الله يهتم بشعبه وينبه الأمم
يُظهر هذا الإصحاح قوة الله وحكمته بالمقارنة مع ضعف الآلهة الوثنية وكذبها، ويبين اهتمام الله بشعبه، ودعوته للأمم لتؤمن به، ويعلن إشعياء نبوة واضحة عن كورش الملك الفارسى الذى يكتسح العالم، ويخضع له الكل، وفى نفس الوقت يعيد شعب الله إلى بلاده، وهو رمز واضح للمسيح، الذى يملك على قلوب المؤمنين به فى العالم كله، ويخصلهم.
(1) عتاب الأمم (ع1-7):
1 «اُنْصُتِي إِلَيَّ أَيَّتُهَا الْجَزَائِرُ وَلْتُجَدِّدِ الْقَبَائِلُ قُوَّةً. لِيَقْتَرِبُوا ثُمَّ يَتَكَلَّمُوا. لِنَتَقَدَّمْ مَعًا إِلَى الْمُحَاكَمَةِ. 2 مَنْ أَنْهَضَ مِنَ الْمَشْرِقِ الَّذِي يُلاَقِيهِ النَّصْرُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ؟ دَفَعَ أَمَامَهُ أُمَمًا وَعَلَى مُلُوكٍ سَلَّطَهُ. جَعَلَهُمْ كَالتُّرَابِ بِسَيْفِهِ، وَكَالْقَشِّ الْمُنْذَرِي بِقَوْسِهِ. 3 طَرَدَهُمْ. مَرَّ سَالِمًا فِي طَرِيق لَمْ يَسْلُكْهُ بِرِجْلَيْهِ. 4 مَنْ فَعَلَ وَصَنَعَ دَاعِيًا الأَجْيَالَ مِنَ الْبَدْءِ؟ أَنَا الرَّبُّ الأَوَّلُ، وَمَعَ الآخِرِينَ أَنَا هُوَ». 5 نَظَرَتِ الْجَزَائِرُ فَخَافَتْ. أَطْرَافُ الأَرْضِ ارْتَعَدَتِ. اقْتَرَبَتْ وَجَاءَتْ. 6 كُلُّ وَاحِدٍ يُسَاعِدُ صَاحِبَهُ وَيَقُولُ لأَخِيهِ: «تَشَدَّدْ». 7 فَشَدَّدَ النَّجَّارُ الصَّائِغَ. الصَّاقِلُ بِالْمِطْرَقَةِ الضَّارِبَ عَلَى السَّنْدَانِ، قَائِلًا عَنِ الإِلْحَامِ: «هُوَ جَيِّدٌ». فَمَكَّنَهُ بِمَسَامِيرَ حَتَّى لاَ يَتَقَلْقَلَ.
ع1: ينادى الله على الجزائر، ويقصد بها الأمم الغنية، بل وكل الأمم. والقبائل أيضاً تشير إلى كل الأمم.
يطلب الله من الأمم أن ينصتوا له؛ ليعرفوا الحق، ويقوموا بنشاط، أى يجددوا قوتهم بدلاً من التراخى والكسل، ويقتربوا من الله، ثم يتكلموا بما عندهم. هل لآلهتهم الوثنية، أى لأصنامهم قوة، وقدرة على معرفة نبوات المستقبل، مثل الله، أم أن نبواتهم كاذبة ؟ هذه هى المحاكمة؛ ليعرفوا ضعف وعجز أصنامهم.
ع2: أنهض : أقام.
المنذرى : المنثور والمشتت.
يتساءل الله على فم إشعياء ويقول : من أنهض من المشرق، الذى ينتصر فى كل خطواته على من يقف أمامه؟ إنه الله الذى أقام وحرك كورش ملك فارس، الذى بلاده فى شرق العالم، وأعطاه نعمة، فانتصر على كل البلاد التى قابلته، وأولها بابل التى كانت تحكم العالم، وحطمها، وقتل ملكها، وانتصر على جيوشها.
ودفع الله أمام كورش كل الأمم التى صادفها، فأنتصر عليها، وتسلط على ملوك العالم وخضعوا له، ومن حاول أن يقف أمامه، حاربه بسيفه، وانتصر عليه، فسقطت على الأرض جيوشه، وصارت كالتراب، أو صارت كالقش المبعثر، والمشتت فى الهواء، أى أباد كل من قابله، وتصدى له.
