نجاح الأشرار المؤقت ثم هلاكهم
(1) نجاح الأشرار المؤقت (ع1-4):
1- أبر أنت يا رب من أن أخاصمك لكن أكلمك من جهة أحكامك لماذا تنجح طريق الأشرار اطمأن كل الغادرين غدراً. 2- غرستهم فأصلوا نموا و أثمروا ثمراً أنت قريب في فمهم و بعيد من كلاهم. 3- و أنت يا رب عرفتني رايتني و اختبرت قلبي من جهتك افرزهم كغنم للذبح و خصصهم ليوم القتل. 4- حتى متى تنوح الأرض و ييبس عشب كل الحقل من شر الساكنين فيها فنيت البهائم و الطيور لأنهم قالوا لا يرى اخرتنا.
ع1: أخاصمك : أصير لك خصماً.
يتجاسر إرميا ويناقش الله فى نجاح الأشرار، لأنه تعب من قسوتهم وإساءاتهم نحوه، ولكنه يبدأ الكلام باتضاع فيقول لله أنك بار وقدوس وأعلى من أن أقف أمامك خصماً وأناقشك، فأنا إنسان حقير، ولكن أسألك لأتعلم ما هى حكمتك فى تدبير البشر. فإن عقلى لا يفهم لماذا ينجح الأشرار فى حياتهم المادية ويتسلطون ويسيئون إلى أولاد الله، بل من ثقتهم فى سلطانهم وشرهم صاروا مطمئنين وواثقين فى قدرتهم على الإساءة إلى الأبرار. وهو هنا يكرر كلام المزمور (مز119: 137).
ع2: أرجع إرميا الأشرار إلى أعمال الله الخيرة معهم، فهو الذى أعطاهم بركات متمثلة فى خيرات وثمار مادية، ولكنهم للأسف استخدموها فى الشر وتركوا الله، بالإضافة إلى سقوطهم فى خطية الرياء، إذ تكلموا عن الله وقدموا عبادات بالفم، ولكنهم رفضوا الله من داخلهم الذى عبرت عنه الآية بكلاهم وهى جمع كلية.
ويظن البعض أن يوشيا الملك الذى اهتم ببناء الهيكل وإزالة الأوثان ونشر كلمة الله، عندما قتل فى معركته مع ملك مصر “نخاو”، شمت فيه الأشرار الذين يعبدون الأوثان وأساءوا إلى كل الأبرار وأولهم إرميا، لذا فمن عمق الضيقة نطق إرميا بهذه الكلمات مستنجداً بالله لينقذه من أيديهم.
ع3: يذكر إرميا الله بأنه من خاصته، فالله يعرف قلب إرميا وإيمانه وحياته معه، حتى ينقذه من الأشرار ثم يؤدبهم ليتوبوا. ويشبههم بأغنام يعدها الله للذبح ويعلن لهم أنه سيهلكهم لعلهم يخافون ويتوبون، فهو يطلب معونة الله لرفع إساءات الأشرار عنه وتخويفهم من الهلاك بيد بابل فيرجعوا إلى الله. فالفرز للذبح أو التخصيص للقتل ليس معناه ذبحهم أو قتلهم، بل إعدادهم للقتل، حتى إذ يروا الموت مقبلاً عليهم يتوبوا ويتركوا شرورهم.
ع4: يشبه إرميا الأرض بامرأة حزينة تبكى على ما حدث لها، فشعبها أى المحاصيل المزروعة فيها قد يبست، وقل الطعام وزاد الجوع بالإضافة إلى موت البهائم والطيور، كل هذا من غضب الله على اليهود الأشرار الساكنين فى مملكة يهوذا، الذين عبدوا الأوثان وتركوا عبادة الله وتمادوا فى شهواتهم النجسة، وفى كبرياء استهانوا بالغضب الإلهى الآتى عليهم ليتوبوا وقالوا إن الله لا يرى آخرتنا أى لا يعرف مصيرنا، بدلاً من أن تقودهم الضيقة إلى التوبة ليكون لهم آخرة حسنة عند الله.
