أليهو يعلن عجز الإنسان وقدرة الله
(1) قوة الله فى خليقته (ع1-13):
1- فلهذا اضطرب قلبي و خفق من موضعه. 2- اسمعوا سماعا رعد صوته و الزمزمة الخارجة من فيه. 3- تحت كل السماوات يطلقها كذا نوره الى أكناف الارض. 4- بعد يزمجر صوت يرعد بصوت جلاله و لا يؤخرها إذ سمع صوته. 5- الله يرعد بصوته عجبا يصنع عظائم لا ندركها.
6- لأنه يقول للثلج اسقط على الأرض كذا لوابل المطر وابل أمطار عزه. 7- يختم على يد كل إنسان ليعلم كل الناس خالقهم. 8- فتدخل الحيوانات المآوي و تستقر في أوجرتها. 9- من الجنوب تأتي الإعصار و من الشمال البرد. 10- من نسمة الله يجعل الجمد و تتضيق سعة المياه. 11- أيضا بري يطرح الغيم يبدد سحاب نوره. 12- فهي مدورة متقلبة بإدارته لتفعل كل ما يأمر به على وجه الأرض المسكونة. 13- سواء كان للتأديب أو لأرضه أو للرحمة يرسلها.
ع1: خفق : اضطرب واهتز.
يخبرنا الأصحاح السابق (ص36: 33) أن الماشية شعرت بصوت الله، وهو الرعد، فأسرعت لتختبئ؛ ويكمل أليهو هنا حديثه أنه هو أيضاً اضطرب وخفق قلبه؛ لأنه قال فى نفسه إن كان الرعد مخيفاً هكذا، فكم يكون حضور الله. ولعله شعر بقرب ظهور الله، ويبدو أن عاصفة قامت – وقتذاك – ساعدت على دخول الخوف فى قلب أليهو؛ لأن الرعد يعلن قوة الله، خاصة أنه بعد قليل سينهى أليهو حديثه ويبدأ الله كلامه من العاصفة. فقد كان الرعد مقدمة لظهور الله وكلامه مع أيوب، كما حدث مع بنى إسرائيل أيام موسى، عندما ظهر الله على الجبل وأعطى موسى الوصايا والناموس (خر19). فأليهو استغل هبوب العاصفة؛ ليتكلم مع أيوب عن عظمة الله ومخافته.
ع2-5: الزمزمة : صوت قوى يأتى من بعيد.
أكناف : جمع كنف وهو الطرف، أو الناحية.
يدعو أليهو أيوب وأصدقاءه والمجتمعين؛ ليسمعوا صوت الله؛ لأنه اعتبر صوت الرعد هو صوت الله، كما قال داود فى (مز29: 3).
والرعد يسمع فى كل أركان العالم، ويصاحبه أيضاً البرق المنير، فيظهر نوره فى كل مكان.
ويستمر الرعد معلناً قوة الله، ثم تأتى بعد هذا الأمطار، ولعل أليهو يحدثنا عن صوت الله المزمع أن يتكلم بعد العاصفة.
وقوة الرعد عجيبة فى انتشارها وتتابعها، فهى فوق إدراك الإنسان المحدود؛ لذا نرى فيها صوت الله القوى الغير محدود.
ع6-8: وابل : المطر الشديد، أو السيول.
مآوى : جمع مأوى، وهى بيوت الحيوانات التى تبيت فيها.
أوجرتها : جحورها.
الله المتحكم فى الطبيعة يقول للثلج أن يسقط على الأرض، وأحياناً أخرى يقول للأمطار الغزيرة، أى السيول أن تهطل على الأرض، فتعلن قوته ومجده فى أن ينزل من السماء أشكالاً مختلفة، إما قطرات ماء خفيفة، أو سيول من الماء، أو ماء متجمد وهو الثلج.
