أليهو يرد على إدعاءات أيوب بأن الله ظالم
(1) دعوة للإنصات (ع1-4):
1- فأجاب أليهو و قال. 2- اسمعوا أقوالي ايها الحكماء و اصغوا لي أيها العارفون. 3- لأن الأذن تمتحن الأقوال كما أن الحنك يذوق طعاما. 4- لنمتحن لأنفسنا الحق و نعرف بين أنفسنا ما هو طيب.
ع1، 2: استكمل أليهو كلامه، إجابة على كل ما سمعه من أيوب وأصدقائه الثلاثة؛ لذا يقول “فأجاب أليهو”. وكلامه موجه إلى الحكماء والعارفون ويقصد بهم أيوب وأصدقائه الثلاثة وذلك لما يلى :
- يكسبهم كمستمعين، فينصتوا باهتمام، فهو يمدحهم ليسمعوه، وهذا أسلوب جيد لكسب السامعين، أن يمتحدهم على فضيلة فيهم.
- أنهم فعلاً حكماء، كما يظهر فى كثير من الأقوال التى نطقوا بها.
ع3، 4: دعى أليهو أيوب وأصدقاءه لتمييز الكلام الذى يسمعونه بآذانهم، كما يميز الفم مذاق الأطعمة. والجميل أن أليهو يضع نفسه مع سامعيه، فيقول هيا بنا نمتحن أنفسنا؛ لنعرف الحق. فأليهو يختلف عن الأصدقاء الثلاثة فيما يلى :
- يرد على كلمات محددة قالها أيوب وليس اتهامات زور، كما فعل الأصدقاء الثلاثة.
- يقدم حلولاً إيجابية لأيوب، فهو لا يريد اتهامه ولكن جذبه للحق.
اهتم أن تكسب سامعيك بأن تمتدحهم وتشجعهم وتشوق قلوبهم لسماع ما تقوله، وذلك بأن تصلى وتحاول أن تشعر بمشاعر سامعيك، فيرشدك الله للأقوال الحسنة.
(2) شكوى أيوب أنه مظلوم (ع5-9):
5- لأن أيوب قال تبررت و الله نزع حقي. 6- عند محاكمتي اكذب جرحي عديم الشفاء من دون ذنب. 7- فأي إنسان كأيوب يشرب الهزء كالماء. 8- و يسير متحدا مع فاعلي الإثم و ذاهبا مع أهل الشر. 9- لأنه قال لا ينتفع الإنسان بكونه مرضيا عند الله.
ع5: قال أليهو إن أيوب أظهر أنه بار (ص13: 18؛ 27: 6)، وكان هذا رداً على الاتهامات الزور التى وجهها أصدقاؤه الثلاثة إليه. وأن أيوب تعجب؛ لأن الله نزع حقه، أى لم يعطه حقه فى أنه بار أمام أصدقائه الثلاثة؛ إذ ظلوا يتهمونه. وأن الله سمح له بتجارب ولم يظهر له سببها، فكان بحسب الظاهر أمام أصدقائه أنه شرير والله يؤدبه، مع أنه فى الحقيقة بار ولم يبرره الله ليسكت الاتهامات الزور الموجهة إليه.
ع6: وبين أيوب أنه كلما برر نفسه أمام أصدقائه يكذبونه، وبهذا يظل مجروحاً وجرحه لا يشفى.
ع7: وبهذا احتمل أيوب هزءاً كثيراً من أصدقائه، يشبهه أليهو بإنسان يشرب الماء بكثرة، مثل الجمل الذى يشرب كثيراً إذا وجد ماءً فى الصحراء.
ع8: وهكذا بكثرة هزء واتهامات أصدقاء أيوب له صار كأنه واحد من فاعلى الإثم ومن جماعة أهل الشر، وهذا اتهام زور وظالم.
ع9: من كثرة ضغط أصدقاء أيوب عليه بدأ يحارب باليأس، فقال ما فائدة رضا الله عن الإنسان (ص9: 22)، إذ فى النهاية يقع فى ضيقات شديدة، ويتهم من كل من حوله اتهامات زور، فشعر أنه مظلوم من أصدقائه، بل من الله الذى لا يدافع عنه.
عندما تواجه ظلماً من الآخرين لا تنزعج، فإن مسيحك قد ظلم لأجلك، وهو يشعر بك، وسيظهر برك فى الوقت المناسب، ويعينك ويسندك وأنت مظلوم. أطلبه وألح عليه حتى تشعر بوجوده معك.