ويرى بعض الآباء أن الأرض التى تنوح يقصد بها الملاك المسئول عن أرض يهوذا، فهو يبكى على شرورهم واستهانتهم بالغضب الإلهى لأن كل مملكة لها ملاك يشفع فيها أمام الله.
لا تنزعج من نجاح الأشرار وسلطانهم وتهديداتهم واستهانتهم بأمانتك وطهارتك، بل ثابر فى جهادك واثقاً أن الله معك ويسندك ويفرح قلبك فى النهاية عندما تزول كل عظمة الأشرار ويلقون فى العذاب الأبدى.
(2) تشجيع الله لأرميا (ع5، 6):
5- إن جريت مع المشاة فأتعبوك فكيف تباري الخيل. و إن كنت منبطحاً في أرض السلام فكيف تعمل في كبرياء الأردن. 6- لأن إخوتك أنفسهم و بيت أبيك قد غادروك هم أيضاً. هم أيضاً نادوا وراءك بصوت عال لا تأتمنهم إذا كلموك بالخير.
ع5: يعاتب الله إرميا على ضعفه وعدم احتماله لإساءات الأشرار، ويوضح أنه سمح له بضيقات على قدر قامته الروحية، ولكن هناك ضيقات أكبر لم يسمح له بها، ويشبه ضيقته بمباراة فى الجرى مع مجموعة من البشر، هذا هو ما حدث مع إرميا فى عدم احتماله للأشرار، ولكن إن دخل فى مباراة جرى مع الخيل، مثل دخوله فى حرب مباشرة مع الشياطين، فهذا أصعب بكثير من احتمال إساءات الأشرار المحيطين به.
ويعطى تشبيهاً آخر لما يحدث من إساءات لإرميا وهو وجوده فى أرض السلام، أى وادى سهل، ولكنه لم يستطع أن يمشى فيه بل سقط وانبطح على وجهه، فكيف يسير فى نهر الأردن أثناء فيضانه، فهو لن يستطيع العبور فيه لعمقه وسيغرق بالتأكيد.
فالله يؤكد له أنه سمح له بتجارب على قدر طاقته وهو معه يسنده فيها فلا ينزعج.
ع6: نادوا عليك بصوت عالٍ : قالوا كلام شرير عليك وانتهروك لمنعك من التنبؤ.
يوضح الله لإرميا أنه يشعر به وبكل ما يعانيه، فهو يعرف أن أهل مدينته عناثوث أى إخوته وأقرباءه قد تخلوا عنه ووقفوا ضده وحاولوا منعه عن المناداة بكلام الله، وينبهه حتى لا يأتمنهم على نفسه لو كلموه بكلام طيب، فهم أشرار غادرون ويجب أن يحترس منهم.
إطمئن إن الله لا يسمح لك بتجربة فوق طاقتك وهو يشعر بكل معاناتك ومتعاطف معك ويسندك ويحميك من مؤامرات الأشرار، فهو إلهك الذى يحبك ويحميك ويخرجك من كل الضيقات ويعطيك تعزيات ثم أمجاد الملكوت.
(3) شرور اليهود ورعاتهم (ع7-13):
7- قد تركت بيتي رفضت ميراثي دفعت حبيبة نفسي ليد أعدائها. 8- صار لي ميراثي كاسد في الوعر نطق علي بصوته. من أجل ذلك أبغضته. 9- جارحة ضبع ميراثي لي. الجوارح حواليه عليه هلم اجمعوا كل حيوان الحقل ايتوا بها للأكل. 10- رعاة كثيرون أفسدوا كرمي داسوا نصيبي جعلوا نصيبي المشتهى برية خربة. 11- جعلوه خراباً ينوح علي و هو خرب. خربت كل الأرض لأنه لا أحد يضع في قلبه. 12- على جميع الروابي في البرية أتى الناهبون لأن سيفاً للرب يأكل من أقصى الأرض إلى أقصى الأرض. ليس سلام لاحد من البشر. 13- زرعوا حنطة و حصدوا شوكا أعيوا و لم ينتفعوا بل خزوا من غلاتكم من حمو غضب الرب.
