الله القوى المعزى
الأصحاحات فى هذا السفر من (ص1-35) تحدثنا عن خطايا شعب الله والأمم، والتى ستكون حتماً نتيجتها الموت؛ لأن أجرة الخطية موت.
وفى الأصحاحات من (ص36-39) نرى قوة الله التى تنقذ شعبه، ومدينته المقدسة، والملك الصالح حزقيا من الموت بشكل إعجازى إلهى.
ولكن يبقى السؤال؛ كيف ينال كل البشر النجاة من الموت والهلاك الأبدى ؟ هذا ما سنعرفه فى باقى السفر من (ص40-66)، وهو مجئ المسيا المنتظر الذى يهب البشرية الخلاص والحياة الأبدية، والذى نرى نبوات واضحة محددة عنه فى هذه الإصحاحات.
(1) بشارة فرح وعزاء (ع1-11):
1 عَزُّوا، عَزُّوا شَعْبِي، يَقُولُ إِلهُكُمْ. 2 طَيِّبُوا قَلْبَ أُورُشَلِيمَ وَنَادُوهَا بِأَنَّ جِهَادَهَا قَدْ كَمُلَ، أَنَّ إِثْمَهَا قَدْ عُفِيَ عَنْهُ، أَنَّهَا قَدْ قَبِلَتْ مِنْ يَدِ الرَّبِّ ضِعْفَيْنِ عَنْ كُلِّ خَطَايَاهَا. 3 صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: «أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي الْقَفْرِ سَبِيلًا لإِلَهِنَا. 4 كُلُّ وَطَاءٍ يَرْتَفِعُ، وَكُلُّ جَبَل وَأَكَمَةٍ يَنْخَفِضُ، وَيَصِيرُ الْمُعْوَجُّ مُسْتَقِيمًا، وَالْعَرَاقِيبُ سَهْلًا. 5 فَيُعْلَنُ مَجْدُ الرَّبِّ وَيَرَاهُ كُلُّ بَشَرٍ جَمِيعًا، لأَنَّ فَمَ الرَّبِّ تَكَلَّمَ». 6 صَوْتُ قَائِل: «نَادِ». فَقَالَ: «بِمَاذَا أُنَادِي؟» «كُلُّ جَسَدٍ عُشْبٌ، وَكُلُّ جَمَالِهِ كَزَهْرِ الْحَقْلِ. 7 يَبِسَ الْعُشْبُ، ذَبُلَ الزَّهْرُ، لأَنَّ نَفْخَةَ الرَّبِّ هَبَّتْ عَلَيْهِ. حَقًّا الشَّعْبُ عُشْبٌ! 8 يَبِسَ الْعُشْبُ، ذَبُلَ الزَّهْرُ. وَأَمَّا كَلِمَةُ إِلهِنَا فَتَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ». 9 عَلَى جَبَل عَال اصْعَدِي، يَا مُبَشِّرَةَ صِهْيَوْنَ. ارْفَعِي صَوْتَكِ بِقُوَّةٍ، يَا مُبَشِّرَةَ أُورُشَلِيمَ. ارْفَعِي لاَ تَخَافِي. قُولِي لِمُدُنِ يَهُوذَا: «هُوَذَا إِلهُكِ. 10 هُوَذَا السَّيِّدُ الرَّبُّ بِقُوَّةٍ يَأْتِي وَذِرَاعُهُ تَحْكُمُ لَهُ. هُوَذَا أُجْرَتُهُ مَعَهُ وَعُمْلَتُهُ قُدَّامَهُ. 11 كَرَاعٍ يَرْعَى قَطِيعَهُ. بِذِرَاعِهِ يَجْمَعُ الْحُمْلاَنَ، وَفِي حِضْنِهِ يَحْمِلُهَا، وَيَقُودُ الْمُرْضِعَاتِ».
