الدعوة للخلاص
فى هذا الإصحاح يعلن الله لكل الشعوب دعوته لهم؛ لينالوا الخلاص المجانى الذى تممه المسيح على الصليب، كما أعلن هذا فى (ص53)، ويوضح أيضاً أهمية تجاوب الإنسان مع هذه الدعوة؛ لينال الخلاص، ثم ماذا ينتظره من بركات، وثمار هذا الخلاص العظيم.
(1) الخلاص مقدم للكل (ع1-5):
1 «أَيُّهَا الْعِطَاشُ جَمِيعًا هَلُمُّوا إِلَى الْمِيَاهِ، وَالَّذِي لَيْسَ لَهُ فِضَّةٌ تَعَالَوْا اشْتَرُوا وَكُلُوا. هَلُمُّوا اشْتَرُوا بِلاَ فِضَّةٍ وَبِلاَ ثَمَنٍ خَمْرًا وَلَبَنًا. 2 لِمَاذَا تَزِنُونَ فِضَّةً لِغَيْرِ خُبْزٍ، وَتَعَبَكُمْ لِغَيْرِ شَبَعٍ؟ اسْتَمِعُوا لِي اسْتِمَاعًا وَكُلُوا الطَّيِّبَ، وَلْتَتَلَذَّذْ بِالدَّسَمِ أَنْفُسُكُمْ. 3 أَمِيلُوا آذَانَكُمْ وَهَلُمُّوا إِلَيَّ. اسْمَعُوا فَتَحْيَا أَنْفُسُكُمْ. وَأَقْطَعَ لَكُمْ عَهْدًا أَبَدِيًّا، مَرَاحِمَ دَاوُدَ الصَّادِقَةَ. 4 هُوَذَا قَدْ جَعَلْتُهُ شَارِعًا لِلشُّعُوبِ، رَئِيسًا وَمُوصِيًا لِلشُّعُوبِ. 5 هَا أُمَّةٌ لاَ تَعْرِفُهَا تَدْعُوهَا، وَأُمَّةٌ لَمْ تَعْرِفْكَ تَرْكُضُ إِلَيْكَ، مِنْ أَجْلِ الرَّبِّ إِلهِكَ وَقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ لأَنَّهُ قَدْ مَجَّدَكَ».
ع1: هلموا : تعالوا.
ينادى الله جميع العطاش فى العالم؛ ليشربوا من المياه، وليس المقصود مياه الأنهار، أو مياه الأمطار، ولكن مياه الروح القدس، كما ذُكر فى (يو7: 37-39). فالشعور بالعطش، أى الاحتياج هو الشرط الضرورى لنوال الخلاص.
والذى ليس له فضة، أى قدرة على شراء المياه، أو الطعام، فليأت؛ لأن كل شىء يقدم مجاناً، أى أن خلاص الله الذى تممه المسيح على الصليب، يقدم مجاناً لكل الشعوب لمن يؤمن به.
والله يقدم خمراً ولبناً. والخمر يرمز لطعام الكبار، ويرمز للفرح، واللبن يرمز لطعام المبتدئين. فالدعوة للكل؛ المبتدئين فى علاقتهم بالله، أو المتقدمين؛ الكل يستطيع أن يشترى هذا الخلاص مجاناً. وكيف يشتريه؟ بالشعور بالاحتياج إليه كما ذكرنا، والمسيح يقدمه مجاناً لكل من يحتاج إليه.
ع2: يعاتب الله كل البشر؛ لأنهم يشترون بالفضة التى يزنونها، ما يسمونه خبزاً، أو طعاماً، وهو ليس الطعام الحقيقى؛ لأن أطعمة هذا العالم زائلة، أما الطعام الحقيقى، فهو جسد الرب ودمه، وهو الروح القدس المشبع؛ هذا هو الطيب والدسم الذى يذكره الله فى هذه الآية.
كانوا قديماً لا يوجد عندهم عملات مالية للشراء، فكانوا يزنون الفضة؛ ليعرفوا مقدارها، ويشتروا بها ما يريدون.
فالله يوجه أنظار البشر إلى الطعام الحقيقى؛ طعام الروح، أى الخلاص الذى يقدمه المسيح على الصليب، فهو أهم من كل طعام وشراب مادى على هذه الأرض، وكما ذكر الله أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله (تث8: 3)، فهو توجيه إلهى للبشر؛ ليقبلوا دعوته لهم لنوال الخلاص الذى سيتممه على الصليب، فيكون اهتمامهم وتعبهم، وكل جهادهم لنوال هذا الخلاص، وليس لمجرد طعام هذه الأرض، وكل الماديات.
