المسيح مخلص الجميع
إن كانت الإصحاحات (ص40 – 48) قد حدثتنا عن انحراف شعب الله أحيانًا عن عبادته والارتباط بعبادة الآوثان، فإن الجزء الذي يبدأ من هذا الإصحاح (ص 49 – 57) يحدثنا عن المسيح المخلص، ومعاملة اليهود السيئة له ورفضه..
(1) المسيح مخلص إسرائيل والأمم (ع1-13):
1 اِسْمَعِي لِي أَيَّتُهَا الْجَزَائِرُ، وَاصْغَوْا أَيُّهَا الأُمَمُ مِنْ بَعِيدٍ: الرَّبُّ مِنَ الْبَطْنِ دَعَانِي. مِنْ أَحْشَاءِ أُمِّي ذَكَرَ اسْمِي، 2 وَجَعَلَ فَمِي كَسَيْفٍ حَادٍّ. فِي ظِلِّ يَدِهِ خَبَّأَنِي وَجَعَلَنِي سَهْمًا مَبْرِيًّا. فِي كِنَانَتِهِ أَخْفَانِي. 3 وَقَالَ لِي: «أَنْتَ عَبْدِي إِسْرَائِيلُ الَّذِي بِهِ أَتَمَجَّدُ». 4 أَمَّا أَنَا فَقُلْتُ: « عَبَثًا تَعِبْتُ. بَاطِلًا وَفَارِغًا أَفْنَيْتُ قُدْرَتِي. لكِنَّ حَقِّي عِنْدَ الرَّبِّ، وَعَمَلِي عِنْدَ إِلهِي». 5 وَالآنَ قَالَ الرَّبُّ جَابِلِي مِنَ الْبَطْنِ عَبْدًا لَهُ، لإِرْجَاعِ يَعْقُوبَ إِلَيْهِ، فَيَنْضَمُّ إِلَيْهِ إِسْرَائِيلُ فَأَتَمَجَّدُ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، وَإِلهِي يَصِيرُ قُوَّتِي. 6 فَقَالَ: «قَلِيلٌ أَنْ تَكُونَ لِي عَبْدًا لإِقَامَةِ أَسْبَاطِ يَعْقُوبَ، وَرَدِّ مَحْفُوظِي إِسْرَائِيلَ. فَقَدْ جَعَلْتُكَ نُورًا لِلأُمَمِ لِتَكُونَ خَلاَصِي إِلَى أَقْصَى الأَرْضِ». 7 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ فَادِي إِسْرَائِيلَ، قُدُّوسُهُ، لِلْمُهَانِ
النَّفْسِ، لِمَكْرُوهِ الأُمَّةِ، لِعَبْدِ الْمُتَسَلِّطِينَ: «يَنْظُرُ مُلُوكٌ فَيَقُومُونَ. رُؤَسَاءُ فَيَسْجُدُونَ. لأَجْلِ الرَّبِّ الَّذِي هُوَ أَمِينٌ، وَقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي قَدِ اخْتَارَكَ». 8 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «فِي وَقْتِ الْقُبُولِ اسْتَجَبْتُكَ، وَفِي يَوْمِ الْخَلاَصِ أَعَنْتُكَ. فَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْدًا لِلشَّعْبِ، لإِقَامَةِ الأَرْضِ، لِتَمْلِيكِ أَمْلاَكِ الْبَرَارِيِّ، 9 قَائِلًا لِلأَسْرَى: اخْرُجُوا. لِلَّذِينَ فِي الظَّلاَمِ: اظْهَرُوا. عَلَى الطُّرُقِ يَرْعَوْنَ وَفِي كُلِّ الْهِضَابِ مَرْعَاهُمْ. 10 لاَ يَجُوعُونَ وَلاَ يَعْطَشُونَ، وَلاَ يَضْرِبُهُمْ حَرٌّ وَلاَ شَمْسٌ، لأَنَّ الَّذِي يَرْحَمُهُمْ يَهْدِيهِمْ وَإِلَى يَنَابِيعِ الْمِيَاهِ يُورِدُهُمْ. 11 وَأَجْعَلُ كُلَّ جِبَالِي طَرِيقًا، وَمَنَاهِجِي تَرْتَفِعُ. 12 هؤُلاَءِ مِنْ بَعِيدٍ يَأْتُونَ، وَهؤُلاَءِ
مِنَ الشَّمَالِ وَمِنَ الْمَغْرِبِ، وَهؤُلاَءِ مِنْ أَرْضِ سِينِيمَ». 13 تَرَنَّمِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ، وَابْتَهِجِي أَيَّتُهَا الأَرْضُ. لِتُشِدِ الْجِبَالُ بِالتَّرَنُّمِ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ عَزَّى شَعْبَهُ، وَعَلَى بَائِسِيهِ يَتَرَحَّمُ.
