دعوة النبى ورؤيا قضيب اللوز والقدر المنفوخة
(1) تعريف بالنبى وتاريخ نبوته (ع1-3) :
1- كلام إرميا بن حلقيا من الكهنة الذين في عناثوث في أرض بنيامين. 2- الذي كانت كلمة الرب إليه في أيام يوشيا بن آمون ملك يهوذا في السنة الثالثة عشرة من ملكه. 3- و كانت في أيام يهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا إلى تمام السنة الحادية عشرة لصدقيا بن يوشيا ملك يهوذا إلى سبي أورشليم في الشهر الخامس.
ع1: سبق شرح هذه الآية فى المقدمة ويظهر فيها :
- اسم النبى إرميا بن حلقيا.
- كونه كاهناً.
- موطن ميلاده وهو قرية عناثوث التى فى سبط بنيامين.
ع2: بدأ إرميا نبوته فى السنة الثالثة عشر من ملك يوشيا الذى هو ابن آمون، وكان ملكاً على مملكة يهوذا التى عاصمتها أورشليم، وتشمل سبطى يهوذا وبنيامين، وتسمى المملكة الجنوبية، كما ذكر فى المقدمة.
ع3: استمرت النبوة أيام يهوياقيم الملك بن يوشيا حتى صدقيا الملك آخر ملوك يهوذا؛ حيث تم السبى فى السنة الحادية عشر لملكه. ولم يذكر باقى الملوك الذين ملكوا أثناء فترة النبوة؛ لأنهم ملكوا فترات قليلة؛ وكل ذلك تم شرحه فى المقدمة.
(2) دعوة إرميا (ع4-10):
4- فكانت كلمة الرب إلي قائلا. 5- قبلما صورتك في البطن عرفتك و قبلما خرجت من الرحم قدستك جعلتك نبيا للشعوب. 6- فقلت آه يا سيد الرب إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد.
7- فقال الرب لي لا تقل إني ولد لأنك إلى كل من أرسلك إليه تذهب و تتكلم بكل ما آمرك به.
8- لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأنقذك يقول الرب. 9- و مد الرب يده و لمس فمي و قال الرب لي ها قد جعلت كلامي في فمك. 10- انظر قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب و على الممالك لتقلع و تهدم و تهلك و تنقض و تبني و تغرس.
ع4، 5: بدأ كلام الله لإرميا فأعلمه أنه مختار للخدمة من قبل أن يتكون فى بطن أمه، كما يعلن الكتاب المقدس محبة الله لنا إذ يقول “كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه فى المحبة” (أف1: 4). فالله فى محبته عرف وقدس، أى خصص إرميا ليقوم بهذه الخدمة، أى يتنبأ لشعبه. وكان هذا فى ذهن الله الأزلى من قبل تكوين العالم.
ويظهر فى هذه الآية أن إرميا ليس فقط نبياً لشعب اليهود الساكن فى مملكة يهوذا، بل لشعوب العالم كله؛ إذ يدعوهم للرجوع إلى الله “جعلتك نبياً للشعوب”.
إن الله أحبك وخصصك لتحيا له وأعلن ذلك عندما خرجت من المعمودية وتقدست بسر الميرون، فلا تنشغل عنه باهتمامات العالم، أو تنحرف عنه بخطايا كثيرة؛ لأنك مقدس له، فترضيه فى كل شئ وتخدمه بأمانة.
ع6: شعر إرميا بضخامة مسئولية الخدمة، وباتضاع أعلن عجزه عن القيام بها، إذ أنه صغير السن فقال إنى ولد. والمقصود بولد أنه أصغر من عمر ثلاثين عاماً، فاليهود يعتبرون الرجل الكامل هو من تجاوز سن ثلاثين، ولذا بدأ المسيح خدمته فى هذه السن.
جيد أن تعرف ضعفك فلا تندفع فى أى عمل، بل تحسب حساب النفقة، وتعلن ضعفك أمام الله فيسندك.
ع7، 8: شجعه الله حتى لا يعتذر بسبب صغر سنه، ووعده أن يكون معه، وينقذه من أيدى الأشرار إن قاوموه حتى يكمل خدمته.
ع9: لم يكتفِ الله بمساندة إرميا بالوعود بل مد يده ولمس شفتيه، معطياً إياه قوة التحدث بكلام الله، فلا يعود إرميا يتكلم كلام البشر العادى، بل ينطق بكلام الله القوى العميق. ولا نعرف الصورة التى مد الله يده بها ولمس فم إرميا، هل ظهرت يد ولمسته ؟ أم شعر فقط بمن يلمس فمه ؟ أم ظهر نور أمامه ؟ ولكن على أى الأحوال فقد شعر إرميا بلمسة محسوسة على فمه، بينما كان يسمع هذه الكلمات من الله.