ع3: أميلوا آذانكم تعنى الاهتمام، وحسن الإنصات لكل كلمة يقولها الله. وإمالة الأذن تعنى أيضاً الاتضاع، وهو أيضاً شرط لقبول كلام الله، والاستفادة من خلاصه.
ثم يكرر الله دعوته هلموا إلىَّ، أى لا تذهبوا وراء آلهة وثنية، أو شهوات العالم، فيكون هدفكم واضحاً لتنالوا خلاصكم.
عندما يسمع الإنسان، ويفهم كلام الله، سينال الخلاص، وتحيا نفسه، وهذا معناه أنه كان ميتاً فعاش، عندما سمع دعوة الله، وقبلها، وحينئذ سينال الحياة، ليس فقط على الأرض مع المسيح، بل أيضاً الحياة الأبدية.
لا يهبنا الله فقط الحياة، بل يقطع معنا عهداً أبدياً. هذا العهد مبنى على رحمة الله الصادقة، التى وعد بها داود العظيم فى المحبة، والذى من نسله أتى المسيح الفادى والمخلص، فيقطع معنا عهداً بدمه على الصليب، فنحيا معه، وبه، وتدوم حياته فينا إلى الأبد.
ع4: شارعاً : واضع الشريعة.
موصياً : مانح الوصية.
يتكلم إشعياء عن المسيح الذى جعله الآب واضعاً لشريعة العهد الجديد، التى هى المحبة والخلاص المقدم لكل الشعوب، وليس لليهود فقط، وهو أيضاً واضع وصايا العهد الجديد التى هى استكمال لوصاياه فى العهد القديم، وشرح لتفاصيلها، ويقدمها لكل الأمم لتؤمن به، وتحيا له.
ع5: تركض : تجرى.
الآب يخاطب الابن : ويقول له : “ها أمة لا تعرفها تدعوها“، فالمسيح الإله المتأنس، الذى يتمم الخلاص على الصليب، سيدعو الأمم للإيمان بعمل روحه القدوس فى الرسل، وعندما يؤمنون ينالون الخلاص.
وعندما تسمع الأمم، وترى قوة الله للمؤمنين، يجرون نحو الكنيسة لينضموا إليها، ويتمتعوا بعمل الروح القدس فيهم. فالأمم التى لم تكن تعرف الله، تعرفه وتؤمن به.
ولأن الآب قد تمجد فى الابن، ومجده فى أعين العالم بقيامته، فلذا يؤمن الكثيرون فى العالم كله ببشارة الخلاص.
إن انضمام الأمم للإيمان كان غير مقبول، أو متوقع من اليهود؛ حتى أن بولس الرسول يدعو إيمان الأمم سراً كان مكتوماً فى العهد القديم عن أعين اليهود، وأُعلن بوضوح فى العهد الجديد، واستنارت به عيون الكثيرين من الأمم، وآمنوا؛ حتى تعجب اليهود، بل وأيضاً الأمم من حب الله العجيب المقدم للعالم كله (أف3: 9؛ كو1: 26، 27).
الله يدعوك يا أخى مع كل شعوب العالم لتتمتع بخلاصه، فإن كنت قد آمنت، وصرت عضواً فى الكنيسة، فاعلم انه على قدر شعورك بالجوع والعطش للمسيح، ستنال بركات لا تحصى.
[2] التجاوب مع الخلاص (ع6-9) :
6 اُطْلُبُوا الرَّبَّ مَا دَامَ يُوجَدُ. ادْعُوهُ وَهُوَ قَرِيبٌ. 7 لِيَتْرُكِ الشِّرِّيرُ طَرِيقَهُ، وَرَجُلُ الإِثْمِ أَفْكَارَهُ، وَلْيَتُبْ إِلَى الرَّبِّ فَيَرْحَمَهُ، وَإِلَى إِلهِنَا لأَنَّهُ يُكْثِرُ الْغُفْرَانَ. 8 «لأَنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ، وَلاَ طُرُقُكُمْ طُرُقِي، يَقُولُ الرَّبُّ. 9 لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الأَرْضِ، هكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ.
ع6: إن كان الخلاص قد تم على الصليب، فبالتالى نتحرك، ونطلب من الرب أن يعطينا هذا الخلاص مادام يوجد وقت للتوبة؛ لئلا يفوت زمان التوبة، كما حدث مع العذارى الجاهلات.
إن كان الله موجوداً، فلماذا نتكاسل، وننشغل بشهوات العالم، فلنطلب الله مادام هو موجوداً أمامنا، كيف نهمل خلاصاً هذا مقداره، ونعتذر بسبب ضروريات الحياة، واحتياجات الجسد، ومشاغل العالم التى لا نهاية لها.