إذا نزل الثلج، أو السيول لا يستطيع أحد أن يخرج من بيته لئلا يموت، فبهذا يكون الله قد ختم على يد الإنسان أن منعه من العمل، لأن الختم على أى مكان يمنع دخوله، كذلك الختم على اليد يمنع عملها. أى أن الله هو خالق الإنسان ورازقه، يعطيه ظروفاً جوية تسمح له بالعمل، وأحياناً أخرى ظروف مانعة، فلا يستطيع أن يعمل. وبهذا يتكل الإنسان على الله ويشعر أنه ليس فقط خالقه، بل هو ضابط الكل المدبر لحياته، فيطيعه فى كل كلامه. هذا ما يحدث مع الإنسان الحكيم.
وإن كان الإنسان لا يخرج من بيته فى الظروف الجوية المعاكسة، فكذلك أيضاً الحيوانات تختبئ من وجه السيل والثلج. كل هذا ليجعل الإنسان فى خوف الله، فيبعد عن الخطية ويحيا للبر.
ع9-11: الإعصار : رياح شديدة ساخنة.
البرد : شرائح ثلجية حادة.
الجمد : الثلج.
تتجلى عظمة الله وقدرته فى أنه يعطى الحرارة الساخنة، أو البرودة الشديدة من خلال رياحه. فإذا أتت من الجنوب تكون ساخنة، ويمكن أن تؤذى النباتات وتضايق الإنسان والحيوان، أما الرياح الشمالية، فإنها تكون باردة جداً، حتى أنها تكون البرد الذى ينزل على الأرض، ويمكن أن يجرح، أو يقتل الإنسان والحيوان.
كذلك من نسمة الله، أى رياحه الباردة يكوِّن الثلج فى الأنهار والبحار. وبهذا تفقد المياه قدرتها على الحركة، إذ يتجمد سطح البحار والأنهار وتبقى المياه العميقة فقط غير متجمدة وتتحرك فيها الأسماك، أى أن الله يعطى رياحه، أو نسمته بأشكال مختلفة؛ حارة، أو باردة، أو متجمدة، فكلها أدوات فى يده يحركها كيفما يشاء. فالرعد هو صوت الله، والرياح هى نسمة أنفه.
كذلك يجعل الغيم، أى السحب الكثيفة تصب مياهها فى أمطار تروى الأرض، وكذلك السحب الخفيفة المنيرة يبددها الله ويشتتها بأن تتحرك فى السماء وتظهر من خلفها الشمس المشرقة. إن السحب بأنواعها المختلفة هى أدوات صغيرة يحركها الله فى السماء لمنفعة الإنسان.
ع12، 13: إن الرياح أدوات فى يد الله يديرها ويحركها حسبما يريد، فيجعلها ساخنة، أو باردة، ويحركها من مكان إلى آخر، ويحولها من هواء إلى سوائل، ثم إلى مواد صلبة، مثل الثلج كيفما يرى لفائدة البشر على الأرض. فإما يستخدمها لتأديب أولاده؛ ليرجعوا إليه مثل ضربة البرد للمصريين (خر9: 18)، ومثل منع الأمطار أيام إيليا (1مل17: 1)، أو يعطيها كبركات على أرضه؛ لأن الأرض هى ملك لله، وقد وهبها للإنسان، فيعطى من هذه الرياح بركات ومراحم لأولاده المطيعين، كما هبت الرياح فحملت السلوى لشعب الله فى برية سيناء (عد11: 31) وكما شقت الرياح البحر الأحمر، فعبر شعب الله (خر14: 21). وبهذا يتمتعون برعاية الله وعشرته ويتذوقون محبته، فيصيروا كأنهم فى السماء وهم على الأرض، أو بمعنى آخر يتمتعون بعربون ملكوت السموات على الأرض، ليشتاقوا للسماء.
تأمل الطبيعة وتغيراتها؛ لترى محبة الله وقدرته، فتمجده وتشكره على إحساناته، ثم تتحرك أنت فى محبة لعمل الخير مع من حولك.
(2) ضعف الإنسان أمام عظمة الله (ع14-24):
14- انصت إلى هذا يا أيوب و قف و تأمل بعجائب الله. 15- أتدرك انتباه الله إليها أو إضاءة نور سحابه. 16- أتدرك موازنة السحاب معجزات الكامل المعارف. 17- كيف تسخن ثيابك إذا سكنت الأرض من ريح الجنوب. 18- هل صفحت معه الجلد الممكن كالمرأة المسبوكة. 19- علمنا ما نقول له إننا لا نحسن الكلام بسبب الظلمة. 20- هل يقص عليه كلامي إذا تكلمت هل ينطق الإنسان لكي يبتلع. 21- و الآن لا يرى النور الباهر الذي هو في الجلد ثم تعبر الريح فتنقيه.
