سقوط بابل
كما أنذر الله مدينة نينوى التى هى عاصمة مملكة آشور، ودعاها للتوبة على يد يونان، فاستجابت ورحمها الله، هنا يدعو الله بابل للتوبة، بشكل حازم وقوى، فينذرها في الإصحاح السابق بإنهيار آلهتها، وفى هذا الإصحاح، بأنها ستسقط وتدمر، لعلها تنتبه، وترجع إلي الله، وتتوب، لكنها للأسف لم تلتفت لكلام الله لكبريائها.
(1) إنهيار بابل (ع1-5):
1 «اِنْزِلِي وَاجْلِسِي عَلَى التُّرَابِ أَيَّتُهَا الْعَذْرَاءُ ابْنَةَ بَابِلَ. اجْلِسِي عَلَى الأَرْضِ بِلاَ كُرْسِيٍّ يَا ابْنَةَ الْكَلْدَانِيِّينَ، لأَنَّكِ لاَ تَعُودِينَ تُدْعَيْنَ نَاعِمَةً وَمُتَرَفِّهَةً. 2 خُذِي الرَّحَى وَاطْحَنِي دَقِيقًا. اكْشِفِي نِقَابَكِ. شَمِّرِي الذَّيْلَ. اكْشِفِي السَّاقَ. اعْبُرِي الأَنْهَارَ. 3 تَنْكَشِفُ عَوْرَتُكِ وَتُرَى مَعَارِيكِ. آخُذُ نَقْمَةً وَلاَ أُصَالِحُ أَحَدًا». 4 فَادِينَا رَبُّ الْجُنُودِ اسْمُهُ. قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ. 5 «اجْلِسِي صَامِتَةً وَادْخُلِي فِي الظَّلاَمِ يَا ابْنَةَ الْكَلْدَانِيِّينَ، لأَنَّكِ لاَ تَعُودِينَ تُدْعَيْنَ سَيِّدَةَ الْمَمَالِكِ.
ع1: يعلن الله لمدينة بابل بأنها ستجلس على التراب، أى ستجلس على الأرض؛ وتفقد كرسيها، أى عرشها، التى ارتفعت عليه فوق كل ممالك الأرض؛ هذه هي بابل، أو مدينة الكلدانيين. ويقول لها : وبهذا تفقدين الحياة الناعمة المترفهة،، التى عشت فيها، فتجلسين ذليلة على الأرض، وحزينة، بعد فقد كل كرامتك وقوتك، كما كان يفعل من هو في حزن شديد، فيجلس على التراب، أو يضع التراب على رأسه (يش 7: 6). وهكذا تتحول بابل من عذراء متنعمة إلي أرملة حزينة ذليلة، والمدن العظيمة كان يطلق عليها عذراء (1 ش 37:22)، أما المدن المخربة فيطلق عليها أرملة. هذا هو التأديب الأول لبابل، وهو الجلوس على التراب، أى الذل والحزن.
ع2: الرحى: حجران يوضعان فوق بعض؛ العلوى له يد لإدارته فوق الثاني ويوضع بينهما الحبوب؛ لطحنها.
التأديب الثاني لبابل هو أن تطحن بالرحى، وهذا مجهود ضخم يقوم به العبيد. كما فعل الفلسطينيون بشمشون عندما فقأوا عينه، وجعلوه يجر الطاحون في معبدهم، لأنه صار عبدًا لهم. وفي هذا العمل تكشف السيدة العظيمة النقاب الذى تضعه على وجهها؛ لأن العبيد لا يضعون نقابًا، أى تأكيد أنها صارت من العبيد، بل أيضا تشمر ذيل جلبابها وتكشف ساقيها للعمل كإحدى الجواري.
التأديب الثالث هو أن تعبر الأنهار، ذاهبة إلي السبي، فما صنعته في شعب الله وممالك كثيرة الآن يصنع بها.