(3) قوة الله وسلطانه (ع10-30):
10- لأجل ذلك اسمعوا لي يا ذوي الألباب حاشا لله من الشر و للقدير من الظلم. 11- لأنه يجازي الإنسان على فعله و ينيل الرجل كطريقه. 12- فحقا أن الله لا يفعل سوءا و القدير لا يعوج القضاء. 13- من وكله بالأرض و من صنع المسكونة كلها. 14- إن جعل عليه قلبه إن جمع إلى نفسه روحه و نسمته. 15- يسلم الروح كل بشر جميعا و يعود الإنسان إلى التراب.16- فإن كان لك فهم فاسمع هذا و اصغ إلى صوت كلماتي. 17- ألعل من يبغض الحق يتسلط أم البار الكبير تستذنب. 18- أيقال للملك يا لئيم و للندباء يا أشرار. 19- الذي لا يحابي بوجوه الرؤساء و لا يعتبر موسعا دون فقير لأنهم جميعهم عمل يديه. 20- بغتة يموتون و في نصف الليل يرتج الشعب ويزولون و ينزع الأعزاء لا بيد. 21- لأن عينيه على طرق الإنسان و هو يرى كل خطواته.
22- لا ظلام و لا ظل موت حيث تختفي عمال الإثم. 23- لأنه لا يلاحظ الإنسان زمانا للدخول في المحاكمة مع الله. 24- يحطم الأعزاء من دون فحص و يقيم آخرين مكانهم. 25- لكنه يعرف اعمالهم و يقلبهم ليلا فينسحقون. 26- لكونهم أشرارا يصفقهم في مرأى الناظرين. 27- لأنهم انصرفوا من ورائه و كل طرقه لم يتاملوها. 28- حتى بلغوا إليه صراخ المسكين فسمع زعقة البائسين. 29- إذا هو سكن فمن يشغب و إذا حجب وجهه فمن يراه سواء كان على أمة أو على إنسان. 30- حتى لا يملك الفاجر و لا يكون شركا للشعب.
ع10-12: الألباب : العقول.
ينيل : يعطى، أو يهب.
يعلن أليهو لأيوب وأصدقائه وكل سامعيه حقيقة واضحة، وهى أن الله طاهر، بعيداً عن كل شر، وعادل لا يظلم أبداً، فهو يعطى كل إنسان جزاءه الذى يستحقه؛ لأن الله يقضى دائماً بالعدل.
فأليهو يريد أن يقول لأيوب إن الآلام التى حلت بك هى من الله العادل، الذى لا يريد أن يسئ إليك، بل كل هذا لمنفعتك. وأنت تخطئ مثل باقى البشر، والله طويل الأناة لا يترك الأشرار دون عقاب، ولكن قد يأتى عقابهم بعد فترة، كما يمكن أن تأتيك الخيرات بعد فترة، فلا تتعجل الأمور وانتظر نهاية الحياة لتعرف عدل الله المنزه عن كل شر، واثقاً أن الضيقات التى تمر بك هى رسائل من الله لخلاص نفسك، فاقبلها من يد الله المحب العادل.
ع13: يؤكد أليهو عدل الله فى أنه خالق وصاحب كل المسكونة، وهو ليس خاضعاً لأحد، أو وكيلاً من قبل أحد على العالم، وبالتالى ليس هناك داعٍ أن يظلم أحداً فى مملكته، بل يريد أن تسير مملكته سيراً حسناً مستقيماً. وهو كامل فى ذاته، ليس فيه شر يدفعه للإساءة إلى أى إنسان.
ع14، 15: أظهر أليهو لأيوب أن الله غير محتاج أن يخاصمه، أو يخاصم أى إنسان ويقف ضده؛ لأن الله كامل فى قدرته، وإن وضع فى قلبه أن ينهى حياة إنسان ويسحب نسمة الحياة التى فيه، فهذا من السهل جداً عليه. وبالتالى فهو فلا يمكن أن يقف ضداً لإنسان، بل هو يحاول جذب الكل إليه، فهو يريد أن الجميع يخلصون، ويجذبهم إليه، إما بالخيرات، أو الضيقات؛ لعلهم يتوبون. والله إن حاكم إنساناً فبالطبع سيدينه؛ لأنه ليس إنساناً كاملاً أمام الله. وبالتالى ينبه أليهو أيوب ألا يطلب أن يحاكم أمام الله؛ لئلا يدان، رغم أن أيوب بار بالقياس بمن حوله من البشر.
ع16-18: الندباء : الأمراء ومندوبى الملك ورسله.
يستثير أليهو أيوب ليسمعه باهتمام وتركيز وفهم، يقول له هل يستطيع من يبغض الحق، أى الظالم، أن يتسلط على العالم ؟ بالطبع لا؛ لأن إذا تسلط ملك بالظلم على مملكته ستنهار مع الوقت، فالله المتسلط على العالم هو عادل.