وكورش هو الذى أرجع بنى إسرائيل بقيادة زربابل إلى أورشليم وبنوها هى والهيكل. وكورش يرمز للمسيح الذى لا يستطيع أحد أن يقف أمام قوته، وانتصر على الشياطين بصليبه، وأعاد الذين آمنوا به من الظلمة إلى النور، ومن الجحيم إلى الفردوس.
هذه النبوة قالها إشعياء قبل 200 عام تقريباً من حدوثها، وهذا يبين صدق الله وقوة كلامه الذى لابد أن يتم، وقد ذكر الله كورش بالاسم فى (إش44: 28).
ع3: إن كورش الملك الفارسى طرد شعوباً كثيرة من أماكنها، ومرَّ فى بلادهم فى سلام، ولم يخسر إلا خسائر قليلة، وسيطر على العالم كله.
وحتى بابل المدينة الحصينة جداً حول نهر الفرات الذى يمر تحتها، ودخل جنوده فى قاع النهر اليابس فى طريق لم يمر فيه أحد من قبل، وقتلوا الملك بيلشاصر آخر ملوك بابل، والبابليين الذين معه. وقوله “طريق لم يسلكه برجليه”، يبين أيضاً سرعة مرور كورش، وانتصاره على كل البلاد التى قابلها، فمن شدة سرعته فى الانتصار، تبين الآية أنه يمر كأنه طائر فى الهواء.
وكورش القوى الحكيم السريع فى التسلط على العالم، يرمز للمسيح الكامل فى القوة، وهو كلى الحكمة، والذى انتشر الإيمان به سريعاً فى العالم كله.
ع4: يتساءل الله ويقول للأمم و العالم كله : من فعل وصنع داعيا الأجيال من البدء ؟ أليس أنا الذى أتيت بكورش، وجعلته يدعو شعبى، ويرجعهم إلى بلادهم، وقد تم هذا على لسان نبيِّ إشعياء قبل حدوثه بـ 200 عام. هل استطاع أى إله وثنى أن يفعل هذا ؟
ويصف الله نفسه بأربع صفات هى :
- من البدء، أى منذ الأزل.
- الرب، أى السيد على الأرض كلها.
- الأول الذى ليس قبله أحد.
- أنا هو، أى فىَّ كل الصفات، وأنا هو الله، أى يهوه وأنا ثابت ليس فقط مع شعبى بنى إسرائيل، بل مع الآخرين، أى كل الأمم الوثنية، فأنا الله الذى أدعو الجميع للإيمان والتوبة.
ع5: كل بلاد العالم الساكنة فى الجزائر وفى كل الأرض؛ حتى أطرافها، خافت وارتعدت عندما سمعت بكورش الفارسى وقوته، واقتربت وجاءت متحدة لعلها تستطيع أن تواجهه، ولكنها عجزت، لأنه اكتسح العالم بسرعة، وتمم مشيئة الله، وأعاد بنى إسرائيل إلى بلادهم.
ع6، 7: الصاقل بالمطرقة : الحداد الذى يضرب الحديد الساخن بالمطرقة ليشكله كما يريد.
السندان : قطعة من الحديد الصلب، مثبتة على قاعدة؛ ليطرق عليها الحداد الحديد ويشكله.
الإلحام : اللحام.
مكنه : ثبته.
يتقلقل : يهتز ويتحرك.
اجتمعت الأمم الخائفة، وكل واحد يحاول أن يشجع صاحبه، ويسانده، وإذ وجدوا أنفسهم فى ضعف شديد، التجأوا إلى عمل تماثيل من الخشب والحديد ودعوها آلهة، والتجأوا إليها، لتسندهم أمام كورش، وبالطبع لم تفعل شيئاً، فهى مجرد خشب وحديد ملتحم ومثبت بمسامير، فهو ليس بإله، ولا قوة له أمام تدبير الله، خالق العالم كله، الذى أرسل كورش ليكتسح العالم، وينفذ مشيئة الله.
إن كان الله هو فيه كمال القدرة والقوة، فلماذا يا نفسى تلتجئى إلى العالم بأمواله وعلاقاته، وكل شهواته ؟ إنها بلا قيمة أمام قوة الله، فأسرعى إليه، واتكلى عليه؛ لتعيشى مطمئنة، مهما اهتزت قوى العالم المحيطة بك.