ع1: المتكلم هنا هو المسيح الذي تنطبق عليه هذه الآية، والآيتان التاليتان، وهو ينادى الأمم البعيدة عن الإيمان به، والجزائر التى تمثل الشعوب المنغمسة في العالم وأفكاره. والجزائر بلاد كان يعتبرها اليهود قديمًا أنها مجهولة، فالمسيح ينادى على كل هؤلاء، وليس على الشعب اليهودى فقط.
يعلن المسيح أن الله دعاه من البطن، ومن أحشاء أمه ذكر اسمه، وهذا حدث في بشارة الملاك للعذراء (لو 1: 31). ودعوة المسيح من البطن تعلن تجسد الإبن الكلمة.
ع2: كنانته: كيس توضع فيه السهام.
فم المسيح مثل سيف حاد، أى أن كلامه قوة، وبسلطان، ويفصل بين الحق والباطل، ويرشد أولاده للسلوك المستقيم، ونفس هذا التشبيه أكده في العهد الجديد (عب 4: 12، رؤ 1: 16).
ويقول أيضًا : “في ظل يده خبأنى”، أى أن تجسد الإبن حدث في ملء الزمان، وقبل هذا لم يكن معلنًا للبشرية، بل مخفيًا، وله رموز فقط في العهد القديم، ونبوات عنه. والآب حفظ الطفل يسوع من يد هيرودس، بل وأثناء تبشيره للناس حفظه من الموت؛ حتى حان ميعاد صلبه.
السهم المبرى هو السهم الحاد القادر على إصابة هدفه، وقد حدث هذا على الصليب، عندما أصاب المسيح بموته الشيطان، وقيده.
وقد أخفاه الله في كنانته، أى أن المسيح أخفى لاهوته في ناسوته، حتى تحير الشيطان عندما رآه يجوع ويعطش، ويتعب وينام، وفوجئ به على الصليب أنه هو الله، الذي أمسك به وقيده.
ع3: يحدث الآب الإبن، ويقول له يامن أخذت صورة العبد من أجل فداء البشرية بتجسدك، فأنت اسرائيل الجديد؛ لأن اسرائيل القديم، أى اليهود رفضوا المسيح المخلص.
وقد تمجد الآب بالإبن عندما أتم الفداء على الصليب، وتمجد أيضًا في طاعة الإبن للآب حتى الموت، وقد أعلن المسيح هذا التمجيد في (يو 17: 1).
ع4: عبثا : باطلا.
يعبر المسيح عما يبدو ظاهرًا عند ارتفاعه على الصليب، فكانت نتيجة كل خدمته، وتبشيره للناس، ومعجزاته، وتعاليمه، هذه التصرفات السيئة لليهود عندما صلبوه، وظنوا بهذا أنهم تخلصوا منه. هذا هو الظاهر أمام الناس، لكن الحقيقة يعلنها في نفس الآية، فيقول حقى عند الرب، وعملى عند إلهى، أى أن فداءه للبشرية على الصليب أمر عظيم جدًا، والله يعرف كل ما يحدث، وسيعلنه للعالم بقيامته من الأموات، فيعرفوا أن الصليب لم يكن عبثًا ولا فارغًا.
