دينونة بابل
يذكر لنا إشعياء نبوات عن عشرة أمم من (ص13-ص23)، وهذه الأمم هى :
1- بابل، 2- آشور، 3- فلسطين، 4- موآب، 5- دمشق، 6- كوش، 7- مصر، 8- أدوم، 9- العرب، 10- صور.
وهذا يبين أن الله أب لكل العالم، وليس فقط لشعبه، ويهتم بخلاص الكل، ويؤدب الجميع ليقودهم إلى التوبة. وفى المسيح تكمل المحبة الإلهية، فيؤمن به الكثيرون من أمم العالم المختلفة.
(1) نبوة عن خراب بابل (ع1-5):
1وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ بَابِلَ رَآهُ إشعياء بْنُ آمُوصَ: 2أَقِيمُوا رَايَةً عَلَى جَبَل أَقْرَعَ. ارْفَعُوا صَوْتًا إِلَيْهِمْ. أَشِيرُوا بِالْيَدِ لِيَدْخُلُوا أَبْوَابَ الْعُتَاةِ. 3أَنَا أَوْصَيْتُ مُقَدَّسِيَّ، وَدَعَوْتُ أَبْطَالِي لأَجْلِ غَضَبِي، مُفْتَخِرِي عَظَمَتِي. 4صَوْتُ جُمْهُورٍ عَلَى الْجِبَالِ شِبْهَ قَوْمٍ كَثِيرِينَ. صَوْتُ ضَجِيجِ مَمَالِكِ أُمَمٍ مُجْتَمِعَةٍ. رَبُّ الْجُنُودِ يَعْرُضُ جَيْشَ الْحَرْبِ. 5يَأْتُونَ مِنْ أَرْضٍ بَعِيدَةٍ، مِنْ أَقْصَى السَّمَاوَاتِ، الرَّبُّ وَأَدَوَاتُ سَخَطِهِ لِيُخْرِبَ كُلَّ الأَرْضِ.
ع1 : هذه النبوة على بابل يقولها الرب على لسان إشعياء، رغم أن بابل وقتذاك كانت في صداقة مع مملكة يهوذا التى فيها إشعياء، وكانت تحت سلطان مملكة آشور، ولم تصل إلي السيطرة على العالم إلا بعد هذا بمدة طويلة، ولم تتعرض بابل أيضًا للخراب؛ كل هذا لم يمنع الله من أن يعلن الحقيقة؛ حتى يعرف شعب الله طريق الاتضاع؛ لأن الكبرياء سيؤدي إلي خراب آشور المسيطرة على العالم، ثم خراب بابل، وإذا سمع الآشوريون، أو البابليون هذا الكلام، وقبله بعضهم، يقودهم للإيمان بالله، عندما تتحقق النبوة.
وفى هذه النبوة التي تشمل هذا الأصحاح والأصحاح التالي له، يعلن الله أحداث ستحدث بعد عشرات ومئات السنوات، فيعلن قسوة السبي الذي سيسقط فيه شعب الله، وفي نفس الوقت يعلن الرجوع من السبي، بل ويتحدث عن المسيا المنتظر المخلص، وكنيسة العهد الجديد، وكل هذا يطمئن شعب الله عندما تأتي عليهم ضيقة السبي القاسية، ويشعرون أنها مؤقتة، وسيحررهم الله منها، ويعيدهم إلي بلادهم.
ويصف إشعياء بدقة ما سيحدث في بابل العظيمة، حتى عندما يحدث هذا، يتحقق أولاد الله من صدق كلام الله، وبالتالي أنه يخلصهم ويرعاهم؛ بالإضافة إلي ما ذكرناه، أن يعيشوا في اتضاع، فيتمتعوا برعاية الله ومحبته، ولا يسلكون كما سلكت بابل وملكها في كبرياء.
إن هذه النبوة تعلن عن خراب بابل، وأيضًا عقاب الله للأمم، الذي يظهر فى العشرة أصحاحات التالية (ص13-23). وهذا يبين عدل الله مع الأشرار، ويثَّبت إيمان شعب الله الذي سيعاني من قسوة العبودية، فيثقوا أن الله سيخرجهم منها، ويدعو المتكبرين من شعب الله؛ مثل الأغنياء الأشرار منهم؛ حتى يتوبوا؛ لأن الله عادل ولابد أن يجازيهم عن شرورهم إن لم يتوبوا.