ع1: أخبار طيبة ومفرحة يعلنها الله لأولاده الأحباء، ويقول : شعبى؛ لأنه راضٍ عليهم، ويحبهم، فهم خاصته التى يعتنى بها.
ويكرر كلمة عزوا مرتين تأكيداً للعزاء والفرح الآتى إليهم من الله، ومن ناحية أخرى، يقدمه لشعبه القريبين والبعيدين. وكذلك لليهود والأمم، فالكل سيصيرون شعبه فى المسيح الفادى. وتعنى التعزية مرتين أيضاً أنها مقدمة لشعب الله فى العهدين القديم والجديد، ورقم “2” هو رقم الحب الذى يجمع الإثنين فى واحد، فينال كليهما العزاء والفرح.
هذه التعزية صادرة، ليس من الله، بل من الهكم، كما يدعو وينسب نفسه لشعبه، فهو مسئول عنهم، ويعتنى بهم؛ ليفرح قلوبهم، وينزع عنهم أتعابهم.
وتكرار التعزية هى دعوة لكل اليائسين، الفاقدين الرجاء، ليتأكدوا أن الله يرسل لهم تعزية، فلا يسمعوا لتشكيكات إبليس.
الغريب أن الله يعطى تعزيته فى وقت صعب؛ لأن جزء من شعبه، وهو مملكة إسرائيل قد تم سبيها بواسطة أشور، ومملكة يهوذا تنبأ إشعياء أنها ستُسبى بواسطة بابل، ولكن الله يقدم لكليهما عزاء، إذ سيرجعون شعبه من السبى، ويبنى هيكله، ويفرح بعبادته؛ ولذا يكرر التعزية فيقول “عزوا عزوا” حتى يصدقوا كلامه، ويثبت إيمانهم بالبركة القادمة إليهم.
ع2: كلمة “طيبوا” كلمة مريحة، وكان هذا التعبير يناسب كلام الحبيب لحبيبته. فالله يبشر مدينته المقدسة أورشليم بأنها احتملت كثيراً، لذا، فهو يطيب قلبها بحنانه، فهو يشعر بمشاعرها ويتألم لآلامها. ويقصد بأورشليم كل المؤمنين به فى اليهودية، وفى كل مكان.
وهذا التطييب يرمز للمسيح المتألم على الصليب، الذى يطيب قلب عروسه، كنيسة العهد الجديد التى تألمت من أجله، واحتملت كثيراً فى خدمته، وفى آلام العذاب والاستشهاد، فهو الآن يغطيها بحنانه وتعزيته.
لماذا يطيب الله قلب أورشليم ؟
- جهادها قد كمل، وهذا معناه أن الله يراقب ويهتم بجهاد أولاده، ويكافئهم عليه فى الوقت المناسب فى الأرض، ثم فى السماء.
- خطاياها وآثامها التى أخطأت بها، وقبلت السبى بسببها، وتابت عنها، الله بمراحمه سامحها عنها كلها، وهذا يبين محبة الله ومراحمه الغير محدودة.
يبشر الله عروسه أورشليم بأنها ستنال ضعفين عن خطاياها، وهذا معناه :
- مراحم الله غير محدودة، فستغطيها وتعوضها عن كل ما خسرته بسبب خطاياها، ولكن ببركات مضاعفة.
- جهاد الإنسان القليل، الله يعطيه بدلاً منه بركات مضاعفة، كما حدث مع أيوب، واحتمل التجربة العنيفة، فأعطاه الله ضعف ما كان عنده.
ع3: من هو هذا الصارخ الذى ظهر صوته فى البرية ؟
- الصارخ هو الأنبياء الذين ينادون شعب الله والأمم؛ ليتوبوا.
- والصارخ أيضاً هو يوحنا المعمدان، آخر أنبياء العهد القديم، والسابق للمسيح؛ ليعد الطريق له فى قلوب شعبه بالتوبة.
