خراب بابل وآشور وفلسطين
هذا الأصحاح امتداد للأصحاح السابق، فيتكلم عن إدانة ملك بابل، امتداداً لما قاله في الأصحاح السابق عن خراب بابل، ويشير أيضًا إلي سقوط الشيطان (ع12-14)، بالإضافة إلي خراب الدول الأخرى التى تضايق شعب الله، وهي آشور وفلسطين.
(1) رحمة الله لشعبه ( ع1-3):
1لأَنَّ الرَّبَّ سَيَرْحَمُ يَعْقُوبَ وَيَخْتَارُ أَيْضًا إِسْرَائِيلَ، وَيُرِيحُهُمْ فِي أَرْضِهِمْ، فَتَقْتَرِنُ بِهِمِ الْغُرَبَاءُ وَيَنْضَمُّونَ إِلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ. 2وَيَأْخُذُهُمْ شُعُوبٌ وَيَأْتُونَ بِهِمْ إِلَى مَوْضِعِهِمْ، وَيَمْتَلِكُهُمْ بَيْتُ إِسْرَائِيلَ فِي أَرْضِ الرَّبِّ عَبِيدًا وَإِمَاءً، وَيَسْبُونَ الَّذِينَ سَبَوْهُمْ وَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى ظَالِمِيهِمْ. 3وَيَكُونُ فِي يَوْمٍ يُرِيحُكَ الرَّبُّ مِنْ تَعَبِكَ وَمِنِ انْزِعَاجِكَ، وَمِنَ الْعُبُودِيَّةِ الْقَاسِيَةِ الَّتِي اسْتُعْبِدْتَ بِهَا،
ع1: تقترن : ترتبط وتلازم.
إن كان الله سيدين الدول التى ضايقت شعبه، وينتقم منها، فهذا من أجل قساوة قلوبهم على شعبه، وباقي دول العالم، وفي نفس الوقت ليهئ لشعبه راحة في بلاده. وتظهر محبة الله لشعبه فيما يلي:
1- يرحم شعبه، أي نسل يعقوب، ويغفر خطاياهم التى أدبهم بسببها، فيرفع هذه التأديبات، والتى أهمها السبي، ويعيدهم إلي بلادهم أورشليم واليهودية.
2- وهو أيضًا يختار شعبه إسرائيل، الذي أخرجه من أرض مصر قديمًا، وشق البحر الأحمر لأجله، واعتنني به في برية سيناء، وأدخله أرض كنعان. وأن كان قد أدبه مؤقتًا؛ ليتوب، لكنه يرحمه؛ لأنه أختاره شعبًا خاصًا، يؤمن به، ويعبده، فيعيده ليبنى هيكله المنهدم في أورشليم.
3- ويريح شعبه في أرضه التى سبي منها، فيعيش في حرية ويعبد الله بأمانة.
4- ويعطي شعبه نعمة في أعين باقي الشعوب، فيحبوه، ويؤمنوا بإلهه، ويلازموه، أي يعيشوا بجواره ومعه، مثل انضمام بعض الأمميين وإيمانهم بالله، مثل راحاب، وراعوث.
ويكمل اقتران الأمم بشعب الله وانضمامهم لبيت يعقوب في كنيسة العهد الجديد، حيث تؤمن الأمم بالمسيح، ويصيرون واحدًا في المسيح مع اليهود الذين آمنوا بالمسيح.
ع2: الشعوب التى تأخذ بني إسرائيل، ويأتون بهم إلي موضعهم هم شعبا مادي وفارس، حيث أمر ملكهم كورش بأن يعود بنو إسرائيل إلي بلادهم، أي أورشليم واليهودية ويبنوا هيكل إلههم، ويدعوا له هناك.
بنو إسرائيل امتلكوا شعوباً، وأخذوهم معهم إلي أورشليم واليهودية، وصاروا عبيدًا لبني إسرائيل؛ من هؤلاء الذين أخذهم بنو إسرائيل، وجعلوهم عبيدًا لهم؛ هم البابليين الذين كان الفارسيون يبيعونهم عبيدًا، فاشتري بنو إسرائيل منهم وأخذوهم معهم إلي أورشليم، وعاشوا معهم، وأكلوا من خيرات بلادهم، وتحول البابليون من سادة في بلادهم قبل هجوم الماديين والفارسيين عليهم إلي عبيد لبني إسرائيل، بالإضافة إلي أن كورش أمر بعض البابليين أن يساعدوا بني إسرائيل في تعمير بلادهم، وبناء هيكل الله، وهذا تحول عجيب أن يصير سادة بني إسرائيل، أي البابليين عبيدًا وهم الذين أذلوا بني إسرائيل من قبل.
