نهاية أيوب السعيدة
مقدمة :
بعد جدل كثير بين أيوب وأصدقائه ثم كلمات النصح من أليهو، وبعد هذا كلام الله
(ص38-41) المملوء حباً وقوة، خضع أيوب وقدم توبة ومصالحة مع الله، وكذلك تصالح أيوب مع أصدقائه، وفى النهاية نال بركات عجيبة من الله.
(1) توبة أيوب (ع1-6):
1- فأجاب أيوب الرب فقال. 2- قد علمت أنك تستطيع كل شيء و لا يعسر عليك أمر.
3- فمن ذا الذي يخفي القضاء بلا معرفة و لكني قد نطقت بما لم افهم بعجائب فوقي لم اعرفها.
4- اسمع الآن و أنا اتكلم أسألك فتعلمني. 5- بسمع الأذن قد سمعت عنك و الآن رأتك عيني.
6- لذلك ارفض و اندم في التراب و الرماد.
ع1، 2: أعلن أيوب لله فى (ص40: 4، 5) أنه لن يتكلم مرة أخرى، ويقصد أنه لن يجادل، أو يعترض على الله، ولكن هنا يتكلم ليعلن توبته وخضوعه لله.
وإن كان أيوب قد أعلن قوة الله وجبروته فى (ص23: 13) ولكنه كان فى ضيق من إحساسه بتسلط الله وعدم عدله. ولكن هنا يعلن برضا وفرح قوة الله العادلة، والمخلصة التى بطمأنينة يسلم حياته لها.
إن كان الأصدقاء الثلاثة نسبوا مصائب أيوب لخطايا خفية لم يعترف بها أيوب، لكن الله العالم بكل شئ لم يطلب من أيوب أن يعترف بهذه الخطايا. ولكن أظهر الله له فى الأصحاحات السابقة (ص38-41) قوته ومحبته ورعايته، وسأل أيوب عن معرفته وقدرته مقارنة بالله، فقاد أيوب للاعتراف هنا بقوة الله وضعفه هو وبالتالى خضوعه برضا للـه.
ع3: يعلن أيوب هنا توبته بوضوح فيما يلى :
- خطأه فى التكلم عن قضاء الله العادل واتهام الله بالظلم.
- جهله بحكمة الله وأحكامه وتجاسره بالحديث عنها رغم جهله.
فأيوب هنا يعترف أمام الله الذى نادى فى (ص38: 2) قائلاً “من هذا الذى يظلم القضاء بكلام بلا معرفة” معلناً أنه هو الذى ظلم القضاء، أى معترفاً بخطيته. والاعتراف بالخطية هو بداية التوبة. وبعدها ينال غفران الله وبركاته.
ع4: كلم أيوب الله وقال له أسمعنى لأنى أريد أن أسألك وأتعلم منك، فلم يعد عندى كلام أريد أن أدافع به عن نفسى، بل على العكس، أنا خاضع لك، ومحتاج أن تعلمنى.
وكلمة أسأل المذكورة هنا فى الأصل العبرى تعنى سؤال شخص متضع يتوسل إلى شخص أعظم منه.
وإذ كان أيوب قبلاً فى (ص13: 22) قال كلاماً مشابهاً، ولكنه كان يعنى سابقاً أن يقف خصماً أمام الله؛ ليدافع عن نفسه. أما هنا فيتكلم كتلميذ خاضع لمعلمه، خاصة وأن أيوب قد أعلن جهله وعجزه فى الآية السابقة.
ع5: يعلن أيوب أنه سمع عن الله من الآباء السابقين، وعرف عظمته وقوته. ولذا كان يدافع عن الله أمام أصدقائه الثلاثة.
ولكن الآن بعد أن تكلم الله معه حديثاً طويلاً (ص38-41)، فقد رأى عظمة الله فى العاصفة، وفى سماع صوت الله بنبرات، تظهر قوة الله ومحبته، بالإضافة للشرح الإلهى، الذى يبين قدرة الله وعنايته بخليقته. كل هذا جعل أيوب يرجع إلى نفسه، ويشعر بخطئه فى تبرير نفسه أمام الله، وبتقديمه توبة صادقة تنقى قلبه، فاستطاع أن يعاين الله ويراه رؤية لم يعرفها قبلاً، أى شعر بمشاعر إيمان بالله، وبنوة له، وخضوع فى نفس الوقت، وهكذا تنقى من البر الذاتى وصار ابناً نقياً، كاملاً لله. وهكذا انتهت التجربة التى حلت بأيوب باكتسابه الاستنارة الروحية، فرأى الله بالحقيقة، أى عاين الملكوت وهو على الأرض.