وماذا يقول الصارخ ؟
- إعداد طريق الرب فى القلب، برفض الخطية والسلوك المستقيم.
- تقويم وإعداد طريق فى القفر لله، بأن يعطى الإنسان ثماراً صالحة، فيتحول القفر إلى بستان، ويمهد طريقاً يفرح الله عندما يعبر به ويباركه. فالله لا يبارك إلا القلوب التى تطلبه وتخضع له، وتتغير من أجله لتقبله.
يُفهم من هذه الآية أن الرب قريب، ويريد أن يدخل قلوب أولاده ويباركها؛ ولذا أرسل صارخ لا يمكن إهمال صوته؛ لأنه واضح، وهذا كله يبين حنان الله، واهتمامه بدعوة كل البشر للتوبة، والتمتع بسكناه فيهم؛ وهذا ما حدث فى العهد الجديد، بسكنى الروح القدس الدائم فى المؤمنين.
ع4: وطاء : وادى.
العراقيب : الطرق الضيقة فى الجبال التى يصعب السير فيها.
إن الصارخ يمهد طريق الله فى قلوب سامعيه، فالوطاء، أى صغير النفس، ليتشدد ويتقوى، ويؤمن بقوة الله التى تسنده. والجبال ترمز للمتكبرين، الذين ينخفضون ليصبح من السهل السير فوق هذه الجبال. وكذلك المعوجات تصير طرقاً مستقيمة، والعراقيب تصبح ممهدة ويسهل السير فيها. وهذا معناه أن الإنسان يبتعد عن كل كذب وخداع والتواء، ويزيل المعوقات التى داخل قلبه، من شهوات شريرة وتعلقات بالأرض؛ وبهذا يصبح طريق الله ممهداً ليدخل ويسكن فى القلوب. هذا ما تفعله التوبة فى قلوب كل من يقبلها، مهما كانت حالته صعبة.
ع5: بإتمام الآيتين السابقتين، يعلن الله مجده، إذ يرى توبة أولاده المسبيين، فيعيدهم إلى أورشليم؛ ليبنوا هيكله. ثم فى العهد الجديد، يؤمنون بالمسيح المتجسد الفادى، فينالوا خلاصهم.
وبهذا يتأكد الجميع أن فم الله قد تكلم، ولا يمكن ألا يحدث ويتم كلامه؛ لأنه صادق وقادر على كل شىء، فيثبت إيمان أولاده.
ع6-8: سأل إشعياء مع كل الأنبياء، الله، الذى أمره أن ينادى، وقال لله : بماذا أنادى ؟ فأجابه أن كل جسد عشب، أى أن حياة كل البشر قصيرة زائلة كالعشب. وزهر الحقل الجميل سرعان ما يذبل ويسقط، أى أن كل جمال وقوة وبهاء الإنسان ينتهى سريعاً بنفخة من الله، عندما يعلن أن حياة الإنسان على الأرض قد انتهت، أو أصبح شيخاً وفقد قوته الجسدية. ولكن الذى يثبت ويبقى هو كلمة الله فقط، وبالتالى لابد من الاهتمام بوصايا الله، والخضوع لها، فهى التى تثبت إلى الأبد، ويتمتع بها المؤمنون فقط، الذين يحيون فى وصايا الله، الذين سمعوا صوت أنبيائه الصارخين، وكلامه فى الكتاب المقدس والكنيسة، فينالوا كل التعزيات المذكورة فى (ع1، 2).
ع9: من هى مبشرة صهيون ومبشرة أورشليم ؟
- الأنبياء فى العهد القديم الذين ارتفعوا على جبل عالٍ، هو كلمة الله القوية، المبشرة لشعبه، الذى تألم من عبودية آشور، والخائف من عبودية بابل؛ ليثق فى الله، الذى هو أقوى من كل هذه البلاد، والذى سيعيده من السبى؛ ليحيا له ويعبده فى هيكله، حتى لو تهدم، فيعيد بناءه.