22- من الشمال يأتي ذهب عند الله جلال مرهب. 23- القدير لا ندركه عظيم القوة و الحق وكثير البر لا يجاوب. 24- لذلك فلتخفه الناس كل حكيم القلب لا يراعي.
ع14: ينادى أليهو أيوب حتى يتأمل فى الطبيعة ويرى أعمال الله العجيبة فى الرياح، كما ذكر فى الآيات السابقة؛ فإنه من خلالها يرى عظمة الله وتدبيره لمنفعة الإنسان. وسليمان الحكيم دعى للتأمل فى المخلوقات مثل النملة (أم6: 6)، بل المسيح نفسه دعى للتأمل فى زنابق الحقل (مت6: 28) لنرى حكمة الله.
ع15، 16: يسأل أليهو أيوب هل تدرك انتباه الله إلى الرياح والسحب، وكيف يديرها ويحركها ؟ ومن ناحية أخرى، هل تدرك يا أيوب كيف تنير السحب بالبرق، أو بضوء قوس قزح، أى بألوان الطيف ؟
وهل تلاحظ يا أيوب موازنة السحاب، أى كيف يتبخر الماء من البحار والأنهار، ويتجمع فى سحب، ثم يعود فيتكشف وينزل من السحب كقطرات ماء، هى الأمطار والسيول؟ وكيف يضبط الله السحب باتزان، فلا تزداد، أو تقل؟ وكيف يعلق الله الماء فى السحب فلا تنزل منها إلا عندما يريد الله؛ لئلا تغرق الأرض؟ وكيف يملأها من تبخر مياه البحار والأنهار عندما يقل الماء فيها؟ وكيف ينزل المطر كقطرات قليلة، أو بغزارة حسبما يقصد الله؟ وكيف يتعلق كل هذا الماء فى السحاب ولا ينزل على الأرض بفعل الجاذبية الأرضية؟ أى كيف يحفظه الله فى حالة بخار؟ وكيف لا يتمزق السحاب من ثقل الماء الذى فيه؟ بل الماء محفوظ فى بخار مهما كانت كميته، إنه تدبير الله العجيب.
إن كل هذا يبين معجزات الله الكامل فى حكمته ومعرفته، ومن ناحية أخرى ضعف الإنسان يا أيوب، الذى لا يستطيع أن يدرك من أسرار الطبيعة إلا القليل، فكلما تعاظم علم الله يشعر الإنسان بضعفه أمام هذه المعجزات.
ع17: بعد فصل الشتاء تأتى رياح ساخنة من الجنوب، هذه تجعل كل شئ تمر به ساخناً؛ الإنسان وثيابه، وكل ما على الأرض. فكيف يحدث هذا التبديل بين الرياح الباردة، فتأتى بعدها الرياح الساخنة؟ إن الله هو الذى نظم ورتب كل هذا.
ع18: صفحت : بسطت.
الجلد : السماء.
الممكن : المحكم بقوة.
المسبوكة : المصنوعة والمشكلة. فالمعدن مثل النحاس أو الذهب يتم صهره، ثم سبكه بالشكل المطلوب.
ينادى أليهو أيوب، ويقول له، إن الله عندما خلق السماء وبسطها بتمكن، وبقدرة إلهية فوق الأرض، كأنها مرآة كبيرة من النحاس، أين كنت يا أيوب ؟ هل كنت معه وساعدته فى بسط السماء ؟! ..