ع3: التأديب الرابع لبابل هو الخزي والعار بكشف عورتها، ويعرى جسمها، فتصير عارًا أمام الشعوب، بعد أن كانت ملكة متوجة على كل الأمم.
كل هذه التأديبات تأتي على الإنسان بسبب خطاياه، فهى تجعله حزينًا، ومستعبدًا للخطية، ويذهب بعيدًا عن الله في سبى الخطية، بل يصير في خزى وعار الخطية؛ لعله ينتبه ويتوب، فيقبله الله بمراحمه، ويعيد إليه جماله الأول وعظمته. وهذا تأكيد لما أعلنه سليمان في سفر الأمثال : “قبل الكسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح” (أم 16: 18)، فسبب عقاب بابل الأساسي هو كبريائها.
ويؤكد الله أنه سينتقم من بابل لأجل شرورها، ولا يصالحها لأنها ما زالت متمادية في خطاياها، أى أن هذا العقاب على الأرض، ثم في الحياة الأخري.
ع4: عندما سمع شعب الله بنو إسرائيل بقرارات الله على بابل، صرخ بإيمان أن من يفعل كل هذا هو الله، فادي شعبه، والذي سيخلصه من أعدائه، وهو قدوس إسرائيل، الذي لا إله غيره.
ع5: يختم الله كلامه على بابل التى سيعاقبها، ويقول لها: “إجلسى صامتة”، أى يصمت صوتك المرتفع على ممالك الأرض، بل تصيري عاجزة عن الكلام؛ لأنه قد تم خرابك وإدخالك أيضا في الظلام، فلا يشعر بك أحد، وينساك الجميع؛ لأنك فقدت مركزك كسيدة الممالك.
لا تتكبر على من حولك، أو تستغل سلطانك لإذلال غيرك؛ لئلا يأتى عليك شرك. كن متضعاً في كل تعاملاتك، فيرحمك الله، ويغفر خطاياك.
(2) خطايا بابل (ع6-15) :
6 «غَضِبْتُ عَلَى شَعْبِي. دَنَّسْتُ مِيرَاثِي وَدَفَعْتُهُمْ إِلَى يَدِكِ. لَمْ تَصْنَعِي لَهُمْ رَحْمَةً. عَلَى الشَّيْخِ ثَقَّلْتِ نِيرَكِ جِدًّا. 7 وَقُلْتِ: إِلَى الأَبَدِ أَكُونُ سَيِّدَةً! حَتَّى لَمْ تَضَعِي هذِهِ فِي قَلْبِكِ. لَمْ تَذْكُرِي آخِرَتَهَا. 8 فَالآنَ اسْمَعِي هذَا أَيَّتُهَا الْمُتَنَعِّمَةُ الْجَالِسَةُ بِالطُّمَأْنِينَةِ، الْقَائِلَةُ فِي قَلْبِهَا: أَنَا وَلَيْسَ غَيْرِي. لاَ أَقْعُدُ أَرْمَلَةً وَلاَ أَعْرِفُ الثَّكَلَ. 9 فَيَأْتِي عَلَيْكِ هذَانِ الاثْنَانِ بَغْتَةً فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ: الثَّكَلُ وَالتَّرَمُّلُ. بِالتَّمَامِ قَدْ أَتَيَا عَلَيْكِ مَعَ كَثْرَةِ سُحُورِكِ، مَعَ وُفُورِ رُقَاكِ جِدًّا. 10 وَأَنْتِ اطْمَأْنَنْتِ فِي شَرِّكِ. قُلْتِ: لَيْسَ مَنْ يَرَانِي. حِكْمَتُكِ وَمَعْرِفَتُكِ هُمَا أَفْتَنَاكِ، فَقُلْتِ فِي قَلْبِكِ: أَنَا وَلَيْسَ غَيْرِي. 11 فَيَأْتِي عَلَيْكِ شَرٌّ لاَ تَعْرِفِينَ فَجْرَهُ، وَتَقَعُ عَلَيْكِ مُصِيبَةٌ لاَ تَقْدِرِينَ أَنْ تَصُدِّيهَا، وَتَأْتِي عَلَيْكِ بَغْتَةً تَهْلُكَةٌ لاَ تَعْرِفِينَ بِهَا. 12 «قِفِي فِي رُقَاكِ وَفِي كَثْرَةِ سُحُورِكِ الَّتِي فِيهَا تَعِبْتِ مُنْذُ صِبَاكِ، رُبَّمَا يُمْكِنُكِ أَنْ تَنْفَعِي، رُبَّمَا تُرْعِبِينَ. 