وهكذا نرى بنى إسرائيل قد تسلطوا على البابليين الذين ظلموهم وتسلطوا عليهم من قبل عندما كانوا متسلطين على العالم.
وما حدث هنا بين بني إسرائيل والبابليين رمز لما حدث في العهد الجديد عندما آمنت الأمم بالمسيح، وخضعت للكنيسة، مثل شاول الطرسوسي الذي اضطهد الكنيسة، وبعد هذا آمن بالمسيح، وصار عبدًا وأسيرًا له، وخدمه باقي أيام حياته.
ع3: الله أراح شعبه بعودته إلى بلاده، وبدأ يبنى هيكل الله فى فرح وسرور، وسبح الله الذى عمل ما يفوق العقل، بجمعه من بلاد العالم، وعودته إلى بلاده بأمر الملك، وحينئذ شعر أنه تخلص من ظلم ملك بابل، فشكر الله، ويا ترى ماذا قال عن ملك بابل ؟ هذا ما سنعرفه فى الآيات التالية.
أشكر الله في نهاية كل يوم على ما صنعه معك في رعايتك، أو العناية بك، فيزداد فرحك، ويفيض عليك الله بمراحم أوفر.
(2) إدانة ملك بابل (ع4-23):
4أَنَّكَ تَنْطِقُ بِهذَا الْهَجْوِ عَلَى مَلِكِ بَابِلَ وَتَقُولُ: «كَيْفَ بَادَ الظَّالِمُ، بَادَتِ الْمُغَطْرِسَةُ؟
5قَدْ كَسَّرَ الرَّبُّ عَصَا الأَشْرَارِ، قَضِيبَ الْمُتَسَلِّطِينَ. 6الضَّارِبُ الشُّعُوبَ بِسَخَطٍ، ضَرْبَةً بِلاَ فُتُورٍ. الْمُتَسَلِّطُ بِغَضَبٍ عَلَى الأُمَمِ، بِاضْطِهَادٍ بِلاَ إمْسَاكٍ. 7اِسْتَرَاحَتِ، اطْمَأَنَّتْ كُلُّ الأَرْضِ. هَتَفُوا تَرَنُّمًا.
8حَتَّى السَّرْوُ يَفْرَحُ عَلَيْكَ، وَأَرْزُ لُبْنَانَ قَائِلًا: مُنْذُ اضْطَجَعْتَ لَمْ يَصْعَدْ عَلَيْنَا قَاطِعٌ. 9اَلْهَاوِيَةُ مِنْ أَسْفَلُ مُهْتَزَّةٌ لَكَ، لاسْتِقْبَالِ قُدُومِكَ، مُنْهِضَةٌ لَكَ الأَخْيِلَةَ، جَمِيعَ عُظَمَاءِ الأَرْضِ. أَقَامَتْ كُلَّ مُلُوكِ الأُمَمِ عَنْ كَرَاسِيِّهِمْ. 10كُلُّهُمْ يُجِيبُونَ وَيَقُولُونَ لَكَ: أَأَنْتَ أَيْضًا قَدْ ضَعُفْتَ نَظِيرَنَا وَصِرْتَ مِثْلَنَا؟ 11أُهْبِطَ إِلَى الْهَاوِيَةِ فَخْرُكَ، رَنَّةُ أَعْوَادِكَ. تَحْتَكَ تُفْرَشُ الرِّمَّةُ، وَغِطَاؤُكَ الدُّودُ. 12كَيْفَ سَقَطْتِ مِنَ السَّمَاءِ يَا زُهَرَةُ، بِنْتَ الصُّبْحِ؟ كَيْفَ قُطِعْتَ إِلَى الأَرْضِ يَا قَاهِرَ الأُمَمِ؟ 13وَأَنْتَ قُلْتَ فِي قَلْبِكَ: أَصْعَدُ إِلَى السَّمَاوَاتِ. أَرْفَعُ كُرْسِيِّي فَوْقَ كَوَاكِبِ اللهِ، وَأَجْلِسُ عَلَى جَبَلِ الاجْتِمَاعِ فِي أَقَاصِي الشَّمَالِ. 14أَصْعَدُ فَوْقَ مُرْتَفَعَاتِ السَّحَابِ. أَصِيرُ مِثْلَ الْعَلِيِّ. 