- هى كنيسة العهد الجديد، والجبل هو منبر تعاليمها، وكلمة الله القوية التى ترفع الذين يقبلون الإيمان من الأرض إلى السماء؛ لأن إلههم قادر على كل شىء، فيعطيهم السلام والفرح على الأرض والخلاص الكامل فى الملكوت.
ع10: عملته : أجرة العمال.
إن الرب الآتى لخلاص شعبه سيأتى بقوته، وذراعه ستنفذ كل مشيئته، وكما نفذ مشيئته بملاكه الذى أهلك جيش أشور، سيحطم أيضاً بابل بواسطة مادى وفارس؛ هذه هى أجرة الله وعملته التى ستنفذ كلامه، وتعيد شعبه إلى بلاده.
وذراعه أيضاً هى المسيح المتجسد، الذى بدمه على الصليب سيفتدى شعبه، فيجمع المؤمنين باسمه فى كنيسته، فأجرة المسيح وعملته هم المؤمنون به، الذين اقتناهم بدمه، ويرعاهم بروحه القدوس فى كنيسته.
ع11: والله القوى هو أيضاً الراعى الصالح، الذى يرعى شعبه، ويهتم بهم ويعولهم ويشبعهم.
ويهتم أيضاً بالضعفاء، مثل الحملان الذين يحتضنهم بحبه، والمرضعات، فيسندهم ويشبعهم. وهذا ما حدث فى الرجوع من السبى، وظهر بأكثر وضوح فى العناية بالمؤمنين فى كنيسة العهد الجديد.
الله يبحث عنك يا أخى، فلا تضطرب من ضيقات الحياة، فقط تب عن خطاياك، وتمسك به، وثق أنه يرعاك، ويحميك بقوته، ويعزى قلبك، فلا تحتاج لأى شىء.
(2) قوة الله وعظمته (ع 12-26):
12 مَنْ كَالَ بِكَفِّهِ الْمِيَاهَ، وَقَاسَ السَّمَاوَاتِ بِالشِّبْرِ، وَكَالَ بِالْكَيْلِ تُرَابَ الأَرْضِ، وَوَزَنَ الْجِبَالَ بِالْقَبَّانِ، وَالآكَامَ بِالْمِيزَانِ؟ 13 مَنْ قَاسَ رُوحَ الرَّبِّ، وَمَنْ مُشِيرُهُ يُعَلِّمُهُ؟ 14 مَنِ اسْتَشَارَهُ فَأَفْهَمَهُ وَعَلَّمَهُ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ، وَعَلَّمَهُ مَعْرِفَةً وَعَرَّفَهُ سَبِيلَ الْفَهْمِ.؟ 15 هُوَذَا الأُمَمُ كَنُقْطَةٍ مِنْ دَلْوٍ، وَكَغُبَارِ الْمِيزَانِ تُحْسَبُ. هُوَذَا الْجَزَائِرُ يَرْفَعُهَا كَدُقَّةٍ! 16 وَلُبْنَانُ لَيْسَ كَافِيًا لِلإِيقَادِ، وَحَيَوَانُهُ لَيْسَ كَافِيًا لِمُحْرَقَةٍ. 17 كُلُّ الأُمَمِ كَلاَ شَيْءٍ قُدَّامَهُ. مِنَ الْعَدَمِ وَالْبَاطِلِ تُحْسَبُ عِنْدَهُ. 18 فَبِمَنْ تُشَبِّهُونَ اللهَ، وَأَيَّ شَبَهٍ تُعَادِلُونَ بِهِ؟ 19 اَلصَّنَمُ يَسْبِكُهُ الصَّانِعُ، وَالصَّائِغُ يُغَشِّيهِ بِذَهَبٍ وَيَصُوغُ سَلاَسِلَ فِضَّةٍ. 