13 قَدْ ضَعُفْتِ مِنْ كَثْرَةِ مَشُورَاتِكِ. لِيَقِفْ قَاسِمُو السَّمَاءِ الرَّاصِدُونَ النُّجُومَ، الْمُعَرِّفُونَ عِنْدَ رُؤُوسِ الشُّهُورِ، وَيُخَلِّصُوكِ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْكِ. 14 هَا إِنَّهُمْ قَدْ صَارُوا كَالْقَشِّ. أَحْرَقَتْهُمُ النَّارُ. لاَ يُنَجُّونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ يَدِ اللَّهِيبِ. لَيْسَ هُوَ جَمْرًا لِلاسْتِدْفَاءِ وَلاَ نَارًا لِلْجُلُوسِ تُجَاهَهَا. 15 هكَذَا صَارَ لَكِ الَّذِينَ تَعِبْتِ فِيهِمْ. تُجَّارُكِ مُنْذُ صِبَاكِ قَدْ شَرَدُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَيْسَ مَنْ يُخَلِّصُكِ.
ع6: يعلن الله عن خطايا بابل التى سقطت فيها، والتى بسببها استحقت أن يعاقبها الله وهي:
1- تدنيس الهيكل: الله غضب على شعبه، ودنس ميراثه، بالسماح لبابل أن تدخل الهيكل، وتخربه، وتحرقه.
2- القسوة: عدم صنع الرحمة مع شعبه؛ حتى مع الشيوخ الكبار الضعفاء. فثقلت نيرها، أى كانت قاسية في معاملة اليهود، فعاملتهم كالحيوانات التى توضع على رقابها النير لجر الآلات الزراعية، فوضعت عليهم نيرا، ثقيلا، أي عاملتهم بقسوة شديدة.
ع7: الخطية الثالثة التى سقطت فيها بابل هى : الكبرياء؛ لأن بابل قالت: أنا أكون سيدة فوق جميع الممالك إلي الأبد، ولم تعرفي يابابل أنك معرضة للإنهيار، ولم تعرفى أجرة هذه الخطية؛ خطية الكبرياء، فإن نهايتها السقوط والخزي اللذان حدثا على يد مادى وفارس.
ع8: الثكل : فقدان الإبن، أو الإبنة.
الخطية الرابعة لبابل: هي التنعم، أى الانغماس في الشهوات والرفاهية، حتى أنها ظنت أنها لن تتعرض إلي لمشاكل الترمل، أو الثكل، أى لا تفقد قوتها وحيويتها، ولا تأتي عليها مصائب، وهذه هي الطمأنينة الكاذبة.
ع9: سحورك: سحر.
رقاك: الرقية، وهو نوع من السحر.
الخطية الخامسة لبابل هى إدعاؤها أنها لن تكون أرملة، أو ثكلى، ويؤكد الله لها أنها ستصبح أرملة وثكلى، أى تفقد قوتها وعظمتها ويموت أبناؤها في الحرب.
وسيتم هذا الخراب فجأة بهجوم مادى وفارس عليها في يوم واحد. وسيظهر بطلان استخدامها للسحر والرقية، أى لن تفيدها في شىء؛ لأن بابل كانت مشهورة باستخدام السحر (سفر دانيال).
ع10: أفتناك: خدعت نفسك بأنك فاتنة بسبب صحتك ومعرفتك.