وهذه النبوة لا تكتفي بالكلام عن بابل، ولكن تعلن أن الشيطان وراء الشر الذي في العالم، وأنه أيضًا إن كان ينشر شره لمدة طويلة، ولكنه سيلقي في العذاب الأبدي (ص14 : 12 – 14).
وبابل هي عاصمة البلاد الواقعة بين نهري دجلة والفرات في جنوب العراق، وكانت تُعرف قديمًا بأرض شنعار، بينما كانت آشور عاصمة المملكة الشمالية تقع في شمال العراق. شرع أهل بابل في بناء برج بابل بعد فيضان نوح، فبلبل الله ألسنتهم، وشتتهم بسبب كبريائهم وتشامخ نفوسهم (تك11: 7، 8)، وكان الكلدانيون هم الجنس الغالب في بابل، ويسكنون في “كلديا” في جنوب بابل، وكان معظم الملوك والرؤساء من الكلدانيين، وبسبب الكبرياء لقوتها العسكرية، صارت بابل في الكتاب المقدس رمزًا للشر والعناد، ولمملكة الشيطان.
ع2: العتاة: جمع عاتٍ وهو الجبار والعنيف.
يعلن إشعياء ثلاثة أعمال واضحة لبدء الهجوم على بابل هي:
1- “أقيموا راية على جبل أقرع”:
راية، أى علم مرتفع، وجبل أقرع أى جبل ليس عليه أشجار، فتكون الراية واضحة عليه يراها الناس عن بعد. وكانوا قديمًا يعملون أية علامة على الجبل لإعلان بدء الحرب، مثل وضع أخشاب، وإيقاد النار فيها على قمة الجبل، فتكون واضحة للجنود، فيتحركوا للهجوم، والمقصود بالراية، علامة واضحة، سواء علم، أو نار، أو أي شىء مرتفع يراه الكل.
2- “إرفعوا صوتًا إليهم”:
رفع الصوت مقصود به ليس فقط الصراخ والهتاف، بل أيضًا الضرب بالأبواق: لإعلان الحرب والهجوم.
3- “أشيروا باليد”:
أي رفع الأيدي والإشارة نحو المكان الذي سيهجمون عليه، وهو في حالتنا هنا بابل.
هذه ثلاثة علامات واضحة يؤكد بها الله ضرورة الهجوم على بابل، التى يصفها بأنها مدينة عظيمة، أبوابها ضخمة، ويسكنها الجبابرة، قساة القلوب، المسيطرون على العالم كله. فقامت البلاد التى كانت مستعدة لذلك، وهجمت على بابل.
ع3 : يعلن الرب صفات جنوده الذين يهجمون على بابل، وهم جيوش مادي وفارس، ويصفهم بما يلي:
1- “مقدسي”:
الذين قدستهم وخصصتهم لتنفيذ مشيئتي، وهي تدمير بابل عقابًا لها على كبريائها.
2- أبطالي:
هم الجنود الجبابرة الأبطال في الحرب، جنود مادي وفارس، ويعطيهم الله قوة خاصة من عنده لإتمام إرادته.
3- مفتخري عظمتى:
الذين يمجدونني ويظهرون عظمتى من خلال تدمير بابل وتحقيق مشيئتي.
هكذا يعلن الله أنه يوصى جيوش مادى وفارس، ويدعوهم لإتمام مشيئته، مع أنهم لا يعرفون الله، ويريدون أن يتمموا مشيئتهم الشخصية في التسلط على العالم، ولكن الله يستخدمهم دون أن يعلموا لإتمام مشيئته، كما قال عن كورش أول ملوك فارس أنه “مسيحي … دعوتك باسمك لقبتك وأنت لست تعرفني (1ش 45: 1 – 4)، أي الذي مسحته ملكًا ليتمم ما أريده، وهو التغلب على بابل وإرجاع شعبي إلي أورشليم.