20 الْفَقِيرُ عَنِ التَّقْدِمَةِ يَنْتَخِبُ خَشَبًا لاَ يُسَوِّسُ، يَطْلُبُ لَهُ صَانِعًا مَاهِرًا لِيَنْصُبَ صَنَمًا لاَ يَتَزَعْزَعُ! 21 أَلاَ تَعْلَمُونَ؟ أَلاَ تَسْمَعُونَ؟ أَلَمْ تُخْبَرُوا مِنَ الْبَدَاءَةِ؟ أَلَمْ تَفْهَمُوا مِنْ أَسَاسَاتِ الأَرْضِ؟ 22 الْجَالِسُ عَلَى كُرَةِ الأَرْضِ وَسُكَّانُهَا كَالْجُنْدُبِ. الَّذِي يَنْشُرُ السَّمَاوَاتِ كَسَرَادِقَ، وَيَبْسُطُهَا كَخَيْمَةٍ لِلسَّكَنِ. 23 الَّذِي يَجْعَلُ الْعُظَمَاءَ لاَ شَيْئًا، وَيُصَيِّرُ قُضَاةَ الأَرْضِ كَالْبَاطِلِ. 24 لَمْ يُغْرَسُوا بَلْ لَمْ يُزْرَعُوا وَلَمْ يَتَأَصَّلْ فِي الأَرْضِ سَاقُهُمْ. فَنَفَخَ أَيْضًا عَلَيْهِمْ فَجَفُّوا، وَالْعَاصِفُ كَالْعَصْفِ يَحْمِلُهُمْ. 25 «فَبِمَنْ تُشَبِّهُونَنِي فَأُسَاوِيهِ؟» يَقُولُ الْقُدُّوسُ. 26 ارْفَعُوا إِلَى الْعَلاَءِ عُيُونَكُمْ وَانْظُرُوا، مَنْ خَلَقَ هذِهِ؟ مَنِ الَّذِي يُخْرِجُ بِعَدَدٍ جُنْدَهَا، يَدْعُو كُلَّهَا بِأَسْمَاءٍ؟ لِكَثْرَةِ الْقُوَّةِ وَكَوْنِهِ شَدِيدَ الْقُدْرَةِ لاَ يُفْقَدُ أَحَدٌ.
ع12 : القبان : ميزان لوزن الأشياء الثقيلة، مثل جوال (شوال) القمح والحبوب.
كانت بابل مدينة عظيمة، بناها نبوخذ نصر ملك بابل، وعمل فيها معابد ضخمة للأصنام. فأراد إشعياء أن ينبه الشعب إلى قوة الله وعظمته التى تفوق قدرة جميع البشر بما فيها بابل؛ حتى يثبت إيمان شعب الله، مهما رأوا تمجيد البابليين لآلهتهم الصماء، التى لا تتحرك، ولا تتكلم، بل هى مجرد تماثيل ضعيفة.
يظهر النبى قوة الله أنه وحده القادر أن يعرف حجم المياه التى فى العالم، فبكفه يحتضن البحار، ويعرف حجمها.
والسموات أيضاً العظيمة، يستطيع أن يقيسها لأنها صغيرة أمامه، كما يقيس الإنسان شيئاً صغيراً بشبره.
وتراب الأرض الذى لا يمكن لإنسان أن يعرف مقداره؛ الله يستطيع أن يعرف حجمه بالكيل، وليس مقصود الكيل الذى يستخدمه الإنسان فى معرفة حجم الأشياء، والذى يساوى 7.6 لتراً، ولكن المقصود، أن الله يعرف حجم كل تراب الأرض.
وحتى الجبال الضخمة الثقيلة، يستطيع الله أن يعرف وزنها، كما يعرف الإنسان وزن الأمور الثقيلة بميزان القبان، وهو يشير إلى قدرة الله على وزن أى شىء مهما كان ضخماً. وكذلك الآكام وهى التلال، يستطيع الله أن يزنها بيده.