(2) رعاية الرب لشعبه (ع8-20) :
8 «وَأَمَّا أَنْتَ يَا إِسْرَائِيلُ عَبْدِي، يَا يَعْقُوبُ الَّذِي اخْتَرْتُهُ، نَسْلَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِي، 9 الَّذِي أَمْسَكْتُهُ مِنْ أَطْرَافِ الأَرْضِ، وَمِنْ أَقْطَارِهَا دَعَوْتُهُ، وَقُلْتُ لَكَ: أَنْتَ عَبْدِيَ. اخْتَرْتُكَ وَلَمْ أَرْفُضْكَ. 10 لاَ تَخَفْ لأَنِّي مَعَكَ. لاَ تَتَلَفَّتْ لأَنِّي إِلهُكَ. قَدْ أَيَّدْتُكَ وَأَعَنْتُكَ وَعَضَدْتُكَ بِيَمِينِ بِرِّي. 11 إِنَّهُ سَيَخْزَى وَيَخْجَلُ جَمِيعُ الْمُغْتَاظِينَ عَلَيْكَ. يَكُونُ كَلاَ شَيْءٍ مُخَاصِمُوكَ وَيَبِيدُونَ. 12تُفَتِّشُ عَلَى مُنَازِعِيكَ وَلاَ تَجِدُهُمْ. يَكُونُ مُحَارِبُوكَ كَلاَ شَيْءٍ وَكَالْعَدَمِ. 13 لأَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُكَ الْمُمْسِكُ بِيَمِينِكَ، الْقَائِلُ لَكَ: لاَ تَخَفْ. أَنَا أُعِينُكَ. 14 «لاَ تَخَفْ يَا دُودَةَ يَعْقُوبَ، يَا شِرْذِمَةَ إِسْرَائِيلَ. أَنَا أُعِينُكَ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَفَادِيكَ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ. 15 هأَنَذَا قَدْ جَعَلْتُكَ نَوْرَجًا مُحَدَّدًا جَدِيدًا ذَا أَسْنَانٍ. تَدْرُسُ الْجِبَالَ وَتَسْحَقُهَا، وَتَجْعَلُ الآكَامَ كَالْعُصَافَةِ. 16 تُذَرِّيهَا فَالرِّيحُ تَحْمِلُهَا وَالْعَاصِفُ تُبَدِّدُهَا، وَأَنْتَ تَبْتَهِجُ بِالرَّبِّ. بِقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ تَفْتَخِرُ. 17 «اَلْبَائِسُونَ وَالْمَسَاكِينُ طَالِبُونَ مَاءً وَلاَ يُوجَدُ. لِسَانُهُمْ مِنَ الْعَطَشِ قَدْ يَبِسَ. أَنَا الرَّبُّ أَسْتَجِيبُ لَهُمْ. أَنَا إِلهَ إِسْرَائِيلَ لاَ أَتْرُكُهُمْ. 18 أَفْتَحُ عَلَى الْهِضَابِ أَنْهَارًا، وَفِي وَسَطِ الْبِقَاعِ يَنَابِيعَ. أَجْعَلُ الْقَفْرَ أَجَمَةَ مَاءٍ، وَالأَرْضَ الْيَابِسَةَ مَفَاجِرَ مِيَاهٍ. 19 أَجْعَلُ فِي الْبَرِّيَّةِ الأَرْزَ وَالسَّنْطَ وَالآسَ وَشَجَرَةَ الزَّيْتِ. أَضَعُ فِي الْبَادِيَةِ السَّرْوَ وَالسِّنْدِيَانَ وَالشَّرْبِينَ مَعًا. 20 لِكَيْ يَنْظُرُوا وَيَعْرِفُوا وَيَتَنَبَّهُوا وَيَتَأَمَّلُوا مَعًا أَنَّ يَدَ الرَّبِّ فَعَلَتْ هذَا وَقُدُّوسَ إِسْرَائِيلَ أَبْدَعَهُ.
ع8، 9: خليلى : صديقى.
إن كانت الأمم قد خافت وارتعبت من الله الآتى فى شكل كورش، واكتسح العالم، لكن الله يطمئن شعبه بنى إسرائيل، ويلقبهم بما يلى :
- إسرائيل عبدى : فهو منتسب إلى الله، ويقول له عبدى، وبالتالى الله مسئول عنه، وعن رعايته وحمايته.
- يعقوب الذى اخترته : فهو شعب الله المختار من وسط شعوب العالم، لأنه تميز بأنه يؤمن بالله.