ع6: فى نهاية كلام أيوب مع الله أعلن رفضه لكل أفكاره السابقة التى اعترض بها على الله أثناء حديثه مع أصدقائه الثلاثة. فهنا يتكلم أيوب عن نفسه، بعد أن تكلم عن علاقته مع الله فى الآيات السابقة، وأعلن خضوعه له.
وإذ رفض أيوب كل خطاياه فى حق الله، أعلن ندمه وحزنه عن كل ما صدر منه. وهذه هى التوبة.
بل إن أيوب فى توبته اتضع إلى التراب والرماد، معلناً أنه لا شئ وأنه مجرد تراب، أو رماد، فنال مراحم الله وغفرانه، التى سنراها فى الآيات التالية.
ولكن إن كان أيوب قد قدم توبة صادقة برفض خطاياه، فإن بولس الرسول فى العهد الجديد يقدم بعداً جديداً فى حياة التوبة، بقوله “فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فىَّ” (غل2: 20).
وكلمة أرفض فى الأصل العبرى تعنى أختفى، أى أن أيوب شعر أنه لا شئ وتخلص من البر الذاتى أمام عظمة الله. وحدث تحول واضح فى إحساس أيوب؛ إذ شعر أن ما يؤلمه ليست أمراضه، أو فقدانه لممتلكاته وعظمته، بل أصبح ما يؤلمه هو خطيته التى يندم عليها، ولذا نال بسرعة بركات الله.
ثق أن التجارب التى يسمح بها الله لك هى لخيرك، رغم أنها تبدو مرة ومؤلمة، ولكن تأثيرها الروحى عميق، إذ تعطيك استنارة روحية وتمييزاً فتسلك مطمئناً، ونامياً فى محبة الله.
(2) بركات الله لأيوب (ع7-17):
7- و كان بعدما تكلم الرب مع أيوب بهذا الكلام إن الرب قال لأليفاز التيماني قد احتمى غضبي عليك و على كلا صاحبيك لأنكم لم تقولوا في الصواب كعبدي أيوب. 8- و الآن فخذوا لأنفسكم سبعة ثيران و سبعة كباش و أذهبوا إلى عبدي أيوب و اصعدوا محرقة لأجل أنفسكم وعبدي أيوب يصلي من أجلكم لأني أرفع وجهه لئلا اصنع معكم حسب حماقتكم لأنكم لم تقولوا في الصواب كعبدي أيوب. 9- فذهب أليفاز التيماني و بلدد الشوحي و صوفر النعماتي و فعلوا كما قال الرب لهم و رفع الرب وجه أيوب. 10- و رد الرب سبي أيوب لما صلى لأجل أصحابه و زاد الرب على كل ما كان لأيوب ضعفا. 11- فجاء إليه كل اخوته و كل اخواته و كل معارفه من قبل و اكلوا معه خبزا في بيته و رثوا له و عزوه عن كل الشر الذي جلبه الرب عليه و أعطاه كل منهم قسيطة واحدة و كل واحد قرطا من ذهب. 12- و بارك الرب آخرة أيوب أكثر من أولاه و كان له أربعة عشر ألفا من الغنم و ستة آلاف من الإبل و ألف فدان من البقر و ألف اتان. 13- و كان له سبعة بنين و ثلاث بنات. 14- و سمى اسم الأولى يميمة و اسم الثانية قصيعة و اسم الثالثة قرن هفوك.
15- و لم توجد نساء جميلات كبنات أيوب في كل الارض و أعطاهن ابوهن ميراثا بين اخوتهن.
16- و عاش أيوب بعد هذا مئة و أربعين سنة و رأى بنيه و بني بنيه إلى أربعة أجيال.
17- ثم مات أيوب شيخا و شبعان الايام.