الخطية السادسة لبابل هي اتكالها على حكمتها ومعرفتها، حتى أنها نسيت الله، الذي بيده كل شىء، أو هو أصل الحكمة والمعرفة، فظهر بطلان السحرة التى فيها، وظهر سلطان الله عليها، أنه جعل مادى وفارس تخربها، فمن يتكل على قوته، أو حكمته، لابد أن يسقط ويخسر كل شىء.
ع11: يقرر الله أن الشر سيأتى على بابل فجأة في ليل لا يطلع له فجر، أى تخرج تمامًا في يوم واحد، ويأتى هذا الهلاك، وهذه المصيبة فجأة فلا تستطيعين يا بابل أن تصديها، أو تهربي منها.
ع12: الخطية السابعة لبابل هى اتكالها على السحر ورفض الاتكال على الله. فينذر الله بابل بتهكم، ويقول لها: قفى، أى استمرى في رقاك وسحرك الذي تعلمتيه، ومارستيه منذ صباك، أى منذ زمن طويل، لعله ينفعك، أو تعودى تخيفى الممالك المحيطة بك.
إنه تحذير لبابل، لعلها تراجع نفسها، وتترك عنها اعتمادها على السحر، وترجع إلي الله، فما تعمله من سحر لن يفيدها بشىء. وبيلشاصر آخر ملوك بابل أنذره الله برؤيا، وباليد التى تكتب على الحائط، فارتعب، وفسر له دانيال معناها، لكنه لم يتب، وقتـــل في هذه الليلة (دا5: 30).
ع13: قاسمو السماء: المنجمون.
المعرفون: المنجمون.
يشفق الله على بابل، ويقول لها: لقد ضعفت من اعتمادك على مشورات السحرة والمنجمين، فلم تعودى تفكرين حسنًا؛ لإيمانك بالسحر والتنجيم، وبالتالي لا تتوبين وترجعين عن شرورك.
وينادى الله بابل باستهزاء، ويقول لها: ليقف المنجمون ويخلصوك يابابل من العقاب الآتي عليك. بالطبع لن يستطيعوا أن يحموك من العقاب الذي تستحقينه.
ع14: إن علماء ومشيرى بابل، وكل سحرتها والمنجمين، لم يستطيعوا أن ينجوها من الخراب الآتي عليها، بل هم أنفسهم احترقوا، وماتوا بالنار التى أشعلها أعداء بابل الذين هجموا عليها، وخربوها، أى مادى وفارس. وهذه النار ليست نارًا يتدفأون بها في الشتاء، أو تنير لهم المكان، ولكنها نار تحرقهم وتهلكهم، وهى النار التى أشعلها الذين هجموا على بابل، فاحترقت المدينة العظيمة ومن فيها.
هذه النار التى اشتعلت في بابل، ترمز للنار الأبدية التى سيلقى فيها الأشرار، عقابًا لهم على ما عملوه في حياتهم، سواء البابليين الأشرار، أو أى خطاة في كل مكان في العالم أغضبوا الله.
ع15: شردوا : هربوا وتشتتوا.
هذه هى نهاية سكان بابل التى تعبت في تربيتهم، وهم تجار بابل، ورؤساؤها، وكل العاملين فيها، الذين هلكوا في النار، أو بالسيف، والذين هربوا في كل مكان، لعلهم ينجون من الهلاك الذي حل في بابل، ولم تجد بابل من يخلصها، فخربت. نفس هذا الخراب يعلنه سفر الرؤيا بتعبيرات مشابهة لما جاء في هذا الإصحاح (رؤ 18 : 7 – 11).
ليتك يا أخى تنتهز كل فرصة، أو حدث يمر بك؛ لتراجع نفسك، وتتوب عن خطاياك، فإنذارات الله تصل إليك في أشكال كثيرة. ليتك تفهم أنها موجهة لك، فترجع عن كل شر، لتخلص نفسك وتنال مراحم الله.