ع4 – 5: ضجيج : صوت مرتفع.
الصفة الرابعة لجنود الرب، أي مادي وفارس هي، صوت قوى جدًا؛ صوت جمهور ضخم من الناس يأتي من وراء الجبال التى بجوار نهر دجلة، وهو صوت يشبه أعداد ضخمة من الناس، فهم كثيرون فعلاً، ولكن صوتهم القوى يظهر أنهم أكثر عددًا من الحقيقة، فهو صوت مخيف.
هذا الصوت الذي يسمعه سكان بابل هو صوت يأتي إليهم كأنه من أمم كثيرة، اجتمعت معاً لمحاربة بابل، وهم جنود مادى وفارس الذين أتوا؛ ليتمموا مشيئة الله، وقد أتوا بقوة، وكأن الله معهم، فظهروا بشكل أكبر من حجمهم، مخيف جدًا لمن يسمعهم.
هؤلاء الجنود، أو الأصوات المرتفعة الآتية من بعيد إلي آذان سكان بابل، تُظهر أنهم أمم أتوا من بعيد من أقصى السموات لمهاجمة بابل. ومادي وفارس قد أتوا فعلاً من بعيد، إذ لم يكن العالم قد اكتشف البلاد الأبعد منها، فكانت مادي وفارس تبدو وكأنها نهاية العالم المعروف شرقًا.
هذه الأصوات هى أصوات أدوات غضب الله الشديد، الآتي من أقصى السموات، أي من أبعد الأماكن؛ ليخرب بابل وكل ما حولها، والرب في وسطهم يباركهم، ويسندهم فيزدادون قوة، ويخيفون من يسمعهم.
هذه الجموع ترمز إلي جموع المسيحيين في العهد الجديد، الصاعدين إلي الجبال، أي مرتفعين نحو السماء في صلوات وتسابيح؛ ليهجموا على الشياطين بقوة المسيح الفادى المصلوب، وينتصروا عليهم بحياة الطهارة والبر وكل عمل صالح؛ كل هذا في اتضاع ووداعه.
إذا رأيت غضب الله آتياً عليك في شكل ضيقة، فاتضع أمامه في توبة، وثق أنه رحيم، وسيقبل توبتك، ويغفر خطاياك، ويعبر بك في الضيقة كلها، وتخرج في أمان وسلام.
(2) يوم خراب بابل (ع 6 – 22):
6وَلْوِلُوا لأَنَّ يَوْمَ الرَّبِّ قَرِيبٌ، قَادِمٌ كَخَرَابٍ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. 7لِذلِكَ تَرْتَخِي كُلُّ الأَيَادِي، وَيَذُوبُ كُلُّ قَلْبِ إِنْسَانٍ. 8فَيَرْتَاعُونَ. تَأْخُذُهُمْ أَوْجَاعٌ وَمَخَاضٌ. يَتَلَوَّوْنَ كَوَالِدَةٍ. يَبْهَتُونَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. وُجُوهُهُمْ وُجُوهُ لَهِيبٍ. 9هُوَذَا يَوْمُ الرَّبِّ قَادِمٌ، قَاسِيًا بِسَخَطٍ وَحُمُوِّ غَضَبٍ، لِيَجْعَلَ الأَرْضَ خَرَابًا وَيُبِيدَ مِنْهَا خُطَاتَهَا. 10فَإِنَّ نُجُومَ السَّمَاوَاتِ وَجَبَابِرَتَهَا لاَ تُبْرِزُ نُورَهَا. تُظْلِمُ الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا، وَالْقَمَرُ لاَ يَلْمَعُ بِضَوْئِهِ. 11وَأُعَاقِبُ الْمَسْكُونَةَ عَلَى شَرِّهَا، وَالْمُنَافِقِينَ عَلَى إِثْمِهِمْ، وَأُبَطِّلُ تَعَظُّمَ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَضَعُ تَجَبُّرَ الْعُتَاةِ. 12وَأَجْعَلُ الرَّجُلَ أَعَزَّ مِنَ الذَّهَبِ الإِبْرِيزِ، وَالإِنْسَانَ أَعَزَّ مِنْ ذَهَبِ أُوفِيرَ. 