بابل وأدوم والعرب
(1) سقوط بابل (ع1-10):
1وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ بَرِّيَّةِ الْبَحْرِ: كَزَوَابعَ فِي الْجَنُوبِ عَاصِفَةٍ، يَأْتِي مِنَ الْبَرِّيَّةِ مِنْ أَرْضٍ مَخُوفَةٍ.
2قَدْ أُعْلِنَتْ لِي رُؤْيَا قَاسِيَةٌ: النَّاهِبُ نَاهِبًا وَالْمُخْرِبُ مُخْرِبًا. اِصْعَدِي يَا عِيلاَمُ. حَاصِرِي يَا مَادِي. قَدْ أَبْطَلْتُ كُلَّ أَنِينِهَا. 3لِذلِكَ امْتَلأَتْ حَقْوَايَ وَجَعًا، وَأَخَذَنِي مَخَاضٌ كَمَخَاضِ الْوَالِدَةِ. تَلَوَّيْتُ حَتَّى لاَ أَسْمَعُ. اَنْدَهَشْتُ حَتَّى لاَ أَنْظُرُ. 4تَاهَ قَلْبِي. بَغَتَنِي رُعْبٌ. لَيْلَةُ لَذَّتِي جَعَلَهَا لِي رِعْدَةً. 5يُرَتِّبُونَ الْمَائِدَةَ، يَحْرُسُونَ الْحِرَاسَةَ، يَأْكُلُونَ. يَشْرَبُونَ – قُومُوا أَيُّهَا الرُّؤَسَاءُ امْسَحُوا الْمِجَنَّ! 6لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ لِي السَّيِّدُ: «اذْهَبْ أَقِمِ الْحَارِسَ. لِيُخْبِرْ بِمَا يَرَى». 7فَرَأَى رُكَّابًا أَزْوَاجَ فُرْسَانٍ. رُكَّابَ حَمِيرٍ. رُكَّابَ جِمَال. فَأَصْغَى إِصْغَاءً شَدِيدًا، 8ثُمَّ صَرَخَ كَأَسَدٍ: «أَيُّهَا السَّيِّدُ، أَنَا قَائِمٌ عَلَى الْمَرْصَدِ دَائِمًا فِي النَّهَارِ، وَأَنَا وَاقِفٌ عَلَى الْمَحْرَسِ كُلَّ اللَّيَالِي. 9وَهُوَذَا رُكَّابٌ مِنَ الرِّجَالِ. أَزْوَاجٌ مِنَ الْفُرْسَانِ». فَأَجَابَ وَقَالَ: «سَقَطَتْ، سَقَطَتْ بَابِلُ، وَجَمِيعُ تَمَاثِيلِ آلِهَتِهَا الْمَنْحُوتَةِ كَسَّرَهَا إِلَى الأَرْضِ». 10يَا دِيَاسَتِي وَبَنِي بَيْدَرِي. مَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَبِّ الْجُنُودِ إِلهِ إِسْرَائِيلَ أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ.
ع1: برية البحر هى بابل التى ستصير خراباً وبرية، وهى تقع على نهر الفرات، الذى يطلق عليه – مثل باقى الأنهار الكبيرة – بحر أحياناً. فهذه الآيات وحى من جهة بابل.
يأتى على بابل زوابع عاصفة، أى زوابع قوية من الجنوب، وهى رياح حارة محملة بالتراب، تهب على البلاد، فتفسد كل ما تهب عليه من بيوت، أو مزارع. هكذا يشبه إشعياء جيوش مادى وفارس، التى تهجم على بابل، فتدمرها، وتفسدها.
هذه الزوابع تأتى من البرية، والمقصود بلاد مادى وفارس، وهى مخيفة من كثرة العدد، وعنف جنودها، وقسوتهم، فتخرب بابل وما حولها.
والغريب أن يتكلم إشعياء بنبوة مثل هذه، وقد كانت بابل وقتذاك مدينة عظيمة، ثم ازدادت قوة، وسيطرت على العالم، وبعد زمان ليس بقليل خربت على يد مادى وفارس، وهذا إعلان لبابل؛ حتى لا تتكبر، وإعلان لشعب الله ألا يحالفها ويتكل عليها، بل يتكل على الله القوى الدائم، الذى لا يتغير.
ع2: يستكمل إشعياء كلامه عن خراب بابل، فيقول : أن الرؤيا التى رآها على بابل كانت قاسية، إذ رأى أن عيلام (فارس وهى إيران حالياً)، ومادى التى تقع جنوب شرق إيران، سينهبون بابل، ويخربونها، وبهذا ينتهى سلطان بابل التى كانت قاسية على دول العالم المحيطة بها، والتى كانت تئن من قسوة بابل عليها؛ كل هذا الأنين سينتهى بخراب بابل.