ثم يشجعنا إشعياء فيقول : “إدعو الرب فهو قريب”، أى لا يخدعكم إبليس بأن الله بعيد فى السماء، فلا يشعر بك، بل هو أقرب مما تتخيل، هو قريب جداً منك. وقد ظهر هذا واضحاً فى تجسد المسيح وفدائه، فهو يشعر بآلامنا واحتياجاتنا، وقدم لنا فداءً حياً، نراه كل يوم على المذبح؛ جسد مقسوم، ودم مسفوك لأجل خلاصنا؛ لنأكله فنحيا به.
إن تفرق عنك كل الأحباء، وإن ازدادت الضيقة جداً عليك، فلتطلب الرب؛ لأنه موجود، وقريب منك جداً، وقادر أن ينقذك من كل ضيقة.
يُفهم من هذه الآية أهمية الصلاة، والتحدث مع الله الموجود أمامك، وقريب جداً منك؛ حتى تتعود عليه، وتحبه، وتزداد صلواتك، فتملأ نهارك وليلك. هذا ما فعله القديسون فى البرارى، وما يفعله البسطاء فى كل العالم، فيتمتعوا برعاية الله وخلاصه.
ع7: إن كان باب التوبة مفتوحاً، وأحضان الله ترحب بك، فأسرع لتترك شرورك وآثامك مهما كانت كبيرة، أو كثيرة؛ اتركها ليست من أفعالك فقط، أو كلامك، بل أيضاً من أفكارك ومشاعرك.
أسرع إلى التوبة لتنال غفران الله ومراحمه الكثيرة التى تغطى جميع خطاياك. فمهما كانت خطاياك كثيرة، فثق أن مراحم الله وغفرانه غير محدود.
وإن كنت ضعيفاً أمام شهواتك، ومقيداً بخطاياك، فاطلب معونة الله؛ ليعطيك الإرادة، ويشددك، ويشجعك، فتقوم وترجع إليه، فتنال رحمته وغفرانه الكثير؛ لأنه لا يرد التائبين مهما كان ضعفهم.
ع8، 9: الله أفكاره روحية، فيطلب ويريد خلاص نفوس البشر، أما البشر لأنهم فى الجسد، فأفكارهم فى الغالب مرتبطة بشهوات العالم ومادياته، فيصعب عليهم معرفة أفكار الله. وكلما تقدم الإنسان فى حياته الروحية، يقترب فكره من فكر الله، حتى أن بولس الرسول فى العهد الجديد يقول : “أما نحن فلنا فكر المسيح” (1كو2: 16).
وطرق الله تختلف عن طرق البشر؛ لأن طرق الله مستقيمة وواضحة، فهو مصدر القداسة والنقاوة، ولا يخاف من أحد، أما البشر فيسهل سقوطهم فى الخطية والخوف والقلق، مما يؤثر على طرقهم ووسائلهم فى الحياة، فتكون ملتوية بنسبة قليلة، أو كبيرة حسب محبتهم وعلاقتهم بالله.
ولأن البشر أفكارهم وعقولهم محدودة، أما الله فأفكاره غير محدودة؛ لذا قد يسمح الله بضيقات؛ لأجل خلاص نفوس البشر حتى يبتعدوا عن خطاياهم، أو يرجعوا عنها. فعندما سمح الله بسبى شعبه، تاب، فأعاده الله إلى بلاده بمعجزة عظيمة تفوق العقل. وعندما وصل أيوب إلى درجة عالية من البر، فلم يكن هناك من هو أفضل منه فى الشرق كله، سمح له الله بضيقات عنيفة؛ ليحرره من البر الذاتى (الكبرياء) لئلا يضيع ويهلك.
وبالتالى، نرى أن أفكار الله وطرقه أعلى بكثير جداً عن أفكار وطرق البشر، ويقدم الله تشبيهاً لنفهم هذا المعنى، فيقول: “أنه كما تعلو السماء عن الأرض هكذا تعلو أفكارى وطرقى عن أفكاركم وطرقكم”.
الله يقدم خيراته لك كل يوم، ومحبته، وينتظر تجاوبك معه بالتوبة والشكر والأعمال الصالحة، فلا تهمل محبته، فتتمتع بعشرته، وبأعماق جديدة من الوجود معه.