ع7: من أجل شرور مملكة يهوذا اضطر الله أن يتخلى عنهم ويسمح لهم بالقتل والسبى على يد بابل. ولكن أبوته جعلته يتوجع عليهم ويدعوهم “بيتى وميراثى وحبيبتى”. فكان يتمنى أن يظلوا فى عبادته ويتمتعوا برعايته فينالوا ميراثهم الأبدى الذى أعده لهم.
ليتك تتذكر محبة الله نحوك واشتياقاته أن يأخذك فى أحضانه، وأنك هيكل لله ومخصص له حتى ترفض الخطية مهما كانت محببة إلى قلبك ومهما اعتدتها أو شجعك الناس عليها، فلا تجرح مشاعر الله بل ارفض الخطية لأجله حتى لا تحرم نفسك من حبه وتتعرض للهلاك الأبدى.
ع8: بحزن يشبه الله شعبه بأسد يقف ضده مستخدماً الإمكانيات التى وهبها له ليتحداه بشروره وعبادته للأوثان. وجعل أرض الميعاد المقدسة قفراً وزالت منها كل القداسة فدعاها وعراً. وبدلاً من أن ينطق بتسبيح الله تذمر عليه ونطق عليه بكلمات شريرة وأغاظه بخطاياه.
من أجل كل هذا الشر أبغضه الله أى أبغض خطاياه واضطر أن يتخلى عنه ويؤدبه لعله يتوب ويرجع إليه.
ع9: يواصل إظهار تحدى شعبه له ويوضح عنفه وقسوته وتماديه فى الشر، فيشبهه بأحد الطيور الجوارح التى تنقض على فرائسها وتنهش لحمها، هكذا شعب الله أساءوا إليه ودنسوا هيكله ومدينته المقدسة أورشليم بالأوثان.
ويشبههم أيضاً بالضبع لقسوته وافتراسه لغيره من الحيوانات كما يسئ كل إنسان إلى صاحبه.
ولذا سمح الله بجيش بابل أن يحاصر أورشليم وينقض عليها ويدمرها مثل الجوارح التى تنقض على فرائسها.
ويشبه اليهود سكان أورشليم واليهودية بحيوانات الحقل التى تفترسها الوحوش الكثيرة بسهولة، أى جيوش بابل التى تقتل وتدمر مملكة يهوذاِ.
ع10: يتألم الله لأن رعاة شعبه، أى الملوك والرؤساء والكهنة والأنبياء الكذبة، قد أضلوا شعبه، فتخلى عنهم الله وتعرضوا للدمار والخراب بيد بابل مع أنهم شعبه المخصّص للحياة معه والذى يشتهيه الله وكان يتمنى أن يحيا معه.
ع11: جعلوه خراباً : يستكمل كلامه فى الآية السابقة أن الرعاة جعلوا أورشليم واليهودية خراباً بإبعادهم الشعب عن الله وعدم تعليمهم الحق، فهجمت عليهم وخربت أرضهم.
ينوح علىّ وهو خرب : الشعب ينوح على كتف الله، وفى ترجمة أخرى “ينتحبوا أمامى” بعد أن صار خراباً، ولكن بكاء الرعاة والشعب على خراب مملكة يهوذا للأسف لم يكن توبة ولم يرجعوا إلى الله بإيمان مستقيم بل كان مجرد تأثر للمصيبة التى حدثت.
ضربت كل الأرض لأنه لا أحد يضع فى قلبه : لم يضع أحد الله فى قلبه ولم يتب فاستمر الخراب والسبى سبعين سنة.
لم يقم الرعاة بواجبهم وابعدوا الشعب عن الله، فخربت مملكة يهوذا، وعندما خربت، بكوا عليها ولكن ليس بكاء التوبة والرجوع إلى الله.
ع12: الروابى : جمع (رابية) أى تل أو مكان مرتفع.
هجم جيش بابل على مملكة يهوذا، فخربوا الوديان والأماكن المرتفعة وهى التى بنى عليها اليهود معابد للأوثان، فهدموا ونهبوا كل ثمين فيها وقتلوا من صادفهم بالسيف. وهكذا أصبح كل اليهود فى خوف وذعر لأن الكل معرض للقتل والنهب والتخريب. ويدعو “سيف بابل” “سيف الرب” إذ أن الله هو الذى سمح لبابل أن تؤدب شعبه حتى يتوبوا ويرجعوا إلى إيمانهم الأول.