15لكِنَّكَ انْحَدَرْتَ إِلَى الْهَاوِيَةِ، إِلَى أَسَافِلِ الْجُبِّ. 16اَلَّذِينَ يَرَوْنَكَ يَتَطَلَّعُونَ إِلَيْكَ، يَتَأَمَّلُونَ فِيكَ. أَهذَا هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي زَلْزَلَ الأَرْضَ وَزَعْزَعَ الْمَمَالِكَ، 17الَّذِي جَعَلَ الْعَالَمَ كَقَفْرٍ، وَهَدَمَ مُدُنَهُ، الَّذِي لَمْ يُطْلِقْ أَسْرَاهُ إِلَى بُيُوتِهِمْ؟ 18كُلُّ مُلُوكِ الأُمَمِ بِأَجْمَعِهِمِ اضْطَجَعُوا بِالْكَرَامَةِ كُلُّ وَاحِدٍ فِي بَيْتِهِ. 19وَأَمَّا أَنْتَ فَقَدْ طُرِحْتَ مِنْ قَبْرِكَ كَغُصْنٍ أَشْنَعَ، كَلِبَاسِ الْقَتْلَى الْمَضْرُوبِينَ بِالسَّيْفِ، الْهَابِطِينَ إِلَى حِجَارَةِ الْجُبِّ، كَجُثَّةٍ مَدُوسَةٍ. 20لاَ تَتَّحِدُ بِهِمْ فِي الْقَبْرِ لأَنَّكَ أَخْرَبْتَ أَرْضَكَ، قَتَلْتَ شَعْبَكَ. لاَ يُسَمَّى إِلَى الأَبَدِ نَسْلُ فَاعِلِي الشَّرِّ. 21هَيِّئُوا لِبَنِيهِ قَتْلًا بِإِثْمِ آبَائِهِمْ، فَلاَ يَقُومُوا وَلاَ يَرِثُوا الأَرْضَ وَلاَ يَمْلأُوا وَجْهَ الْعَالَمِ مُدُنًا». 22«فَأَقُومُ عَلَيْهِمْ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ. وَأَقْطَعُ مِنْ بَابِلَ اسْمًا وَبَقِيَّةً وَنَسْلًا وَذُرِّيَّةً، يَقُولُ الرَّبُّ. 23وَأَجْعَلُهَا مِيرَاثًا لِلْقُنْفُذِ، وَآجَامَ مِيَاهٍ، وَأُكَنِّسُهَا بِمِكْنَسَةِ الْهَلاَكِ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ».
ع4: الهجو: الذم وإظهار العيوب.
المغطرسة: المتكبرة.
عندما يستريح شعب الله في بلاده، ويكون ملك بابل قد قتل بيد الدولة الفارسية، يستطيع شعب الله أن يذكر عيوب ملك بابل، وكبرياء دولته، وظلمه الذي احتمله بنو إسرائيل، وأخيرًا رفع الله هذا الظلم عن شعبه، لذا فمن الطبيعي أن يشكر الله، ويسبحه؛ لأنه خلصه من ملك بابل الشرير الذي يرمز للشيطان.
ع5: إن كانت الصفة الشريرة الأولي لملك بابل هي الظلم المذكور في الآية السابقة، فالصفة الثانية المذكورة في هذه الآية هي التسلط، والله كسر عصا وقضيب ملك بابل الذي استخدمه الله لتأديب شعبه، وباقي الشعوب؛ ليتوبوا، ثم بعد هذا يدين الله ملك بابل على ظلمه وتسلطه.
ع6: الصفة الثالثة لملك بابل الشرير هي أنه كان ضاربًا للشعوب التى احتلها بغضب شديد، وهذا الغضب كان مستمرًا، فكان محبًا للإساءة، وإذلال من احتلهم، فيشتتهم في بلاد العالم، وينهب ثرواتهم؛ ليجمع الذهب كله في عاصمته بابل.