ع10: أعطى الله لإرميا سلطاناً على الممالك والشعوب التى سيتنبأ عليها، مثل مملكة يهوذا وبابل وفلسطين، ليوبخ شرورهم حتى يتوبوا وبهذا يقتلع الشر منهم ويهدمه وينقضه، وفى نفس الوقت يبنى بكلام الله حياتهم الروحية ويغرس فيهم الإيمان. وهو بهذا يرمز للمسيح المتجسد، الذى يقلع الشر من نفوس من يقبلون كلامه، ويبنى فيهم الإيمان والحياة معه.
تكلم بسلطان عندما تعلن كلمة الله حتى تدعو الكل للحياة معه، ولا تضطرب من مقاومة الأشرار، أو استهزائهم، وبوداعة المحبة يكون كلامك محدداً وقوياً، واعلم أنهم يضطربون مهما قاوموك؛ لأن الكلام ليس منك بل من الله.
(3) رؤيا قضيب اللوز والقدر المنفوخه (ع11-16) :
11- ثم صارت كلمة الرب إلي قائلا ماذا أنت راء يا ارميا فقلت أنا راء قضيب لوز.
12- فقال الرب لي أحسنت الرؤية لأني أنا ساهر على كلمتي لأجريها. 13- ثم صارت كلمة الرب إلي ثانية قائلا ماذا أنت راء فقلت أني راء قدرا منفوخة و وجهها من جهة الشمال.14- فقال الرب لي من الشمال ينفتح الشر على كل سكان الأرض. 15- لأني هأنذا داع كل عشائر ممالك الشمال يقول الرب فيأتون و يضعون كل واحد كرسيه في مدخل أبواب أورشليم و على كل أسوارها حواليها و على كل مدن يهوذا. 16- و أقيم دعواي على كل شرهم لأنهم تركوني و بخروا لآلهة أخرى و سجدوا لأعمال أيديهم.
ع11: قضيب : ساق نبات اللوز.
الرؤيا الأولى التى أعلنها الله لإرميا هى قضيب نبات اللوز. وهذا النبات يزرع فى فصل الشتاء ويبدو كأن لا حياة فيه، ولكن قبل بدء الربيع، أى فى شهر فبراير، يعطى أزهاراً بيضاء تتحول إلى ثمار اللوز، فالنبات يبدو كأنه بلا ثمر طوال فصل الشتاء، ولكن بعد ذلك يعطى ثماراً حلوة فى الربيع. فيُظهر كيف أن الله يسهر ويعتنى بهذا النبات طوال الشتاء ويعطيه ثمرة حلوة فى الربيع. والجدير بالذكر أن الكلمة العبرية المترجمة “لوز” معناها أيضاً “ساهر”.
ع12: أجريها : أنفذها، فكلام الله صادق ولابد أن يتم.
مدح الله إرميا لأنه فهم وميز قضيب اللوز الذى رآه، وفسر له معنى الرؤيا وهو سهر واهتمام الله بتأثير كلامه على الناس، فالله يطيل أناته ولكن فى الوقت المناسب ينفذ كل شئ، فيعاقب بنى إسرائيل على خطاياهم بالسبى، كما يعاقب من استخدمهم فى عقابهم، وهم مملكة بابل، بتخريب مملكتهم على يد مملكة مادى وفارس.
وثمرة اللوز لها غلاف خارجى أخضر يتساقط مع الوقت، ثم غلاف جاف قوى إذا كسر نجد بداخله الثمر الحلو الذى يؤكل، كذلك كلمة الله لا تصل إلى حلاوتها إلا بعد أن نحتمل جهاد مر وآلام شديدة لكسر قوى الشر، ولكن لابد أن نتذوق فى النهاية تأثيرها الحلو فى حياتنا.
يَّدعى البعيدون عن الله أن العالم يسير دون تدخل الله وبالتالى يهملون وصاياه، ولكن طول أناة الله لا تلغى كلامه الذى لابد أن يتم، فيكافئ الأبرار ويجازى الأشرار؛ لأنه ساهر على كلمته حتى يتممها، والمقصود هنا تنبيه الشعب على يد إرميا بهذه النبوة؛ حتى يطيعوا الله وكلامه الذى سيتحقق، ولا يتمادوا فى شرهم وإلا سيعاقبهم بالسبى.
ع13: قدراً منفوخة : إناء كبير له فوهة يشبه الكرة، مثل قدر الفول الذى بطنه منتفخ.
وجهها من جهة الشمال : فوهتها متجهة نحو الشمال.