ع19: شعر أليهو برهبة عظيمة أمام الله، وأنه عاجز عن أن يتكلم عن عظمته؛ لأنه إنسان فى الجسد، وهذا الجسد مظلم قياساً بأجسام الملائكة؛ لأنها أجسام روحية منيرة. فخاطب أيوب، وقال له أنا عاجز عن الكلام فى حضرة الله، فهل تعلم كيف أتكلم عن الله، علمنى إن كنت تعرف ؟ وأليهو بهذا يظهر لأيوب ضعفه ويستنكر عليه ما قاله قبلاً فى أنه يريد أن يحاكم أمام الله (ص13: 3، 23: 3، 4). فكأن أليهو يقول لأيوب كيف تستطيع أن تقف أمام الله المهوب؟ وكيف تتكلم معه ؟ إن هذا مستحيل بسبب وجودك فى الجسد الإنسانى المظلم. فإن كانت الملائكة تهابه، وتغطى وجوهها من بهاء مجده، ولا تستطيع الكلام، فكيف تتكلم أنت ؟ والحقيقة أن الله عندما ظهر وكلم أيوب صمت أيوب تماماً، كما سيظهر فى
(ص38-41).
ع20: يستكمل أليهو كلامه عن عظمة الله، فيقول من يستطيع أن يتكلم فى حضرة الله؟ فإنى أخاف أن أخطئ فى حضرته، فيبتلعنى بغضبه. وأخشى كذلك أن أقف أمامه، فلا أحتمل مجده المبهر، فيبتلعنى لأنى ضعيف وحقير. وهذا يظهر إتضاع أليهو، واهتمامه بدعوة أيوب للاتضاع عند الحديث عن الله.
ع21: بعد هذا يشجع أليهو أيوب ويقول له إن كنت لا تتمتع بمعاينة الله بسبب التجربة التى تمر بها، فأنا أطمئنك أن هذه التجربة كسحابة تغطى نور الله المبهر عن عينيك، ولكن ستأتى ريح تحمل هذه السحابة وتبعدها عنك، أى أن تجربتك ستنتهى، وحينئذ تستطيع أن تعاين الله وتفرح برؤيته.
كما أن نور الله المبهر يفوق قدرة الإنسان على الرؤية؛ لأن الإنسان ضعيف فى الجسد. فالإنسان مثلاً لا يستطيع أن ينظر إلى قرص الشمس المنير وهو فى منتصف السماء، فكيف يستطيع أن يرى نور الله خالق هذه الشمس؟
ع22: من الشمال تأتى الرياح التى تحمل التجربة وتبعدها، فهى رياح تحمل إحسانات الله السماوية؛ لذا يشبهها بالذهب، إذ أن الذهب يرمز للسماء. فالله عظيم ومخوف جداً، وقدرته تفوق كل قدرة، فمهما كانت التجربة صعبة، يستطيع الله أن يرفعها؛ لأنه يحب الإنسان.
ع23: إن عظمة الله ومجده لا يمكن للإنسان أن يدركه. وقدرته وقداسته تفوق العقل، وبالتالى لا يستطيع أحد أن يرد على الله، ولا يستطيع كذلك أن يسأل الله ويستجوبه، كما حاول أن يطلب قبلاً، ولكن العذر الذى نقدمه لأيوب، هو أنه فى ضيقة شديدة جعلته غير قادر على ضبط كلامه، فهو يتأوه من الألم، فلا يدرك ما يقول إدراكاً كاملاً.
ع24: الخلاصة يعلنها أليهو فى نهاية كلامه بأن الله عظيم جداً ومخوف، فيلزم أن يخافه جميع البشر، ولكن الحكيم فى عينى نفسه، أى المتكبر لا يراعى مخافة الله، أى انتبه يا أيوب حتى لا تسقط فى الكبرياء، وإن سقطت عد سريعاً، وكن فى خشوع أمام الله المخوف.
نلاحظ فى كلام أليهو فى هذا الأصحاح – أى فى نهاية كلام أليهو – شعوره باقتراب ظهور الله؛ لذا يعد أيوب لملاقاة الله، والخلاصة فى الآية الأخيرة يطلب منه أن يخاف الله ويتضع تماماً أمامه. إن كنت تريد أن تتمتع بالله وتعاينه فى كل يوم اتضع أمامه، وتذكر عظمته، ومجده وسبحه، وأعلن ضعفك وخطيتك فى توبة، فتنال ليس فقط مراحمه، بل فيض حبه وظهوره فى حياتك.