ع3: تأثر إشعياء جداً بأخبار سقوط بابل، وتخريبها؛ لأنه يعرف أنها ستصير عظيمة جداً، وفخر البلاد كلها، لكن هذه هى نهاية التكبر والتسلط والقسوة. وبسبب تأثره هذا شعر بوجع في حقويه، وهو الجزء السفلى تحت الوسط من الأمام والخلف، بل أكثر من هذا شعر بآلام شديدة، مثل آلام المخاض الذى يأتى للمرأة الى ستلد.
وكان إشعياء يتلوى، ويتألم، وكان مندهشاً جداً؛ حتى أنه عجز عن الاستماع، أو النظر لما حوله، وأيضاً لأخبار هذه الرؤيا القاسية، أى كان غير محتمل سماعها، أو رؤيتها، وهذا يبين مشاعر النبى الطيبة الرقيقة، الذى يتألم لأجل خراب وتدمير أى بلد؛ حتى لو كانت شريرة.
ع4، 5: بغتنى : فاجأنى.
المجن : هو الترس الكبير، وهو قطعة خشبية، لها عروة من الخلف، يضع فيها الحارس يده، ويحركها أمام وجهه وصدره؛ ليحمى بها نفسه من سهام العدو.
من قسوة منظر الخراب الذى سيحل على بابل، صار قلب إشعياء تائهاً من شدة التأثر، وحل عليه رعب شديد فجأة، إذ رأى الملك بيلشاصر – آخر ملوك بابل – وهو يتلذذ بشرب الخمر في آنية بيت الرب، هو وكل من حوله، وهو لا يعلم أن هذه هى الليلة الأخيرة من عمره؛ لأن جيوش مادى وفارس ستهجم بعد ساعات قليلة على بابل، وسيقتلونه في قصره وهو سكران.
وفيما العبيد يرقبون المائدة، والحراس واقفون على الأبواب وفى كل مكان، حول الملك بيلشاصر، والكل في فرح وهو يأكل ويشرب، سيهجم الأعداء، ويقتلون، وينهبون، ويخربون كل شىء.
وكان الحراس أولى بهم – بدلاً من الانشغال بالطعام ومناظر الاحتفال – أن يمسح كل واحد مجنه بالزيت؛ حتى يحمى نفسه ، وتبتعد عنه سهام العدو.
ع6: يتابع إشعياء شرح الرؤيا التى رآها، إذ قال له الله : أقم الحارس في مكان مرتفع؛ ليرصد ويرى من هم الآتون على بابل من بعيد.
ع7: اصغى : استمع باهتمام.
فرأى الحارس جنوداً تركب جمالاً وحميراً، وهى إشارة لجنود مادى وفارس؛ لأن الماديين يركبون الجمال، أما الفرس فيركبون الحمير. فقد رأى جنود الفرس ومادى مقبلين على بابل، ويتحركون بهدوء، أى يتسللون ليدخلوا بابل، دون أن يشعر بهم أحد، فأصغى الحارس جيداً؛ ليسمع صوت أقدام الحيوانات التى تدخل بهدوء إلى بابل من تحت أسوارها؛ لأن الأعداء حولوا مجرى نهر الفرات، ودخل جنودهم من خلال مجرى النهر تحت الأسوار بهدوء، وهجموا على المدينة، وقتلوا من فيها.
ع8، 9: المرصد : برج المراقبة.
المحرس : مكان الحراسة، وهى أبراج فوق أسوار المدينة.
صرخ الحارس بصوت عظيم كأنه أسد يصرخ، وقال : “أنا واقف باهتمام على المرصد نهاراً، وعلى المحرس طوال الليل. وقال الحارس : أنا أرى أزواجاً من الجنود والفرسان يأتون نحو مدينة بابل، وقد دخلوا بهدوء من تحت الأسوار في مجرى النهر الفارغ.
ثم سمع الحارس صوت الله يجاوبه : سقطت سقطت بابل، انكسرت على كل تماثيل أصنامها، التى سقطت على الأرض. وهكذا تم خراب بابل.
هذه هى الرؤيا التى رآها إشعياء، فرأى احتفال الملك بيلشاصر في قصره يشرب الخمر، ومن حوله يأكلون ويشربون، ورأى أيضاً الحراس على المرصد والمحرس، يعلنون دخول الماديين والفرس، راكبين الجمال والحمير، داخلين إلى بابل بهدوء، وفجأة بعد دخولهم هجموا على الملك، وكل السكان، وقتلوهم، فأعلن الله سقوط بابل وتحطيمها؛ هى وكل أصنامها، وقصة بيلشاصر مذكورة (دا 5).