الصفة الرابعة تذكر في هذه الآية أيضًا لملك بابل الشرير، وهي أن كان اضطهاده بلا إمساك، أي مستديمًا، فهو عنيف في اضطهاده لكل الشعوب. ومن جهة بنى إسرائيل، حطم وأحرق هيكل إلههم، وأذل ملوك ورؤساء الدول، وألقاهم في سجون مظلمة، فصدقيا مثلاً ملك يهوذا، قتل أولاده أمام عينيه، ثم فقأ عينيه، وأرسله إلي بابل، وألقاه في أحد سجونها.
ع7: بموت ملك بابل الشرير حدثت ثلاثة أمور لكل الشعوب التى كان يحتلها، ويذلها، وهذه الأمور هي:
1- استراحت الأرض من ظلم وتسلط، وضرب، واضطهاد ملك بابل لها.
2- أطمأنت الأرض، فعاد السلام لبلاد العالم، وبدأوا يتمتعون بخيرات بلادهم، ويعيشون حياتهم الطبيعية في أمان.
3- هتفت الشعوب ورنمت فرحًا بتخلصهم ممن كان يظلمهم بقسوة.
ع8: وأيضًا الأشجار العظيمة مثل السرو والأرز التى تنمو في لبنان وبلاد أخرى، وهي أشجار قوية مرتفعة نحو السماء، ومستديمة الخضرة، تهتف أيضًا، وتفرح بموت ملك بابل الذي كان يقطعها بقسوة، وهذا ما لم يفعله الملوك التاليون له، مثل الفرس، فهذا يبين قسوة ملك بابل.
والأشجار العالية القوية ترمز لملوك ورؤساء الدول التى احتلها ملك بابل، فكان يقطعهم، ويعذبهم، ويسلب حريتهم، ويذلهم، هؤلاء هتفوا عند موته، لأنهم استعادوا حريتهم، ورفعوا رؤسهم وعاشوا فرحين.
ع 9 ، 10: منهضة : مقيمة.
الأخيلة: جمع خيال والمقصود أرواح الموتي.
نظيرنا: مثلنا.
استهزاءً بملك بابل، الذي جعل نفسه كإله، وأذل العالم كله، أخيرًا قد مات في ضعف، مثل باقي البشر. والهاوية، أو الجحيم يهتز مرحبًا به، بعد أن صار ذليلاً ومات، وقامت أرواح ملوك الأرض وعظمائها عن كراسيهم في الجحيم، ليس إكرامًا لملك بابل، بل سخرية منه، وقائلة له: هكذا أصبحت ضعيفاً مثلنا، ونزلت إلي الهاوية، بعد كبريائك الشديد وعجرفتك، صرت ذليلاً وسقطت بيننا.
من هذه الآيات يُفهم أن هناك حياة أخري بعد هذه الأرض توجد فيها الأرواح، وهذه الأرواح تعرف بعضها البعض، كما عرفوا ملك بابل، ويميزون الخطأ والصواب، فيسخروا من ملك بابل لتعاظمه في كبرياء وأنه لا سلطان لأحد على الآخر في الجحيم، إذ تزول قوة ملك بابل، فيسخرون منه ولا يستطيع الرد عليهم.
ع11: رنة أعوادك: صوت قيثاراتك.
رمة: جثة متعفنة وفيها دود.
ويقول هؤلاء العظماء والملوك لملك بابل، اهبط أيها المتشامخ بكبرياء إلي الهاوية، واترك عنك حفلاتك وتنعماتك، المملوءة بالآلات الموسيقية والقيثارات؛ لتصير جثة، تحتها الرمة، والعفونة، وتتغطى بالدود الذي يأكل جثتك.
هذا هو منتهي الإذلال للمتكبرين، أو هذه هي نهايتهم حتى يتعظ كل إنسان، ولا يتكبر ولا يظلم غيره، فإنه في النهاية سيصير ذليلاً في ضعف كامل، إن لم يتب عن خطاياه.
ع12: يواصل الملوك والعظماء كلامهم مع ملك بابل، فيقولون له: كيف سقطت إلي الجحيم؟ يا من بكبرياء رفعت نفسك كأنك نجم في السماء، وقالوا له : أنت تشبهت بزهرة بنت الصباح، والتي ترجمتها في اللاتينية كوكب الصباح الجميل.