- نسل إبراهيم خليلى : إن شعب الله، بنى إسرائيل، هو ابن صديق الله المحبوب إبراهيم، وبالتالى هو محبوب من الله لأجل إبراهيم.
كل هذا الكلام صفات لشعب الله، وهى رمز للمسيح الذى هو عبد الله ومختاره، ونسل إبراهيم، والمحبوب من الله، كما شهد فى عماد المسيح وقال “به سررت” (مت3: 17). وهو أيضاً رمز لكل المسيحيين أبناء المسيح المؤمنين به، وهم إسرائيل الجديد.
لأجل محبة الله لشعبه، يعلن أنه دعاهم من أطراف الأرض، وقد دعى إبراهيم من “أور الكلدانيين”، ودعى شعبه من عبودية مصر، وأخرجه بذراع رفيعة، وأسكنه أرض كنعان؛ أرض الموعد، وهى رمز لكنعان السماوية، أى ملكوت السموات.
وتكرار كلمة عبدى، تؤكد اهتمام الله ومحبته، ورعايته لشعبه؛ حتى يكون مطمئناً وسط تقلبات العالم. وأكد الله أيضاً أن شعبه مختار وغير مرفوض؛ لأنه محبوب، فالعالم كله قد وقع تحت يد كورش، أما شعب الله فاهتم به كورش – الذى يرمز للمسيح – وأعاده إلى بلاده؛ ليبنى هيكل الله فى أورشليم، كما اعتنى الله بشعبه فى مصر، فكانت الضربات تأتى على المصريين، وفى نفس الوقت، يحمى الله شعبه من هذه الضربات، رغم أنهم ساكنون وسط المصريين.
ع10: يواصل الله تشجيعه لشعبه، فيقول له :
- لا تخف لأنى معك : فإن خافت كل أمم الأرض لا تخف أنت، وإن كنت إنساناً تقف وحدك، فأنا معك، كما وقف عبدى موسى أمام فرعون، وكان فرعون يخافه، ولا يخاف هو من فرعون، وكما وقف أنبيائى بكل قوة لأنى معهم.
- لا تتلفت لأنى إلهك : يطمئنه الله أيضاً بألا يتلفت يميناً وشمالاً خوفاً من أى أحد يؤذيه ، فليس هناك أية قوة تستطيع أن تقف أمام الله الذى هو إلهك المرتبط بك، وأنت مرتبط به، وكل الآلهة الوثنية بلا قيمة.
- قد أيدتك وأعنتك وعضدتك بيمين برى : الله مساند لشعبه، ومعين له، ليس بقوة مثل قوى الأرض، بل بقوة تفوق جميع قوى الأرض، وهى قوة الله، المشار إليها بيمين الله.
وهذا اليمين هو يمين بر الله، أى أن الله يحفظك فى حياة البر والنقاوة، ويزينك بالفضائل، حتى لو سار الناس كلهم فى الشر، فأنت ستحيا فى البر والله يساندك، فتكون نوراً للعالم، وملحاً للأرض، كما أعلن المسيح فى عظته على الجبل (مت5).
هذا البر أظهره الله فى وصاياه لشعبه فى العهد القديم، وقدمه لشعبه فى العهد الجديد، وهم المسيحيون، بدمه المسفوك على عود الصليب، وأعطاه الروح القدس كنعمة لأولاده المؤمنين به، أى المسيحيين.
ع11، 12: يطمئن الله شعبه بأن أعداءه وهم من يخاصموه، أو ينازعوه، أو يحاربوه، أو يغتاظوا منه؛ كل هؤلاء سيصيرون كلا شىء، أى بلا قوة أمامه، وهذا كان أمراً غريباً؛ لأن آشور، ثم بابل كانت بلاداً قوية، ومسيطرة على العالم، ولكن تحقق كلام الله، وسقطت آشور، ثم بابل.
ع13: يواصل الله طمأنته لشعبه، فيؤكد له أنه إلهه، المهتم به، والمسئول عنه.
ويقول له أيضاً : “أنا الممسك بيمينك”، أى أنا قوتك؛ لأن اليمين يمثل القوة فى الإنسان. وقوة الله غير محدودة، وبالتالى لا يصح أن يخاف الإنسان، أو ينزعج من شىء؛ لأن الله معه.