إن بابل المتكبرة المملوءة بالشهوات الكثيرة، من شرب الخمر والزنى ، ترمز إلى العالم الشرير، الذى سيسقط في نهاية الأيام، ويُلقى الأشرار في العذاب الأبدى، ويخلص أولاد الله المؤمنون.
ع10: دياستى : الذين يدوسون العنب في المعاصر.
بنى بيدرى : الذين يدرسون القمح في البيادر، أى يفصلون القمح عن القش في أماكن واسعة.
يعلن إشعياء أن هذه الرؤيا رسالة من الرب لشعبه في مملكة يهوذا؛ حتى لا يتكلون على أحد من بلاد العالم؛ سواء آشور، أو بابل، بل يتكلون على الله، ويتوبون عن خطاياهم؛ لينجوا من يد أعدائهم.
إن كان الله يسمح بتأديبات لشعبه؛ يرمز إليها هنا بعصر العنب، وتكسير أعواد القمح لفصل الحبوب عن القش، فهذا تأديب مؤقت؛ ليتوبوا، ولكن الله في النهاية ينقذهم من السبى، ويعيدهم إلى بلادهم، ويحفظهم من كل شر.
إن كان الله قد أعطاك قوة، وقدرات ومواهب، فلا تتكبر، بل إعطِ المجد لله، وتب عن خطاياك، فيرضى عنك الله، وينجيك من كل شر.
(2) دعوة أدوم للتوبة (ع11، 12):
11وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ دُومَةَ: صَرَخَ إِلَيَّ صَارِخٌ مِنْ سَعِيرَ: «يَا حَارِسُ، مَا مِنَ اللَّيْلِ؟ يَا حَارِسُ، مَا مِنَ اللَّيْلِ؟» 12قَالَ الْحَارِسُ: «أَتَى صَبَاحٌ وَأَيْضًا لَيْلٌ. إِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَ فَاطْلُبُوا. ارْجِعُوا، تَعَالَوْا».
ع11: دومة : أى أدوم، وهم نسل عيسو.
سعير : سلسلة جبال يسكنها الأدوميون، تقع جنوب مملكة يهوذا.
رأى إشعياء رؤيا بخصوص شعب الأدوميين، الساكنين في جبال سعير، وهم شعب يتميز بالكبرياء، والعنف، ورغم أنهم أقرباء لشعب الله؛ لأن عيسو ويعقوب أخوان، ولكنهم لا يؤمنون بإله إسرائيل، ولا يحفظون وصاياه بالتالى، وكانوا في عداوة مع شعب الله.
صرخ أحد الحراس لمدينة من مدن سعير، وقال لحارس آخر لمدينة من مملكة يهوذا، وقال له : يا حارس ما من الليل؛ أى متى تكون نهاية هذا الليل الذى نحن فيه، وكررها مرة أخرى تأكيداً لضيقه من حالة الأدوميين، وطلبه لنهار وحياة أفضل، ومعنى كلامه أنه يؤمن بأن بنى إسرائيل عندهم نبوات بأنه سيأتى مخلص لهم، هو المسيا المنتظر، فمتى يأتى ؟
ع12: أجاب الحارس الذى في مدينة من مدن مملكة يهوذا المؤمن بالله، وقال للحارس الذى في إحدى مدن أدوم : سيأتى صباح، ثم ليل، أى أن الخلاص سيأتى لبنى إسرائيل، وكل من يؤمن بإله إسرائيل، أى المسيح المسيا المنتظر، ولكن سيكون أيضاً هناك ليل، أى سيظل الأدوميون في ظلمة الخطية وعدم الإيمان إن لم يؤمنوا بإله إسرائيل.
والحل الذى قدمه الله على لسان حارس مملكة يهوذا هو، إن كنتم تطلبون الخلاص والنهار والحياة الجديدة، فاطلبوا هذا من الله، وارجعوا إلى الإيمان بالله، وتعالوا، وانضموا إلى شعب الله المؤمنين.
الإيمان متاح لك يا أخى. أنت تؤمن بالله، ولكنك محتاج أن تعيش الإيمان عملياً، فاطلب من الله أن يرفع عنك الضيقة، ويخلصك من خطاياك، فيستجيب لك، وتحيا في نهار وفرح مع الله.
