العبادة الحقيقية
هذا الجزء الذى يبدأ من (ص58-66)، أى نهاية السفر، يحدثنا عن كنيسة العهد الجديد وأورشليم السمائية. و تمهيداً لهذا الموضوع يحدثنا هذا الإصحاح والذى يليه عن خطورة العبادة الشكلية المظهرية.
(1) خيانة عهد الله (ع1-5):
1 «نَادِ بِصَوْتٍ عَال. لاَ تُمْسِكْ. اِرْفَعْ صَوْتَكَ كَبُوق وَأَخْبِرْ شَعْبِي بِتَعَدِّيهِمْ، وَبَيْتَ يَعْقُوبَ بِخَطَايَاهُمْ. 2 وَإِيَّايَ يَطْلُبُونَ يَوْمًا فَيَوْمًا، وَيُسَرُّونَ بِمَعْرِفَةِ طُرُقِي كَأُمَّةٍ عَمِلَتْ بِرًّا، وَلَمْ تَتْرُكْ قَضَاءَ إِلهِهَا. يَسْأَلُونَنِي عَنْ أَحْكَامِ الْبِرِّ. يُسَرُّونَ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ. 3 يَقُولُونَ: لِمَاذَا صُمْنَا وَلَمْ تَنْظُرْ، ذَلَّلْنَا أَنْفُسَنَا وَلَمْ تُلاَحِظْ؟ هَا إِنَّكُمْ فِي يَوْمِ صَوْمِكُمْ تُوجِدُونَ مَسَرَّةً، وَبِكُلِّ أَشْغَالِكُمْ تُسَخِّرُونَ. 4 هَا إِنَّكُمْ لِلْخُصُومَةِ وَالنِّزَاعِ تَصُومُونَ، وَلِتَضْرِبُوا بِلَكْمَةِ الشَّرِّ. لَسْتُمْ تَصُومُونَ كَمَا الْيَوْمَ لِتَسْمِيعِ صَوْتِكُمْ فِي الْعَلاَءِ. 5 أَمِثْلُ هذَا يَكُونُ صَوْمٌ أَخْتَارُهُ؟ يَوْمًا يُذَلِّلُ الإِنْسَانُ فِيهِ نَفْسَهُ، يُحْنِي كَالأَسَلَةِ رَأْسَهُ، وَيْفْرُشُ تَحْتَهُ مِسْحًا وَرَمَادًا. هَلْ تُسَمِّي هذَا صَوْمًا وَيَوْمًا مَقْبُولًا لِلرَّبِّ؟
ع1: يطلب الله من إشعياء النبى، أن ينادى بصوت عالٍ يسمعه جميع الناس، كما يسمعون البوق ذا الصوت المرتفع، لماذا ؟ لأن خطية الرياء و المظهرية التى سقط فيها شعب الله
لا يسهل اكتشافها بسهولة، مثل خطايا الزنى، فلعل الصوت المرتفع ينبه الناس فيراجعوا أنفسهم، ويتوبوا.
والبوق يستخدم تنبيهاً وإنذاراً لقيام الحرب بين الجيوش، ونحن في حرب مع إبليس المخادع، الذى إذا لم يستطع أن يسقطنا في خطايا واضحة، مثل الزنى والسرقة، يخدعنا ويسقطنا في خطايا مختفية، مثل المظهرية والرياء، إذ تبدو تصرفات الناس أنها سليمة، ولكن هى مجرد غطاء لفعل الشر.
وبعد المناداة بصوت مرتفع لابد أن يخبر إشعياء الشعب بتعديهم على الله، ووصاياه؛ حتى يتوبوا. ورغم أن الإنذار قوى وواضح، ولكن الله لا يريد أن ينتقم منهم، بل يطلب توبتهم؛ لأنه مازال يحبهم، إذ يقول عنهم : “شعبى”، أى هم خاصتى التى أحبها، وأريدها أن ترجع إلىَّ، فارحمها، وأباركها.