ع7: بعد أن تنقى أيوب وجه الله كلامه إلى أليفاز ووبخه، لأنه أكبر الأصدقاء سناً وأكثرهم حكمة، وقال له إن تصرفاتك أنت وصديقيك قد أثار غضبى الشديد عليكم؛ لأنكم أخطأتم فى حق أيوب، ولم تعلنوا الحق، بل اتهمتوه زوراً وأعتبرتوه شريراً. وبهذا يعلن الله رضاه على أيوب وغضبه على أصدقائه الثلاثة. رغم أن أيوب أخطأ فى بعض الكلمات بلسانه، ولكنه كان بالحقيقة باراً، أما أصدقائه الثلاثة، فإن كانوا لم يخطئوا بكلام على الله، ولكنهم أخطأوا فى حق أيوب عبد الله، والإساءة إلى عبد الله إساءة إلى الله نفسه. وهذا يبين محبة الله لأيوب ومكانته عنده. فايوب كان صالحاً ونقياً فى أعماله وكلامه ومشاعره، أما الأصدقاء فكانت قلوبهم شريرة من نحو أيوب وكلماتهم قاسية. كان أيوب صادقاً فى كلامه، أما هم فكذبوا باتهاماتهم الخاطئة.
ع8، 9: بعد أن وبخ الله الأصدقاء الثلاثة، تظهر رحمة الله فى تقديم الحل لهم، وهو طلبه منهم أن يذهبوا إلى أيوب؛ ليشفع فيهم أمام الله. وأيضاً يقدموا سبعة ثيران، وسبعة كباش كمحرقات أمام الله؛ ليصفح عنهم. ففعلوا كما أمرهم الله ونالوا غفرانه.
يعلن الله للأصدقاء الثلاثة أن كلامهم كان حماقة؛ لأنهم كانوا معجبين بآرائهم فى كبرياء شديد، فأعلن الله لهم أن كلامهم كان ليس فقط غير حكيم، بل حماقة تستحق العقاب باتهامهم أيوب زوراً. والكبرياء تؤدى إلى الحماقة، أما الاتضاع فيرتبط بالحكمة.
هنا تظهر أهمية الشفاعة أمام الله؛ إذ يطلبها من عبده أيوب لأجل أصدقائه الثلاثة، بل يوجه الأصدقاء لطلب شفاعة أيوب، إعلاناً منهم لحاجتهم إلى هذه الشفاعة؛ ليعلمهم الاتضاع؛ فينالوا غفران الله بعد ذلك. وقد أظهر الله أهمية الشفاعة فى حديثه مع إبراهيم (تك20: 7).
وعندما صلى أيوب من أجل أصدقائه متشفعاً أمام الله، لم ينال أصدقاؤه فقط الغفران من الله، بل اكتسب أيوب نعمة جديدة بانفتاح قلبه بالحب لأجل من أساءوا إليه، فطلب غفران الله لهم وبهذا نما أيوب فى محبته وتزكى أمام الله.
إن طلب الله شفاعة أيوب هو تكريم له، فإن كان أصدقاؤه قد فشلوا فى تعزيته، بل أساءوا إليه فى أحاديثهم، باتهاماتهم الزور، ولكن يتقدم أيوب بالحب والصلوات المرفوعة؛ ليصلح حال أصدقائه، وينالوا الغفران الإلهى، فأيوب بالمحبة يجازى أصدقاءه، بدلاً من إساءاتهم، رغم أنه كان مازال مريضاً، وفقيراً ولكن بقوة الله وتكريمه له تظهر عظمته أمام أصدقائه المتذللين بسبب خطاياهم التى وبخهم الله عليها. وهكذا تبدل الحال، فبعد أن كان الأصدقاء الثلاثة يتكلمون من مكان العظمة لأيوب الملقى فى هوان على الأرض، وفى نظرهم خاطئ بشدة واستحق كل هذه التجارب، يتبدل الحال ويصبح أيوب بقوة الله هو الشفيع والمنقذ لأصدقائه من هوان الخطية وذلها. إنها نعمة الله العجيبة التى تفوق العقل.
يظهر هنا أيضاً الحب الإلهى لأيوب، فالله يعلم خطايا أيوب وبخه عليها وحده بعيداً عن الآخرين، فأعلن أيوب توبته باتضاع أمام الله. ولكن أمام الآخرين أظهر الله عظمة أيوب كشفيع، ووبخ أصدقاءه وأمرهم أن يطلبوا شفاعة أيوب.
وكذلك نرى عمل التوبة، التى حولت أيوب المحتقر من أصدقائه إلى شفيع عظيم ومنقذ لهم من خطاياهم أمام الغضب الإلهى.
إن سبعة ثيران وسبعة كباش تمثل ذبيحة كبيرة، تظهر ضخامة وخطورة خطية الأصدقاء الثلاثة فى حق أيوب، وحق الله. وقد قدموها محرقة، أى لا يأكل منها أحد، بل تحرق كلها أمام الله؛ لنوال غفرانه ورضاه.