(3) انكسار العرب (ع13-17):
13وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ بِلاَدِ الْعَرَبِ: فِي الْوَعْرِ فِي بِلاَدِ الْعَرَبِ تَبِيتِينَ، يَا قَوَافِلَ الدَّدَانِيِّينَ. 14هَاتُوا مَاءً لِمُلاَقَاةِ الْعَطْشَانِ، يَا سُكَّانَ أَرْضِ تَيْمَاءَ. وَافُوا الْهَارِبَ بِخُبْزِهِ. 15فَإِنَّهُمْ مِنْ أَمَامِ السُّيُوفِ قَدْ هَرَبُوا. مِنْ أَمَامِ السَّيْفِ الْمَسْلُولِ، وَمِنْ أَمَامِ الْقَوْسِ الْمَشْدُودَةِ، وَمِنْ أَمَامِ شِدَّةِ الْحَرْبِ. 16فَإِنَّهُ هكَذَا قَالَ لِيَ السَّيِّدُ: «فِي مُدَّةِ سَنَةٍ كَسَنَةِ الأَجِيرِ يَفْنَى كُلُّ مَجْدِ قِيدَارَ، 17وَبَقِيَّةُ عَدَدِ قِسِيِّ أَبْطَالِ بَنِي قِيدَارَ تَقِلُّ، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَ إِسْرَائِيلَ قَدْ تَكَلَّمَ».
ع13: الوعر : الصحراء التى بلا ساكن.
الددانيين : نسل ددان بن إبراهيم من قطورة (تك25: 3) وهم قبيلة عربية.
الوحى الذى أعطاه الله لإشعياء بعد ذلك، هو عن بلاد العرب، فيخاطب قبائل الددانيين – الذين يعملون في التجارة بين بلاد العرب وترشيش (أسبانيا حالياً)، وكانوا في خوف من جيوش الأشوريين – ويقول لهم إشعياء : أن يبيتوا في الصحراء الجرداء، ويختفوا هناك من وجه آشور.
ع14: تيماء : قبيلة من القبائل التى تسكن في بلاد العرب وتسكن شمال شبه الجزيرة العربية.
ينادى إشعياء على إحدى قبائل بلاد العرب وهى تيماء ؛ لينجدوا هؤلاء الددانين المسافرين في الصحراء، وقد تعبوا، وعطشوا وجاعوا، فيحتاجوا أن يعطيهم أحد شيئاً من الماء والخبز.
والغريب أن يطلب إشعياء من سكان الصحراء، وهم قبيلة تيماء أن يعطوا ماءً وخبزاً للددانيين الهاربين من وجه آشور، والماء والخبز قليل عند القبائل الساكنة في الصحراء، فمن ليس له ماء وخبز كيف يعطى المحتاج إليهما ؟ إن إشعياء يوضح صعوبة المشكلة، أنهم لا يجدون ماءً وخبزاً، ومعرضين للموت. ومن الناحية الرمزية يشير هذا لأهل العالم، الذين يعتمدون عليه، ففى الضيقة لا ينجدهم العالم. فالعالم مضطرب ولا يستطيع أن يعطى سلاماً واستقراراً لمن يطلب منه، بل هذا عند الله فقط، الذى ينبغى أن نؤمن به ونتكل عليه.
ع15: إن الددانيين الهاربين، هم هاربون من وجه سيف الأشوريين، وقسيهم وسهامهم، وتائهون في الصحراء في جوع وعطش، فهم هربوا من الموت بيد آشور، ولكن معرضون للموت جوعاً وعطشاً.
ع16، 17: قيدار : أشهر القبائل العربية وتسكن جنوب شبه الجزيرة العربية.
يعلن إشعياء أن قيدار سيفنى مجدها خلال سنة، مثلما يعمل الأجير لمدة سنة، وستقل أسلحة بنى قيدار، التى تدافع بها عن نفسها، مثل القسى والسهام؛ لأن جنود قيدار صاروا قليلين بسبب موت الكثيرين منهم في الحرب.
وأعلن إشعياء أن هذه النبوة لابد أن تتم؛ لأن هذا هو كلام الله (الرب إله إسرائيل تكلم).
وقد تم هذا، إذ بعد سنة من إعلان هذه النبوة هجم سرجون ملك آشور على بلاد العرب، وقتل الكثيرين من قبائل العرب، وخاصة أكبر قبائلهم وهى قيدار، فصارت بلاد العرب ضعيفة جداً.
إن قبائل العرب أتت من نسل إبراهيم، سواء من إسماعيل، أو ددان إبن إبراهيم من قطورة، فهو بالتالى أب للأمم، كما أنه أب كل أسباط بنى إسرائيل، وسيأتى المسيا المنتظر ويعطى خلاصاً للعالم كله، الذى يرمز إليه بأبناء إبراهيم، يهوداً وأمماً.
الاتكال على الله هو الحل الوحيد للتخلص من مشاكل الحياة وضيقاتها، فاتكل على الله لتحيا مطمئناً، ولا تعود تخاف من أى شىء يأتى عليك في المستقبل.