يضئ النور ؟ أين بيت النور والظلمة، حيث يبيتان ؛ فأنت فى النور تقوم لتعمل، فإن أردت أثناء الظلام أن تستدعى النور، فهل تعرف مكانه لتستدعيه منه؛ حتى تستطيع القيام والعمل؟ وفى الظلام تستطيع أن تستريح وتنام، فإن أضاء النور وكنت فى وسط النهار واحتجت للظلام حتى تهدأ الدنيا حولك وتنام، فهل تستطيع أن تستدعى الظلام ؟ بالطبع لا تعرف كل هذا لأنك ضعيف.
يسخر الله من أيوب بعد هذا السؤال والأسئلة السابقة، فيقول له أنت تعلم كل هذا لأنك كنت قد ولدت ورأيت كيف خلقت كل هذه المخلوقات؛ لأن لك عمر طويل يمتد سنيناً عديدة. إنها سخرية واستهزاء من الله، لتجاسر أيوب فى أحاديثه السابقة مع أصدقائه فى كلام؛ غير لائق عن الله.
ع22، 23: الضر : الضرر.
السؤال الثامن الذى سأله الله لأيوب هو عن الثلج والبرد. فقد انتقل الله إلى الظواهر الطبيعية مثل الثلج والعواصف والأمطار. فيسأل الله أيوب هل يعرف مخازن الثلج والبرد التى تنزل على الأرض؟ إنها مخازن الله السماوية، الذى يفاجئ الإنسان بنزول الثلج والبرد منها. ويستخدم الله البرد ليوم الضرر، عندما يعاقب البشر، كما حدث فى الضربة السابعة فى مصر أيام موسى (خر9: 18)، وكما حدث مع الكنعانيين أيام يشوع (يش10: 11).
ع24: أما السؤال التاسع، فهو يختص أيضاً بالنور الذى تكلم عنه فى (ع19)، فيسأل الله أيوب كيف يتوزع النور فى الفجر على العالم ؟ لأنه فى لحظات يطل نور الفجر على المسكونة.
وكانوا يعتقدون قديماً أن الشرقية؛ أى الرياح الشرقية، هى التى تنقل النور وتزيح ظلمة الليل، فيسأل أيوب هل يعرف طريق الرياح الشرقية وكيف توزع النور على الأرض ؟ بالطبع لا يعرف.
وتوزيع النور قد يقصد به تحليل النور إلى ألوانه السبعة، أى ألوان الطيف.
ع25-28: الهطل : سقوط الأمطار بغزارة.
الصواعق : جمع صاعقة وهى نزول جسم نارى مشتعل من السماء، مصحوب برعد.
البلقع والخلاء : أرض جرداء.
مآجل الطل : قطرات الندى الصغيرة.
يستكمل الله أسئلته، فيقول لأيوب السؤال العاشر وهو عن المطر، فيسأله عن طريقة نزول مياه الأمطار؛ من وضع لها قنوات لتنزل من خلالها ؟ فالله يوزعها على الأرض بالشكل الذى يراه مناسباً، فلا تتجمع فى مكان ما، فتغرق المكان؛ مثلما حدث فى الطوفان، وفى نفس الوقت تحرم باقى المناطق من المياه المروية لعطش الإنسان والحيوان والنبات.
ويسأله أيضاً عن الصواعق والطرق التى أعدها؛ لتنزل فيها الصواعق، فالله يوجه الصواعق بكل دقة، وإلا لفنى العالم وهلك.
وتتعجب يا أيوب عندما ينزل الله مياه المطر على أراضى جرداء، فيظن الإنسان أنها بلا فائدة، ولكن الحقيقة أنه يروى بذور صغيرة، فتنبت وتصبح نباتات وأشجار. ويعتنى أيضاً بمخلوقات صغيرة، مثل الدود الذى يعيش فى باطن الأرض ويحتاج للماء.
ثم يسأل الله من هو أب المطر والطل الذى يلده؛ إنه بالطبع الله المدبر لكل خليقته وليس سواه. فالله أب ليس فقط للبشر، بل لكل الخليقة حتى الجامدة منها؛ مثل أبوته للبحر (ع8).
ع29، 30: الجمد : الجليد.
الصقيع : الجليد.
تلكد : اشتد وتماسك، أى تجمد.
الغمر : المياه الكثيرة.