ع13، 14: إن روح الرب غير محدودة، ولا يستطيع أحد أن يستوعبها، وفهمه كامل، فلا يحتاج إلى مشير؛ لأنه يرشد جميع البشر.
لا يوجد إنسان قادر أن يعرف الله شيئاً، فالله عالى المعرفة والفهم، وهو خالق جميع البشر، وجميع الخلائق، هى ضعيفة بيده، وتحت سلطانه، وهو الذى يوجهها ويرشدها، ويدبرها، والكل خاضع له، فهو مصدر الفهم والسبيل إلى المعرفة، فيه كل هذه القدرات، وبالتالى، لا يستطيع أحد من البشر أن يعرف مقدار معرفته وفهمه، كما قال بولس الرسول : “ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء” (رو11: 33).
ع15: دقة : تراب ناعم جداً.
إن الأمم القوية فى العالم التى تحاول أن تخيف، أو تستعبد شعب الله هى لا شىء أمام قوته، ويشبهها بأمور حقيرة جداً، وهى نقطة ماء تسقط من دلو (جردل)، ومثل غبار، أى تراب خفيف قليل إذا وضع فى ميزان لا يتأثر به. والجزائر، وهى أراضى ضخمة داخل البحار، تشبه دُقة، أى تراب قليل وضعيف. وبالتالى، يطمئن شعب الله، ما دام الله معه، لا ينزعج من أشور، أو بابل، أو أية أمة من أمم العالم.
ع16، 17: يظهر النبى ضعف كل الأمم عن إرضاء الله، فلبنان المشهور بخشب الأرز الطويل القوى، وحيواناته التى تتربى فيه، ليست كافية لإيقاد نار وتقديم محرقة ترضى الله؛ لأنه غير محدود، وفوق كل الأمم.
إن جميع الأمم تحسب كعدم، أى لا شىء أمام قوته؛ لأن أى رقم، أو حجم، إذا قيس بما لا نهاية، يعتبر صفر؛ لأن الله فوق جميع العالم.
ولا يوجد سبيل لإرضاء الله إلا بالفداء الذى أتمه المسيح على الصليب، ورفع خطايا العالم كلها، وهى غير محدودة؛ لأنها موجهة لله.
ع18-20: الصائغ : الذى يسبك الذهب والفضة، أى يصهرهما ويشكلهما كما يريد.
يغشيه : يغطيه.
يصوغ : يصهر المعادن ويشكلها.
إن الله أعلى من جميع الآلهة الوثنية، أى الأصنام التى اخترعها الإنسان. فالله هو خالق كل الأشياء، أما الأصنام فهى صناعة الإنسان.
الفقير عن التقدمة، أى الذى لا يقدم تقدمات لله، ويعبده بأمانة، يذهب ليفعل أموراً عجيبة، فيختار قطعة من الخشب الجيد، ويعطيها لصانع ماهر، ليعمل منها تمثالاً قوياً، ويغطيها بالذهب، ويعمل له سلاسل من الفضة، ثم يتعبد له، ويقدم له تقدمات.
أليس هذا غباء أن يترك الإنسان الله خالق السماء والأرض وكل ما فيها، ويعمل بيديه تمثالاً، ويتعبد له. ومن ناحية أخرى، الذى يعمل التماثيل يدفع ثمناً غالياً فيها، ويقدم لها تقدمات، ويترك الله الذى يهبه كل العطايا مجاناً، ولا يريد أن يتعبد له بأية تقدمة؛ شىء غريب هذا الانحراف فى تفكير الإنسان، وابتعاده عن الله، الذى هو فوق جميع الآلهة التى يظن الإنسان أنها آلهة، وهى مجرد تماثيل.
ع21: ينادى إشعياء النبى كل من يعبد الأصنام ويقول لهم : ألم تعلموا، وتسمعوا وتفهموا، ألم تخبركم الخليقة أن الله خالقها، ومدبرها، ويحفظها على الدوام، منذ خلقها، وحتى الآن، أليس كل هذا يجعلكم تؤمنون به، بدلاً من انحرافكم فى عبادة أصنام جامدة ضعيفة تسمونها آلهة !