13لِذلِكَ أُزَلْزِلُ السَّمَاوَاتِ وَتَتَزَعْزَعُ الأَرْضُ مِنْ مَكَانِهَا فِي سَخَطِ رَبِّ الْجُنُودِ وَفِي يَوْمِ حُمُوِّ غَضَبِهِ. 14وَيَكُونُونَ كَظَبْيٍ طَرِيدٍ، وَكَغَنَمٍ بِلاَ مَنْ يَجْمَعُهَا. يَلْتَفِتُونَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى شَعْبِهِ، وَيَهْرُبُونَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى أَرْضِهِ. 15كُلُّ مَنْ وُجِدَ يُطْعَنُ، وَكُلُّ مَنِ انْحَاشَ يَسْقُطُ بِالسَّيْفِ. 16وَتُحَطَّمُ أَطْفَالُهُمْ أَمَامَ عُيُونِهِمْ، وَتُنْهَبُ بُيُوتُهُمْ وَتُفْضَحُ نِسَاؤُهُمْ. 17هأَنَذَا أُهَيِّجُ عَلَيْهِمِ الْمَادِيِّينَ الَّذِينَ لاَ يَعْتَدُّونَ بِالْفِضَّةِ، وَلاَ يُسَرُّونَ بِالذَّهَبِ، 18فَتُحَطِّمُ الْقِسِيُّ الْفِتْيَانَ، ولاَ يَرْحَمُونَ ثَمَرَةَ الْبَطْنِ. لاَ تُشْفِقُ عُيُونُهُمْ عَلَى الأَوْلاَدِ. 19وَتَصِيرُ بَابِلُ، بَهَاءُ الْمَمَالِكِ وَزِينَةُ فَخْرِ الْكِلْدَانِيِّينَ، كَتَقْلِيبِ اللهِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ. 20لاَ تُعْمَرُ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ تُسْكَنُ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ، وَلاَ يُخَيِّمُ هُنَاكَ أَعْرَابِيٌّ، وَلاَ يُرْبِضُ هُنَاكَ رُعَاةٌ، 21بَلْ تَرْبُضُ هُنَاكَ وُحُوشُ الْقَفْرِ، وَيَمْلأُ الْبُومُ بُيُوتَهُمْ، وَتَسْكُنُ هُنَاكَ بَنَاتُ النَّعَامِ، وَتَرْقُصُ هُنَاكَ مَعْزُ الْوَحْشِ، 22وَتَصِيحُ بَنَاتُ آوَى فِي قُصُورِهِمْ، وَالذِّئَابُ فِي هَيَاكِلِ التَّنَعُّمِ، وَوَقْتُهَا قَرِيبُ الْمَجِيءِ وَأَيَّامُهَا لاَ تَطُولُ.
ع 6: ولولوا: اصرخوا بصوت عالٍ
ينادي إشعياء علي بابل وكل التابعين لها، ليصرخوا بحزن كمن يندب ميتاً، لأن يوم الرب قريب. وما هو يوم الرب إلا يوم خراب بابل، ويسميه يوم الرب لما يلي:
1- لأن الرب هو الذي حدده.
2- الرب أعلن تفاصيل كل ما سيحدث فيه.
3- الرب يظهر عدله في معاقبة الظالمين والقساة، أي البابليين.
4- الرب يحرر شعبه في هذا اليوم، عندما يسمح له، كورش، أو ملوك الإمبراطورية الجديدة بعد بابل، بالرجوع إلي بلاده، وبناء هيكل الرب وأورشليم.
ويقول : “قريب” مع أنه أمامه حوالي 200 سنة، وهذا يظهر محبة الله الذي يطيل أناته على الخطاة، ويعطيهم فرصة للتوبة، وفي نفس الوقت يثبت إيمان أولاده؛ حتى يحتملوا الضيقات التى تمر بهم.
الرب قادر على كل شىء، فلا يقف أمامه أحد، ولا بابل المتكبرة المسيطرة على العالم، والقاسية القلب، مهما كانت قوتها، أو معرفتها، فالله قادر أن يحطم أية قوة شريرة، ويخلص أولاده من الذل والعار.