بتقديم الذبائح وصلاة أيوب عن أصدقائه رفع الله وجه أيوب وليس وجه الأصدقاء. وبهذا عاد أيوب إلى وضعه الكهنوتى حين كان يقدم ذبائح عن أسرته (ص1: 5) لأن رب الأسرة فى هذا العصر كان هو كاهنها.
تظهر محبة الله واهتمامه بأيوب أنه ذكر كلمة عبدى أيوب أربعة مرات فى (ع7، 8). فأيوب هو محور محبة الله؛ لأن له مكانة خاصة عنده، بسبب بنوته وأمانته لله.
نرى فى هذا المشهد تصالح الأصدقاء الثلاثة مع أيوب، بعد حوار قاسى وعنيف، وكان ذلك حول الذبيحة. فبتقديم الذبائح وارتفاع صلوات أيوب عاد الكل إلى وحدانية الحب. وهذا يبين ليس فقط صلاح أيوب، بل أيضاً صلاح الأصدقاء الذين أطاعوا الله، فعادوا لمحبتهم الأولى.
ع10: إن رد الرب سبى أيوب يعنى أن كل ما كان فيه أيوب من ضيق كان كأنه مسبياً بعيداً عن بلاده، يعانى معاناة شديدة، ثم أعاده الله إلى حالته الأولى من الصحة والغنى والكرامة.
ورد سبى أيوب يعنى أيضاً أن أيوب كان معارضاً لله، ومتباعداً عنه بسبب الضيقات التى مرت به، ولكن الله أعاده إلى الخضوع وتسليم حياته لله، والتصالح والتمتع بنعمة البنوة لله. ولعل هذا السبى الروحى يعنى أن أيوب كان متأثراً بأفكار من الشيطان نابعة من البر الذاتى، جعلته بعيداً عن الله، ولكنه عاد من سبيه وتحرر من الشيطان وتأثيره، وصار متضعاً أمام الله.
إن تعبير السبى ورد السبى تعبير شرقى معروف قديماً، يبين عودة الإنسان لراحته السابقة وخروجه من الضيقات.
إن رد سبى أيوب حدث بعد طاعة أيوب لله بصلاته من أجل أصدقائه؛ لأن محبة الإنسان للمسيئين هى قمة المحبة ومن أجلها يعمل الله بحرية مع الإنسان، ويفيض عليه بالبركات؛ لذا كان هذا هو الطلب الإلهى الوحيد من أيوب. هذا الحب العظيم كان رمزاً لمحبة المسيح على الصليب؛ لأجل فداء أولاده العصاة المسيئين إليه، حيث صلى لأجل صالبيه.
وهب الله أيوب، ليس أملاكاً مثل أملاكه الأولى فقط، بل ضعف هذه الأملاك، وغالباً وهبها له بالتدريج بوسائل مختلفة، منها مثلاً تقديم أصدقائه هدايا له. والله أيضاً قادر أن يبارك فى ممتلكات أولاده، كما بارك لاسحق، فأنتجت الأرض مئة ضعف (تك26: 12). وكما بارك فى محصول السنة السادسة لكل شعبه لتكفيهم فى السنة السابعة، حيث لا يزرعون الأرض (لا25: 21).
وهب الله لأيوب ضعف ممتلكاته، وكان الضعف يعطى للبكر (تث21: 17)، أى أن الله اعتبر أيوب بكراً له بين أولاده القديسين. وهو بهذا رمز للمسيح البكر بين إخوة كثيرين
(رو8: 29).
أعطى الله لأيوب ضعف ممتلكاته الأرضية، وكان هذا الأمر ضرورياً فى العهد القديم أن تكون البركات مادية، ولكن هذا لا يمنع أنه أعطاه بركات روحية قبل أى شئ، وهى التحرر من خطيته، والارتفاع إلى مستوى محبة المسيئين. أما فى العهد الجديد فالتركيز زاد على البركات الروحية أكثر من البركات المادية.
ع11: قسيطة : وزنة، أو معيار من الفضة، وهى تعرف قسط، أو قسم، أى مقدار من الفضة غير معلوم وزنه. ويقول البعض أنه كان يرسم على القسيطة رسم نعجة. وفى الترجمة الكاثوليكية ترجمت كلمة قسيطة بنعجة، وذلك لأن القسيطة كانت تساوى ثمن نعجة.
قرط : حلق يعلق فى الأذن للزينة.