ويوجه أليهو اللوم لأيوب لأنه يتهم الله بأنه ظالم، ويستنكر ذلك ويقول : أتستذنب البار الكبير ؟ أى الله. فالله بالطبع غير مذنب أو مخطئ فى شئ.
ثم يكرر أليهو نفس الفكرة، فيقول لأيوب هل يمكن توجيه الاتهام للملك، أى رئيس المكان ويقال له أنك لئيم وخبيث وشرير، أو يقال للندباء، أى مندوبيه بأنهم أشرار ؟! بالطبع لا. وبالتالى فمن الخطأ الفظيع أن تتهم الله بالظلم.
ع19، 20: موسعاً : غنياً.
يتحدث أليهو عن صفة عظيمة فى الله وهى عدم المحاباة، فلأنه كامل فى قوته لا يحتاج أن يحابى رئيس، أو عظيم، ولا غنى على حساب فقير، أو ضعيف؛ لأن جميعهم يموتون فجأة، وتحدث كوارث أحياناً فى الليل، فينزعج الشعب، كما حدث فى مصر عندما ضرب الله جميع أبكارها (خر12: 29) فيموت العظماء دون تدخل إنسان، لأن الله أمر بهذا. وبالتالى يا أيوب فإن الله عادل، ولن يحابيك لغناك السابق، أو يتأخر عند مساندتك لأنك مريض، أو فقير الآن.
ع21-23: يؤكد هنا أليهو أن الله عادل؛ لأنه فاحص القلوب والكلى ويراقب ويفهم خطوات كل إنسان. وبالتالى كل شئ واضح أمامه، فليس هناك ظلام، أو ظل موت يخفى عنه شئ. وكل من يعمل الإثم ويختبئ مكشوف أمامه، بالإضافة إلى أن الله لا يحتاج زماناً إضافياً؛ ليفحص قضية أى إنسان، بل هو عارف كل شئ وحكمه نهائى لا يحتاج إلى استئناف، أو إعادة نظر، فهو عنده كل الوسائل؛ لتجعله عادلاً تماماً.
ع24-28: يبين هنا أليهو سلطان الله، القادر أن يحطم الأعزاء، أى العظماء والرؤساء، دون حاجة إلى محاكمة وفحص، وهذا ليس ضد عدله؛ لأنه عارف خفايا القلوب، فيحكم عليهم بالهلاك؛ لأجل شرورهم. وفى نفس الوقت يقيم آخرين أصلح منهم مكانهم. وهلاك هؤلاء الأعزاء الأشرار يتم فجأة ليلاً، فينسحقون ويموتون. والليل فى سواده يرمز إلى خطاياهم السوداء، مثلما أهلك الله بلشاصر آخر ملوك بابل ليلاً، بهجوم جيوش مادى وفارس على بابل (دا5: 30)، والله يؤدبهم علناً أمام الناس، فيصفقهم أى يلطمهم لطمات قوية أمام الناس، وليس المقصود أن يرسل أحداً يلطمهم على وجوههم، بل أكثر من هذا، يسمح لهم بمصائب قوية، تصيبهم أمام من حولهم.
السبب فى معاقبة الله لهؤلاء الأعزاء الأشرار أنهم انصرفوا عن الله، وتركوا طرقه، ولم يفحصوها أو يتأملوا فيها لانغماسهم فى الشر، فأغضبوا الله، وكانت أعمالهم شريرة وكذلك كانت أفكارهم.
بشرور هؤلاء العظماء الأشرار ظلموا المساكين، الذين صلوا وصرخوا إلى الله، فسمعهم وأنقذهم وأهلك هؤلاء الأشرار الطغاة.
ع29، 30: يشغب : يثير شغباً ومشاكل ويسبب إساءات
شركاً : فخاً
فى النهاية يقول أليهو لأيوب أنه إن اتكلت على الله فهو قادر أن يسكن ويهدئ الألم، وحينئذ لا يستطيع أحد أن يسئ إليك. ولكن من ناحية أخرى إن لم تخضع لله وتتكل عليه يحجب وجهه عنك، أى يتخلى عنك، فلا يستطيع أحد أن يسندك ويعزيك. وتخلى الله عن الإنسان هو أصعب شئ. ومساندة الله، أو تخليه يحدث مع الفرد، أو الجماعة، فمن يتكل على الله يحميه ويعزيه، ومن يبتعد عنه يحجب وجهه عنه.