ويوم الرب على بابل يرمز إلي يوم الرب الأخير، أي يوم الدينونة، عندما يزيل شرور العالم كله، ويحطم كبرياء الشيطان ومن يتبعه.
ع7: في هذا اليوم تضعف، وتسقط كل الأيادي، فلا تستطيع أن تحمل سلاحًا، أو تقاوم، أما قلوبهم فتذوب كالماء من الخوف والارتعاب، أمام قوة الله الظاهرة في المهاجمين الأقوياء.
ع 8: فيرتاعون : فيخافون بشدة.
مخاض: آلام الولادة.
يبهتون: يصيرون في ذهول واندهاش.
يخاف جدًا كل البابليين عند هجوم مادي وفارس عليهم، ويتألمون كما تتألم المرأة الحبلى عندما تأتيها آلام الولادة.
ويصيرون في ذهول كل واحد ينظر إلي الآخر لينجده، فلا يجد أية معونة؛ لأن الكل في خوف وذهول، بل إن وجوههم تصير حمراء من الخجل من انكسارهم وهزيمتهم، ثم تنقلب إلي اللون الأصفر من شدة الخوف، ثم تصير سوداء من الرعب واشتعال النيران حولهم التى تحرقهم.
ع 9: يظهر في يوم الرب غضبه الشديد الذي يفعل أمرين:
1- يخرب الأرض كلها، أي يخرب بابل العظيمة التى افتخر بها نبوخذ نصر، ومن بعده من الملوك بكبرياء عظيم.
2- يهلك كل الخطاة الظالمين المتكبرين، الذين أفسدوا الأرض أمام الله لسنينٍ طويلة. وهذا يبين أن السبب في كل هذا الخراب والعقاب هو الخطية.
ع 10: جبابرتها: يشير إلي مجموعة نجوم تسمى الجبار.
يصور إشعياء ما سيحدث لبابل في يوم الرب بما يلي:
1- لا تظهر النجوم.
2- الشمس تظلم منذ شروقها في بداية اليوم.
3- القمر يفقد نوره ولمعانه، أي يكون ظلامًا شديدًا جدًا.
كل هذه العلامات مجازية معنوية، أي يشعر البابليون من كثرة خوفهم، واشتعال النيران حولهم، وقوة الهجوم عليهم، بأنهم في ظلام شديد.
هذه الظلمة ترمز إلي حياة الأشرار المنغمسين في شهواتهم، فلا يرون نور الكنيسة في العهد الجديد ويظلون بعيدين عن الله.
ويرمز أيضًا إلي ما سيحدث في يوم الدينونة، عندما تتساقط النجوم، وتظلم الشمس عند مجىء الرب ليدين العالم كله.
ع 11: في معاقبة بابل يقول الرب: “أعاقب المسكونة على شرها“، ويقصد بالمسكونة بابل والبلاد التابعة لها؛ لأنها كانت تحكم العالم كله، والعالم سار وراءها في الشر.
ويقول أيضًا : “والمنافقون على إثمهم” ويقصد بالمنافقين كل الأشرار في بابل وما حولها، الذين أظهروا أنهم رجال عدل، وهم في الحقيقة أشرار، يشبعون شهواتهم في أنانيته بالغة.
ويبطل أيضًا المتكبرين الذين تكبروا أمام الله، وظلموا غيرهم. أما العتاة المتجبرون، الذين أظهروا قوتهم وجبروتهم في التحكم والسيطرة على المساكين؛ هؤلاء ينزلهم الله من مراكزهم العظيمة، ويضعهم في التراب، أي يسمح بإذلالهم، وهذا ما حدث عندما أذلت مملكتا مادي وفارس البابليين في قسوة وعنف.
كل هذا يظهر أن الله يبغض الخطية، وخاصة الكبرياء، ويسند ويرفع المتضعين المؤمنين به، والسالكين بالاستقامة، ويبغض أيضًا الفساد والانغماس في الشهوات التى تميز بها البابليون.
وعندما يقول : “أعاقب المسكونة”، فهذا رمز للعقاب الإلهي للأشرار في يوم الدينونة، حيث يدين الأشرار في كل العالم، بعد أن أطال أناته عليهم سنيناً طويلة ليتوبوا، ولكنهم رفضوا التوبة.