عندا رد الرب سبى أيوب أعاد إليه صحته، وشفاه من جميع أمراضه، أما أحباؤه الذين أهملوه وابتعدوا عنه فى ضيقته، عندما سمعوا بشفائه وبركات الله التى وهبها له أتوا إليه، ليهنئوه بعودة صحته وكرامته وغناه. وهذه كانت عادة قديمة ومازالت حتى اليوم ونراها فى شفاء حزقيا الملك عندما أتى إليه الكثيرون؛ ليهنئوه بسلامة صحته (2أى32: 23).
والمقصود بإخوته أقاربه المقربين، وليس فقط أشقاؤه، وكذلك أتى إليه أصحابه وكل من كان يعرفهم قبل مرضه.
إستقبلهم أيوب بالمحبة والكرم، ولم نسمع أن أيوب عاتبهم بسبب تفرقهم عنه فى وقت ضيقته، وهكذا ظهرت محبته لكل من أساء إليه. وبمجئ أحباؤه إليه أنهى الله جزءً من مشكلة أيوب وهى إحساسه بالعزلة والوحدة أثناء تجربته.
أضاف أيوب أحباءه فى ولائم متتالية، وبهذا عادت البهجة والعظمة لبيته كما كانت قديماً، بل وأكثر مما كانت.
قدم كل واحد ممن زاروا أيوب هدية له قسيطة من الفضة وقرطاً من الذهب وبهذا أعاد الله لأيوب بعضاً من غناه.
ع12: شملت بركة الله لأيوب ضعف ما كان عنده من المواشى، ويذكر هنا الأعداد، التى عندما نقارنها بمثيلاتها فى (ص1: 3) نجد أنها ضعفها بالضبط. وهذا يبين أن بركة الرب تغنى ويعطى الله بسخاء لأولاده المحبوبين.
ع13: وهب الله أيوب ليس فقط صحة وممتلكات ومحبة من كل المحيطين به، ولكن أعطاه أيضاً بنين وبنات بدلاً من أبنائه الذين ماتوا. وهكذا امتلأ بيته بالبنين والبنات وعمت البهجة.
لم يعطه الله ضعف البنين والبنات الذين كانوا له؛ لأن العشرة الذين ماتوا مازالت أرواحهم حية أمام الله. فأعطاه عشرة جدد وبهذا صار له ضعف البنين والبنات.
إن أبناء ايوب؛ السبعة بنين والثلاث بنات الذين ماتوا يمثلون الكنيسة المنتصرة، التى أكملت جهادها على الأرض وتفرح فى السماء، أما السبعة بنين والثلاث بنات الجدد، فيرمزون للكنيسة المجاهدة على الأرض. وبهذا فأيوب يرمز للمسيح رأس الكنيسة بشقيها المنتصر والمجاهد.
يرى البعض ان زوجة أيوب التى لم تتعاطف معه، بل كانت تلومه وآخر ذكر لها كان فى (ص19: 17) حيث أظهر أيوب أنه صار كغريب بالنسبة لإمرأته، هذه الزوجة يُظن أنها قد ماتت أثناء فترة تجربته الطويلة، وأنه تزوج زوجة جديدة أنجب منها السبعة بنين والثلاث بنات الجدد.
ع14: يذكر فى هذه الآية أسماء بنات أيوب التى دعاهنّ بها، وهذه الأسماء لها معانى روحية هى : 1- يميمة : ومعناها يمامة وترمز للبساطة والحب والسلام.
ويمامة قد تكون مأخوذة من كلمة يوم بالعبرية، وتعنى نهاراً، أو فجراً، أى أن أيوب بدأ يوم جديد وحياة جديدة ببركة الله عليه، يتمتع فيها بعمل الله فى حياته، بعد يوم الضيقة الذى مر به، أى فترة الضيقة الطويلة الصعبة.
2- قصيعة : وهو اسم أحد العطور الذى يدعى “كاسيا”، بل هو أثمن العطور. فبعد أن كانت رائحة أيوب كريهة بسبب أمراضه، شفاه الله وصارت رائحته طيبة زكية، فدعى ابنته بهذا الإسم، تعبيراً عن فرحه وشكره لله.
3- قرن هفوك :
القرن هو قرن الحيوان الذى كان يستخدم كوعاء يوضع فيه الدهن. وكلمة “هفوك” معناها دهن، وكان يستخدم لطلاء رموش العينين عند النساء، فتظهر العين أكثر إتساعاً. فهذا الإسم يعبر عن فرح أيوب، وإتساع عينيه، برؤية الله، وتمتعه به.