والمناداة بصوت مرتفع لا تجعل فرصة لأحد المخطئين من الشعب أن يقول: لم أسمع، ولم أعرف، وقوله : “لا تمسك” أى تخبر بكل تفاصيل خطاياهم لتكون توبة كاملة، ومن ناحية أخرى لا تقل يا إشعياء، أو يا خادم ما تستحسنه، وتهمل ما لا تستحسنه، بل تخبر بكل كلام الله كما هو لا تغير شيئاً بحسب هواك.
ومازال الضمير ينبه الإنسان؛ ليتوب، بالإضافة لعمل الروح القدس الواضح في العهد الجديد، الذى يسكن في الإنسان سكنى دائمة، وينبهه بصوت أقوى؛ ليرجع إلى الله.
ع2: يتكلم الله عن العبادة المظهرية التى سقط فيها أولاده في الأمة اليهودية، فيقول عنهم ما يلى :
- إياى يطلبون يوماً فيوماً : أى أنهم ملتزمون بالصلوات و العبادات في مواعيدها، وباستمرار؛ كل هذا تمسك بالصلاة كمظهر دون إحساس، أى ليس من قلوبهم يتكلمون، أى شكل فقط للعبادة.
- يسرون بمعرفة طرقى : يظهرون اهتمامهم بمعرفة وصاياى وشرائعى، ويظهرون كأمة ملتزمة بالبر ولا تحيد عن شريعة الله؛ كل هذا مظهرى خادع يوحى لهم، ولمن ينظر إليهم، أنهم أبرار ملتزمون بعبادة إلههم، والحقيقة أنهم منشغلون بالمعرفة العقلية للعبادة، ولكنهم لا يسلكون بالتقوى، كما يوضح العهد الجديد فيقول: “لهم صورة التقوى ولكنهم منكرون قوتها” (2تى3: 5).
- يسألوننى عن أحكام البر : إنهم لا يكتفون بالمعرفة لوصاياى وشرائعى، ولكنهم أيضاً يسألوننى في تفاصيل عن أحكام البر، وماذا يفعلون في كل موقف ؟ كأنهم مدققون في تنفيذ شريعتى؛ كل هذا تدقيق ظاهرى بلا روح، كما كان يفعل الكتبة والفريسيون أيام المسيح.
- يسرون بالتقرب إلى الله : يعلنون فرحهم بالتقرب إلىّ إرضاءً لكبريائهم، وليخدعوا الناس أنهم متقربون إلىَّ، وليس فرحاً بالوجود معى والتلذذ بعشرتى.
ما أعجب الإنسان الذى يتظاهر بشىء بخلاف ما في داخله، ويتناسى أن الله كل شىء مكشوف وعريان أمامه. فإن خدع نفسه، وخدع الآخرين، فهل يستطيع خداع الله ؟!
ع3: بعد العبادة المظهرية التى يقدمها أبناء الله، لا يحصلون على ما يطلبون، لأن الله فاحص القلوب والكلى، ويدرك بالطبع خداعهم، فلا يقبل أصوامهم وتذللهم المظهرى أمامه، فبدلاً من أن يراجعوا أنفسهم ويتوبوا، ويصلوا ويصوموا بكل قلوبهم، يتمادون في خداعهم، ويتذمرون على الله؛ لأنه لا يستجيب لطلباتهم.
يرد الله على تساؤلات شعبه الغريبة، ويخبرهم عن السبب في عدم استجابته لأصوامهم وهو أنهم يصومون، وفى نفس الوقت يوجدون مسرة لأنفسهم بإتمام شهواتهم الردية، ثم يظنون أن هذا صوماً مقبولاً ؟! بالطبع لا.
و عندما يستريحون من أعمال العالم للتفرغ للعبادة، يسخرون عبيدهم لإتمام أشغالهم، مع أن الشريعة واضحة تقول : أنك لا تعمل، لا أنت ولا عبدك في أيام الاعتكاف (تث5: 14). وبهذا نرى أنهم بأصوامهم لا يبحثون عن مسرة الله، بل مسرة أنفسهم.