ع13: منع الله البركة عن أولاده الساكنين فى أورشليم واليهودية، فلما زرعوا حقولهم لم تعطهم الثمار المطلوبة بل محاصيل ضعيفة جداً يُعبر عنها بالشوك، أى عدم البركة كما أعطت الأرض لآدم قديماً شوكاً وحسكاً بدلاً من النباتات المورقة المملوءة ثماراً التى فى الجنة، فكان تعبهم فى الزراعة أو الصناعة أو أى حرفة لا يجدى، وصاروا فى خزى من عدم حصولهم على ثمار وغلات من تعبهم، هذا بسبب غضب الله الشديد عليهم الذى أظهره لهم بغرض دعوتهم للتوبة.
إذا تعطلت بعض أعمالك أو دخلت فى ضيقات مادية أو مشاكل ليس لها حل بكل الطرق البشرية، فاسأل نفسك هل الله راضى عنك ؟ وإن كنت فى علاقة معه فهل أنت فى نمو روحى أم تركت محبتك الأولى وخدمتك التى كنت تخدمها ؟ إن الله يحبك ويطلبك بكل الطرق لتعود إلى أحضانه.
(4) عقاب الأمم المحيطة وتوبتهم (ع14-17):
14- هكذا قال الرب على جميع جيراني الأشرار الذين يلمسون الميراث الذي أورثته لشعبي اسرائيل هأنذا أقتلعهم عن أرضهم و أقتلع بيت يهوذا من وسطهم. 15- و يكون بعد اقتلاعي إياهم أني أرجع فأرحمهم و أردهم كل واحد إلى ميراثه و كل واحد إلى أرضه. 16- و يكون إذا تعلموا علماً طرق شعبي أن يحلفوا باسمي حي هو الرب كما علموا شعبي أن يحلفوا ببعل أنهم يبنون في وسط شعبي. 17- و إن لم يسمعوا فإني أقتلع تلك الأمة اقتلاعا و أبيدها يقول الرب
ع14: يلمسون : يعتدون على.
الميراث الذى أورثته لشعبى إسرائيل : أرض كنعان أى أرض الميعاد.
هذه نبوة عن الأمم الذين يعيشون حول شعب الله سواء القريبين أو البعيدين والذين سمح الله لهم أن يعتدوا ويخربوا بلاد شعبه مثل أشور وبابل. فيتنبأ الله عليهم بفم إرميا أنه سيخربهم كما خرب مملكة إسرائيل وسيخرب مملكة يهوذا.
ع15: ثم يتنبأ الله عن شعبه أنه بعد اقتلاعهم من أرضهم وسبيهم وتخريب مدنهم، أن يرحمهم ويعيدهم ثانية من السبى فيبنون مدنهم ويقدمون عبادة لله فى هيكله بأورشليم.
ع16: أما بالنسبة للأمم الذين علموا شعب الله عبادة الأوثان والتى أشهرها عبادة البعل والحلف به، فهؤلاء إن آمنوا بالله وتابوا وتركوا خطاياهم يرحمهم الله ويعود فيبنيهم بعد أن خربهم. وهذا ما حدث عندما آمنت الأمم بالمسيحية، فصاروا حجارة حية فى الكنيسة مبنيين فى البناء الروحى ويسلكون فى طريق الله ويدعون لاسمه.
ع17: ولكن الأمم الوثنية التى تصر على شرورها، سيخربها الله ويبيدها ولا تعود تُبنى ثانية. وهذا رمز للهلاك الأبدى للأشرار المصرين على خطاياهم. إن الله رحيم ولا يريد إهلاك البشر حتى من يتحدونه، فثق أنه يحبك مهما عملت من شرور وارجع إليه فيغسلك من خطاياك ويبنيك فتصير عظيماً ونقياً وتصلح لملكوت السماوات الذى أعده لك.