وهكذا يشعر كل إنسان مسيحى يتعرض لآلام من أجل المسيح، مثل الشهداء، فيبدو أمام الناس كأن جهاده وتعبه عبثًا وفارغًا، والحقيقة أن حقه وعمله عند الرب عظيم جدًا، بل أعظم حب، وهو شركة في صليب المسيح، وسينال أكاليل سماوية بعد ترك هذا العالم.
ع5: الآن تكلم الآب عن تجسد الابن، الذي ولد من بطن العذراء، وعاش كإنسان مثل باقى البشر، أى عبدًا لله؛ ليتمم فداء وخلاص البشر، مبتدئًا بشعب الله، أى نسل يعقوب الذى هو مملكة يهوذا، ونسل إسرائيل، أى المملكة الشمالية، وهم الذين عندهم شريعة موسى.
فبعد أن كان شعب الله منقسمًا إلي مملكتين هما يهوذا وإسرائيل، يتحدان معًا في المسيح، ويصبحان شعبًا واحدًا.
وبإتمام الفداء على الصليب، يتمجد الابن المصلوب، ويقيد الشيطان، ثم تظهر قوة الله العظيمة، بقيامة المسيح من الأموات.
ع6: ولم يكتف الله بخلاص شعبه في مملكتى يهوذا وإسرائيل، ولكنه قدم الخلاص للعالم كله، أى الأمم التى عبدت الأوثان، فاستنارت بإيمانها في المسيح، وهكذا وصل الخلاص إلي أقصى الأرض.
ع7: خاطب الآب الابن الذى أرسله فاديًا للعالم، وهو قدوس شعبه إسرائيل، الذي هو:
مهان النفس: فقداحتمل المسيح إهانات كثيرة من اليهود، والسلطات الرومانية.
مكروه الأمة: حيث أثار الكهنة الشعب، وقالوا لبيلاطس أصلبه أصلبه.
عبد المتسلطين: وكان يقف كعبد أمام من يحاكمونه، ويظهر كأن لهم سلطان عليه، مع أنه هو الذي سمح لهم بهذا ليتمم الفداء.
وبعد الإيمان بالمسيح، عندما يؤمن ملوك، ورؤساء، سيقفون احترامًا له في كنسيته، أو يسجدون أمامه. بالإضافة إلي أن ملوك ورؤساء العالم، سيسجدون للمسيح في المجىء الثاني المخوف.
هذا السجود للمسيح هو إعلان من المؤمنين أن المسيح أمين في إرساليته، وتمم خلاصهم، وهو المختار من الآب قدوس إسرائيل؛ لأنه هو وحده القادر على تقديم الخلاص للعالم بموته على الصليب.
ع8: استجاب الله لشعبه المسبى، وأرجعه إلي بلاده، وجدد عهده معه؛ لبناء أورشليم والهيكل والأرض الخربة في أورشليم، وما حولها، وأعاد إليها سكانها الذين عبدوا الله ومجدوه.
وتنطبق هذه الآية أيضًا على المسيح الذي احتمل آلام الصليب، واستجاب له الآب، وقَبِل صلواته وسانده، وتمم الفداء.
وبهذا قطع الله عهدًا مع شعبه بدم المسيح الفادى على الصليب؛ هذا العهد يدوم إلي الأبد في كنيسة العهد الجديد بتناول جسد الرب ودمه.
وإقامة الأرض، المقصود بها، إقامة الكنيسة، حيث تقدم العبادة لله. وتمليك أملاك البراري، هي بلاد الأمم التى آمنت وملك الله على قلوبهم، وامتلأت من الكنائس التى تعبد الله.
بالإضافة إلي أن الأرض ترمز للجسد الذي يحيا لله، بعد أن كان مخربًا بالشهوات الشريرة، يعود بالتوبة إلي القداسة، ويقيم الله فيه، ويملك عليه ليحيا له.
ع9، 10: يوردهم: يقودهم.
بفداء المسيح، يستطيع المؤمنون الذين كانوا في أسر الخطية وظلامها أن يخرجوا، وينالوا حريتهم، كما يقول المسيح: “إن حرركم الابن، فبالحقيقة تصيرون أحرارًا” (يو8: 36).