ع4: وللأسف ارتبطت أصوام أبناء الله بخطايا، مثل :
- الخصومة، أى تقترن أصوامهم بخصومات ونزاعات بينهم، فبدلاً من أن يعيشوا في سلام مع الله والناس، تمتلئ قلوبهم غضباً وكراهية، وبدلاً من أن يدينوا أنفسهم، ويقدموا توبة، يدينون الآخرين ويغضبون عليهم.
- يضربون بعضهم بعضاً، أو يضربون عبيدهم، فهذه التصرفات واضح فيها القسوة، وهذا لا يتفق مع الأصوام. فبدلاً من تقديم أعمال رحمة ومحبة مع الصوم، يضربون الآخرين ويظلمونهم، ويذلونهم.
كل هذا يبين أنهم لا يصومون لأجل الله؛ لترتفع صلواتهم إلى السماء، ولكنهم يصومون فقط صوماً ظاهرياً، دون مشاعر روحية.
ع5: الأسلة : نبات ينمو في الماء، أو الأرض الرطبة وأغصانه رقيقة، فيسهل أن تنحنى بفعل الهواء دون أن تنكسر.
مسحاً : قماش خشن.
يتعجب الله، ويتساءل : هل تظنون أن هذا صوماً أقبله، وهو الصوم ذو المظاهر النسكية المتشددة مثل : الانحناء أثناء العبادة في سجود كثير، ويفرش الإنسان تحته مسحاً ورماداً؛ ليجلس عليه كعلامة للتذلل أمام الله؛ كل هذه مظاهر للتذلل والانسحاق أمام الله، إن كانت مصحوبة باتضاع داخلى، وتوبة، وطلب غفران الله، أما إن كانت مجرد مظاهر، مهما عملت بدقة، فهى بلا قيمة أمام الله، بل الله يغضب ممن يفعلها؛ لأنها خداع، بإقناع الآخرين بأنهم متذللون، وهم على العكس، متكبرون.
ليتك يا أخى تفكر في معنى الصوم عندما تصوم، فهو تجرد من أجل الله للتفرغ له، ولعبادته. وفكر أيضاً في المناسبة التى ارتبط بها الصوم؛ لتحيا في معناها، وتتأمل فيها، فتحيا في صوم حقيقى مقبول من الله.
[2] الصوم المقبول وبركاته (ع6-12) :
6 أَلَيْسَ هذَا صَوْمًا أَخْتَارُهُ: حَلَّ قُيُودِ الشَّرِّ. فَكَّ عُقَدِ النِّيرِ، وَإِطْلاَقَ الْمَسْحُوقِينَ أَحْرَارًا، وَقَطْعَ كُلِّ نِيرٍ. 7 أَلَيْسَ أَنْ تَكْسِرَ لِلْجَائِعِ خُبْزَكَ، وَأَنْ تُدْخِلَ الْمَسَاكِينَ التَّائِهِينَ إِلَى بَيْتِكَ؟ إِذَا رَأَيْتَ عُرْيَانًا أَنْ تَكْسُوهُ، وَأَنْ لاَ تَتَغَاضَى عَنْ لَحْمِكَ. 8 «حِينَئِذٍ يَنْفَجِرُ مِثْلَ الصُّبْحِ نُورُكَ، وَتَنْبُتُ صِحَّتُكَ سَرِيعًا، وَيَسِيرُ بِرُّكَ أَمَامَكَ، وَمَجْدُ الرَّبِّ يَجْمَعُ سَاقَتَكَ. 9 حِينَئِذٍ تَدْعُو فَيُجِيبُ الرَّبُّ. تَسْتَغِيثُ فَيَقُولُ: هأَنَذَا. إِنْ نَزَعْتَ مِنْ وَسَطِكَ النِّيرَ وَالإِيمَاءَ بِالأصْبُعِ وَكَلاَمَ الإِثْمِ 10 وَأَنْفَقْتَ نَفْسَكَ لِلْجَائِعِ، وَأَشْبَعْتَ النَّفْسَ الذَّلِيلَةَ، يُشْرِقُ فِي الظُّلْمَةِ نُورُكَ، وَيَكُونُ ظَلاَمُكَ الدَّامِسُ مِثْلَ الظُّهْرِ. 11 وَيَقُودُكَ الرَّبُّ عَلَى الدَّوَامِ، وَيُشْبعُ فِي الْجَدُوبِ نَفْسَكَ، وَيُنَشِّطُ عِظَامَكَ فَتَصِيرُ كَجَنَّةٍ رَيَّا وَكَنَبْعِ مِيَاهٍ لاَ تَنْقَطِعُ مِيَاهُهُ. 12 وَمِنْكَ تُبْنَى الْخِرَبُ الْقَدِيمَةُ. تُقِيمُ أَسَاسَاتِ دَوْرٍ فَدَوْرٍ، فَيُسَمُّونَكَ: مُرَمِّمَ الثُّغْرَةِ، مُرْجِعَ الْمَسَالِكِ لِلسُّكْنَى.