ونلاحظ أن كلمة لا تخف تكررت ثلاث مرات فى (ع10-14)؛ لأن الله يشعر بشعبه الذى سيعانى ذل العبودية فى السبى البابلى.
يعلن الله أنه سيعين شعبه فى ضيقته، فيعطيه سلاماً وحماساً فى الصلاة، فيستجيب له، ويعيده إلى أرضه، ليبنى مدينته المقدسة أورشليم والهيكل.
ع14: شرذمة : جماعة قليلة.
يضيف الله فى كلامه مع بنى شعبه : أنكم وإن كان شكلكم ضعيفاً وحقيراً، مثل دودة، أو جماعة صغيرة، لكن لا تخافوا؛ لأنى أنا معينكم وسندكم، بل أنا قدوس إسرائيل : أنا أفديكم من كل ضيقة تمرون بها. والمقصود بالفداء هنا، أن الله خلص شعبه من عبودية بابل، وجعل كورش يعيده إلى بلاده، وكورش يرمز للمسيح الفادى الحقيقى على الصليب لكل من يؤمن به.
ع15: نورج : آلة زراعية تمر فوق حزم القمح، أو الشعير، بعجلاتها المسننة، فتفصل القمح عن القش.
محدداً : كسكين حاد يقطع بسهولة.
تدرس : تقطع عيدان القمح، أو الشعير الجافة.
الآكام : التلال.
العصافة : ورقة نباتية رقيقة جداً يسهل أن تطير فى الهواء.
يقوى الله شعبه، فيقول له : أنا جعلتك ليس دودة، أو شرذمة، بل نورجاً محدداً وجديداً، أى تؤثر فيمن حولك، وتقطعهم بسهولة. وبأسنان النورج، الذى هو أنت، تستطيع ليس فقط أن تدرس أعواد القمح، أو الشعير الجافة، بل تستطيع أن تكسر الجبال، وتكتسح الآكام، فتجعلها كالعصافة، أى بلا أية قوة؛ كل هذا بقوة الله، الذى لا يستطيع أحد أن يقف أمامه.
وهكذا نرى كيف أن قوة الله تحول الدودة والشرذمة، أى شعب الله إلى نورج قوى جداً، والجبال و الآكام التى ترمز إلى آشور وبابل المتكبرين، يكتسحهم النورج، فيكونوا بلا قوة أمامه، فالله يقلب الأمور إلى العكس؛ لأنه فوق الكل، ويحب شعبه المؤمن به، ويرفعه إلى العلاء.
ع16: تذريها : تفصل القش عن القمح.
ولا يكتفى عمل شعب الله فى البابليين والآشوريين على تكسيرهم وسحقهم بالنورج، ولكن أيضاً يذريهم، أى يظهر أنهم قش مفصول عن القمح، والريح والعاصف تحمل هذا القش وتلقيه بعيداً.
وحينئذ تبتهج بالله الذى جعلك تتحكم، وتتسلط على من تسلطوا عليك، و استعبدوك، وتمجد الله الذى يرفع شعبه، ويمجده.
وإن كان النورج وعجلته المذرية ترمز إلى الجهاد الإنسانى، فالريح والعاصف يرمزان لعمل النعمة، فعندما يرى الله صلوات شعبه وأمانته، يساعده ويذل ويبدد ويلاشى الأمم التى أتعبته وأذلته، وهى آشور وبابل.
ع17، 18: البقاع : جمع بقعة، وهى قطعة من الأرض.
أجمة : بركة ماء.
مفاجر : ينابيع.
البائسون هم بنو إسرائيل، الذين أذلهم الآشوريون والبابليون، وفى عبوديتهم لهم كانوا فى جوع وعطش، حتى أن ألسنتهم قد جفت من العطش. وعندما يصرخون إلى الله، يستجيب لهم، وينقذهم ويرويهم.
فيشق لهم أنهاراً فى الأرض؛ هذه الأنهار يشقها الله فى الأماكن المرتفعة وهى الهضاب، بخلاف ما يتوقع الناس أن تكون المياه فى الأودية، ولكن الله يجعل الأمطار تنزل على الأماكن المرتفعة، وتروى أولاده.
ويفجر الله ينابيع ماء من الأرض؛ لتروى شعبه، ويجعل الأرض الجرداء التى لا يسكنها أحد (قفر) بركة ماء يشرب منها الإنسان والحيوان والنبات، أى يحول البرية إلى بستان.