ويستطيع المؤمنون أن يرعوا على الطريق، والطريق هو المسيح الذي قال: “أنا هو الطريق والحق والحياة” (يو14: 6). ويرعون أيضًا على الهضاب التى هى أرض مرتفعة، وترمز للضيقات، أى يستطيعون أن يرعوا، حتى وسط الضيقات، فلا يجوعون، ولا يعطشون، ويحميهم الله من حر الشمس، أى التجارب، فينجيهم منها، ويسندهم ويرحمهم، بل يسقيهم من ينابيع المياه التى هى الروح القدس، فيحيوا في شبع وفرح.
ع11: الجبال هى الوصايا التى تبدو صعبة وعالية،ولكن الله يساعدنا، فنصعد إليها، ونحيا بها، ونتمتع بعشرة الله من خلالها.
ومناهج الله، أى سبله وأوامره، ترتفع بالمؤمنين؛ ليحيوا حياة أسمى من حياة العالم في طمأنينة وفرح.
ع12، 13: أرض سنيم: أرض بعيدة.
لتُشد: لتترنم.
سيأتي إلي أورشليم، الذين كانوا في السبى من بلاد بعيدة متفرقة، من أرجاء الإمبراطورية البابلية، ويفرحون ويرنمون. وتفرح معهم ملائكة السماء، والمؤمنون على الأرض، والخدام المرموز إليهم بالجبال؛ لأن الله عزي شعبه بإرجاعه من السبى، وبناء الهيكل، وتقديم العبادة فيه، فرحمة الله عظيمة على المتواضعين الذين يطلبونه.
وسيأتى الكثيرون من أرجاء العالم؛ ليؤمنوا بالمسيح في العهد الجديد، وتفرح بهم السموات والكنيسة على الأرض، وكل الكهنة والخدام برجوعهم إلي الإيمان، ورفض الوثنية، والله يرحمهم لأجل اتضاعهم، ورجوعهم بالتوبة إليه وإيمانهم.
والمعنى الثالث، هو أن يجمع الله أولاده من كل العالم؛ ليفرحوا معه في اليوم الأخير، ويدخلهم إلي ملكوت السموات، ويعزي قلوبهم، ويرحمهم؛ لأجل اتضاعهم، وجهادهم، ومحبتهم له.
الله يطلب خلاصك من كل خطية ومن كل انشغال أرضى، فتجاوب مع محبته بالتوبة واضبط نفسك، وإعط مكانًا لله في حياتك، فتفرح معه.
[2] إيمان الأمم (ع14-26) :
14 وَقَالَتْ صِهْيَوْنُ: «قَدْ تَرَكَنِي الرَّبُّ، وَسَيِّدِي نَسِيَنِي». 15 «هَلْ تَنْسَى الْمَرْأَةُ رَضِيعَهَا فَلاَ تَرْحَمَ ابْنَ بَطْنِهَا؟ حَتَّى هؤُلاَءِ يَنْسَيْنَ، وَأَنَا لاَ أَنْسَاكِ. 16 هُوَذَا عَلَى كَفَّيَّ نَقَشْتُكِ. أَسْوَارُكِ أَمَامِي دَائِمًا. 17 قَدْ أَسْرَعَ بَنُوكِ. هَادِمُوكِ وَمُخْرِبُوكِ مِنْكِ يَخْرُجُونَ. 18 اِرْفَعِي عَيْنَيْكِ حَوَالَيْكِ وَانْظُرِي. كُلُّهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا، أَتَوْا إِلَيْكِ. حَيٌّ أَنَا، يَقُولُ الرَّبُّ، إِنَّكِ تَلْبَسِينَ كُلَّهُمْ كَحُلِيٍّ، وَتَتَنَطَّقِينَ بِهِمْ كَعَرُوسٍ. 19 إِنَّ خِرَبَكِ وَبَرَارِيَّكِ وَأَرْضَ خَرَابِكِ، إِنَّكِ تَكُونِينَ الآنَ ضَيِّقَةً عَلَى السُّكَّانِ، وَيَتَبَاعَدُ مُبْتَلِعُوكِ. 