ويقولون له: كيف قطعت إلي الأرض؟ أي نزلت من مركزك العالي، وهبطت بالموت إلي الأرض يا من غلبت، وقهرت كل ملوك الأرض.
هذه الآية تنطبق مع الآيتين التاليتين على الشيطان الذي خلقه الله كملاك، وكان كاروبًا عظيمًا في رتبة الكاروبيم المملوئين أعيناً، وسقط لكبريائه.
ع13: أنت يا ملك بابل قلت: أصعد إلي السماء، وأكون مثل باقي الآلهة، أى أرتفع فوق كل البشر والملوك.
وأرفع كرسى فوق كواكب الله، أي أكون مع الآلهة، وأجلس على جبل الاجتماع في أقاصي الشمال، حيث كانوا يتخيلون قديمًا تجمع للآلهة على جبل عالٍ، وكان هناك جبل يقع شمال شرق بابل، يظنون أن هناك تجتمع الآلهة، فملك بابل يريد أن يهرب من الموت الذي يقع على كل البشر، ويصير خالدًا مع الآلهة، وهي ليست بالطبع آلهة لأنها شياطين.
وهكذا أيضًا الشيطان قال في نفسه: أني أرفع كرسي وأصير مثل الله، فأرتفع فوق الملائكة، فسقط سقوطًا عظيمًا.
ع14: تشبه ملك بابل بالشيطان سيده، فقال في نفسه: أصعد فوق مرتفعات السحاب، أي أكون فوق كل البشر، بل أصير مثل الله العلي، إنه كبرياء لا حدود له سقط فيه ملك بابل، فانحط إلي الجحيم ذليلاً.
هكذا أيضًا قال الشيطان في نفسه أن يرتفع فوق جميع الملائكة، ويصير مثل الله، فسقط من مرتبته العظيمة في رتبة الكاروبيم، أي الشاروبيم، وفقد مكانه كملاك.
ع15: الجب: البئر العميقة.
كان ملك بابل يحلم بأنه سيرفع كرسيه، ويكون على الجبل مع الآلهة، ويظل خالدًا إلي الأبد، ولكن كل هذه الأحلام انتهت فجأة بموته، وانحدر ساقطًا في الجحيم، أي الهاوية والجب، وقابل سيده الشيطان.
وهذه نبوة أيضًا عن الشيطان الذي تكبر مريدًا أن يكون مثل الله، ولكنه يسقط إلي الجحيم، ثم يذهب إلي العذاب الأبدي.
ع16 ، 17: الملوك والرؤساء الذين في الجحيم، عندما يرون ملك بابل قد سقط إلي الجحيم معهم يقولون له: هل أنت الذي زلزلت الأرض، وزعزت الممالك؟ وأصبحت ضعيفًا مثلنا، وسقطت إلي الجحيم، لتتعذب معنا؟ وزعزعة الممالك مقصود بها إزالة اسم هذه الممالك، وأصبحت مجرد ولايات تابعة للإمبراطورية البابلية، بعد استيلاء ملك بابل عليها.
والمقصود بهذا الرجل، ملك بابل، وملك بابل هو كل ملك تملك على بابل من نبوخذ نصر إلي بيلشاصر، وفي هاتين الآيتين يقصد بالأكثر نبوخذ نصر، الذي كان قويًا وعنيفًا.
ملك بابل جعل العالم قفرًا، وهدم مدنه، إذ كان عنيفًا، وكان يجد لذة في تخريب مدن العالم التى يستولي عليها، وإزالة قوميتها، وأصبحت مدنًا كثيرة خربة، لا يسكنها أحد.
وكان يقتل الرجال والعظماء، والبعض منهم يقبض عليهم ويلقيهم في السجون، ولا يطلقهم إذلالاً لهم، ولا يبقي في الأرض إلا الضعفاء. كل هذا السلطان قد زال وانحدر هو إلي الهاوية بلا أية قوة.
ع18 ، 19: اضطجعوا: رقدوا.
أشنع: قبيح جدًا ومكروه.