ع22: الجندب : نوع من الجراد صغير الحجم.
سرادق : هى الخيمة، أو ما يسمى صوان أحياناً، وهو قماش سميك وينصب ويجلس تحته الناس.
الله هو الجالس على كرة الأرض، أى المسيطر عليها، فهو خالقها، وها هنا إشعياء يعلن أن الأرض كروية، قبل أن يعرف العلماء ذلك، والبشر الذين يسكنونها يشبهون الجندب، أى حشرات صغيرة أمام عظمة الله.
أما السموات، فهى تشبه السرادق، أو الخيمة التى ينشرها، أو يقيمها الله، فهى صنع يديه، وخاضعة له. كل هذا يبين أن الخليقة كلها تحت يد الله؛ لأنه هو خالقها، ومدبرها، فهو عظيم فوق كل شىء عظيم فى العالم.
ع23، 24: العاصف : الريح الشديدة التى تسمى العاصفة.
العصف : هى العصافة، وهى ورقة فى النبات رقيقة جافة يسهل أن تطير مع أى ريح خفيف.
أمام الله جميع عظماء العالم لا شىء، والقضاة الذين يحكمون فى كل شئون العالم هم أيضاً ليس لهم قيمة أمام قوة الله الغير محدودة.
إشعياء النبى يشبه هؤلاء العظماء والقضاة بنباتات لم تُزرع، ولم تثبت جذورها فى الأرض، فهى ضعيفة جداً، إذا نفخ الله عليها تطير، كما تطير أوراق الشجر الرقيقة أمام الرياح العاصفة، وتبتعد بعيداً، ولا يجدها أحد.
ع25، 26: جميع الخلائق كبيرها وصغيرها لا يمكن لأحدها أن يشبه الله؛ لأن الله هو القدوس الذى فيه كل القداسة والقوة، وهو خالق العالم كله.
وينادى إشعياء النبى كل البشر ليرفعوا عيونهم، وينظروا الخليقة كلها، ويسأل : من خلق كل هذه؟ ومن الذى يعرف جند السموات، أى الكواكب والنجوم؟ فهو الذى خلقها بعدد محدد، ويحركها كيفما يشاء، بل هو الذى دعاها بأسمائها، ويحفظها فلا يفقد منها شىء؛ لأن قوته شديدة، وقدرته لا نهاية لها، وهو بالتالى أعلى من أن يوجد له أى شبيه من مخلوقاته، إذ كلها صغيرة جداً ومحدودة بالقياس به، كما يؤكد هذا بولس الرسول (رو1: 20).
الله العظيم بهذا المقدار، ليس فقط فى قوته، بل أيضاً فى محبته، وعنايته بخليقته، وخاصة البشر، يجعلك تطمئن يا أخى أنه يعرفك، ويحبك، وحتى شعر رأسك مُحصى عنده، فاطمئن، وتمشى فى الأرض بحريتك، وسبح الله واشكره كل يوم على عطاياه، وعنايته بك.
(3) الله يشدد الضعفاء (ع27-31):
27 لِمَاذَا تَقُولُ يَا يَعْقُوبُ وَتَتَكَلَّمُ يَا إِسْرَائِيلُ: «قَدِ اخْتَفَتْ طَرِيقِي عَنِ الرَّبِّ وَفَاتَ حَقِّي إِلهِي»؟ 28 أَمَا عَرَفْتَ أَمْ لَمْ تَسْمَعْ؟ إِلهُ الدَّهْرِ الرَّبُّ خَالِقُ أَطْرَافِ الأَرْضِ لاَ يَكِلُّ وَلاَ يَعْيَا. لَيْسَ عَنْ فَهْمِهِ فَحْصٌ. 29 يُعْطِي الْمُعْيِيَ قُدْرَةً، وَلِعَدِيمِ الْقُوَّةِ يُكَثِّرُ شِدَّةً. 30 اَلْغِلْمَانُ يُعْيُونَ وَيَتْعَبُونَ، وَالْفِتْيَانُ يَتَعَثَّرُونَ تَعَثُّرًا. 31 وَأَمَّا مُنْتَظِرُو الرَّبِّ فَيُجَدِّدُونَ قُوَّةً. يَرْفَعُونَ أَجْنِحَةً كَالنُّسُورِ. يَرْكُضُونَ وَلاَ يَتْعَبُونَ. يَمْشُونَ وَلاَ يُعْيُونَ.