هذه الأنهار والينابيع ترمز لعمل الروح القدس فى العهد الجديد، الذى يروى شعب الله فى الكنيسة، ويعطيهم حيوية وقوة، وثبات وفرح.
ع19: الأرز والسنط : أشجار مرتفعة وخشبها جيد لا يسوس.
الآس : شجيرات صغيرة لها رائحة طيبة.
شجرة الزيت : يقصد بها شجرة الزيتون، أو أية شجرة تنتج ثمراً زيتياً.
البادية : الصحراء.
السرو : نباتات مرتفعة خشبها جيد.
السنديان : أشجار كثيرة الخشب ومنظرها جميل.
الشربين : أشجار يستخرج منها زيت طبى.
لا يعطى الله فقط القفر أن يمتلئ بالماء، بل ينبت فيه أيضاً أشجار متنوعة، تتميز بالعظمة مثل الأرز، والخضرة المستديمة مثل السنط والسرو، وله رائحة طيبة مثل الآس، وينتج منه الزيت مثل شجرة الزيت والشربين، ومنها ما ينتج الأخشاب مثل السنديان.
وهكذا تتحول الصحراء إلى بستان جميل مملوء بالأشجار المتنوعة. كل هذا يرمز لعمل الروح القدس بكنيسة العهد الجديد، بالإضافة إلى أنه يشير للحياة السعيدة التى يحياها بنو إسرائيل عند رجوعهم إلى بلادهم، وعبادتهم لله فى الهيكل.
ع20: كل الآيات السابقة تظهر رعاية الله لشعبه بشكل عظيم لا يمكن أن يتوقعه أحد؛ هذا هو عمل الله، فيمجده شعبه، ويشكره فى كل حين.
ونرى فى هذه الآية أفعال جميلة يعملها شعب الله، وهى النظر إلى أعمال الله فيه، فيعرف الشعب عظمة الله، ويثبت إيمانه به، وينتبهوا إلى ضعف الآلهة الوثنية، وكل أعمال الشياطين أمام عظمة الله، ويتأملوا دائماً فى أعمال الله ليسبحوه ويمجدوه.
إن كان الله القدوس يبدع فى حياتك بأعماله الكثيرة، وخاصة عندما تكون فى ضيقة وتصرخ إليه، فليس أمامك إلا أن تشكره وتسبحه فى كل حين، لتتمتع بعشرته على الأرض، تمهيداً للحياة السمائية.
(3) الله القوى والأوثان الكاذبة (ع21-29) :
21 «قَدِّمُوا دَعْوَاكُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ. أَحْضِرُوا حُجَجَكُمْ، يَقُولُ مَلِكُ يَعْقُوبَ. 22 لِيُقَدِّمُوهَا وَيُخْبِرُونَا بِمَا سَيَعْرِضُ. مَا هِيَ الأَوَّلِيَّاتُ؟ أَخْبِرُوا فَنَجْعَلَ عَلَيْهَا قُلُوبَنَا وَنَعْرِفَ آخِرَتَهَا، أَوْ أَعْلِمُونَا الْمُسْتَقْبِلاَتِ. 23 أَخْبِرُوا بِالآتِيَاتِ فِيمَا بَعْدُ فَنَعْرِفَ أَنَّكُمْ آلِهَةٌ، وَافْعَلُوا خَيْرًا أَوْ شَرًّا فَنَلْتَفِتَ وَنَنْظُرَ مَعًا. 24 هَا أَنْتُمْ مِنْ لاَ شَيْءٍ، وَعَمَلُكُمْ مِنَ الْعَدَمِ. رِجْسٌ هُوَ الَّذِي يَخْتَارُكُمْ. 25 «قَدْ أَنْهَضْتُهُ مِنَ الشَّمَالِ فَأَتَى. مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ يَدْعُو بِاسْمِي. يَأْتِي عَلَى الْوُلاَةِ كَمَا عَلَى الْمِلاَطِ، وَكَخَزَّافٍ يَدُوسُ الطِّينَ. 26 مَنْ أَخْبَرَ مِنَ الْبَدْءِ حَتَّى نَعْرِفَ، وَمِنْ قَبْل حَتَّى نَقُولَ: هُوَ صَادِقٌ؟ لاَ مُخْبِرٌ وَلاَ مُسْمِعٌ وَلاَ سَامِعٌ أَقْوَالَكُمْ. 27 أَنَا أَوَّلًا قُلْتُ لِصِهْيَوْنَ: هَا! هَا هُمْ. وَلأُورُشَلِيمَ جَعَلْتُ مُبَشِّرًا. 28 وَنَظَرْتُ فَلَيْسَ إِنْسَانٌ، وَمِنْ هؤُلاَءِ فَلَيْسَ مُشِيرٌ حَتَّى أَسْأَلَهُمْ فَيَرُدُّونَ كَلِمَةً. 29 هَا كُلُّهُمْ بَاطِلٌ، وَأَعْمَالُهُمْ عَدَمٌ، وَمَسْبُوكَاتُهُمْ رِيحٌ وَخَلاَءٌ.