يواصل الملوك كلامهم مع ملك بابل، والمقصود هنا بالأكثر بيلشاصر آخر ملوك بابل، الذي ذبحه جنود الفرس عندما اقتحموا بابل، فيقولون له: إن كل ملوك الأمم عندما يموتون يدفنون بإكرام في بيوتهم، أو الأماكن التى أعدوها كقبور لهم، وقد تكون عظيمة، مثل الأهرامات.
أما أنت يا ملك بابل: فقد طُرحت جثتك بشكل قبيح جدًا، أو مثل من يُقتل بالسيف، فلباسه يُلقي بإهمال؛ لأنه ملطخ بالدماء، وتُلقي جثتك وتُداس من الناس، وتُهمل كمن أُلقيت جثته في حفرة عميقة. وقد حدث هذا فعلاً مع جثة بيلشاصر الملك، فلم يهتم أحد بدفنها، بل داسها الجنود بأقدامهم وقت اقتحامهم بابل، وفعلا كان كغصن شجرة مكروه، ولا يريد أحد أن يلمسه.
ع20: يا ملك بابل: لن تتحد بالملوك والرؤساء الذين نزلوا إلي الجحيم؛ لأنك كنت أكثر منهم شرًا، إذ أخربت أرضك، وقتلت شعبك؛ لأنك استحوذت على غنائم الأمم لنفسك، ولم تجعل شعبك غنيًا، بل تركتهم في جوع وتعب، فأنت أناني تفكر في نفسك فقط ومصلحتك، وتهمل شعبك.
ولا يسمي إلي الأبد نسل فاعلى الشر، الذي هو أنت. ونسلك يابيلشاصر لن يجلس على عرش الملك، بل يذل مثل باقي البابليين، نتيجة ما فعلته من شرور. فالله عادل ويكره الملوك الظالمين، بل ويعاقبهم.
ع21: بنو ملك بابل سيقتلهم جنود الفرس بأمر الملك كورش، وذلك لما يلي:
1- حتى لا يقوموا بثورة ليأخذوا الملك.
2- لأن نبوخذ نصر قتل أبناء صدقيا ملك يهوذا أمام عينيه (أر 52:10)، فيقتل كورش الملك الفارسي أبناء بيلشاصر آخر ملوك بابل، فكما فعل يُفعل به.
3- حتى لا يقوم أبناء الملك، ويبنون مدنًا، كما اشتهر ملوك بابل، أي ينعدم كل إثم وقوة لهم.
ع22 ، 23: آجام: تجمعات مياه، مثل البرك.
يقوم الله على نسل ملك بابل، ويقطع اسمهم، وبقيتهم، ونسلهم أيضًا؛ كل هذا بواسطة مادي وفارس.
وبهذا تخرب بابل، وتصير مكانًا لسكنى القنفذ، الذي يعيش في الخرائب، وتصير بابل بركًا من الماء، أي خرابًا، ويزيلها الله من على وجه الأرض، كأنه يمسك بمكنسة الهلاك ويهلك كل من فيها، فتنتهي بابل العظيمة.
لا تتكبر يا أخي لأن الله يكره الكبرياء، ويطيل أناته عليك لتتوب، فأسرع وارجع إلي الله، وعالج المشاكل التي ظهرت بسبب كبريائك الذي ضايقت به من حولك.
(3) خراب آشور (ع24-27)
24قَدْ حَلَفَ رَبُّ الْجُنُودِ قَائِلًا: «إِنَّهُ كَمَا قَصَدْتُ يَصِيرُ، وَكَمَا نَوَيْتُ يَثْبُتُ: 25أَنْ أُحَطِّمَ أَشُّورَ فِي أَرْضِي وَأَدُوسَهُ عَلَى جِبَالِي، فَيَزُولَ عَنْهُمْ نِيرُهُ، وَيَزُولَ عَنْ كَتِفِهِمْ حِمْلُهُ». 26هذَا هُوَ القَضَاءُ الْمَقْضِيُّ بِهِ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ، وَهذِهِ هِيَ الْيَدُ الْمَمْدُودَةُ عَلَى كُلِّ الأُمَمِ. 27فَإِنَّ رَبَّ الْجُنُودِ قَدْ قَضَى، فَمَنْ يُبَطِّلُ؟ وَيَدُهُ هِيَ الْمَمْدُودَةُ، فَمَنْ يَرُدُّهَا؟
ع24، 25: أقسم الرب، وهذا معناه تأكيد من الله بضرورة أن يتم ما سيقوله، فماذا قال؟
كما قصد الله سيصير، أي يحدث، وكما نوى أيضًا سيثبت. يا تري ماذا قصد ونوى الله؟
أن يحطم الله آشور في أرض الله، وما هي أرضه إلا مملكة يهوذا، “وأدوس آشور على جبالي“، أي جبال اليهودية، وبهذا يزول نير وحمل آشور عن كتف شعب الله.