وهكذا نرى أن أسماء بنات أيوب كلها تعبر عن فرحه، وترمز إلى أنه قد بدأ حياة جديدة (يميمة)، وهذه الحياة ذات رائحة ذكية (قصيعة)، ونال فى هذه الحياة اتساع العينين، أى الاستنارة الروحية.
ع15: أعطى الله جمالاً عظيماً لبنات أيوب أكثر من كل البنات اللاتى حولهن فى الأرض، وكما ذكرنا كانت عطايا الله فى العهد القديم تبدأ، وتظهر فى العطايا المادية قبل الروحية؛ لأن المستوى الروحى فى العلاقة مع الله كانت لا تستوعب أن العطايا الروحية أهم. أما فى العهد الجديد، فنرى العطايا الروحية معلنة، وواضحة أكثر من المادية، فمثلاً نسمع عن طهارة وقداسة أمنا العذراء، وليس جمالها الجسدى. بينما نقرأ فى العهد القديم عن جمال سارة زوجة إبراهيم، ورفقة زوجة إسحق، وراحيل زوجة يعقوب.
وأعطى أيوب بناته ميراثاً بين أخوتهم، وهذا يبين عدل أيوب واهتمامه بكل نسله، ويؤكد استعادة أيوب غناه.
ع16، 17: عاش أيوب بعد انتهاء تجربته مئة وأربعين عاماً، ويستنتج بعض الآباء أن عمر أيوب بعد انتهاء التجربة كان سبعين عاماً، ثم أعطاه الله ضعف كل شئ، وبالتالى يكون قد أعطاه ضعف السبعين عاماً أى مئة وأربعين عاماً. وبهذا يكون أيوب قد عاش حتى عمر مئتين وعشرين عاماً.
وأعطى الله لأيوب أن يرى أحفاده حتى الجيل الرابع، أى أحفاد أحفاده، وهكذا تمتع برؤية نسل كثير حوله من أبنائه العشرة. وهذه البركة يعلنها لنا الكتاب المقدس أنها تلازم الأتقياء السالكين فى طرق الرب، فيقول “وترى بنى بنيك” (مز128: 6). وظهرت فى بركة الله لياهو ملك إسرائيل أن أعطاه أن يملك نسله حتى الجيل الرابع على عرش إسرائيل؛ لأنه قتل إيزابل الشريرة وخلص الشعب من شرها (2مل10: 30). أما طوبيا الأب فتمنى لطوبيا ابنه أن يرى نسله حتى الجيل الثالث والرابع (طو9: 11) ولكن الله أعطاه أكثر من هذا فرأى الجيل الخامس (طو14: 15).
وهكذا حين مات أيوب أخيراً بعد عمر طويل، هو حوالى مئتين وعشرين عاماً، أى شيخاً كبيراً. وهذا العمر يناسب الأعمار وقتذاك، فإبراهيم مات عن عمر مئة وخمس وسبعين عاماً (تك25: 7) ومات اسحق عمره مئة وثمانين عاماً (تك35: 28).
مات أيوب بعد أن شبع من أيام كثيرة، ومر بمراحل ثلاثة واضحة :
- المرحلة الأولى : والتى عاش فيها البر والتقوى والغنى والعظمة. ولكن كان فى داخله خطية البر الذاتى، أى إحساسه بنفسه والكبرياء.
- المرحلة الثانية : هى فترة التجربة التى فقد فيها أيوب كل أملاكه، وفقد أيضاً أبناءه وصحته، وقام عليه أصدقاؤه وزوجته، وتفرق عنه الكل.
- المرحلة الثالثة : وفيها استعاد أيوب صحته وغناه والتف حوله الناس، وأصبح له عشرة بنين وبنات، وصار له أحفاد حتى الجيل الرابع، وتمتع بحياة البر مع نقاوة القلب فى اتضاع، أى عاش فى قداسة عظيمة، وهذه هى أعظم المراحل وأطولها.
والعظيم فى حياة أيوب أنه تمتع برعاية الله طوال حياته، فى جميع المراحل رغم اختلافها، ولكن ظل إيمانه ثابتاً بالله، وظلت محبة الله قوية من نحوه.
الله الذى يحبك يريد أن يعطيك بركات كثيرة تفوق تخيلك، فلا تتضايق إذا طالت التجربة عليك، فستنتهى وتنال بعدها بركات وفيرة، بل ستفهم حينئذ كيف عمل الله فيك ورعاك أثناء التجربة، فتشكره ويفرح قلبك.