ثم يقدم الله السؤال الحادى عشر لأيوب، فيسأله عن مصدر الجمد والصقيع، ويشبهه بطفل له أم، فيسأل : ما هى البطن التى ولدته، أى من هى أمه، أو من هو أبوه ؟
ويتساءل الله كيف صارت المياه جامدة، أى تحولت المياه السائلة إلى ثلج ؟ وكيف تغطى الغمر بالثلج كطبقة جامدة اختفى تحتها الماء ؟
ع31-33: الثريا : مجموعة نجوم فى برج الثور مرتبطة معاً كعقد وعددها كبير يصل إلى حوالى مئة نجم، يرى منها حوالى سبعة بالعين المجردة، وتظهر فى فصل الربيع.
الجبار : مجموعة من الكواكب فى برج “أوريون” ويصل عددها إلى حوالى ألف، وهناك أسطورة قديمة تقول أنه كان هناك إنسان جبار فى صنع الحديد والصلب، ثم قتلته الإلهة ديانا، فرفع للسماء وربط هناك.
المنازل : مجموعة من الكواكب عددها اثنى عشر وتقع فى الجنوب، وعبدتها شعوب كثيرة وثنية قديماً.
النعش وبناته : سبعة نجوم يطلق عليها مجموعة الدب الأكبر، تحدد اتجاه الشمال لمن يسيرون فى الصحراء. أربعة منها على شكل مربع يطلق عليها النعش. والثلاثة الباقين يطلق عليها بنات نعش.
سنن : قوانين.
ثم يأتى السؤال الثانى عشر، فيسأل الله أيوب عن الفلك، ويقول له إن مجموعة الكواكب المسماة بالثريا المرتبطة معاً، هل جمعها أيوب ونظمها كعقد ؟ إن مجموعة الكواكب المسماة بالجبار – الثابتة فى مكانها – ويظن القدماء أنها مربوطة، فهل يستطيع أيوب أن يفكها ؟
بعد هذا سأل الله أيوب؛ هل تخرج مجموعة الكواكب المسماة بالمنازل، التى تظهر فى الجنوب فى أوقاتها ؟ وأيضاً مجموعة الكواكب المسماة بالنعش وبناته؛ هل ترشدها يا أيوب كيف تتحرك فى السماء ؟
والسؤال التالى عن الفلك هو هل عرفت يا أيوب القوانين النظم التى رتبت الكواكب وحركتها فى السماء ؟ وهل أنت أيضاً يا أيوب أعطيت سلطاناً للكواكب على الأرض، مثل تحكم الشمس فى تعاقب فصول السنة الأربعة على الأرض وتأثير القمر على حركة المد والجزر لمياه البحر ؟
والخلاصة أظهر الله لأيوب عجزه عن ترتيب، أو معرفة أى شئ فى الفلك، الذى نظمه الله بشكل يفوق عقل أيوب.
ع34، 35: السؤال الثالث عشر وجهه الله لأيوب، وهو عن السماء، وقال له هل تأمر السحب فتنزل المطر على الأرض ؟ وهل تأمر البروق لتنزل من السماء فتطيعك وتنفذ أوامرك؟
الإنسان ليس له سلطان على السماء، ولكنه يمكن أن يتضرع إلى الله، فيفيض عليه المطر، أو يهبه المطر، كما حدث مع إيليا ومع كثير من القديسين. ويمكن أن يعطى الله سلطان للبشر على السماء كما منع إيليا المطر (1مل17: 1)، وكما أوقف يشوع بن نون الشمس والقمر (يش10: 12).
ع36-38: الطخاء : السحب العالية.
الشهب : النيازك، وهى أجزاء من الكواكب تنفصل عنها، وتشتعل عندما تقترب من الشمس، وتسقط على الأرض وهى مشتعلة.
فطنة : حكمة.
أزقاق : جمع زق، وهو إناء جلدى يملأ بالماء، أو السوائل.
ينسبك : تطلق أساساً على المعادن التى تتحول بالتسخين إلى سبائك نقية من المعدن، خالية من الشوائب.
المدر : كتل الطين الجافة.
يستكمل الله أسئلته لأيوب عن السماء، فيقول له من يتحكم فى حركة السحب العالية التى تسكب الأمطار على الأرض ؟ ومن يسمح بالشهب التى يمكن أن تحرق أجزاء كبيرة من الأرض ؟ لا يتحكم فى كل هذا إلا الله بحكمته. فالله أنقذ العالم مرات كثيرة من هذه الشهب، فسقطت على أماكن صحراوية، ولم تؤذِ الناس. وكذلك منع الله السحب أن تفيض بغزارة على الأرض فى سيول لا يحتملها الإنسان، كما حدث أيام الطوفان.