وقد حدث هذا بالتفصيل، عندما تقدم الله بملاكه، وقتل 185.000 جندياً من جيش سنحاريب وسنحاريب نفسه، عندما هرب إلي معبد إلهه، قتله إبناه هناك. فالله تدخل في الوقت المناسب، وأذل آشور المتكبر، وحطم جيوشه المتجاسرة في تهديد أورشليم مدينة الله المقدسة، والذي حطم آشور ليس جيش مثله، ولكن يد الله نفسها في شكل ملاكه.
هذا الحدث كان سيحدث قريبًا قبل خراب بابل؛ لأن آشور كانت مسيطرة على العالم وقت كلام إشعياء، فحطمها الله؛ لتكبرها وطغيانها على شعبه، ثم بعد هذا قامت بابل، وتملكت على العالم بكبرياء، فحطمها الله أيضًا، كما ذكر في الجزء الأول من هذا الأصحاح، والأصحاح السابق.
ع26، 27: القضاء الإلهي على آشور هو نموذج لما سيقضي به الله على كل الأمم التى تتجاسر وتهجم على البلاد الآمنة، وخاصة شعب الله. فآشور كانت مسيطرة على أرض العالم كله، وكل من سيحاول أن يذل الناس، ويسيطر على العالم بكبرياء، سيذله الله ويحطمه.
ومادام الله قد قضي بشىء، فلن يستطيع أحد أن يبطل ما أمر به الله. ويد الله قد امتدت، وستحطم آشور، فلا يستطيع أحد أن يردها.
وقضاء الله هذا سيتم لما يلي:
1- لأن الله قادر على كل شىء، وما دام قد أمر بتحطيم آشور المتكبرة، فسيتم ذلك.
2- الله سيحطم المتكبر تحطيمًا كاملاً؛ لأن كبرياءه كان عظيمًا، وسيهلك جيش آشور بشكل لا يتصوره عقل.
3- الله عادل ولا يحب الظلم؛ لذا فعدله يقضى بهلاك الظالم، أي آشور.
4- قضاء الله هدفه أيضًا إنقاذ شعبه، فهو يحب شعبه، ويشفق عليه، وإن أطال أناته، وسمح بالتأديب لفترة قصيرة، لكنه يعود؛ ليحارب عن شعبه، ويهلك أعداءه، وينقذ الشعب؛ ليحيا مع الله ويعبده في أمان.
هذا ما يفعله الله على مدي الأجيال مع أولاده المحبين له، ومع الأشرار الذين يقفون ضدهم، وسيتم قضاءه في نهاية الأيام، عندما يلقي الشيطان وكل جنوده الذين عذبوا أولاده في العذاب الأبدي.
- لا تخف من الأشرار الذين يهددونك، لكن تمسك بالله، وكن مستقيمًا وثق أن الله سيدافع عنك، وإن سمح لك بتأديب مؤقت لتتوب، لكنه لا يتركك أبدًا، فأنت ابنه، وهو يحبك.
(4) خراب فلسطين (ع28-32)
28فِي سَنَةِ وَفَاةِ الْمَلِكِ آحَازَ كَانَ هذَا الْوَحْيُ: 29لاَ تَفْرَحِي يَا جَمِيعَ فِلِسْطِينَ، لأَنَّ الْقَضِيبَ الضَّارِبَكِ انْكَسَرَ، فَإِنَّهُ مِنْ أَصْلِ الْحَيَّةِ يَخْرُجُ أُفْعُوانٌ، وَثَمَرَتُهُ تَكُونُ ثُعْبَانًا مُسِمًّا طَيَّارًا. 30وَتَرْعَى أَبْكَارُ الْمَسَاكِينِ، وَيَرْبِضُ الْبَائِسُونَ بِالأَمَانِ، وَأُمِيتُ أَصْلَكِ بِالْجُوعِ، فَيَقْتُلُ بَقِيَّتَكِ. 31وَلْوِلْ أَيُّهَا الْبَابُ. اصْرُخِي أَيَّتُهَا الْمَدِينَةُ. قَدْ ذَابَ جَمِيعُكِ يَا فِلِسْطِينُ، لأَنَّهُ مِنَ الشَّمَالِ يَأْتِي دُخَانٌ، وَلَيْسَ شَاذٌّ فِي جُيُوشِهِ. 32فَبِمَاذَا يُجَابُ رُسُلُ الأُمَمِ؟ إِنَّ الرَّبَّ أَسَّسَ صِهْيَوْنَ، وَبِهَا يَحْتَمِي بَائِسُو شَعْبِهِ.