ع 12: الذهب الإبريز: الذهب الخالص.
ذهب أوفير: ذهب نقي كان في منطقة أوفير، وهي جنوب شرق الجزيرة العربية.
يظهر الله أن الهجوم الفارسي على بابل سيكون نتيجته قلة الرجال لماذا ؟
1- لأن كثيرين منهم قد ماتوا في الحرب، أي قتلهم الفارسيون.
2- بابل كانت قد جمعت رجالاً كثيرين، وسخرتهم للعمل في بناء بابل العظيمة، فعندما تسقط بابل سيرجع المسبيون إلي بلادهم، وينقص جدًا عدد الرجال الباقين في بابل.
3- عندما تخرب بابل بالطبع لن يأتي إليها رجالٌ من البلاد المحيطة، إذ لا توجد فرص عمل فيها بعد خرابها. هذا أيضًا يزيد نقص الرجال في مدينة بابل المخربة.
من هذا نفهم أن الأحوال ستتغير تمامًا في بابل نتيجة شرها، وهذا يدعونا جميعًا للتوبة؛ لأن أمور الحياة غير مضمونة، إذ أن العالم دائمًا متقلب، أما الدائم فقط وغير المتغير فهو الله، والمؤمنون به يتمتعون بسلام واستقرار.
ع 13: في يوم خراب بابل، الطبيعة تعبر عن غضب الله في شكل رعود من السماء وزلازل في الأرض، وهذا بالطبع يخيف جدًا سكان بابل.
ظهور غضب الله في الطبيعة المتزعزعة هو رمز لما سيحدث في يوم الدينونة الأخير.
ع 14: ظبي: غزال، وهو سريع القفز والجري.
يصف إشعياء الشعب في بابل عند تخريبها بأنهم يجرون ويقفزون كالغزال المطارد من وحوش تجري وراءه.
ويشبهون أيضًا غنماً متفرقة تجري يمينًا ويسارًا، ولا تجد راعٍ يجمعها، فيتشتتوا في كل مكان، خوفًا وهربًا من الموت الآتي عليهم. ولأن مدينة بابل ستكون خربة، فلا يستطيع راع أن يسكن، خوفًا من الوحوش المفترسة، وبالتالي إن وجدت أغنام فلن تجد من يرعاها.
ونرى أيضًا كثيراً من الجنود والناس الذين جاءوا من بلاد كثيرة؛ ليتجندوا، ويعملوا في بابل يجرون سريعًا؛ ليعودوا إلي بلادهم الأصلية، بعد أن خربت المدينة العظيمة بابل، وكل من يبقي فيها معرض للموت.
هذه نتائج طبيعية للانغماس في الشر والشهوات المتنوعة، فنهايتها الهلاك والخوف، وخسران كل شىء، هذا هو العالم الزائل الذي نعيش فيه، مها كانت إغراءات الشهوات الشريرة التى فيه.
ع 15-16: انحاش: لم يستطع الهرب، إذ أحاط به الأعداء.
كان هجوم الأعداء على بابل عنيفًا، فكل من وجدوه طعنوه، بالخناجر، أو قتلوه بالسيوف، ولم يفلت من أيديهم أحد، لا الرجال ولا الأطفال ولا النساء، ففي قسوة قتلوا الكل. وخربوا المدينة، ونهبوا كل ما فيها؛ فكان المنظر قاسيًا فوق الطاقة للبابليين، الذين رأوا أطفالهم تقتل أمام أعينهم، ونساءهم تفضح وتُعري أمامهم.
ولكن هذه المناظر القاسية سبق البابليون وفعلوها في سكان أورشليم واليهودية (مرا 5: 11)، ولذا سمح الله أن تحدث معهم بواسطة مادي وفارس، حتى لا يتمادي أحد في ظلم من حوله، أو القسوة في الانتقام من الآخرين لئلا يرتد هذا على رأسه.
ع 17: لا يعتدون: لا يهتمون.