يشبه الله السحب بمجموعة من الأوانى المملوءة ماءً، وهى الأزقاق. فيفتح الله هذه الأزقاق بالمقدار المناسب، أى يسمح للغيوم أن تنزل بعض المياه التى تحملها على الأرض فى شكل أمطار. وهذه الأمطار تسقط على تراب الأرض، فتعمل منه أشكالاً من الطين، كما تشكل المعادن بشكل سبائك. وتكون الأمطار من التراب كتلاً، عندما تجف تسمى المدر. بنزول المطر واختلاطه بالتراب وتحويله إلى طين تصبح الأرض صالحة للزراعة، فتنبت فيها النباتات المختلفة التى يحتاجها الإنسان والحيوان.
التأمل فى الطبيعة يكشف عظمة الله وقدرته ومدى حكمته فى تدبيرها وتنظيمها. بل ومدى محبته للإنسان؛ إذ يعمل كل هذا بنظام دقيق لمنفعة الإنسان. وهكذا بالتأمل يتحرك الإنسان فى طريق شكر الله.
(3) الله يرعى الحيوانات (ع39-41):
39- أتصطاد للبوة فريسة أم تشبع نفس الأشبال. 40- حين تجرمز في عريسها و تجلس في عيصها للكمون. 41- من يهيئ للغراب صيده إذ تنعب فراخه إلى الله و تتردد لعدم القوت.
ع39، 40: اللبوة : أنثى الأسد.
تجرمز : تنقبض اللبوة بجسمها استعداداً للإنقضاض على الفريسة.
عريسها : عرينها وهو بيت الأسد.
عيصها : شجر كثيف له ظل واسع يختبئ فيه الأسد، فيصعب رؤيته؛ حتى ينقض على فريسته.
كمون : الاختباء استعداداً للهجوم.
إن الله الذى يهتم بإطعام كل الحيوانات يسأل أيوب السؤال الرابع عشر؛ هل يهتم أيوب بإطعامها ؟ واختار من الحيوانات الأسد؛ وهو من الحيوانات المفترسة التى يحمى الله الإنسان منها، ولكن فى نفس الوقت يهتم بإطعامها. فيقول لأيوب هل ترعى اللبوة التى تخرج لتفترس الحيوانات وتأتى بها ليأكل منها زوجها وأولادها ؟ إن الله هو الذى علمها كيف تستعد داخل بيتها، أو تختبئ تحت أشجار الغابة الكثيفة، فتنقض على فريستها وتأكل هى وبيتها. وهكذا نرى رعاية الحيوانات المتوحشة؛ التى لا يمكن أن يرعاها الإنسان، فالإنسان يرعى الحيوانات الأليفة التى يربيها، لتخدمه، مثل البقر والغنم والطيور التى يأكل منها، مثل الدجاج والبط، ولكن الله لا ينسى جميع خلائقه؛ حتى لو تركها الإنسان.
ع41: تنعب : تصيح.
ثم اختار الله من الطيور إحداها، وهو ليس من الطيور التى يربيها الإنسان، بل على العكس يؤذى الإنسان ويخطف منه الطعام، وهو الغراب. فيسأل الله أيوب السؤال الخامس عشر ويقول من يعطى طعاماً للغراب، ويرتب له ما يصطاده ؟ خاصة وأن صغار الغربان تجلس فى عشها وتطلق أصواتها وتحرك رؤوسها يميناً ويساراً، منتظرة والديها ليحضرا طعاماً لها. فهى تعلن احتياجها والله يقوتها ويهيئ صيداً لوالديها ليأكلا، هما وأبناؤهما، فهل يا أيوب هيأت طعاماً للأسد، أو الغراب، أو الحيوانات المختلفة التى لا تخضع للإنسان ؟ أنه الله الحنون الذى يهيئ لكل الحيوانات والطيور طعامها. إن كان الله يعتنى بكل الحيوانات، حتى المفترسة، فهل ينساك أنت أيها الإنسان رأس الخليقة كلها؛ إنه يحبك أكثر من كل هذه، وقد خلق كل الحيوانات لخدمتك، فاطمئن ولا تقلق إن مرت بك ظروف صعبة، اطلبه وقم بواجبك بأمانة وثق أنه يعولك.