ع6: النير : خشبة مستعرضة تربط بحبل على رقبتى حيوانين، ومرتبط بوسطها خشبة متعامدة عليها، في نهايتها آلة زراعية مثل، المحراث يجرها الحيوانان، ويقف عليها الفلاح لإتمام العمليات الزراعية.
يعلن الله شروط الصوم المقبول، فيقول :
- حل قيود الشر : الصوم الحقيقى مرتبط بأعمال الرحمة، ومن أهمها، حل القيود الشريرة، أى إن كان إنسانٌ مظلوماً، ويذله، ويسخره الآخرون، فإن كان في مقدورك أن تتدخل، وتطلقه، وتدفع ما عليه، أو تترجى من يذله أن يسامحه، فليتك تفعل هذا.
الأصعب من هذا، أن تجد إنساناً مقيداً بخطية ما، مثل إدمان المخدرات، أو الجنس، أو أى شهوة أخرى … فليتك تساعده، وتشجعه ليتوب، ويخرج من هذه القيود؛ ليحيا حراً مع الله، وينجح في حياته الروحية والمادية.
- فك عقد النير .. قطع كل نير : مساعدة كل من هو في ورطة، أو مشكلة نتيجة ظلم، أو خطأ منه؛ ليتحرر من هذه المشكلة، ويخلص من هذه العقدة (والمقصود عقدة الحبل حول رقبة الحيوان المربوط حولها النير).
- إطلاق المسحوقين أحراراً : ويقصد المسجونين، والمذلين، فينالون حريتهم، ويخرجون للحياة بعد تسديد ما عليهم من أموال، أو أن تخلصهم من خطاياهم.
والخلاصة، أن الصوم المقبول يجب أن يرتبط بعمل الرحمة مع المذلولين، ومساعدتهم على الحياة مع الله.
ع7: يواصل الله كلامه عن الصوم المقبول، الذى لابد أن يرتبط بعمل الرحمة فيقول : أن تهتم بالجائعين فتطعمهم، وبالعراة فتكسوهم، والذين بلا مأوى فتدبر لهم مكاناً يبيتون فيه.
ولاحظ أن تعطى الجائعين من طعامك، وليس من فضلاتك، أى تكسر رغيفك إلى جزئين، فتأكل أنت جزءاً، ويأكل هو الجزء الآخر.
لا تنسى أن العريان هو لحمك، لأننا كلنا جسد واحد، كما يعلن بولس الرسول أننا كلنا أعضاء في جسد واحد (1كو12: 13) فلابد أن تكسوه كما تكسيك ملابسك. وهذا هو تعليم المسيح، أنك إن فعلت هذه الأعمال الرحيمة؛ فإنك تعملها مع المسيح نفسه، فيكافئك في ملكوت السموات (مت25: 34-36).