يعلن الله بوضوح أن الذين سيهجمون على بابل هم الماديون، الذين يسكنون شمال بلاد الفرس، وهي إيران الحالية. وكانت مادي فيها مناطق جبلية كثيرة، فالماديون جبليون، يركبون الخيول، وعنفاء يميلون إلي سفك الدم، ولا يمكن إيقاف قسوة قلوبهم بالفضة، أو الذهب. وكورش الملك الفارسي، الذي اتحد معه الماديون عند هجومهم على بابل قال لهم: “أنكم قوم لم تخرجوا ورائي للحرب طمعًا في الذهب أو الفضة”.
ع 18: القسي: جمع قوس الذي يوضع فيه السهام وتصوب نحو الأعداء في الحرب.
عندما يهجم الماديون بالأقواس والسهام، يضربون كل من يقابلهم من الفتيان والأولاد والأطفال، لأنهم قساة القلوب ولا يشفقون على أحد.
ع 19: الكلدانيين: سكان الجزء الجنوبي من مملكة بابل.
يحطم الماديون بابل التى كانت زينة بلاد العالم، وفخر الكلدانيين الساكنين جنوبها؛ لأن نبوخذ نصر اعتني ببنائها بأسوار عالية، وأبواب عظيمة، بالإضافة إلي أبراج مرتفعة فوق أسوارها، فكانت مدينة غنية وقوية، وتحكم العالم كله.
هذه سيخربها الأعداء، وتنقلب تمامًا، كما انقلبت قديمًا سدوم وعمورة.
ع 20: يربض: يجلس الراعي وتجلس أغنامه حوله.
ويقول الله على فم إشعياء: أن بابل “لا تعمر إلي الأبد، ولا تُسكن على مدي الأجيال”؛ لأنها ستخرب تمامًا، ويهجرها سكانها، وبالتالي لا يضع أعرابي (البدوي الذي يسكن الصحراء) فيها خيمته، فهي ليست مثل باقي الأماكن الصحراوية، بل هي خراب، يخاف أي إنسان أن يسكن فيها ولا يأتي إليها راعٍ بغنمه، فهي لا تصلح حتى لرعي الغنم.
إن كانت بابل لم تُبْنَ بعد هذا؛ حتى محاولة الإسكندر الأكبر أن يبنيها لم تتم، فهي ترمز لبابل مدينة الشر، المذكورة في سفر الرؤيا، والتي ستخرب تمامًا رغم عظمتها وغناها (رؤ18: 2).
ع 21: القفر: الأماكن المهجورة التى لا يسكنها أحد.
البوم: طائر يسكن في الأماكن المهجورة، وشكله وصوته يرمز للتشاؤم عند بعض الناس.
معز الوحش: الغزال البري.
تكون بابل الخربة مكاناً لسكني الوحوش، فتجلس وتستريح فيها، والبوم الذي لا يوجد إلا في الأماكن المقفرة المهجورة، يملأ البيوت الخربة فيها.
وتسكن في بابل الخربة بنات النعام؛ لأن النعام يحب الأماكن المهجورة، وتنتشر أيضًا وتلعب الغزلان البرية، فتبدو كأنها ترقص فى فرح؛ لأن المكان لا يزاحمها فيه أحد.
ع 22: هياكل التنعم: القصور.
بنات آوي: حيوان يشبه الثعلب، وأكبر منه قليلاً، يحب سكني القبور؛ ليأكل جثث الأموات، وهو حيوان مفترس.
والقصور المخربة في بابل، التى لا يسكنها إنسان، تسكنها، بدلاً منه، حيوانات مفترسة، مثل بنات آوي والذئاب.
ويعلن الله في هذه الآية، أن خراب بابل قريب الحدوث، وأيامها التى تفتخر بها لن تطول. وقد تم فعلاً خراب بابل بعد هذه النبوة بحوالي 200 سنة، وهذا يثبت إيمان أولاد الله المظلومين من آشور، ثم بابل ويعلن أن الشر لن يدوم.
لا تنزعج من الظلم إذا انتشر حولك، أو أصابك، فهو مؤقت، واطلب من الله أن يسندك، ويثبت إيمانك، ويعطيك سلامًا؛ حتى تزول الضيقات عنك.