ع27-29: يعاتب إشعياء النبى شعب الله؛ سواء المسبى بواسطة آشور، أو الذين فى مملكة يهوذا، وسيتم سبيهم بواسطة بابل، ويبين مشاعرهم فى السبى، وهو إحساسهم بأن الله لا يرى طريق شعبه، ولم يعد يعتنى به، وفاته حق أولاده، أى أنه أهملهم وتركهم لذل العبودية فى السبى.
ثم يرد إشعياء عليهم ويقول : يا شعب الله، ألم تسمع وتعرف من هو الله :
- هو إله الدهر، أى الموجود منذ الأزل وإلى الأبد، فهو بالطبع يعتنى بأولاده، ولا يمكن أن ينساهم.
- الرب خالق أطراف الأرض، أى هو السيد الذى خلق الأرض وكل ما عليها، وأيضاً السموات، فبالطبع هو يعرف أولاده، ويعتنى بهم، وهذا ما حدث إذ أعادهم من السبى إلى بلادهم؛ ليبنوا الهيكل ويعبدوه.
- لا يكل ولا يعيا، فهو كامل القوة والقدرة، ولا يتعب من أى عمل، فهو مستمر فى عنايته بشعبه، ويستطيع أن يخرجهم من سبيهم ويعتنى بهم إلى الأبد.
- ليس عن فهمه فحص، أى لا تتعب نفسك يا شعب الله فى فحص حكمته؛ لأنها أعلى منك، فسلم حياتك له، واتركه يريحك، ويخلصك كما يرى.
والله القوى بالطبع يستطيع أن يعطى قوة للضعفاء (المعى)، والمتعبين، والشخص الذى يبدو بلا قوة يشدده بقوة.
ع30، 31: النسور : تتميز النسور بالقدرة على التحليق على مستوى عالى جداً عن الأرض، وكذا بتجديد نشاطها بعد عمر ثلاثين سنة، فينفرد على الجبل، ويكسر منقاره، وينتف ريشه، فيجدد كل هذا ويعيش حتى عمر سبعين سنة.
يركضون : يجرون.
الشباب، وصغار السن المملؤون حيوية، إذا عملوا مجهوداً كبيراً يتعبون، ولكن الذين يؤمنون بالرب، ويثقون بمعونته، إذا دخلوا فى أى جهاد روحى، سواء فى الصلاة، و التأمل، أو الرعاية والخدمة، والبحث عن النفوس البعيدة، فإن الله يعطيهم قوة لإيمانهم به، ويجدد قوتهم، ويرتفعون نحو السماء كالنسور، الذين يجددون حيويتهم، أى تزداد علاقتهم بالسماء، وحيويتهم فى الخدمة، وبمعونة الله لا يشعرون بالتعب؛ وحتى لو كان المجهود كبيراً، يجدون قوة فى داخلهم تساعدهم على المثابرة، ويفرحون بعمل الله فيهم وفى الآخرين الذين يخدمونهم. الله مستعد أن يعطيك قوة، وحماس داخلى، فتشتاق إليه، وتفرح بخدمته، فتعيش فى سعادة لا يعبر عنها؛ حتى وإن كنت لا تزال على الأرض.