20 يَقُولُ أَيْضًا فِي أُذُنَيْكِ بَنُو ثُكْلِكِ: ضَيِّقٌ عَلَيَّ الْمَكَانُ. وَسِّعِي لِي لأَسْكُنَ. 21 فَتَقُولِينَ فِي قَلْبِكِ: مَنْ وَلَدَ لِي هؤُلاَءِ وَأَنَا ثَكْلَى، وَعَاقِرٌ مَنْفِيَّةٌ وَمَطْرُودَةٌ؟ وَهؤُلاَءِ مَنْ رَبَّاهُمْ؟ هأَنَذَا كُنْتُ مَتْرُوكَةً وَحْدِي. هؤُلاَءِ أَيْنَ كَانُوا؟». 22 هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: «هَا إِنِّي أَرْفَعُ إِلَى الأُمَمِ يَدِي وَإِلَى الشُّعُوبِ أُقِيمُ رَايَتِي، فَيَأْتُونَ بِأَوْلاَدِكِ فِي الأَحْضَانِ، وَبَنَاتُكِ عَلَى الأَكْتَافِ يُحْمَلْنَ. 23 وَيَكُونُ الْمُلُوكُ حَاضِنِيكِ وَسَيِّدَاتُهُمْ مُرْضِعَاتِكِ. بِالْوُجُوهِ إِلَى الأَرْضِ يَسْجُدُونَ لَكِ، وَيَلْحَسُونَ غُبَارَ رِجْلَيْكِ، فَتَعْلَمِينَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ الَّذِي لاَ يَخْزَى مُنْتَظِرُوهُ». 24 هَلْ تُسْلَبُ مِنَ الْجَبَّارِ غَنِيمَةٌ؟ وَهَلْ يُفْلِتُ سَبْيُ الْمَنْصُورِ؟ 25 فَإِنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «حَتَّى سَبْيُ الْجَبَّارِ يُسْلَبُ، وَغَنِيمَةُ الْعَاتِي تُفْلِتُ. وَأَنَا أُخَاصِمُ مُخَاصِمَكِ وَأُخَلِّصُ أَوْلاَدَكِ، 26 وَأُطْعِمُ ظَالِمِيكِ لَحْمَ أَنْفُسِهِمْ، وَيَسْكَرُونَ بِدَمِهِمْ كَمَا مِنْ سُلاَفٍ، فَيَعْلَمُ كُلُّ بَشَرٍ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ مُخَلِّصُكِ، وَفَادِيكِ عَزِيزُ يَعْقُوبَ».
ع14: شعر شعب الله عندما سبى بالسبى البابلي أن الله قد نسيه، خاصة عندما استمر السبى مدة طويلة؛ لأنه ظن أن مملكة يهوذا لن تسبى لأن الهيكل فيها، ولم يفهم أن عبادة الأصنام تجعل الله يفارق هيكله بسبب شر شعبه. ثم ظن أن هذا الترك لمدة شهور قليلة، فعندما مرت السنوات، شعر أن الله قد نسيه. هذا هو شعور صهيون، أى أورشليم، المتروكة من الله؛ لتتوب. ولكنه بالطبع لم ينسها، كما سيظهر في الآيات التالية.
ع15: من أعظم المشاعر بين البشر، الأمومة، وخاصة محبة الأم لطفلها الصغير الرضيع، ولكن قد توجد حالات نادرة تنسي فيها الأم رضيعها نتيجة نفسيتها المنزعجة، فتقتل أطفالها، أو تأكلهم في المجاعات، ولكن محبة الله تفوق كل محبة للبشر نحو بعضهم البعض، فإن نسيت الأم رضيعها، فالله لا ينسى شعبه. هذا هو رد الله على صهيون التى تشعر أن الله نسيها بسبب سبيها، والحقيقة أن السبى هو نتيجة التمادى في الخطية، والله لا يريد أن يترك أولاده، ولكن تصرفاتهم تضطره إلي ذلك، وفي نفس الوقت ينتهز أية فرصة للتوبة منهم؛ ليسامحهم ويعيد إليهم رحمته ومحبته.