ع21-24: يخاطب الله عبدة الأوثان، ويقول لهم : هلموا نتحاجج، ونحكم من هو الإله الحقيقى فينا ؟ أنا الله، أم آلهتكم الوثنية ؟ قدموا دعواكم وحججكم؛ حتى نعرف الحق.
إن حججكم لابد أن تشمل الأمور التى تنبأتم بها منذ زمان وحدثت وتحققت، أو أمور تتنبأون بها الآن، وستحدث حتى ننتظر تحقيقها.
إفعلوا أى شىء خيراً للإنسان، أو شراً، يظهر خطورتكم وقوتكم؛ لأن الحقيقة أنكم بلا فائدة ولا ضرر؛ أنتم لا شىء بلا أى تأثير.
أنتم أيتها الآلهة الوثنية لا أصل لكم، فأنتم ظهرتم من العدم، وليس لكم أى عمل، والذى يختار عبادتكم هو إنسان حقير ليس له قيمة، إلا أن يكون مثل القمامة وكل وسخ فى الأرض.
ع25: الملاط : الطين الذى يستخدم فى البناء مع الطوب النىَّ.
الخزاف : صانع الفخار.
ويعطى الله هنا نبوة ستحدث فى المستقبل، وهى أن الله أقام كورش الملك الفارسى والآتى من الشمال والشرق، أى من فارس ومادى، وكان جيشه يضم جنوداً من الفرس (من الشرق) أو الماديين (من الشمال).
وكورش هذا دعى باسم الله، واعترف بأنه إله السماء، وشجع اليهود على العودة إلى بلادهم وبناء هيكل الرب (عز1: 1-4).
وقد داس كورش على ولاة كل البلاد التى اكتسحها، كما يدوس البناء على الملاط (المونة)، أو الخزاف (الفخارى) على الطين؛ ليحوله إلى آنية.
كورش هذا هو رمز المسيح الذى أعلن اسم الله، وقال أنه ابن الله، وداس على الشياطين، وهم ولاة هذا العالم، وذلك بصليبه المحيى، وهو شمس البر الآتى من الشرق، ومن الناصرة التى تقع شمال بلاد بنى إسرائيل، وهو البنَّاء الذى بنى الكنيسة جسده، والفخارى الذى شكَّل أولاده، ليكونوا آنية صالحة لعمل الروح القدس فيهم.
ع26: يسأل الله عبدة الأوثان، فيقول : مَن مِن آلهتكم أخبر بأية نبوة من البدء؛ حتى نعرف أنه إله عالم وقادر على معرفة الغيب ونصدق أنه إله. لا أحد منكم يخبر، أو يسمعنا إجابة.
ع27: أما أنا، يقول الله : فقد أخبرت مدينتى المقدسة أورشليم (وهى صهيون)، وبشرتها عن طريق أنبيائى بأن كورش سيرسل أبناءك إليك ليبنوكِ، وهيكلكِ فى وسطكِ.
ع28: ويقول الله : لم أجد من عبدة الأوثان وآلهتهم من يرد على أسئلتى، أو يقدم مشورة.
ع29: والخلاصة يقول الرب : أن كل عبدة الأوثان وآلهتهم باطلة، ليس لها أى نفع، وأعمالهم عدم ولا شىء، ومسبوكاتهم، أى تماثيل أصنامهم ريح وخلاء، أى لا قيمة لها. إن كان الله هو القوة الوحيدة التى خلقت العالم، وتضبطه، وتدبره، فلماذا يا أخى تنشغل عنه، وتعتمد على أمور زائلة مثل المال والبشر والمراكز؟ إن كلها لا شىء فارجع إلى الله، واطلب منه احتياجاتك، واتكل عليه، فتحيا مطمئناً.