ع28 ، 29: يحدد إشعياء ميعاد الوحي الذي من جهة خراب بلاد الفلسطينيين، وهو سنة موت آحاز.
يقول : “لا تفرحي يا جميع فلسطين“، ويقصد جميع بلادها الخمسة الشهيرة.
ويقول الله لفلسطين : لا تفرحي؛ “لأن القضيب الذي يضربك انكسر“، والمقصود ملك آشور، وغالبًا كان تغلث فلا سر. “فإنه من أصل الحية يخرج أفعوان“، وهو ذكر الأفعى السام، “ومن الأفعوان يخرج ثعبانًا مسمًا طيارًا“، وهو مؤذي أكثر من الأفعوان، والمقصود، أنه سيأتي ملوك آشوريون أكثر عنفًا وشراسة، فيخربونك يا بلاد فلسطين.
وهناك رأي آخر، أن عزيا ملك يهوذا كان قد ضرب الفلسطينيين (2 أى 26 : 6، 7)، فكان الفلسطينيون مغتاظين من ملوك يهوذا، وضربوا آحاز ملك يهوذا حفيد عزيا
(2أي28: 18)، ولما مات آحاز، شمتوا به، وظنوا أن شوكة ملوك يهوذا انكسرت، وهم لا يعلمون أنه سيأتي حزقيا ملك يهوذا ابن آحاز الذي سيضربهم لآخر بلادهم وهي غزة
(2 مل 18: 8).
ع30: ضرب الفلسطينيين يريح شعب الله المسكين، فيرعي أبكاره أي يعيش وفتيانه في هدوء وراحة، ويربض البائسون، أي شعب الله في أمان يجلسون مطمئنين في مدنهم بين يدي الله الذي يحميهم من جيرانهم، الذين أساءوا إليهم كثيرًا، وهم الفلسطينيين.
ثم يواصل الله معاقبة الفلسطينيين، ليس فقط بهجوم الآشوريين عليهم، ولكن أيضًا يتعرضون لمجاعة شديدة تميت بقيتهم. وهكذا نري أن الجوع يميت أعداء شعب الله، أي الفلسطينيين فى الوقت الذي يحفظ الله شعبه في أمان وسلام.
ع31: يؤكد هنا الله الضربة القوية التى ستأتي على الفلسطينيين من آشور، وينادي على الفلسطينيين، ويقول لهم : أصرخوا، وولولوا عند أبواب مدنكم، بل كل من في المدينة فليصرخ؛ لأن جنود الآشوريين أقوياء، ليس فيهم جندياً شاذاً، أو ضعيفاً، وسيخربون ويحرقون مدن فلسطين، وتذوب قلوبهم؛ لأن الآشوريين الآتين من الشمال عنفاء جدًا.
ع32: أرسل الفلسطينيون رسلاً إلي مملكة يهوذا، ليتحالفوا معها ضد آشور، بالإضافة إلي رسل لأمم أخري مجاورة لمملكة يهوذا من أجل هذا التحالف، ولكن بماذا يرد شعب الله على هؤلاء الرسل؟
إن الرب أسس صهيون، وبها يحتمي بائسو شعبه، أي يرفض شعب الله التحالف مع الأمم المجاورة، لأن الله هو حصنه، وحمايته، ومهما كان الشعب بائساً وضعيفاً، لكنه قوي لحماية الله له.
لا تنزعج من الأشرار الذين يهددونك، ولكن اتكل على الله، وثق أنه قادر أن يحميك من كل مؤامراتهم، ويحفظك من حروب الشياطين.