والله يؤكد عظمة محبته للبشر بقوله في العهد الجديد: إن كان الأب الذي يسأله ابنه خبزاً، لا يعطيه حجرًا، وإن سأله بيضة، لا يعطيه عقربًا، وإن سأله سمكة لا يعطيه ثعبانًا (لو11: 11، 12). فالله بالطبع مصدر الأبوة والحنان، فلابد أن يعطى عطايا جيدة، ولا ينسى أولاده.
ع16: يؤكد الله محبته لصهيون، أى مدينة أورشليم، ولشعبه، فيقول لها : “إني نقشتك على كفى”، وقد كان معتادًا قديمًا أن ينقش الإنسان اسم محبوبته على كفه، حتى يكون ثابتًا أمام عينيه دائماً. فالله يؤكد لصهيون أنها أمام عينيه دائمًا؛ لأنه نقشها على كفه.
والمسيح نقش حبه لأولاده على كفه بآثار المسامير، ورئيس الكهنة في العهد القديم، كان يضع على الصدرة التى يلبسها إثنى عشر حجرًا عليها أسماء الاثنى عشر سبطًا ليتذكرهم عندما يصلى في هيكل الله.
ويظهر الله عنايته بصهيون في نظره الدائم لأسوارها، فإن كانت قد تخربت بواسطة البابليين، تأديبًا لها لخطاياها، ولكنه يشتاق لتوبتها، فيعيد بناء أسوارها، كما تم على يد نحميا. والأسوار تعلن حماية المدينة، أى أن الله مهتم بحمايتها من أعدائها، ومقاوميها، الذين هم الشياطين وكل من يتبعهم من الأشرار.
ع17، 18: حلى: زينة المرأة.
تتنطقين : تلبسينهم على وسطك كحزام.
أسرع بنوك الذين كانوا في السبى، ورجعوا إليك ليعمروك ياصهيون.
أما هادموك، ومخربوك، فقد خرجوا منك، وتركوا المكان لبنيك؛ ليعمروه ويفرحوك بوجودهم فيك، فيكونون كحلى تلبسينها، وتتنطقين بهم كأنك في يوم زفافك لعريسك.
وتنطبق هاتان الآيتان على إسراع الأمم نحو الكنيسة؛ لأنهم آمنوا بالمسيح، فتفرح بهم، وتلبسهم حلى كعروس للمسيح.
ع19، 20: الثكلى: هى من فقدت أبناءها.
يخاطب الله صهيون مدينته المقدسة، أى أورشليم، ويقول لها: رغم أنك أصبحت مدينة مخربة بيد البابليين، لكن عندما تتوبين أنت وبنوك، يعود إليك أبناؤك الذين كانوا في السبى، بل يقولون لك إننا كثيرون، ونريد مكانًا أوسع فيك لنسكن، ونستقر بين يديك، ونعبد الله.
وإن كانت أورشليم قد فقدت بنيها، وأصبحت ثكلى، يعود إليها بنون كثيرون من السبى، فلا تصبح ثكلى، بل أمًا لبنين كثيرين.
وتنطبق هاتان الآيتان على كنيسة العهد الجديد، التى رفضها كثير من اليهود، ولكن بنيهم، وأيضًا الأمم أتوا إلي الكنيسة مؤمنين بالمسيح، وطلبوا مكانًا أوسع فيها، وهذه نبوة واضحة عن إيمان الأمم، الذين سيملأون الكنيسة في كل مكان في العالم.
ع21: صهيون، أى أورشليم تقول في قلبها: من ولد لي هؤلاء الأبناء الذين أتوا إلى من أرجاء العالم، مع إنى ثكلى وعاقر، بل أنا منفية ومطرودة بسبب الهجوم البابلي. ثم تضيف: هؤلاء من رباهم، حتى كبروا هكذا، لقد كنت متروكة وحدى، خربة، بعد أن هدمنى وأحرقنى البابليون، فهؤلاء الأبناء أين كانوا؟ وكيف أتوا إليّ؟ هذا هو شعور أورشليم عندما رجع إليها أبناؤها الذين كانوا مشتتين في العالم كله، بأمركورش الملك وعلى يد زربابل.