وكما تهتم بستر أخوتك العريانين، اهتم أيضاً أن تستر خطايا الآخرين، كما تريد أن يستر عليك الله.
ع8: ساقتك : مؤخرة جيشك.
يكلم الله عروسه الأمة اليهودية، ويقول لها : أنه إن صمت الصوم الروحانى الذى يرتبط بأعمال الرحمة (ع6، 7)؛ تنالى بركات كثيرة أهمها.
- ينفجر مثل الصبح نورك : يظهر نور الله في حياتك بقوة، مثلما يظهر نور الفجر فجأة بعد ظلام الليل، فتستنيرى روحياً، وتشبعى وتفرحى. ويظهر هذا النور فيك، فيفرح الآخرون ويتعلمون منك.
- تنبت صحتك سريعاً : تنالين قوة في جسدك أيضاً؛ لأن بركة الله لروحك تظهر بالطبع في جسدك، كما يقول الكتاب المقدس: “الخبر الطيب يثمن العظام” (أم15: 30). فتكونى في سلام من أجل فرح روحك وجسدك معاً، ويتم هذا سريعاً، لأن تأثير الروح على الجسد قوى.
- يسير برك أمامك : إذا كنت بصحة روحية، ستكونين روحانية، وتظهر أعمال برك، فيتحدث الناس عنها أينما ذهبت، أى ينتشر الخبر عنك أمامك، وتكونين نوراً للعالم، وتجذبين النفوس لله.
- مجد الرب يجمع ساقتك : نعمة الله وقوته ومجده يجمع الساقة، أى المؤخرة، وهى تشمل الضعفاء، فمؤخرة القبيلة، أو الجيش تكون أضعف من المقدمة؛ هذه المؤخرة يجمعها ويشددها، فتكون قوية، مثل المقدمة.
وساقه الإنسان هى نقائصه وضعفاته، فهذه يستر عليها الله، ويكمل نقائصه، ويقويه فلا تظهر ضعفاته، كما يقول الله لبولس “قوتى في الضعف تكمل” (2كو12: 9).
ع9: الإيماء : الإشارة.
النتيجة الطبيعية للصوم المقبول، أن يستجيب الرب لدعواتك وصلواتك. وعندما تكون في ضيقة، وتصرخ إلى الله، يعلن الله لك أنه بجوارك، ومستعد لمعونتك.
فالصوم المقبول مرتبط، ليس فقط بأعمال الرحمة، لكن أيضاً بالابتعاد عن الشر، الذى يوضحه في هذه الآية بما يلى :
- النير : أى استعباد وتسخير وظلم الآخرين.
- الإيماء بالإصبع : الاحتقار والاستهزاء بالآخرين وإدانتهم.
- كلام الإثم : ويشمل هذا الشتيمة والتعيير، وكل كلام جارح ومعثر.
ع10: الدامس : شديد الظلام.
يؤكد الله في هذه الآية، أهمية عمل الرحمة، وبركاتها، فيقول : أنه إذا أنفقت أموالك لإطعام الجائعين، ومساندة النفس المذلولة بسبب الفقر ومشاكل الحياة، وتعبت، وبذلت جهداً في تعضيد المتعبين، فإن الله ينير حياتك، ويشرق نور قوى في حياتك، ويحول ظلمتك الشديدة إلى نور ساطع.
والله إن رجعت إليه بالتوبة التى تصاحب الصوم، فإنه يحول ظلمة خطيتك إلى ضياء البر، ويعطيك فهماً روحياً، وترى الله، وتفرح بعشرته.
ع11: الجدوب : القفار، أى الأماكن المهجورة.
ريا : مملوءة بالمياه التى ترويها.
يواصل الله كلامه عن البركات التى يعطيها لمن يصومون صوماً مقبولاً، فيقول: إن الله يقود حياتك على الدوام، فتتمتع برؤيته وعشرته، وتكون مطمئناً؛ لأنك تسلك في الطريق المستقيمة، ولا يستطيع أحد أن يخدعك.