الرؤيا الثانية التى رآها إرميا هى قدراً منفوخة ترمز لكبرياء اليهود، إذ ظنوا أنه ما دام هيكل الله عندهم فلن يصيبهم أذى، ومادامت لهم مظاهر العبادة الشخصية فهم فى أمان، أما فوهة القدرة المتجهة ناحية الشمال فترمز للهجوم البابلى من الشمال على أورشليم واليهودية واحتلالها وتخريبها.
ع14: من الشمال ستقوم مملكة بابل وتهجم على بلاد العالم المحيطة بها وعلى أورشليم وتخربها.
ع15: كرسيه فى مدخل أبواب أورشليم : تعنى احتلال المدينة والسيطرة على أبوابها.
أسوارها : أى السيطرة على الأسوار وهدمها.
كل مدن يهوذا : أى كل بلاد مملكة يهوذا وهى المملكة الجنوبية لليهود.
يستكمل الله حديثه مع إرميا بأن مملكة بابل ستهجم على أورشليم وتحتلها، وتحتل كذلك كل بلاد مملكة يهوذا، وتسبى من فيها وتسلب غناها، وتدمرها.
ع16: أقيم دعواى : أعلن عقابى.
يفسر الله تدمير أورشليم واليهودية وسبيها بأنه عقاب لشعبه لأنهم عبدوا الأوثان وساروا فى شرور كثيرة.
فالله ينبه بالرؤية الأولى شعبه لكى يتوبوا وإن لم يتوبوا تأتى عليهم النبوة الثانية وهى الدمار.
ليتك تهتم بكلام الله الذى يرسله إليك ليبعدك عن الشر ويجذبك إلى محبته، فتتمتع بسلام وتخلص من متاعب كثيرة، لأنك إن اهملت كلامه فلا ينتظرك إلا قلق واضطراب فى هذه الحياة، ثم عذاب أبدى فى الحياة الأخرى.
(4) مسئولية إرميا (ع17-19) :
17- أما أنت فنطق حقويك و قم و كلمهم بكل ما آمرك به لا ترتع من وجوههم لئلا اريعك أمامهم. 18- هأنذا قد جعلتك اليوم مدينة حصينة و عمود حديد و أسوار نحاس على كل الأرض لملوك يهوذا و لرؤسائها و لكهنتها و لشعب الأرض. 19- فيحاربونك و لا يقدرون عليك لأني أنا معك يقول الرب لأنقذك.
ع17: نطق حقويك : البس منطقة، أى حزام عريض على الوسط. ويرمز هذا لشدة العمل والخدمة.
طلب الله من إرميا أن يعلن هذه الرؤى وتفسيرها للشعب، ويستعد لأتعاب هذه الخدمة، ولا يخاف من مقاومة الناس له، أو توبيخهم، أو رفضهم لكلامه، أو تهديدهم له. ويذكره أن الأهم هو مخافة الله وليس خوف الناس.
وحتى لا يتراجع إرميا عن خدمته، حذره أنه إن أهمل خدمته وخاف من الناس فالله سيخيفه ويعاقبه. واضطر الله أن يحذر إرميا هكذا لأنه يعلم بشدة المقاومة التى سيلاقيها من الأشرار، فهذا التحذير ليحميه من التراجع.
إن مخافة الله تبعدك عن الخطية، وتساعدك على التمسك بوصاياه وأداء خدمته بأمانة؛ فتتمتع برعايته ومحبته.
ع18: مدينة حصينة : يصير إرميا مسانداً للذين يخافون الله بتشجيعه ورعايته لهم كأنه مدينة حصينة تحميهم داخلها.
عمود حديد : أى أساس قوى يُبنى عليه بيت الله، فيعلن كلامه ويسند أولاده.
أسوار نحاس : النحاس مادة قوية، فالأسوار النحاسية تحمى من فى داخلها مثل إرميا الذى سيعطيه الله قوة فلا يهتز بتشكيكات ومعارضة الأشرار له.
عضّد الله إرميا بوعود قوية بأن يجعله مثل المدينة الحصينة والعمود الحديد القوى والأسوار النحاسية لكل من يؤمن ويحيا مع الله، ويكون هو نفسه صامداً فى قوة أمام الأشرار. وقد حدث هذا فعلاً أكثر من 40 عاماً كان يوبخ فيها الكل ويقاومونه، ولم يهتز حتى استشهد فى النهاية.
ع19: استكمل الله حديثه مع إرميا فعرفه أن شعبه سيقاومه وسيحاربه ولكنهم لن يستطيعوا إسكاته بل سيظل قوياً ليكمل رسالته ونبوته، حتى بعد ما أخذوه رغماً عنه إلى مصر.