وتنطبق هذه الآية أيضًا على كنيسة العهد الجديد، التى يدخل إليها المؤمنون، ليس فقط من اليهود، بل من العالم كله، ويصيرون مسيحيين.
ع22: الرب أمر يعودة المسبيين من بنى إسرائيل في السبى البابلى، ورَفْع يده وإقامة رايته، يقصد بها تنبيه كورش؛ ليأمر برجوع اليهود المسبيين على يد زربابل، فرجعوا بإكرام عظيم، كأنهم محمولون على الأكتاف وفي الأحضان.
ورفع اليد، وإقامة الراية، يقصد بها أيضًا، تجسد المسيح وصلبه، وإيمان الكثيرين من كل الأرض، ودخولهم إلي الكنيسة بفرح، كمن هو في الأحضان ومحمول على الأكتاف. كما أعلن المسيح هذا في (يو 12 : 32).
وهذه الآية تعنى أن كل من سقط في ذل الخطية وعارها، إن تاب، يعيده الله إلى أحضانه، ويحمله على كتفه، ويعوضه عن كل ما احتمل.
ع23: وضع الله في قلب الملوك أن يهتموا بشعبه، مثل كورش الذي أعاد شعب الله من السبى، وأحشويروش، الذي جعل مردخاى وزيره الأول، وسمح لبنى إسرائيل بعبادة الله، ومعاقبة كل من يقاومهم.
وفى كنيسة العهد الجديد، ملوك آمنوا وخدموا الكنيسة، مثل قسطنطين وهيلانة، والملك زينون، وثيئودسيوس. هؤلاء سجدوا للرب، واهتموا بالكنيسة وحمايتها، وزودوها بالمعونات، مثل القمح والزيت، وأقاموا الكنائس لعبادة الله. وهكذا لا يخزي المؤمنون الذين ينتظرون الرب، فإن احتملوا أتعاب وعذابات في وقت معين، لكن يعوضهم الله ببركات كثيرة على الأرض، وفي السماء.
ع24- 26: العاتي: الجبار الظالم.
سلاف: الخمر الجديدة.
الجبار والمنصور هما المملكة البابلية، التى استولت على العالم ومنها مملكة يهوذا، وأحرقت الهيكل.
وقام كورش أول ملوك فارس وسلب سبى الجبار، بابل، وأخذ كل غنائم بابل، ومنها شعب الله، وهكذا خاصم الله من خاصم شعبه، أى بابل، وخلص أولاد مملكة يهوذا وإسرائيل، ثم أعادهم إلي بلادهم؛ ليبنوا أورشليم وهيكل الله.
هكذا أطعم الله ظالمى شعبه، وهم الفرس وبابل لحم أنفسهم، أى أكل الفرس لحم البابليين، إذ قتلوهم، وأذلوهم، وصار البابليون عبيدًا للفرس، وبهذا سكر الفرس بدماء البابليين، كمن يشربون الخمر الجديدة التى يشربها الشارب بكميات كبيرة؛ لأن اختمارها لم يكمل، فشرب الفرس دماء كثيرة للبابليين. ومن هذا نرى أن الله هو مخلص شعبه بنى يعقوب، وفاديه، وتظهر قوته أمام العالم كله، فهو يفدى شعبه، فيموت الكثير من أعدائه، أما هو فيخلص في النهاية؛ لتميزه بالإيمان والحياة مع الله الله يريد خلاص جميع البشر، فمهما كنت منغمساً في الخطية، فالله يريدك أن ترجع، فيسامحك، بل ويحتضنك، ويعمل فيك، فتطمئن وتفرح مع كل المؤمنين. فليتك تقوم الآن، وترجع إليه، فتستعيد طبيعتك النقية التى نلتها في سر المعمودية.