ومهما كانت حياتك ضعيفة، ومهما كنت فقيراً روحياً، أو جسدياً، فالله يشبعك، ويعطى قوة ونشاط لعظامك، أى لجسدك، فتستطيع أن تتحرك بحماس لكل عمل صالح، حتى لو كانت عظامك يابسة أو ضعيفة، فهى تصير قوية مملوءة بحيوية الشباب.
وتصير حياتك كجنة مملوءة بالأشجار والنباتات الجميلة، والمثمرة، إذ فيها مياه كثيرة ترويها، بل تصير حياتك كينبوع ماء يرويك على الدوام، وكل هذا يرمز لعمل الروح القدس، الذى يشبعك ويرويك، ويملأ حياتك بالفضائل الروحية الكثيرة.
ع12: ويقول الله أيضاً لصاحب الصوم المقبول: أنك تكون بركة لمن حولك فيما يلى :
- تبنى الخرب القديمة : أى الأماكن المخربة تبنيها وتعمرها. وهذا يشير إلى مساعدة الضعفاء الذين تبدو حياتهم متهدمة وخربة، فتساعدهم أن يبنوا حياتهم من جديد بقوة الله، ويحيوا له.
ويرمز هذا أيضاً إلى الخرب التى في حياتك، أى الجزء الضعيف، الذى تهدم بفعل الخطية، فيستعيد قوته بفعل الروح القدس، وتصير متكاملاً في طريق الحياة الروحية، وقادراً على الأعمال الصالحة.
- تقيم أساسات دور فدور : تستطيع أن تؤسس، أى تضع أساسات لكل من حولك، وهى الأساسات الروحية التى تبنى عليها شخصية الإنسان، والمقصود التعاليم الروحية الأساسية، مثل أسرار الكنيسة ووسائط النعمة. ويستمر عملك هذا من دور إلى دور، أى على مدى السنين والأجيال، فتكون خادماً أميناً لله مع كل من حولك.
وبالطبع، تهتم بأساسات حياتك على مدى السنين، فتزيد هذه الأساسات الروحية التى تستطيع أن تبنى عليها بنياناً أكثر قوة. وهذا ما نلاحظه في القديسين، أنهم يعتبرون أنفسهم مبتدئين طوال حياتهم، ويميلون إلى التعلم والتلمذة، فوضع الأساسات مستمر طوال الحياة.
يُفهم من هذا، أنك ستكون خادماً قادراً على جذب نفوس جديدة لله، وتبنى حياتهم، وتضع أساساتها القوية، فيحيوا مع الله في أمان.
- مرمم الثغرة : إن كانت هناك نقائص، أو مشاكل في حياة من حولك تستطيع أن ترممها، كما ترمم الفتحات التى تضعف البناء، والتى تسمى الثغرات.
وكذلك أيضاً ترمم ثغرات نفسك، فتكون قوياً، وقادراً على ترميم ثغرات غيرك.
- مرجع المسالك للسكنى : فالطرق التى لم يكن أحد يسلكها؛ لأن فيها مخاطر، أو ينقصها المساعدات على الحياة، مثل الماء والراحة، يستطيع الناس أن يسلكوا فيها. والمقصود، تسهيل الحياة الروحية على المجاهدين في طريق الله، ومساندتهم في ضبط أنفسهم والصعود إلى جبال الفضيلة.
وبالطبع أنت تسهل على نفسك السلوك في هذه الطرق، بل تتقدم هؤلاء الناس الذين تخدمهم، فتتمتع أنت وهم بالحياة مع الله.
الصوم المقبول يا أخى هو بداية فتح أبواب كثيرة للتمتع بعشرة الله، فلا تهمل الصوم، أو تجعله قاصراً على الامتناع عن بعض الأطعمة، بل ليكن صومك روحياً، مرتبطاً بأعمال الخير والرحمة، وكل عمل صالح يبنيك ويبنى حياة الآخرين.