بهذا يحكم الله العالم بعدله، فيمنع الفاجر من أن يتسلط ويصير فخاً وظلماً لغيره، أى ان الله يحمى أولاده ويحفظهم فى العالم من كل شئ ما داموا قد اتكلوا عليه.
اطمئن لأن إلهك عادل، فمهما انتشر الظلم فى العالم، فهو معك، ويحميك، ويحول كل شئ لخيرك، ويضع حدوداً للظلم حتى لا يكون فوق طاقتك، ويشعرك دائماً بوجوده، فتفرح حتى وسط الضيقات.
(4) خطأ أيوب وكيفية إصلاحه (ع31-37):
31- و لكن هل لله قال احتملت لا أعود افسد. 32- ما لم أبصره فأرنيه أنت إن كنت قد فعلت إثما فلا أعود أفعله. 33- هل كرايك يجازيه قائلا لأنك رفضت فأنت تختار لا أنا و بما تعرفه تكلم. 34- ذوو الألباب يقولون لي بل الرجل الحكيم الذي يسمعني يقول. 35- إن أيوب يتكلم بلا معرفة و كلامه ليس بتعقل. 36- فليت أيوب كان يمتحن إلى الغاية من أجل أجوبته كأهل الإثم. 37- لكنه أضاف إلى خطيته معصية يصفق بيننا و يكثر كلامه على الله.
ع31، 32: فأرنيه : اجعلنى أراه، أى أظهره لى.
ثم خاطب أليهو أصدقاء أيوب وكل الجالسين وقال إن أيوب لم يقل لله إنى احتملت التجارب التى سمحت بها لى، ولن أخطئ مرة أخرى؛ حتى لا أتعرض لتجارب جديدة. هذا ما كان ينبغى أن يفعله أيوب، أى أن أليهو يدعو أيوب إلى هذا القول، فيصلى إلى الله ويقول له فى توبة، أنى خاضع لك فى كل تجاربك، وأقدم توبة عن كل ما عملته من أخطاء سببت لى هذه التجارب.
ثم يضيف أليهو أنه ينبغى على أيوب أن يطلب من الله أن يكشف له خطاياه، التى لا يعرفها أيوب، ويتعهد لله ألا يعود لفعل هذه الخطايا مرة أخرى.
هكذا نرى أن كلام أليهو صار توبيخاً شديداً لأيوب فى هذه الآيات، ولكن لصدق وإخلاص أليهو قبل أيوب كلامه، واعتبره دعوة له ليحاسب نفسه ويقدم توبة أعمق فى خضوع الله.
وشعر أيوب أن أليهو مختلف عن الأصدقاء الثلاثة، الذين اتهموه بالرياء، لأن أليهو نصحه بخطوات عملية فى التوبة دون أية اتهامات زور. فأصدقاء أيوب اتهموه أنه يخفى خطاياه ويتظاهر بالقداسة، أما أليهو فقال له أنك لا تعرف كل خطاياك فأطلب من الله أن يكشفها لك.
ع33: يستنكر أليهو على أيوب تذمره على الله، ويسأله هل الله عندما يسمح لك بتجارب يلزمه أن يستأذنك أو يسألك فى نوع التجربة التى تأتى عليك؟ لأنك ترفض التجربة، وهو يعرف نوع التجربة التى تناسبك، أما أنت فلا تعرف. والخلاصة إخضع لله وأقبل التجارب التى سمح لك بها، فهى لمنفعتك. واترك الله يختار ما يريد من تجارب لك، فهو عالم بكل شئ.
ع34-37: يخاطب أليهو العقلاء والفاهمين من سامعيه ويقول لهم : إن أيوب بصمته أمام كل ما قلته، يعلن عدم تجاوبه حتى الآن مع كلامى، وهذا تفكير خاطئ خالى من الحكمة والتعقل.
ويتمنى أليهو أن يمتحن أيوب من خلال استمرار التجارب التى يعانى منها؛ حتى يقدم توبة، وبهذا تحقق التجارب غايتها وهدفها؛ لأن أجوبة أيوب على أصدقائه كان تحمل تعدى على الله، مثل الأشرار؛ لأن أيوب بكلامه هذا أضاف خطية جديدة على نفسه. والخلاصة دعوة أيوب للتوبة، وترك كلامه غير النافع، والذى عبر عنه أليهو بأنه “يصفق بيننا” أى يتمرد على الله أمامنا. أسرع إلى التوبة عندما تخطئ، ولا تجادل كثيراً لتبرير نفسك، حتى لو أساء إليك البعض باتهامات زور؛ حتى لا يتحول الكلام إلى جدال غير مجدى، فالإعتذار لله والناس يريح النفس، وبهذا تصير عظيماً أمام الله والناس.