[3] بركا ت الخلاص (ع10-13) :
10 لأَنَّهُ كَمَا يَنْزِلُ الْمَطَرُ وَالثَّلْجُ مِنَ السَّمَاءِ وَلاَ يَرْجِعَانِ إِلَى هُنَاكَ، بَلْ يُرْوِيَانِ الأَرْضَ وَيَجْعَلاَنِهَا تَلِدُ وَتُنْبِتُ وَتُعْطِي زَرْعًا لِلزَّارِعِ وَخُبْزًا لِلآكِلِ، 11 هكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ فَمِي. لاَ تَرْجعُ إِلَيَّ فَارِغَةً، بَلْ تَعْمَلُ مَا سُرِرْتُ بِهِ وَتَنْجَحُ فِي مَا أَرْسَلْتُهَا لَهُ. 12 لأَنَّكُمْ بِفَرَحٍ تَخْرُجُونَ وَبِسَلاَمٍ تُحْضَرُونَ. الْجِبَالُ وَالآكَامُ تُشِيدُ أَمَامَكُمْ تَرَنُّمًا، وَكُلُّ شَجَرِ الْحَقْلِ تُصَفِّقُ بِالأَيَادِي. 13 عِوَضًا عَنِ الشَّوْكِ يَنْبُتُ سَرْوٌ، وَعِوَضًا عَنِ الْقَرِيسِ يَطْلَعُ آسٌ. وَيَكُونُ لِلرَّبِّ اسْمًا، عَلاَمَةً أَبَدِيَّةً لاَ تَنْقَطِعُ».
ع10، 11: تشبيه جميل يقدمه إشعياء، وهو المطر والثلج اللذان ينزلان من السماء، فيرويان الأرض، ويجعلانها تُنبت زرعاً يأكل منه الإنسان والحيوان، ولا يرجعان إلى السماء إلا بعد أن يتمما عملهما، وهو رى الأرض، وبعد هذا تتبخر مياه الأمطار والثلج اللذان سقطا ويرتفعان ثانية إلى السماء.
هكذا أيضاً كلمة الله الساكن فى السموات، تنزل على الأرض لتشبع البشر، ولا تعود فارغة، بل تتمم عملها، فتجذب النفوس إلى الإيمان و الحياة مع الله، وهذا ما يريده الله، ويُسر به.
ع12: تشيد : تتغنى.
يتكلم الله عن خروج شعبه من عبودية مصر بفرح وتسبيح، وكذا أيضاً خروجه من عبودية بابل، ورجوعه من السبى بالفرح والترانيم.
والجبال والآكام تتغنى وترنم، وهذه الجبال والآكام ترمز إلى الملائكة والقديسين المحيطين بشعب الله، الفرحين لفرحه.
الجبال والآكام أيضاً ترمز إلى الضيقات التى تحيط بالإنسان، والله يحولها إلى بركة له، فتولد فى داخله غناء وتسبيحاً.
وأيضاً الرجوع إلى الله وترك الخطية بالتوبة، تحول الإنسان من ضيقة الخطية وعبوديتها – التى ترمز إليها الجبال والآكام – إلى فرح وتسبيح. وشجر الحقل أيضاً يصفق بالأيادى، أى تتحول كل الماديات المحيطة بأولاد الله إلى بركات لهم، وكل ما يعملونه ينجحون فيه؛ لأن التصفيق بالأيادى يرمز إلى الأعمال الصالحة، وبركة الله فى أعمال أولاده.
ع13: يحدث تغيير فى أولاد الله الخارجين من العبودية، وهكذا أيضاً الراجع من عبودية الخطية بالتوبة إلى الحياة الجديدة مع الله. ما هو هذا التغيير ؟.. هو التغيير من الشوك إلى السرو، ومن القريس إلى الآس. فالشوك يرمز للخطية، أما السرو فهو شجر عظيم طويل، ومستديم الخضرة طوال السنة، وخشبه جيد لا يسوس، وأيضاً القريس، وهو نبات شوكى، يتحول إلى آس، وهو نبات أخضر جميل، ذو أوراق خضراء، ورائحة عطرية. ويُفهم من هذا أن تتحول إمكانيات الإنسان من الشر إلى الخير، فبدلاً من عمل الخطية، يميل إلى الأعمال الصالحة.
وبهذه الأعمال الصالحة التى لأولاده يتمجد اسمه القدوس، ويكون له اسم تراه كل الأمم، فيقبلوا إلى الله ويؤمنوا به. وهذا ما حدث فى العهد الجديد، بانضمام الأمم إلى المسيح بالإيمان. وهكذا يصير المؤمنون كثيرين، وأعضاءً فى الكنيسة، وينالون العهد مع الله الذى يدوم معهم إلى الأبد، أى يكون لهم مكانٌ فى السماء. الله يريد أن يعطيك بركات كثيرة، إن رجعت إليه وتركت خطاياك، فتنال سلاماً فى داخلك، بل وفرحاً، وتتغير طبيعتك من الشر إلى الخير، وتفرح كل من حولك وتجذبهم للحياة مع الله.