[3] يوم الرب (ع13 ، 14) :
13 «إِنْ رَدَدْتَ عَنِ السَّبْتِ رِجْلَكَ، عَنْ عَمَلِ مَسَرَّتِكَ يَوْمَ قُدْسِي، وَدَعَوْتَ السَّبْتَ لَذَّةً، وَمُقَدَّسَ الرَّبِّ مُكَرَّمًا، وَأَكْرَمْتَهُ عَنْ عَمَلِ طُرُقِكَ وَعَنْ إِيجَادِ مَسَرَّتِكَ وَالتَّكَلُّمِ بِكَلاَمِكَ، 14 فَإِنَّكَ حِينَئِذٍ تَتَلَذَّذُ بِالرَّبِّ، وَأُرَكِّبُكَ عَلَى مُرْتَفَعَاتِ الأَرْضِ، وَأُطْعِمُكَ مِيرَاثَ يَعْقُوبَ أَبِيكَ، لأَنَّ فَمَ الرَّبِّ تَكَلَّمَ».
ع13: إن كنت ستصوم الصوم المقبول، فهذا سيشجعك على احترام وصايا الله التى من أهمها تقديس يوم الرب، الذى كان هو السبت في العهد القديم، واستراح فيه الله؛ لأنه أكمل خلقة العالم. أما في العهد الجديد، ففاق يوم الأحد في مجده على يوم السبت، فصار هو يوم الرب، مع إكرام يوم السبت أيضاً.
وتقديس يوم السبت يظهر فيما يلى :
- ألا تدوس يوم السبت برجلك : أى لا تعمل أعمالك الخاصة في هذا اليوم، بل تتفرغ لعبادة الله.
- لا تفعل أعمال مسرتك يوم السبت : فيوم السبت فرصة للفرح مع الله بعبادته، وليس فرصة لإشباع شهواتك، فالانشغال بالطعام والشراب، أو أية اهتمامات أخرى تشغلك عن الله ليس وقتها يوم السبت؛ لأن مسرتك في هذا اليوم تتجه إلى أن تفرح الله بصلواتك وجلوسك معه، وبهذا تجعل يوم السبت مقدساً، ومكرماً، وترضى الله. وتكون قد أكرمت يوم الرب عن أعمالك الخاصة، ومزاجك وأهوائك التى تسرك.
- المتكلم بكلام الله : ليتك تنشغل بالصلاة والتأمل، وتتكلم مع الآخرين عن الله، أفضل من التكلم بكلامك بأى موضوعات أخرى من انشغالات العالم الكثيرة.
ع14: إذا قدست يوم الرب تنال بركات كثيرة هى :
- تتلذذ بالرب : فتتمتع بعشرة الله، وتفرح بالوجود معه، فتكون في سعادة لا يعبر عنها.
- أركبك على مرتفعات الأرض : ترتفع فوق ماديات العالم، ولا تضطرب لتقلبها، ويرتفع قلبك إلى السماء، فتسلك سلوكاً روحياً، أسمى من السلوك الجسدانى الأرضى.
- أطعمك ميراث يعقوب أبيك : تتذوق وتأكل طعاماً روحياً هو ميراث يعقوب أبيك، الذى وعدك الله به في السماء، فتتذوق عربون السماء وأنت على الأرض، وتفرح فرحاً روحياً بما تعرفه من الله، وتتذوقه ، وتحيا فيه.
هذه البركات مؤكدة؛ لأنها خرجت من فم الرب نفسه.
وهكذا نرى أن تقديس يوم الرب له مفهوم روحى عميق، فهو ليس مجرد الامتناع عن أعمال العالم، ولكنه اقتراب إلى الله، وتلذذ بالوجود معه، مثل الصوم المقبول، الذى ليس هو مجرد امتناع عن أطعمة، بل عمل الخير والانشغالات بالصلوات.
ليتك يا أخى تهتم بتقديس يوم الرب، فيكون متميزاً بين أيام الاسبوع بأمرين هامين هما :
- إضافة صلوات وقراءات وتأملات.
- إضافة خدمة وأعمال رحمة.